السنة الثانية والعشرون – العدد 6403
في هذا العدد:
■ الاستشراق ومقاطعة الكنيست، عادل سماره
- بين بناء بيوت الآخرين وخدمة حروبهم
■ العلاقة الجدلية بين طبيعة النظام السياسي وصحة الأفراد، الطاهر المعز
■ المسار الثوري الفلسطيني البديل/بديل ضبابي، أحمد ناصر
- تقويض اليسار لصالح اليمين والدين السياسي
✺ ✺ ✺
الاستشراق ومقاطعة الكنيست
بين بناء بيوت الآخرين وخدمة حروبهم
عادل سماره
اعتاد العالم في عصر رأس المال، بما هو استعمار وإمبريالية أي اغتصاب ونهب وتقشيط، على ظواهر مناقضة لحقيقة رفض الشعوب المغلوبة لغالبها، فمن اللافت ترافُق هذا الكره للاستعمار من قِبل الشعوب المقهورة الشغل في مشاريع، وخاصة مناجم الاستعمار عموماً، أو شغل الفلسطينيين في اقتصاد الكيان، ناهيك عن استهلاك منتجات مصانعه…الخ.
لكن المهم التنبه إلى أن ذلك عن حاجة لا عن رغبة. ولم تكن الحاجة لأن هذه الأمم لم تكن قادرة على إطعام/إعالة نفسها، بل لأن الاستعمار استلب منها وسائل الإنتاج واستغل قوة العمل من ابنائها في مواقع عمل تحت سيطرته هي قيد الاغتصاب ايضاً. وطبعاً تختلف أكثر الحالة الفلسطينية لأن الكيان انتزع الأرض وليس فقط المشاريع وصار على الفلسطيني الذي لم يتم اقتلاعه وطرده: إما أن يصمد ويقبل بالعمل لديهم أو أن يرحل!
هذا إضافة إلى أن الكيان لم يتخلى عن نظريته في “العمل العبري” أي عدم تشغيل غير اليهود، لكن حاجته الاقتصادية وعسكرة كيانه أملت عليه تشغيل العرب.
على هامش هذا ظهرت حالات مشوهة في المستعمرات من نمط التشبه بالعدو الاستعماري إلى أن تبلور نقيض الاستعمار في حركات ثورية أعادت الاعتبار لثقافتها وتراثها وانتقلت من الانبهار بالعدو إلى إنتاج ثقافتها هي وصولا إلى الثورة لاقتلاعه.
أما الحالة الفلسطينية بما هي حالة استعمار استيطاني رأسمالي أبيض فقد تعايشت فيها مختلف المظاهر المذكورة أعلاه:
أولاً: هناك من انبهر بالعدو وتصالح معه باكراً وبقيت له امتدادات حتى اليوم ، وهذه حالات استدخلت الهزيمة وهذا المفهوم الأعمق للتطبيع. وضمن هذه الفئة حالات عشائرية أبوية رشاها الكيان بمواقع معينة لإرضاء مصالحها أو شبقها بأن يبقى او يكون لها مركزاً وسطوة اجتماعية حتى لو تمت بدعم سلطة العدو.
ثانياً: اضطرت قوة العمل الفلسطينية للعمل لدى الكيان لأنه استلب مواقع الإنتاج فاستغل قوة العمل، وهؤلاء أُطلق عليهم من يبنون بيوت الآخرين. وهي تسمية ضعيفة المحمول أو مقصود بها المعنى الضمني وذلك لأن الأمر لم يكن اختياراً.
ثالثاً: كما أشرنا اضطر الكيان نفسه لتشغيل الفلسطينيين نظراً لحاجته لقوة العمل وخاصة لسببين هما:1- رفض قوة العمل خاصته لأعمال تسمى الأعمال السوداء من مدخل عنصري وطبقي معاً و2- لأن سلطة الكيان حريصة على امتصاص فائض قوة العمل الفلسطينية كي تبتعد عن المقاومة ولكي تملأ فراغات تركها جنود الكيان لصالح الخدمة العسكرية التي هي طبعاً خدمة ضد الفلسطينيين والعرب! وهنا نرى حالة تناقض لدى الفلسطينيين لكن الخيار الآخر للفلسطينيين هو الرحيل!
رابعاً: برزت لدى الفلسطينيين منذ البداية مظاهر ثقافة رفض الكيان في الشعر الشعبي والأدب وطبعا الجهاد او النضال ا.ل.م.س.ل.ح.
