الفصل الثاني

نخزن أحزاننا في الجرار، لئلا
يراها الجنود فيحتفلوا بالحصار…
نخزنها لمواسم أخرى،
لذكرى
لشيء يفاجئنا في الطريق
فحين تصير الحياة طبيعية
سوف نخزن كالآخرين لأشياء شخصية
خبأتها عناوين كبرى،
فلم ننتبه لنزيف الجروح الصغيرة فينا.
غدا حين يشفى المكان
نحس بأعراضه الجانبية
محمود درويش
تتابع لوتا شولركفيست في هذا الفصل من كتابها، سيرة المكان واشخاصه في بلاد خصها القدر بضربات لا تكل من مطرقته الثقيلة، وخص أطفالها بوطأة لا تحتمل. كأن المكان وأهله محمولون على اختبار يومي لكي يؤكدوا جدارتهم بهذه الحياة الضنينة. لكن هذا المكان واسمه الكبير فلسطين، وغزة قطعة رابضة في عتمة جذره التربيعي، يبقى هو السؤال المفصلي المطروح على المبدأ الأخلاقي الإنساني ذاته. فحادثة السطو التاريخي ما تزال ماثلة، البيوت والحقول والقرى والحجارة ورمال الشواطئ وموج البحر ماتزال هناك دون أصحابها، وأصحابها في المنافي، لا يتعبون من حملها في قحاف رؤوسهم وبين ضلوعهم وفي ملامح وجوههم.
الصحافية السويدية تقترب لتسمع كلام البشر العاديين، وأحيانا لتستقرئ حجارة المكان. فلا يمكن اختصار التاريخ البشري بعظمة نابليون أو بسطوة الفاشية أو بإملاءات المطلق الديني أيا كان. التاريخ الذي افضى بابن خلون الى الاجتماع، يعود مع لوتا الى اصغاء لحياة الناس وقراءة لأبجدية آلامهم، دون ان تتردد في طرح أسئلتها التي تعبر عن ثقافة مختلفة.
وليد
الفصل الثاني
عندما فتحت مارغريت نصار نزلا لاستقبال الضباط الإنجليز سنة 1946 وظفت عندها جنائنيا، هو فلاح فقير من المنطقة الشرقية لمدينة غزة. اصطحب معه ابنه، رضوان ليساعده. وقع الفتى موقعا حسا من نفس السيدة نصار وبدأت بتعليمه القيام بأعمال صغيرة متنوعة في النزل.
- كنت في التاسعة أو العاشرة آنئذ، ولم أدخل مدرسة في حياتي. فقد كانت المدارس وقتها حكرا على أبناء الطبقات العليا داخل المجتمع. ولم يكن الفلاحون الفقراء يلقون بالا لها، لأنهم كانوا يحتاجون الأطفال بوصفهم قوة عمل. وكان جميع أفراد الأسرة بما فيهم الزوجة يعملون في فلاحة الأرض، كما يقول رضوان الذي ينادونه دائما أبو منير. فهو كما جرت العادة بين الرجال المتزوجين، كان اسمه المنادى به “أبو منير”، أي والد منير، لأن اسم ابنه البكر “منير”. وينادي الناس الرجال بهذه الطريقة من قبيل التهذيب والاحترام، فإذا قابل شخص رجلا لا يعرفه فإنه يعمد إلى سؤاله عن اسم ابنه الأكبر.
ويعكس هذا العرف عنصرين مهمين في الثقافة العربية:
- إن العائلة هي المحور الأهم في حياة كل فرد
- إن الأبناء الذكور هم عماد العائلة
وهو عرف يشمل النساء أيضا، فزوجة رضوان تنادى أم منير، “والدة منير”. أما إذا كان جميع أطفال العائلة من البنات فيستخدم الوالدان اسم البنت الكبرى.
وفي السنوات الأربع والستين التي أمضاها رضوان في مارنا هاوس تمكن من اكتساب القدرة على التحدث باللغة الإنجليزية بما يكفي للخوض في محادثات بسيطة.
