من أجل الدولار وريع الهيمنة…هل يكن النووي
بينما كان اقتصاد الولايات المتحدة في فترة ازدهار ما بعد الحرب البينية الإمبريالية الثانية المنتهية 1945 يقارب نصف إنتاج العالم، ها هو يتدهور أمام أعين الجميع إلى أقل من 20 في المئة من الإنتاج العالمي ويتركز تسليحيا/عدوانياً أكثر مما هو مدنياً وهذا يدفع أمريكا لإشعال الحروب بنفسها أو بأدواتها، وهذا ينتج عنه بالضرورة رفض شعبي للمنهج الحياتي الأمريكي ولو رفضاً تدريجيا لا سيما وأن ما تحتاجه الشعوب هو حياة إنسانية مقبولة وليس سلاحاً وحروباً إلا في حالة الدفاع عن نفسها.
وبالطبع مما يُغضب أمريكا أن في العالم اليوم، بعكس فترة ما بعد الحرب الثانية، كثيراً من الدول التي تنتج منتجات مدنية مطلوبة كحاجات اساسية للناس مما قلل الاعتماد على المنتجات الأمريكية ولا نقصد بالبديل للمنتجات المدنية الصين فقط، وبرأينا حتى هذا كثير ومقلق. بل هو أشد ما يُقلق أو من يَقلق منه هي الأوليغارشية المالية في امريكا نفسها خاصة وأوروبية الغربية واليابان عامة.
والبرهان هو دور امريكا في الحرب في أوكرانيا حيث تقوم بتطويل الحرب لإهلاك روسيا ولكنها في الوقت نفسه تهلك المواطن الأوروبي وحتى بدرجة أقل المواطن الأمريكي من حيث ارتفاع الأسعار، فهي تصر على توسيع توريد السلاح لأنه عصب اقتصادها.
في هذا الوضع ينكشف زيف اللبرالية السابقة والحالية ويفتح على شمولية حقيقية بعكس الدعاية التي نُشرت ولم تتوقف ضد الاتحاد السوفييتي السابق. فقد قالت كونداليزا رايس: ” يقول الناس إن طاقة الأوروبيين سوف تنفد. حسنًا، سوف ينفد النقد من الروس قبل نفاد الطاقة من الأوروبيين … وإن كان كسر اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية إحدى الأدوات القليلة التي نمتلكها … على المدى الطويل، نريد ببساطة تغيير هيكل الاعتماد على الطاقة.”
هنا تتحدث رايس عن البشر كبضاعة أو مواد غير عضوية، لا راي لهم ولا مراعاة حتى لصحتهم من أجل الحلول محل روسيا في بيع الطاقة لأوروبا وبالطبع إهلاك روسيا، أي الشعب هناك والشعوب في أوروبا، كل هذا لا يهُم أمام المال. وتصل إعادة هندسة البشر مداها فيما صرح به وزير دفاع بايدن، لويد أوستن، “بأنه مصمم لـ “إضعاف” روسيا على الأقل بقدر تحرير أوكرانيا”. هنا لا يدور الحديث عن إضعاف شيء وهمي بل مجتمع. أما تحرير أوكرانيا فقد يصل إلى “تحريرها” من السكان بالإبادة عبر تمديد الحرب.
ما بين 1945 وحتى 1963 تقريباً كانت اتفاقية بريتون وودز التي اعتبرت الدولار معيارا تُقاس عليه قيمة عملة اية دولة وذلك بتوفير غطاء ذهبي لعملة اية دولة على أن تكون كل أونصة ذهب معادلة ل 35 دولار أمريكي أي كل 35 دولار أمريكي مغطى بأونصة ذهبية.
ولكن لماذا الدولار؟ لأن قوة الإنتاج الأمريكي من الإنتاج العالمي كانت طاغية وهذا من نتائج الحرب الإمبريالية الثانية حيث انتعش الإنتاج الأمريكي لا سيما وأنها دخلت الحرب متأخرة فكانت بائعة سلاح وأقل من مشاركة في هزيمة النازية لأن تلك الهزيمة كانت إنجازاً بامتياز من الاتحاد السوفييتي الذي عاش دمارا هائلا وفقدان 27 مليون مواطن. وبسبب اعتماد الدولار كعملة دولية صار لا بد أن تضع بلدان كثيرة ذهبها في أمريكا (وللحديث عن سرقة ذلك الذهب على يد أمريكا وقت آخر).