خامساً: حاول الكيان ولم يتوقف عن إغواء الفلسطينيين ليتخيلوا بأنه “ديمقراطي، تقدمي” عبر ماكينة الانتخابات فيه والتي للأسف لم تكن موجودة في الوطن العربي وغالباً ليست موجودة ، رغم أنها ليست بقدر التلميع المدحوش فيها كظاهرة.
أخطر هذا التلميع هو إغواء الفلسطينيين للمشاركة في انتخابات برلمان الكيان سواء بالترشح والقسم بالإخلاص ل “دولة اليهود” أو بانتخاب أعضاء لهذا البرلمان.
سارت هذه الغواية لفترة، لكن منسوب المشاركة سار في تناقض مع منسوب الوعي العروبي وواصل التراجع سواء المشاركة في الانتخابات أو العضوية في أحزاب صهيونية هذا رغم تهاوي كثير من الأنظمة العربية للتطبيع مع الكيان.
اليوم لحظة فارقة
لقد حقق الوعي الوطني العروبي تقدما لافتاً ضد المشاركة في هذه الانتخابات رغم التجهيل والكذب الإعلامي والتطبيع العربي الرسمي. لكن هناك عوامل في بنية الكيان ودوره هي ايضاً عوامل تنفير الفلسطينيين من المشاركة في الانتخابات وخاصة كلما جرى توسع الوعي الشعبي النقدي في أوساطهم.
أهم هذه العوامل الثقافة والعقل والمشروع الاستشراقي الصهيوني ضد فلسطين، ونظرته الأنثروبولوجية، واعتماده القوة العسكرية الضخمة ومحترفة القتل.
بالنظرة الاستشراقية أي كيف يرى الصهيوني المستوطن المستشرق أهل البلد؟ إنه كما كتب إدوارد سعيد: “يخلق الاستشراق لأهل البلد الأصليين صورة تم تجريدها في ذهنه، من عندياته وبالتالي يعاملهم ويتعاطى معهم حسب هذه الصورة”.
وهنا، يمكننا التقاط العمى لدى هؤلاء المستشرقين حيث ينكروا/يتجاهلوا أو لم يروا لا واقع أنهم استعمار اقتلاعي ولم يدركوا العمق الثقافي والانتمائي للفلسطينيين ولم يروا أن المطبعين مجرد استثناء ومشوَّه. لعل أوضح تعبير عن العقل الاستشراقي في ما زعمه أول رئيس وزراء الكيان “ديفيد بن غوريون” بأن الكبار يموتون والصغار ينسون. ولعل أشد ظواهر دحض هذا الفشل الاستشراقي ظاهرة الفدائيين الجدد في الضفة الغربية ودور فلسطينيي المحتل 1948 مؤخراً في معركة سيف القدس. لا بد من ملاحظة بأن ما أنجزه إدوارد سعيد في دراسة الاستشراق قد بهَّته وناقضه هو نفسه بالتورط في الدعوة لانتخابات الكنيست حين زار الناصرة ودعا هناك للتصويت لعزمي بشارة. أما نقده لأوسلو فكان من باب تحسين ما حصل عليه عرفات وليس من باب الرفض.
كما وظَّف الكيان علم الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) أي دراسة المجتمع ككل واحد وثقافته وتطوره وخاصة المجتمعات القديمة والبدائية القبلية وعلاقات القرابة وكل هذا من منظور اعتبارها بدائية ولذا استخدمتها الإمبريالية. وخاصة المدرسة منها التي تدرس المجتمعات البدائية حيث يرى الصهاينة أن المجتمع الفلسطيني هو تقليدي عتيق، ما قبل رأسمالي غير حداثي وبالتالي لا يقرؤونه على أرضية علم الاجتماع أو التحليل المادي التاريخي الذي يرونه مخصصاً للأمم الغربية المتقدمة أو الحداثية، وبالتالي، طالما الفلسطيني بهذه الثقافة، فهو من حيث التطور العقلي والثقافي جاهز لقبول أكاذيب ودعاية الصهيوني. وهذا تحت تأثير الفيلسوف اليهودي الأمريكي ليفي شتراوس الذي طرح ان تقود امريكا العالم كإمبراطورية. وهو من دعاة الاندماج المسيحي-اليهودي اليهوسيحية، مستثنياً الإسلام. كما يُعتبر استاذ المحافظين الجدد في امريكا الذين كان وظَلَّ هدفهم الأساس في المنطقة هو تدمير الوطن العربي لصالح الكيان. هذا إلى أن أتى دور ترامب بديانته الثلاثية الجديدة/الإبراهيمية.