- كانت اللغة الإنجليزية دائما هي اللغة التي نتحدث بها إلى نزلائنا بصرف النظر عن جنسياتهم. كانت السيدة نصار تريدني أن أتعلم (وقد حرصت بصدق على تعليمي) القراءة والكتابة باللغة العربية، ولهذا أرسلتني إلى مدرسة مسائية لعدة شهور. ولكنني انتظرت حتى سن البلوغ لكي أتمكن نوعا ما من قراءة الجريدة وكتابة قوائم الاحتياجات المطلوبة للنزل.
تعلم رضوان في سنواته الأولى في مارنا هاوس جميع الأعمال التي تدخل في الاعتناء بالنزل مثل الكنس والمسح والترتيب وتلميع النوافذ، وجمع آنية الطعام وإفراغ منافض السجائر. كان يعمل من الصباح إلى المساء ولا يعود إلى بيته إلا لينام.
- كنت في البداية من الخجل بحيث لم أجرؤ على إبداء اهتمامي بشيء آخر سوى العمل، ولم أنفذ سوى المهمات التي كلفت بها. كنت أهاب الفشل، ولكن مع مرور الوقت نما احترام متبادل بيني وبين السيدة نصار. لقد علمتني حب الناس واحترامهم، وكنت أشعر طيلة الوقت بأنني محظوظ بعملي هنا. وحتى مع المالكين الجدد، أصبحت حياتي في مارنا هاوس أفضل وأفضل.
ويلاحظ النزلاء بصورة جلية أنه رغم سنوات عمره الثلاثة والسبعين ما زال مغرما بعمله. رضوان هو أول من يقابله المرء في الصباحات، يطلع صامتا من المطبخ، في هندامه الدائم بقميصه الناصع البياض. يجهز الموائد على عجل بالزبدة والخبز والجبنة، ويأتي بإبريق الماء الساخن من البار، ثم يختفي خمس دقائق ليعود حاملا بيض الفطور المعد وفقا لرغبة النزلاء.
- – “تفضلي يا ست”، كان يقول لي عادة، بانحناءة خفيفة.
وكلمة “ست” هي طراز قديم يعبر عن الاحترام في مخاطبة المرأة، لم أسمع في حياتي أي شخص يستعمله سواه.
- أفكر طول الوقت بما نحتاج لعمله، وحتى عندما أعود لبيتي بعد العمل فإن فكري يبقى هنا. كأنني أشاطر المالك مسؤوليته، وكأن مارنا هاوس هو بيتي. فيما مضى كنت أسكن هنا بشكل دائم، وكنت بين حين وآخر أذهب إلى منزلي لأسلم على أهلي.
تحدث رضوان عن الفترة الممتدة بين 1948 الى 1967، وهي فترة الإدارة المصرية لغزة. في تلك الفترة نزل هنا ضيوف كثر، من مصر والأردن ولبنان. وكان من بينهم عديد من مشاهير ذلك الزمن، مثل الملكة دينا ملكة الأردن وقرينة الملك حسين الأولى، وقد أقامت في مارنا هاوس مدة من الزمن، على إثر انفصالهما في منتصف الخمسينيات. وصلت من القاهرة بالسيارة، مع سائقها بصحبة ثلاث سيدات وحارس شخصي. كانت مهمة رضوان أن يقوم على خدمة السيدات، بينما سمح للسائق والحارس الشخصي بالإقامة داخل السيارة.
وذكر من بين النزلاء أيضا، بعض مشاهير ذلك العهد:
الكاتب المصري طه حسين، المطربة اللبنانية صباح، والمطربة المصرية فايدة كامل.
- كان في غزة وقتها داران لعرض الأفلام، وعادة ما كان مخرجون وممثلون كثيرون يحضرون العروض الافتتاحية فيها. وكانت تنظم هنا أيضا، مهرجانات متنوعة، اجتذبت إليها كبار الشخصيات الثقافية المصرية.
وتحدث رضوان كذلك عن الدكتورة سو، وهي طبيبة أميركية، يابانية الأصل، مختصة في معالجة الكوليرا، كان والدها موظفا لدى وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين: الأونروا. وكان يقيم مع أسرته في مارنا هاوس، وقد اعتاد رضوان وقتها أن يعتني بها وهي طفلة لا تتجاوز من عمرها عاما أو بعض عام.
- عادت لزيارتنا قبل بضع سنوات، ولا زالت تتذكر الهدهدات التي كنت أغنيها لها لتنام.
