موسم الانتخابات في البرازيل: “لولا” إلى الرئاسة، لكن “بولسونارو” قد لا يذهب بهدوء، سعيد محمد

في واحدة من أهم المواسم الانتخابيّة في البرازيل منذ استعادة النظام (الديمقراطيّ) خلال ثمانينيات القرن الماضي إثر عقدين من حكم العسكر، تبدو نتيجة السّباق الرئاسي محسومة بشكل كبير أقلّه وفق استطلاعات الرأي لمصلحة مرشح حزب العمال اليساري، الرئيس السابق لولا دا سيلفا، والذي من المرجّح الآن أن يحصل على أكثر من نصف مجموع الأصوات ويفوز بالمنصب من الجولة الأولى. لكن الرئيس الحالي جايير بولسونارو، الذي يأتي ثانياً متأخراً بما يقارب من ٢٠ نقطة مئوية عن متحديه دا سيلفا، مستمر بالإدلاء بتصريحات تثير قلق عديدين من أنّه لا ينوي تقبل خسارته المحتمة بروح رياضيّة، مما يهدد بسيناريو اضطرابات أهليّة تكتسب عادة في هذه البلد صفة عنف دموي واسع النطاق.

يشير أحدث استطلاع لنوايا الناخبين في البرازيل نشر يوم الاثنين الماضي إلى أن إلى أن الرئيس السابق (لدورتين) ، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا مرشح ائتلاف “أمل البرازيل” الذي يقوده حزب العمال – يسار الوسط -، قد عزز حظوظه للفوز بمنصب الرئيس في الانتخابات التي تجري الأحد المقبل (٢ أكتوبر / تشرين الأّول) وربما من الجولة الأولى، وذلك بعدما تجاوز حجم تأييده حدود ال ٥٠ بالمئة متفوقاً على مجموع المرشحين الآخرين بمن فيهم الرئيس الحاليّ، جايير بولسونارو، وزعيم الحزب الليبرالي – أقصى اليمين -، الذي بالكاد تجاوز حجم ناخبيه حاجز ال ٣٠ بالمئة. ولا يمتلك باقي المرشحين – بمن فيهم صوفيا مانزانو مرشحة الحزب الشيوعيّ – أي فرص واقعيّة حتى للحصول على ٥ بالمئة من مجموع الأصوات.

وتتزامن الانتخابات الرئاسيّة مع انتخابات تشريعيّة للكونغرس الاتحادي (البرلمان)، ومحليّة لاختيار حكام الولايات ومجالسها التشريعيّة يشارك فيها أكثر من ١٥٦ مليون ناخب –، في دولة تفرض غرامات على من يمتنعون عن التصويت. وفي حال عدم حسم الانتخابات الرئاسيّة في هذه الجولة، فيستدعى الناخبون لإعادة في 30 أكتوبر / تشرين الأول المقبل للاختيار بين المرشحين الأعلى أصواتاً في الجولة الأولى.

لكن وضوح المؤشرات تجاه فوز دا سيلفا قد لا يعني بالضرورة انتقالاً سلساً للسلطة من قبضة اليمين المتطرف إلى يسار الوسط، إذ يبدو الرئيس بولسونارو الذي انتخب في ٢٠١٨ غير مستعد للخسارة بهدوء وفق سيل من التصريحات التي يستمر في إطلاقها وأتباعه. ويشكك بولسونارو في قدرة نظام التصويت البرازيلي على منع التزوير – دون أن يقدّم أيّ أدلّة على مزاعمه -، ونقل عنه قوله في لندن على هامش مشاركته في تشييع جنازة الملكة إليزابيث الثانية أنّه يتوقع فوزاً حاسماً من الجولة الأولى، وبالتالي فإن أي نتيجة أخرى ستكون دلالة على حدوث تدخلات لمصلحة دا سيلفا.

ويخشى كثيرون من أن تصريحات الرئيس الحالي قد تعكس سعيه لإثارة اضطرابات في الجمهوريّة التي بدأت لتوّها بالتعافي من تداعيّات جائحة كوفيد ١٩. ويلقي غالبية البرازيليين باللّوم على حكومة بولسونارو لسوء إدارتها للوباء بعدما أصيب به أكثر من ٢١ مليوناً وخسر ما لا يقل عن ٨٠٠ ألف شخص حياتهم، مع اتهامات بتوظيف فيروس كورونا في حرب إبادة ضد الأقليات المهمشة مثل سكان القارة الأصليين والبرازيليين من أصول أفريقيّة والفقراء. ويعتقد المراقبون أنّ ذلك يفسّر إلى حد كبير انهيار شعبيّته أمام لولا.

وتعتبر البرازيل – ٢٠٠ مليون نسمة – ذات أهميّة استراتيجيّة كبرى بالنسبة للولايات المتحدة التي طالما تعاملت مع أمريكا اللاتينية بوصفها مساحة نفوذ مغلقة عليها، وهي على الأغلب لا ترغب بحدوث قلاقل في أكبر اقتصادات أمريكا الجنوبيّة وثامن أكبر اقتصاد على مستوى العالم بينما تحاول واشنطن رصّ الصفوف في مواجهة موسكو. وقد أصدر ممثلون عن وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين بيانات للتعبير عن ثقتهم في النظام الانتخابي البرازيلي، ودعوا إلى تجنّب المغامرات، ولذلك يستبعد الخبراء حدوث انقلاب عسكريّ إن فاز لولا بالفعل، رغم انتشار الشائعات حول تحرّك محتمل. وفي الحقيقة، لا يتمتّع بولسونارو بتأثير حاسم على الجيش، لكنّه على علاقة وثيقة بما يسمى بالشرطة العسكريّة، وهي قوة مدججة بالأسلحة من حوالي نصف مليون جندي قيد الاستدعاء لأغراض عمليّات حفظ النظام وتتبع حكام الولايات، لا قيادة الجيش.