وإذا كان الاستشراق في نطاق العدوان الثقافي والفكري والاقتصادي، وإذا كان الاستشراق يخلو من جانب القوة، فإن الكيان يعتبر مجرد اغتصابه لفلسطين هو نتاج عامل القوة المسلحة والتي هي في الحقيقة بل واساساً قوة المركز الغربي الإمبريالي ومن ثم تسليح الكيان بحيث يتفوق دوماً على مختلف الأنظمة العربية ويبدو في نظر البسطاء كأن ما ربحه من انتصارات هو من جهده وقوته!
فالعوامل أو المرتكزات الصهيونية الثلاثة أعلاه هي عوامل تدفع الفلسطينيين للتصدي لها دفاعاً عن الوطن ورفضاً لمزاعم بدائية الشعب الفلسطيني وتصدياً للسطوة المسلحة للكيان كأداة للثورة المضادة بمن فيها المطبعين عربا وفلسطينيين، فإن هناك عوامل في الكيان نفسه تشجع الفلسطينيين على مقاطعة هذه الانتخابات بشكل اشد هذه الفترة بالذات.
وأوضح عوامل الوهن هذه الخلاف الشديد في الأوساط الحاكمة داخل الكيان حيث جرى تبديل خمس حكومات في أربع سنوات وهذا دليل على عدم توازن اجتماعي سياسي. وليس سهلاً القول إن ما يحصل هو خلاف داخل اليمين، لأن المجتمعات الاستيطانية قلما تولِّد يساراً حقيقياً.
وإذا كان من الضروري توسيع الطرح بالإشارة إلى الحرب في أوكرانيا، فدور الكيان في هذه الحرب يؤكد بأنه يلعب دوراً في مختلف الحروب العدوانية الإمبريالية على صعيد عالمي وهذا يؤكد للعرب والفلسطينيين بأن هذا الكيان يستدعي التناقض التناحري معه نظراً لاجتماع السببين الأساسيين:
· أنه اغتصب أرضا عربية
· ولأنه أداة عدو العرب الأكبر وهو المركز الرأسمالي الإمبريالي الغربي.
ومن هنا، فإن المشاركة في انتخابات كيان بهذه البنية والأهداف هو انضمام طوعي إلى هذا الكيان بكل أهدافه وسياساته وجرائمه وتمترس ضد الشعب العربي الفلسطيني بمختلف اسلحة الكيان العسكرية والثقافية والاقتصادية والنفسية…الخ.
أمَّا والفدائيون الجدد يُطرِّزون السماء بالدم، فطوبى لمن يُقاطِع.
✺ ✺ ✺
العلاقة الجدلية بين طبيعة النظام السياسي وصحة الأفراد
الطاهر المعز
تقديم:
بقيتُ بالمُستشفى في إحدى المُدُن الفرنسية الصّغيرة حوالي 48 ساعة، وبالصّدفة، كان الطّبيب المُخَدِّر (قبل إجراء عملية “روتينية” ) من مناهضي الاحتلال الأمريكي للعراق ومن الدّاعمين لنضال الشعب الفلسطيني، عندما كان طالبًا بمدينة باريس، وسُرِرْتُ لما عَرفَنِي من أول وَهْلَةٍ في قاعة التّخدير، وتبادلنا أطراف الحديث ووجدته على عهده، لا يزال شغوفًا بالتاريخ، وخصوصًا تاريخ نضالات الشّعُوب… بعد العملية زارني في غرفة الإنعاش، ثم رافقني إلى غُرفة الإقامة، وأعارني كتابًا صغيرًا وهامًّا، التهمْتُ مُحتواه في وقت قياسي، بحُكْم مُقاطعتي للتلفزيون، وقضاء معظم الوقت في القراءة، وتُلخّص الفقرات الموالية محتوى الكتاب مع تعليقاتي، وامتناني للدّكتور الذي مكّنني من الإطلاع على هذا الكُتاب.