وفي عام 1967، احتلت إسرائيل غزة، وحل الصحفيون وموظفو الأمم المتحدة والعاملون في منظمات الإغاثة، محل النزلاء العرب. ويحكي باسل الشوا عن نشوب تنافس في بعض الأحيان بين النزلاء، خصوصا بين المسؤولين من ذوي الرتب الرفيعة، تنافس على الفوز بالغرفة الأفضل.
- في ذلك الوقت لم يكن هناك غير غرفتين مزودتين بمكيف للهواء، وبطبيعة الحال كانتا الأكثر جاذبية. وفي إحدى المناسبات نزلت عندنا سيدتان، إحداهما مسؤولة عن الاونروا في غزة والثانية في الأردن، وطلبت كل منهما الحصول على الغرفة رقم 16. الأولى كانت ضخمة عالية الصوت، أما الثانية فكانت صغيرة ناعمة. وكانت عمتي مليكة تحب كلتيهما، لذا فقد توصلت إلى حل الخلاف، بأن سمحت لهما بالتناوب على النوم في الغرفة رقم 16 ليلة بعد ليلة.
ومع أن جميع الغرف أصبحت الآن مزودة بمكيف للهواء، إلا أن الغرفة رقم 16 ما زالت أكثر الغرف جاذبية نظرا لشرفتها الرحبة.
وأخبرني باسل عن نزيل تميز برغباته الخاصة للغاية، هو رجل أعمال هولندي اعتاد المجيء إلى غزة كل سنة، في موسم حصاد البرتقال، ليبتاع كميات كبيرة منه. كان يقيم لمدة شهر في مارنا هاوس حتى ينتهي من إتمام صفقاته التجارية.
- كان هذا الرجل مفرطا في البدانة، ولم يكن يرغب في تناول طعامه مع بقية النزلاء. وبدلا من
ذلك كان يفضل تناول طعامه داخل غرفته، وجبة واحدة كبيرة في اليوم، مطبوخة وفق رغبته الخاصة، وكان على رضوان ولا أحد غيره أن يقدم له الطعام. كان الهولندي رجلاً مهذبا ولطيفا، لكنه لم يكن مستعداً للتنازل عن أفكاره ومتطلباته. وكان دائما حريصا كل الحرص على الإقامة في الغرفة رقم 4، على أن يعاد تأثيثها بحيث تصير شبيهة بغرفته في منزله الخاص.
والآن، مرت أعوام عشرة على آخر مرة كان فيها هنا.
عندما اندلعت الانتفاضة الأولى سنة 1987، هيمن على مارنا هاوس بصورة شاملة، حشد من الصحافيين الدوليين الذين توافدوا إلى غزة لتغطية المعارك بين الجنود الإسرائيليين والشبان الفلسطينيين من رماة الحجارة. كان النزل محجوزا بكامله طيلة الوقت، حتى أن مليكة الشوا، لجأت إلى استئجار شقق داخل المدينة، لتتمكن من توفير الغرف لجميع النزلاء. وكان على باسل أن يدور بسيارته كل صباح لإحضارهم إلى مارنا هاوس، لتناول الفطور.
-كانت متطلبات هؤلاء الصحفيين من إدارة النزل مختلفة تماما عن متطلبات أسلافهم من النزلاء الذين اعتادوا على قضاء نهارهم في الخارج، والعودة في المساء، ليرتاحوا قليلا ثم يذهبوا إلى النوم. أما هؤلاء الصحفيين فقد كانوا متأهبين ليل نهار – فلو وقع حدث ما في الساعة الثالثة قبل الفجر، فسيهرع الجميع إلى عملهم، وعندئذ يكون الاستعجال على أشده. لم يكونوا ليناموا أو يأكلوا مثل بقية الناس، وكان لهم أن يطلبوا الحصول على سندويشة في أي ساعة من اليوم، كما يقول باسل.
كان وجود الصحفيين الأجانب، جاذبا لحضور القادة السياسيين المحليين إلى مارنا هاوس. فضلا عن طائفة من أشخاص أقل أهمية، يطمحون في الحصول على الانتباه والثناء.
- بات مارنا هاوس على ألسنة الجميع، فقد كان مركزا للأحداث في ذلك الوقت.