ولعل أسوأ السيناريوهات الممكنة هي أن يثير أنصار بولسونارو اضطرابات مدنيّة، وتمتنع الشرطة العسكريّة عن التدخّل، أو أن يتذرّع بولسونارو بالفوضى العامة كذريعة للحصول على سلطات طوارئ إضافية، وتأجيل تنصيب لولا، مما قد يدفع بالبلاد إلى حافة المجهول. وليس مبالغة أن الحكومة الحاليّة سّهلت بشكل غير مسبوق عمليّة حصول المدنيين العاديين على الأسلحة حتى أنّ عدد قطع السلاح الفردي المرخصة في أيدي المواطنين أكبر من تلك التي بحوزة الشرطة.

ويمتع بولسونارو الفاشستي النزعة تقليديّاً بتأييد واسع بين النّخب البرجوازيّة الثريّة والفئات اليمينيّة المحافظة، والأصوليين المسيحيين، وقد عمل بشكل ممنهج خلال سنوات حكمه على تطعيم المراكز الحساسة في الدّولة والإدارات العامّة بأنصاره، ويعرف عنه علاقاته الوثيقة ب(الرئيس الأمريكيّ السابق) دونالد ترامب. في المقابل، فإن كثيرين يراهنون على سياسة واشنطن المستجدة بالتسامح مع مبدأ وصول قادة (معتدلين) من منسوبي يسار الوسط إلى السّلطة في دول أمريكا اللاتينيّة بعدما فشلت الأنظمة اليمينيّة بشكل فادح في إدارة بلادها وراكمت لدى مواطنيها غضباً عريضاً قد يكون نواة لثورات حمراء معادية للولايات المتحدة. ويرأس المكسيك وكولومبيا وتشيلي، وهي دول مركزيّة للسياسة الأمريكيّة في تلك المنطقة من العالم، قادة محسوبون على يسار الوسط انتخبوا ديمقراطيّاً، وليس هنالك ما يمنع من أن يلتحق دا سيلفا بهم.   

وكان دا سيلفا، الزعيم اليّساري المخضرم قد أنهى عام ٢٠١٠ ولايته الثانية كأكثر الرؤساء شعبيّة في تاريخ البرازيل، لكنّه أدين لاحقاً بتهم تتعلق بالفساد وتلقى الرشاوى، وحكم عليه بالسجن ١٢ عاماً قضّى منها ٥٨٠ يوماً. ومع أن إدانته ألغيت في وقت لاحق لأسباب فنيّة ولنقص الأدّلة، إلا أن سمعته تضررت. ومع ذلك، فهو يمثّل الآن الأمل الأخير عند أكثريّة من البرازيليين للتخلّص من تطرّفات نظام بولسونارو وسياسات حكومته المجحفة بحق الفئات الأقل حظاً، ولتحقيق ولو مستوى الحد الأدنى من العدالة الاجتماعيّة. ويقود دا سيلفا في هذه الانتخابات تحالفاً من عشرة أحزاب أكبرها على الإطلاق حزب العمّال. 

لكن بعيداً عن التّناقض الأيديولوجي النظريّ الصريح بين المرشحين الرئيسيين في الانتخابات الرئا سيّة، فإن الأمور على الأرض قد تكون أقلّ وضوحاً. ويشبه النّظام السياسي البرازيلي الحالة الإيطاليّة إلى حد الكبير لناحية وجود شبكات فساد خفية عابرة للأحزاب والتيارات تخترق جميع أوجه الحياة السياسية والاقتصادية. ولا شكّ أن حكومة يقودها حزب العمّال ستخفف من غلواء ما اتخذته حكومة بولسونارو من إجراءات لتقليص ميزانيات التعليم والرعاية الصحية والتقدمات الاجتماعية، وقد توفر حماية أفضل لأراضي السكان الأصليين من تغوّل مصالح التّعدين والخشب، وتمنح حقوقاً أوسع للمثليين ومتحولي الجنس ومن في حكمهم، لكنّها لن تجرؤ على إطلاق إصلاحات بنيوية ذات صفة اشتراكيّة صريحة، أو أن تعادي سياسات الولايات المتحدة بشكل مباشر. وكانت ولايتا دا سيلفا السابقتان مسرحاً لتسويات مع المصالح البرجوازية، ولم ينفذ حزب العمّال طوال ما يقرب من عقد ونصف في السّلطة التنفيذيّة سوى إصلاحات اجتماعية خجولة، وكثير من قادته كانوا فاسدين.

نشر هذا المقال في صفحة الدّوليات بجريدة الأخبار اللبنانيّة عدد السبت ١ أكتوبر ٢٠١٢

:::::

موقع: الثّقافة المضادّة

_________ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف. ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.