عرض كتاب
اشتهر الدكتور (والكاتب) “غابور ماتي” ببحوثه وعمله في مجال الصدمات النّفسية ( ترُوما) والإدمان ونمو الطفل، وتَجْمَعُ بُحُوثُهُ ومُؤلّفاته بين العلوم والأساطير، واستخلاصاته من الدراسات الميدانية وتجربته الطويلة في معالجة مُدْمني المُخدّرات، والمصابين بالأمراض العقلية، من منظور دياليكتيكي وشامل، يؤكّد على عدم عزل حالة الفرد ( المريض) عن المُحيط الاقتصادي والاجتماعي.
نشر الدّكتور “غابور ماتي” وابنه “دنيال ماتي” (كاتب ومُخرِج مسرحي) سنة 2022، كتابًا بعنوان: “أسطورة الطبيعي: الصدمة والمرض والشفاء في ثقافة سامة” ( The Myth of Normal: Trauma, Illness & Healing in a Toxic Culture )
يُؤَكّد الدكتور غابور ماتي، وهو كاتب وطبيب نفساني وخبير اختصاصي في تحليل ومعالجة الإدمان، أن معظم المواطنين في الدّول الرأسمالية المتطورة يعانون من الصدمات، ويُعَلِّلُ، من خلال هذا الكتاب أسباب انتشار ظاهرة الشعور بالضيق في المجتمعات الرأسمالية المتطورة، بالأشكال المختلفة من المعاناة التي تعيشها فئات واسعة من الناس، كإحدى مظاهر أو نتائج ضغوط الحياة اليَوْميّة التي أصبَحَتْ تُصنّفُ ضمن مُؤشّرات “الحياة الطّبيعية”، ويُشير إلى ارتفاع عدد المُصابين بالأمراض العقلية، ومُعاناة حوالي 45% من الأوروبيين من ارتفاع ضغط الدم، فيما يتناول نحو 70% من الأمريكيين مُسكّنات ومُهدِّئات تحت إشراف طبيب، ناهيك عن عدد من يستهلكونها دون استشارة طبيب، ويعتبر “إن كل الأمراض تقريبًا تُمَثِّلُ انعكاسًا طبيعيًّا لنمط الحياة”، ولذلك فإن الشفاء من معظم الأمراض رهينٌ بظروف العيش وشكل العلاقات الإقتصادية والإجتماعية…
يدرس المؤلفان “ماتي” الأب والابن، من خلال هذا الكتاب، الأمراض الجسدية والنفسية العميقة للمجتمع الرأسمالي “الطبيعي”، وما “الطّبيعي” سوى تبرير للفوارق، حيث تعيش أقلية صغيرة في بحبوحة، على حساب الأغلبية التي تتعايش مع المرض واليأس وعدم اليقين كما يَصِفُ المُؤَلِّفان قدرة الرأسمالية على استيعاب التحديات ومقاومة التغيير، ويعتبرانها مصدر “الثقافة السامة” التي تنشر المرض داخل مجتمع يعتقد أنه “حر”، حيث لا يتحكم المواطنون في معظم الشؤون التي تَخُصُّ حياتهم، بل يعانون من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تقررها وتُشرف على تنفيذها أقلية صغيرة (النخبة) التي تتحكم أيضًا في الإقتصاد والإيديولوجيا وتدفّق المعلومات، وكافة دواليب الدّولة والمُجتمع.
يتباهى النّظام الرّأسمالي بتحقيق الحرية والديمقراطية والمُساواة، لكن أقليةً تتخذ جميع القرارات التي تؤثر على حياة الناس، وفقًا للمصالح الخاصة لهذه الأقلية، ما يُفَنِّدُ أسطورة المساواة بين المواطنين، بل تبْتَكِرُ الرأسمالية وتستخدم كل الوسائل لتقسيم الناس، ومن هذه الوسائل: القهر والاستغلال والعنصرية وكل ما يجعل الناس يعتقدون أن “الآخرين” هم أعداؤهم، ويستشهد “غابور ماتي” بمثال الطبقة العاملة الأمريكية البيضاء، المقتنعة بأن المهاجرين والسود (وهم مواطنون أمريكيون) هم أعداءهم، ما يجعل الرأسمالية الأمريكية تنجح في تحويل انتباه الناس عن المصدر الحقيقي لمشاكلهم.