أما الآن فالحركة في مارنا هاوس أصبحت أكثر ركودا، وقد يشهد النزل فترات لا يتجاوز فيها نزلائه عدد أصابع اليد الواحدة. فقد بات الصحفيون، في الغالب، يخططون لعملهم قبل قدومهم، فيتعاقدون على لقاءات ومقابلات تدور حول موضوعة بعينها، يكونون قد اختاروها من قبل. وهم يمضون ما تبقى من وقتهم في النزل، ليكتبوا تقاريرهم ويرسلوها من خلال الشبكة العنكبوتية اللاسلكية. خلا ذلك، فإن الاستعجال الفوضوي يعود إلى سابق عهده، فقط إذا ما وقعت المعارك أو الاضطرابات. وربما وجدت من بين هؤلاء النزلاء من يعود ليطلب البقاء لعدة أيام أخرى، بعد أن كان قد دفع حسابه وغادر النزل. لهذا يجب أن يكون لدينا دائما عدد من الغرف الشاغرة، تحسبا لوقوع ما لم يكن في الحسبان.
والآن يقيم رضوان لدى أسرته في محلة الزيتون، لكنه يأتي كل صباح قبل الساعة السادسة، ليباشر عمله اليومي.
- تعودت الحضور نصف ساعة أبكر، حتى أتفادى الشعور بالإجهاد النفسي، وأنجز كل ما هو مطلوب على أكمل وجه. أجهز موائد الإفطار لحوالي عشرين شخصا، أقدم الطعام وأجمع الآنية بعد انتهائهم من تناوله. ثم آخذ مفاتيح الغرف، وأصعد لترتيب الأسرَّة وبصحبتي واحد من عمال النظافة. يستغرق الأمر ساعة أو أكثر قليلا، أغتسل بعدها وأبدأ في تحضير غداء الموظفين، وأواصل مساعدة الطاهي في المطبخ حتى الساعة الثالثة بعد الظهر.
يوم السبت هو يوم عطلته، وهو يقضيه عادة في بيته، بين عائلته. له من الأبناء عشرة، ست بنات وأربعة صبيان، وعدد من الأحفاد. كان يكتفي بالضحك كلما سألته عن عددهم.
- أولادي الأربعة يسكنون معي، في منزلي، هم وأسرهم، وهكذا لدي عشرون طفلا في المنزل. وفي أثناء الحرب، احترنا إلى أين يمكن أن نلجأ، لأن أحدا لا يمكنه أن يستقبل مثل هذا العدد من الأشخاص في بيته. كنا خائفين من مغادرة المنزل، لكننا أرغمنا على المخاطرة بحثا عن طعام للأطفال. ومرت الدبابات بنا دون ان يصاب أحد منا بأذى. شكراً لله.
بقي مارنا هاوس مفتوحا أحد عشر يوما من بعد بداية الحرب. لكن عدة منازل مجاورة أصيبت بقنابل صغيرة، يسميها الإسرائيليون “طرقة على السطوح”، هي بمثابة إنذار قبيل وقوع الهجوم الأقسى. بعدها قرر باسل الشوا إغلاق النزل ومغادرته، وقد تحطمت جميع نوافذه تقريبا، على إثر قصف مدمر لمركز شرطة ومسجد مجاورين.
وكنت أسأل رضوان كيف تمكن من البقاء على قيد الحياة كل عمره الطويل في منطقة من أكثر مناطق الأرض عرضة للخطر، بدون أن يفقد أحدا من عائلته أو يفقد إيمانه بالحياة والبشر. وكان يضحك في هدوء عندما أخبره كيف أن أهلي وأصدقائي يقلقون علي عندما أسافر إلى غزة.
- نحن نقيم في منطقة هادئة، يمكن أن تجدي شبيها لها في مصر أو الأردن، وقد كنا نجد أنفسنا دائما، نوعا ما، على هامش الاضطرابات. هل تتصورين أن جميع الأشخاص الذين يجيئون إلى غزة يتعجبون عندما يكتشفون أن غزة مكان طبيعي للغاية، يسكنه بشر عاديون؟ مكان يمكن أن يحبه الإنسان ويكتشف فيه الجمال، برغم الفقر والدمار.
_________
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.