وبالطبع، فأمريكا لم تُضرب في الحرب الإمبريالية الثانية، سوى في بيرل هاربر من قبل اليابان اي بقي البلد واقتصاده بوضع ممتاز بينما كان العالم الغربي في دمار والمحيط في تخلف وفقر…الخ. وهذا ما استغلته امريكا بما يسمى إعمار أوروبا بخطة مارشال والتي تعني ربط أوروبا بأمريكا حتى حينه، وها هو ربط يتجدد اليوم على جلود الشعوب الأوروبية.
وعليه صار لا بد لكل دولة كي تشتري وتبيع في السوق الدولية أن تشتري دولارا كي تستخدمه في تجارتها الخارجية وخاصة مع امريكا الأقدر على الإنتاج المطلوب في السوق الدولية من جهة ومن جهة ثانية فهي حريصة على الحصول على الدولار كثمن لما تبيعه لأمريكا لأن الدولار هو العملة الأهم عالميا وهو أداة التبادل الأقوى مع غير أمريكا ايضاً، مثلا لشراء النفط.
وهذا يفتح على مصطلح “رَيْع” الهيمنة بمعنى أن امريكا تكسب من هيمنة عملتها على العالم وحاجته لتلك العملة في مختلف مبادلاته التجارية الخارجية ناهيك عن ريع متأتي من هيمنتها التجارية السلعية رغم تراجع حصتها في هذا المجال والعسكرية وحتى الثقافية أو لنقل “شراء” العالم للثقافة الأمريكية الذي يُترجم بشراء المنتجات الاستهلاكية الأمريكية بما فيها الثقافة والفن والإعلام والأفلام وحتى ثقافة الإباحة.. والخ وهو ريع إضافي إلى ما تربحه من تصريف المنتجات نفسها بغض النظر أو إضافة لقيمة المنتجات.
كان الكثير من بلدان العالم متعطشاً للدولار كثمن لصادراته إلى أمريكا من خلال بيع منتجاته في أمريكا لأن القدرة الاستهلاكية الأمريكية هائلة مقارنة مع عدد سكانها. ولذا اسموا اقتصادها ب “اقتصاد الملاذ الأخير”. ولذلك ايضاً هناك علم وسياسة امريكية هائلة في تشجيع الاستهلاك لدرجة ان ديك تشيني الذي كان نائب الرئيس الأمريكي بوش الابن حيث صرح إثر أحداث 11 ايلول: “كي تثبت أنك مواطن امريكي مخلص يجب ان تؤكد ذلك بالاستهلاك”.
ترتب عادة على الهيمنة الأمريكية هذه على السوق الدولية خصي قانون القيمة المحلي في اي بلد وحصره في تبادلها الداخلي طبقا لطبيعة ومقادير منتوجاتها. أما متاجرتها الخارجية فلا بد أن تكون بالدولار وهكذا أصبح الدولار العملة العالمية وأصبح كل من يريد الإتجار دوليا أن يحوز على دولارات لدفع ثمن ما يشتري وطبعا ما يبيع، كما أشرنا وهذا عزز قوة الدولار الأمريكي من حيث الطلب عليه من جهة ومن جهة ثانية اندفعت الناس من مختلف بلدان العالم لحيازة الدولار حتى من أجل الادخار فتدفق الدولار على أمريكا سواء من قبل المدخرين المتحولين كمستثمرين أو نظراً لشراء كثير من بلدان العالم منتجات أمريكية.
لكن الإنفاق الأمريكي الهائل خلال عدوانها ضد فيتنام أرغمها على تجاوز سقف بريتون وودز اي طباعة دولارات تجاوزت مقاديرها الغطاء الذهبي بكثير وذلك في سبعينات القرن الماضي مما دفع إدارة الرئيس الأمريكي نيكسون إلى إعادة صياغة هيمنة الدولار بعد أن لم تعد تلك الهيمنة مدعومة بقوة التجارة والصناعة للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية وبعد الإفراط القسري في طباعة الورقة الدولارية.