يلفت الكتاب انتباه القارئ إلى سياق ولادة نظرية “العرق” التي تتزامن مع مرحلة الإستعمار وتبرير نهب أراضي الشُّعُوب الأُخرى، وبذلك بَرَّرَ الاستعمار البريطاني أو الهولندي أو الإسباني أو الفرنسي (ولا يزال يبرر) نظامًا قائمًا على الابتزاز والنهب والاغتصاب والاغتيال واستعباد الشُّعُوب، بمباركة السُّلُطات الدّينية التي تُشَرّعُ وتُبرر هذه الأعمال غير الإنسانية التي لا يمكن تبريرها.
على الصعيد الاقتصادي، تَغْمُرُ الدعاية الرأسمالية، بواسطة وسائل الإعلام، أدمغة المواطنين بمفاهيم (دون شَرْح مَعْناها ومغْزاها) مثل “النمو” أو “الاستهلاك” التي تصبح أهدافًا بحدّ ذاتها، ويتمثل دور الدّعاية في دَفْعِ المواطنين إلى شراء الأشياء ثم استهلاكها، وَوَقَعت النقابات العمالية في الفَخّ لتتّسِمَ مطالبها بمسحة من الإيديولوجية الرأسمالية، فهي تُؤَكّد على “تحسين القوة الشرائية”، أي: “نريد راتبًا أعلى حتى نتمكن من شراء المزيد من المنتجات”، لتجعل الإستهلاك هدفًا بذاته، حتى لو كانت هذه المنتجات ضرورية، بدل “نُريد نصيبنا من الثّروة التي خلقناها”.
يشير مؤلفا هذا الكتاب إلى أن هدفهما هو تشجيع الناس على التخلي عن الأوهام وإلى التّسلّح بالعقلانية وبالمنطق السّليم، والإنطلاق من التفكير في أشياء بسيطة مثل الصحة والمرض، فالمرض بأنواعه ليس ظاهرة أو مسألة فردية بحتة، بل يتوافق مع نظام اجتماعي، فالحياة العاطفية للناس لا تنفصل عن علم وظائف الأعضاء، وتتأثر صحة الإنسان بمحيطها وبظروف الحياة الفردية والجَماعية، ولذلك، من الضروري تدريب الأطباء على ضرورة الإهتمام بالصدمات والتوتر ودمجها في تشخيص وعلاج المرضى، وهذا المفهوم للطب ودمج الصحة البدنية والذّهنية والرعاية في الطب والبحث العلمي يتعارض مع منظومة الطّب الخاص الذي لا يخدم سوى مصلحة “المُستثمرين” ويرعى أرباح شركات الأدوية، ولذلك فإن تغيير المناهج والممارسة الطبية قد يُؤَدِّي إلى تصادم مع رأس المال الذي يستثمر في قطاع الطب والرعاية الصحية، لأن التّغْيِير يتطلّبُ (ويعتمد على ) مشاركة المريض نفسه الذي يروي تجربته الخاصة إلى الطّبيب الذي لا ينبغي أن يفصل بين الجسم والعقل، وبين البيولوجيا والسيرة الذاتية أو مسيرة حياة الإنسان، إذ تُشكّل هذه العناصر وحدةً لا تَتَجَزّأ.
يدعو هذا الكتاب المرضى إلى الإعتماد على مواردهم الفكرية والثقافية (بمفهوم التّراث الفردي والجماعي) لفهم العلاقة بين الأمراض التي تُصِيبُهُم والنظام الذي يفرض عليهم معايير تحددها أقلية ثرية بناءً على مصالح النخبة القادرة على تعبئة منظومة التعليم والدعاية والإعلام لصالح نظامها الاقتصادي القائم على تحقيق أقصى قدر من الأرباح في أقل وقت ممكن، وما يتطلّبُهُ من سحق الأغلبية خدمةً لمصالح الأقلية …
بالنسبة للطبيب، يُمثل الشفاء شكلاً من التعافي “الإجتماعي” الذي يُمكّن الإنسان من تصويب تفكيره نحو أهدفه وأهداف طبقته ومجموعته وشعبه من أجل حياة أَفْضَلَ، وعلى مستوى المجموعة، يعني هذا التّعافي الجماعي أن يتم تغيير جميع المؤسسات والهياكل السياسية والأيديولوجيات القائمة على تدمير صحة الناس وعلى خلق الانقسامات بين المضطهدين والمستغلين – ليتخاصموا فيما بينهم ويُهملوا عدوهم الحقيقي – ويتطلب ذلك تدمير أو تحويل أو إلغاء هذه المؤسسات وإيديولوجيتها، واستبدالها بأنظمة التماسك الاقتصادي والاجتماعي.
