قراء نقْدية لمحتوى “البديل الأُوراسي” للعوْلَمة، عرض الطاهر المعز

كتبت داريا دوغين (تم اغتيالها يوم 21 آب/أغسطس 2022، في محاولة لاغتيال أبيها ألكسندر) قبل حوالي سنتَيْن، في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، ضمن مقال عن استراتيجيات روسيا في منطقتنا العربية، ما مُلَخَّصُهُ:

منطقة الشرق الأوسط اليوم هي ميدان الحرب العالمية الثالثة، سواء من خلال المواجهات المباشرة، أو عبر الوُكَلاء، بالأسلحة النارية والإلكترونية وبسلاح الإعلام والروبغندا، ويهدف “الغَرْب” الهيمنة على الاقتصاد والسياسة العالميتَين، وإلغاء تنوع الثقافات ونماذج التّنمية التي لا تُلائم مصالحه، وفَرْض القيم الأيديولوجية والحُلُول المفروضة من الخارج، وتشجيع القوى والإتّجاهات المتطرّفة التي تُحَوِّلُ التنافس السياسي والإقتصادي إلى حرب بين الإثنيات والأديان، مثلما يحصل في سوريا التي تم الإعتداء على سيادتها ووحدة أراضيها، وعلى استقلالها، وحرمان شعبها من تقرير مصيره في ظل “دولة علمانية وديمقراطية وتعددية”.

أما الحرب غير المباشرة فتدور رحاها عبر مجموعات المعارضة (منها المجموعات الأصولية الإسلامية)، والمدافعين عن حقوق الأقليات الدينية والعرقية والجنسية والإثنيات، وتستخدم الولايات المتحدة وحلفاؤها حُرُوب الشبكات المنظمة أفقياً، وحُرُوب الأفكار والمفاهيم، للتأثير في الأنظمة السياسية واختراق البُنَى الاجتماعية ومحاكاة بداية ثورة شعبية حقيقية، تُتَّخَذُ كذريعة للتدخل العسكري، كما حَصَل في ليبيا، حيث تذرّعت الولايات المتحدة بعدم الإستقرار في ليبيا لتعزيز مكانة “أفريكوم” في بلدان الجوار، ونَشْر وحدة عسكرية أمريكية إضافية في جنوب تونس، على الحدود بين تونس والجزائر وليبيا، تستخدم التجهيزات ال​​إلكترونية والطائرات الآلية…

تُدافع “داريا دوغين” (على غرار أبيها “ألكسندر دوغين”) عن “الاختلافات الثقافية بين الشرق والغرب”، وتُرَكِّزُ على “قِيَم المجتمع التقليدي”، وعلى مفاهيم “الدين والعرق والتقاليد وتعدد الثقافات وحقوق الشعوب، والعدالة الاجتماعية، ومعارضة الاستعمار…”، وعلى “التحالف السياسي ( بين ) المسيحية الأرثوذكسية والإسلام السني والشيعي والصُّوفي (كنقيض لِ) الوهابية والسلفية والتكفيرية السائدة في السعودية والإمارات وقطر، (باعتبار هذه الأنظمة، إلى جانب الكيان الصهيوني)  أقرب حلفاء للولايات المتحدة في المنطقة… ( وذلك، أي التحالف الأرثودوكسي الإسلامي، من أجل بناء) المحور الأوراسي بين موسكو وأنقرة وطهران، والذي تم تشكيله في أستانا…” كبديل لمشروع “الشرق الأوسط الكبير” الذي ابتدعه المُحافظون الجدد في الولايات المتحدة، والواقع أن هذه المفاهيم لا تمثل سوى جانبًا واحدًا من جوانب الهيمنة الإمبريالية، أو ما نُعبِّرُ عنه بالبُنية الفَوْقِية التي تتفاعل مع البُنية التّحتية، فالهيمنة الأمريكية والأوروبية نتاج طبيعي للهيمنة الإقتصادية، ولتَطَوُّر نمط الإنتاج الرأسمالي الذي بلغ مرحلة الإحتكار والإمبريالية، فما الثقافة والدّين والقِيَم الرّوحية سوى انعكاس لدرجة تطور قُوى الإنتاج في مُجتمعٍ مَا، ويتطلّبُ تحرير الشعوب من الهيمنة الأميركية برنامجا للتحرير الوطني السياسي والإقتصادي والثقافي، وبرنامجًا للتنمية، لكي لا يَعُود الإستعمار من خلال باب أو نافذة الإقتصاد…

إن نقيض نمط الإنتاج الرأسمالي هو نمط الإنتاج الإشتراكي الذي يبقى البديل الأكثر مصداقية، رغم النّكسات والهزائم، أما النّمط “الإسلامي” كما في إيران، أو ما يُطبّق في الصّين، خصوصًا منذ سبعينيات القرن العشرين، فلا يخرج عن النّمط الرأسمالي، وما يتضمّنه من تشريع الإستغلال وتقديس المِلْكِيّة الفردية وتبرير التفاوت في الدّخل، وما يُخلّفه من فجوة طبقية بين الأثرياء والفُقراء…  

نحن نُقيِّمُ التيارات السياسية والفلسفية والأُطْرُوحات والبرامج، بحسب قُرْبِها مِنْ، أو ابتعادها عن مصالحنا كأُمّة وشعوب عربية، ويعتبر التّيار الذي يدعو إلى بناء “أوراسيا” كبديل للعولمة تحت الهيمنة الأمريكية، “إن لدى الإسرائيليين خيار التخلّي عن المعسكر الأطلسي، وأخذ مكانهم في أوراسيا ( ) يمكن لموسكو أن تصبح ضامناً جيوسياسياً لأمن إسرائيل وتأمين مكانة القدس الدولية كمدينة مشتركة بين الأديان…”، ما يَنْسِف حق الشعب الفلسطيني في وطنه وتقرير مصيره، ولذا لا يُمْكِنُ التّعويل سوى على قوانا الذّاتية كعرب، وعندما يكون للشعب الفلسطيني برنامج تحرير وطني، يضطر من يَدّعون مُساعدتنا (مثل روسيا أو إيران) للإختيار، فإما الكيان الصهيوني أو الشعب الفلسطيني، ولا مكان ل”منزلة بين المنزِلَتَيْن” أو لموقف “وَسَطِي” أو “رمادي” فنحن نُرحّب بتعدد الأعراق والأديان والثقافات، لكن الصهيونية كعقيدة وكبرنامج هيمنة هي غريبة عن المنطقة، عقيدة استعمارية، باعتراف مُؤسِّسِيها، ظهرت مع الإمبريالية، وما على من دعموا الكيان الصهيوني سوى إيواء دولته على أراضيهم، وليس على أراضي وَوَطَن الغَيْر، وكانت روسيا القَيْصَرِية التي يدعو ألكسندر دوغين وابنته الراحلة إلى إعادة إحيائها، من أكبر مُضطَهِدِي اليهود الذين استوطنوا فلسطين في بداية القرن العشرين، إذا كانت ذريعة اضطهاد اليهود في أوروبا (وليس في الوطن العربي) مُبرّرًا لإنشاء دولة خاصّة بهم…

_________

“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.