لم تطل فترة فراغ الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي حيث تمكنت أمريكا مع دخول الاقتصاد العالمي فترة الطفرة النفطية 1973 وأخرى في بداية الثمانينات من الاتفاق مع السعودية خاصة ومختلف بلدان الإنتاج النفطي على بيع النفط بالدولار وهو ما أنتج كتلة مالية اسموها الدولار البترولي بمعنى أن من يريد شراء النفط فعليه شراء الدولار أولا ودفعه ثمناً للنفط.
وبخضوع منتجي النفط للبيع بالدولار يمكننا القول بأن الولايات المتحدة قامت بحرب اقتصادية على العالم ولكن مستخدمة غيرها اي الدول المنتجة للنفط اي ان هؤلاء “حاربوا” نيابة عن امريكا لمصلحة أمريكا ونتجت عن ذلك أن معظم بلدان المحيط/اي العالم الثالث اضطرت للاستدانة من المصارف المركزية والتجارية الغربية لدفع فواتير النفط الهائلة مما أوقعها في أزمة المديونية في العقد الثمانيني من القرن الماضي وبهذا ربحت امريكا والغرب من نفط غيرهما.
وخلال سنوات هذه الحرب النفطية المكرسة لصالح أمريكا استخدمت امريكا السعودية كرأس حربة ضد الاتحاد السوفييتي الذي كان يعتمد اقتصاده إلى حد كبير على ريْع بيع النفط فتعمدت السعودية بعد عام 1985 ضخ كميات كبيرة من النفط في السوق الدولية لتقويض مداخيل السوفييت من بيع النفط مما قاد إلى المشاركة في أزمة سقوط هذه الدولة العظمى.
لقد أُطلق على السعودية حينها تسمية “المُنتج المُرجِّح” أي الذي يدخل السوق النفطي لترجيح وضع الباعة أو المشترين وذلك إما بتخفيض الضخ أو زيادته بحجة الحفاظ على السوق الدولية في حالة توازن تلافياً للأزمات، وكانت تلك السياسة بتوجيه مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية بحجة أن النفط سلعة عالمية ويجب ان لا تقرر وضعها دولة واحدة! وكأن لا سلعة عالمية سوى النفط!
أُورد معترضة هنا. خلال العدوان الأمريكي ضد العراق لإعادة احتلال الكويت أمريكيا عام 1991 دُعيت لحديث في جامعة ليدز شمال بريطانيا، وبالصدفة كان اسم الدكتور الداعي “بوش”. تركز الجدل حول كون النفط سلعة عالمية، وكان ردي والتكنولوجيا KNOW-HOW ايضا سلعة عالمية فليتم تأميم الاثنتين! فالغرب يحتجز تسريب التكنولوجيا للمحيط كي يبقى تابعا له جرياً على مقولة “لا تطور لأية يابان بعد اليابان” أي لا تطور لأية دولة في العالم بعد اليابان، بينما التحكم حتى جزئياً بالنفط ممنوع تماما وبالقوة.
ونظراً لأهمية بيع النفط بالدولار فإن احتلال العراق من قِبل الولايات المتحدة كان أهم أسبابه قرار عراق صدام حسين بعد 1991 بيع النفط بغير الدولار، وهو ما حاولت القيام به بعده كل من فنزويلا وإيران
بعد السبعينات والثمانينات دخل العالم في أوضاع اقتصادية متأثرة بعوامل جديدة منها تراجع حصة امريكا من الإنتاج العالمي وبالتالي تراجع الطلب على الدولار، ودخول منتجين جدداً على السوق العالمية أخذوا حصصاً من السوق وخاصة الصين بالطبع.
بناء على هذه التطورات قامت الولايات المتحدة وتبعتها بريطانيا بدءا من الثمانينات بتطبيق سياسة اللبرالية الجديدة التي بموجبها جرت عملية ما يسمى إصلاح هيكلي لاقتصاد الولايات المتحدة والاقتصادات العالمية التي جعلت الولايات المتحدة مركز الرأسمالية المالية العالمية والمكان الأكثر جاذبية للاحتفاظ برأس المال طالما أن الدولار لا يزال هو العملة الأقوى عالمياً.
ولكن، كيف نجحت اللعبة!