يتمثل دور الحركات اليسارية في تنظيم وتوحيد المستغَلين والمضطَهَدين والفقراء والفئات التي تشكل غالبية السكان، حول برنامج ومقترحات تنبثق من هذه الفئات، لكن إنجاز هذه البرامج والخطط يتطلّب استبْعاد وَهْم الإنتصار عبر “انتخابات حرة” تحترم دستور وقوانين المنظومة الرأسمالية، لأن الرأسمالية (التي أوجدت هذا النظام) لن تسمح لأي شخص أن يبني نظامًا نقيضًا لمصالحها، عن طريق الانتخابات الحرة، وبرهنت الرأسمالية العالمية سواء في تشيلي أو فنزويلا أو بوليفيا أو هندوراس ( وهي الأمثلة الأحدث من سلسلة طويلة من الانقلابات التي نظمتها الولايات المتحدة، قاطرة الرأسمالية العالمية) أنها لا تتواني لحظة في الإطاحة بأي نظام يُزعجها ولو قليلاً، حتى وإن كانت هذه الأنظمة مُنتخبة ديمقراطياً.
✺ ✺ ✺
المسار الثوري الفلسطيني البديل/بديل ضبابي
تقويض اليسار لصالح اليمين والدين السياسي
أحمد ناصر
فلسطين المحتلة
فقراءة الواقع الملموس اساسي في إثبات مصداقية اي نضال في اي مجتمع. وأهم عامل للتعامل مع الواقع هو معرفة ماذا تريد الناس وخاصة الطبقات الشعبية في مطلق مجتمع! هذا ما تقيد به ماو تسي تونغ دائماً التعلُّم من الشعب باعتباره المعلم الذي لا يخطئ لأنه في عين الواقع ولديه الرؤية.
هل فشل النضال الفلسطيني؟
في تقييم التجربة النضالية الفلسطينية للتحرير، لا بد من أخذ الصورة باتساعها كي نتمكن من رؤية حقيقية ودقيقة. بدأ النضال الفلسطيني قبل أكثر من قرن ولا زال لتحرير وطنه من عدوان استيطاني حظي بدعم معولم أي من:
· الغرب الرأسمالي الإمبريالي الذي لولا احتلاله لفلسطين لما تمكن المستوطنون من استيطانها.
· وتم دعمه من الكتلة الاشتراكية السوفييتية متوهمة أن الاستيطان سيقيمان نظام اشتراكياً! على أرض غيره.
· وتم دعمه من الاشتراكية الدولية
· وتم دعمه من الأنظمة العربية التابعة.
هذا يعني أن شعبنا قاتل كل هؤلاء وليس الكيان الصهيوني وحده إلى أن جرى تشريده عام 1948.
لقد قاتلت الأنظمة العربية التقدمية (قومية الاتجاه) في حرب 1967 لتحرير فلسطين لكنها هٌزمت لعوامل خارجية حيث اوضحت الوثائق أن راس حربة العدوان الصهيوني كانت من جميع أنظمة الغرب الرأسمالي الإمبريالي. هذا الغرب الذي يدرك أن تحرير فلسطين هو مشروع عروبي وليس فلسطيني فقط. بل ليس ممكنا إلا عبر الثورة العربية.
بعد هزيمة 1967 تورط كثير من الفلسطينيين، وخاصة اليمين الفلسطيني في الانحصار في دور الفلسطينيين فقط في تحرير فلسطين. وبقي هذا الطابع العام ل م.ت.ف. بينما بقي اليسار الثوري على قناعته بأن الصراع عربي صهيوني ضمن سياق الصراع العالمي بين الثورة والثورة المضادة. لكن اليسار هذا لم يتمكن من حسم الموقف لصالح رؤيته. وعليه، فإن اي مشروع خارج عروبة الصراع يصب في النهاية لصالح الثورة المضادة.
للتوضيح، فإن هزيمة مشروع الوحدة العربية يتضمن بلا شك أحد أسباب هزيمة م.ت.ف في عجزها عن التحرير ووصولها الطريق المسدود الذي نراه اليوم. حيث لجأ اليمين إلى حلول تصفوية متوهماً بالحصول على دولة في المحتل 1967 أي قرر تقاسم الوطن مع عدو يطمح لاحتلال ما بين النيل والفرات. ولجأت بعض الفصائل لتبني حلولاً من نمط دولة واحدة: ديمقراطية، علمانية، دينية ثلاثية، ثنائية القومية، دولة مع المستوطنين …الخ وهو مشروع مطروح منذ قرن وبلا نتائج. ومختلف هذه الحلول هي هروب من التحرير.
في هذا السياق لم يتخلى اليسار الثوري عن مشروعه في التحرير والبعد العربي، لكنه لم يتمكن من هزيمة كل هذه التيارات بمن فيها تيار الدين الإسلامي السياسي.
ماذا يريد الشعب الفلسطيني، وماذا يريد من غيره؟
مطلب الشعب الفلسطيني متعلق بوضعه تحت استعمار استيطاني رأسمالي معولم، أي تحرير وطنه وهذا يعني أن المركز الإمبريالي هو نفسه في اشتباك مع الشعب الفلسطيني وليس الكيان الصهيوني فقط، اي ان الغرب هو عدو تماما كما هو الكيان الصهيوني الإشكنازي وكما هي أنظمة التبعية والتطبيع العربية وما تسمى الأمة الإسلامية التي ترى الصراع والحل في الأديان.
لا يوجد في الساحة الفلسطينية والعربية سوى محورين متضادين:
· محور المقاومة
· ومحور المساومة/الثورة المضادة.
ولذا، فأية حركة سياسية يجب ان تصطف في أحدهما. هذا يعني أن الاصطفاف لا يسمح بوقوف في نقطة رمادية فإما هنا أو هناك.
وعليه، فإن ما يسمى ب المسار الثوري الفلسطيني البديل هو محاولة انتهازية استغلت الوضع المتردي ل م.ت.ف لتضرب اليسار بدل اليمين والإسلاميين! وهذا عجيب! فهي:
· تقف خارج محور المقاومة بل ضده
· وتقف خارج البعد العروبي مما يؤكد تموضعها في المحور الآخر رغم بلاغة لغة ما تنشر.
· وتقيم علاقات مالية وإيديولوجية مع الإسلاميين عبر واجهة مضادة للثورة والثقافة العربية متمركزة في مستعمرة قطر!
· بل تتموضع في عواصم الإمبريالية! حيث سوف “تحرر” الغرب أولاً وصولا إلى تحرير فلسطين كما تزعم داعش “تحرير” العواصم العربية وصولا إلى فلسطين!
يتواجد محور المقاومة من فلسطين إلى لبنان فسوريا فطهران، ويعمل محور المقاومة على:
تحرير فلسطين وتحرير الوطن العربي، اي مواجهة الإمبريالية والصهيونية والأنظمة العربية التابعة بما هي هذه الثورة المضادة. ولأن فلسطين هي النقطة الساخنة فالمطلوب بلا مواربة تكثيف الجهد لصالح المقاومة المسلحة بشكل أساسي في فلسطين نفسها (حرب غوار الريف وغوار المدن) كما يحصل الآن.
وهذا يعني تجميع كافة الجهود لصالح المقاومة داخل الأرض المحتلة طالما محيط فلسطين ليس جاهزا باستثناء لبنان المقاوِم.
خلفيات التبعثر في النضال الفلسطيني:
لقد تعرضت المقاومة الفلسطينية للكثير من الحصار والقمع في أماكن عديدة، كما عانت من قيادات فشلت في تقدير طاقة الشعب فلجأت للمفاوضات دون رغبة الشعب.
لذا، أمام هذه الإشكالات الذاتية والخارجية فُتح الباب لرقص الشياطين فتعددت الأطراف التي تحاول خلق بديل ل م.ت.ف. وهذا أمر يحتمل الصح والخطأ، يحتوي الثوري والانتهازي، الصادق والمأجور…الخ.
التشكيلات الانتهازية:
ترافقت مع مسيرة م.ت.ف أخطاء وتراجعات وانحرافات مما فتح الطريق لكل من:
· النقد الثوري الجذري بما في ذلك تجاوز م.ت.ف نفسها نحو بديل هو محور المقاومة
· وللنقد والبدائل الانتهازية.