لجأت الولايات المتحدة كما تفعل هذه الأيام إلى رفع سعر الفائدة على الادخار بالدولار، فتدفقت استثمارات المستثمرين من العالم إلى الولايات المتحدة حيث ارتفعت قيمة الدولار وبالتالي حققت وتحقق الولايات المتحدة فوائض مالية هائلة ليس بناء على قوة انتاجها وصادراتها بل بناء على ريع هيمنة الدولار عالميا.
ولأن المستثمرين يدفعون بأموالهم إلى الولايات المتحدة، فإن كثيرا من بلدانهم تلجأ إلى استدانة نفس الدولارات من امريكا لتنفق على الضروريات اي الاستهلاك الترفي لطبقة معينة والصحة والتعليم ولكن ليس على إقامة قواعد إنتاجية فتبقى ما أمكن ضمن حلقة مفرغة من نزيف الفائض واسترداده كديون مترافقة مع عجز إنتاجي، أي لا تحقق نمواً كافياً. ولأن الصين تنهج نهجا معاكساً، اي إنتاجياً، فهي تتعرض لحرب اقتصادية من قبل امريكا وربما تصل حربا سلاحية.
بدورها فإن الدول المنافسة للولايات المتحدة تسعى جاهدة كي تتخلص من التبادل بالدولار وتهدف إقامة صندوق نقد معاكس لصندوق النقد الدولي وبعملة أخرى ممهدة لذلك بالتبادل بعملاتها وخاصة روسيا والصين أو كتلة البريكس عموما واصدقائها فيما بينها تجنبا للتبادل بالدولار لتصبح حصة الدولار من المبادلات الدولية حوالي 60 في المئة وهذا ليس قليلا ولكنه:
· قليل مقارنة بالماضي
· كما أنه غير مؤكدا على ضوء نشوء وتقوية منظمة “بريكس”.
حرب الدفاع الروسية:
ما الجديد الذي أحدثته حرب الدفاع الروسية على الدولار الأمريكي؟
لقد مهدت الولايات المتحدة لهذه الحرب بتزحيف الناتو ليصبح على حدود روسيا الاتحادية مخترقة اتفاقاتها مع آخر رئيس سوفييتي بأن لا يتعدى الناتو ضم المانيا الشرقية وهذا ما دفع روسيا لحرب دفاع استباقية، كما ذكرنا في غير مقال سابق.
هنا انتهزت الولايات المتحدة فرصة جديدة وهي حرب الريع حيث جندت أوروبا للوقوف ضد روسيا اقتصاديا وعسكريا وإن لا مباشرة مما دفع روسيا لاستخدام تدريجي لسلاح الطاقة ضد أوربا.
نشأ عن هذه التطورات ما يلي:
· تدفق اسلحة على أوكرانيا معظمها تم شراؤه من قِبل الأوروبيين من المصانع الأمريكية، كما اشترت أوروبا لنفسها مزيدا من الأسلحة الأمريكية.
· تدفق مرتزقة على أوكرانيا على نفقة الأوروبيين
· ارتفاع اسعار الغاز والنفط واضطرار أوروبا لشراء جزء منه من امريكا، سوف يتزايد طبعاً.
هذا يعني عودة ما، وإن بشكل أقل، إلى المرحلة الأولى لهيمنة الدولار حيث الطلب على منتجات أمريكية، وهذه المرة هي الريعية والتسليحية وهذا خلق وضعا قويا للدولار إضافة إلى تقوية وضع الدولار بتدفق الاستثمارات إلى امريكا وضمن هذا وذاك ريع هيمنة.
ومن هنا، غدا ملحوظاً أن الولايات المتحدة تمتطي أوروبا رغم انفها، وهي بلا شك مدعومة من الأوليغارشية الأوروبية كشريك ولو أدنى في أرباح الشركات الأمريكية على حساب الطبقات الشعبية في أوروبا.
والسؤال أخيراً: إلى اين تأخذ امريكا العالم؟ هل من أجل بقاء هيمنة الدولار يمكن إيصال العالم إلى تجديد الحرب النووية التي جربتها أمريكا:
· في قصف هيروشيما وناكازاكي
· وجربتها أمريكا بشكل جزئي في فيتنام والعراق وجربتها فرنسا في الجزائر وجربتها بريطانيا في زيمبابوي؟
كل امر مفتوح إما على خطر ما، وإما على حذرٍ ما!.
_________
ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف. ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.