بدورها بدأت قوى الثورة المضادة في تقويض القاعدة الشعبية للمقاومة وخاصة تقويض اليسار عبر:
أولاً: خلق وتمويل مجموعات من اللبراليين وما بعد الحداثيين عبر خلق منظمات الأنجزة NGOs التي حظيت بتمويل هائل لخلق بُنى تنظيمية سياسية لا تمارس ولا تؤمن بالكفاح المسلح وبهدف امتصاص الكثير من الكوادر اليسارية وخاصة الماركسية لصالحها لكي تحيلهم إلى أبواق دعاية للسلام والمقاومة الشعبية “السلمية”!
بدأت هذه ظاهرة التمويل عبر الأنجزة بشكل متواضع منذ عام 1975 من خلال منظمة أنجزة هولندية NOVIB والتي بدأت مع الحزب الشيوعي وخاصة في المنتدى الفكري العربي بالقدس. ونتجت عن ظاهرة الأنجزة هذه ما تسمى المبادرة الوطنية الفلسطينية التي دعى وشارك في تأسيسها حيدر عبد الشافي ويرأسها مصطفى البرغوثي الذي يرفض نطق كلمة كفاح مسلح. وكان من دُعاتها إدوارد سعيد الذي رفع شعار: “إن على الفلسطينيين القيام ب:” تفكير جديد”! ولكن اي تفكير جديد في مواجهة الكيان الصهيوني غير الكفاح المسلح وكل نضال مساعد آخر! وهذا ما تلقفته جماعة المسار البديل بتسمية نفسها “المسار الثوري البديل! لكن واقع الحال يؤكد أن لا جديد ولا بديل عن التحرير وبالكفاح المسلح تحديداً وفي داخل الأرض المحتلة نفسها.
ثانيا: ظاهرة البديل الفلسطيني تحت تسمية “الهيئة الوطنية للحفاظ على الثوابت” التي دعى لها عزمي بشارة متموضعا في مستعمرة قطر قاعدة نظام وقوى الدين الإسلامي السياسي وذلك عامي 2009-2010. وكان قد حمل الفكرة قبل هروبه من فلسطين من خلال علاقته مع الحركة التروتسكية في الكيان الصهيوني وذلك بعد أن كان قد اثر على بعض قياديين من الجبهة الشعبية قبل هروبه والذين أصبحوا دُعاة ما يُسمى حل الدولة الواحدة، ومنهم ممن انتهى إلى ما يسمى المسار البديل.
وهنا يجب الانتباه: لماذا جرى تركيز مبعوث قطر والتروتسك والمسار على تفكيك الجبهة الشعبية والتقاط كوادرها!
بعد خروج عزمي بشارة من الأرض المحتلة وتموضعه في قطر حافظ على علاقة مع سوريا وهناك طرح مشروعه الجديد “الهيئة الوطنية للحفاظ على الثوابت” الذي يتضمن التطبيع مع الكيان الصهيوني. وحيث فشل في هذا عاد إلى قطر وانقلب ضد سوريا وإيران وحزب الله مع بداية عدوان “الربيع العربي” بعد أن خدع هؤلاء لسنوات مديدة!
وهنا غير تكتيكه حيث أخذ يعمل مع جماعة المسار البديل والتروتسك من الكيان منذ 2010 ولكن تدريجيا وبخبث. ومن يطالع مجلة الآداب عام 2010 يرى كيف تقاطعت اطروحات خالد بركات وسماح إدريس وعزمي بشارة!
وللمرء هنا أن يسأل: ألم يعرف بركات وإدريس أن بشارة عضو كنيست وداعية لدولة لكل مواطنيها ويتمترس في قطر! أي هو مع الاعتراف بالكيان ويتموضع قطر قاعدة الإخوان المسلمين.
وهذا يطرح السؤال: هل حقاً لم تتنبه قيادة اليسار إلى هذا الخطر الذي بقي يتغلغل بهدوء في جسد الجبهة الشعبية حتى بعد أن أعلن بشارة موقفه مع إرهاب معولم وديني ضد سوريا الوطن والشعب والدولة. أم أن في صفوفها القيادية من يتماهى مع هذه التوجهات بدل أن يذهب باتجاه جذري كفاحي عبر محور المقاومة تحديداً.
ثالثاً: تعلَّم التروتسك، وبشارة ودُعاة التطبيع الدرس فأخذوا يعملون بشكل خفي دون أن يكشفوا نواياهم، ولذا لجأوا إلى الشكل التآمري الجديد وهو البقاء في الأطر وتنظيم اشخاص منها بشكل سري دون أن يعلنوا أنفسهم ولكن مع نقد حاد ضد الفصائل نفسها وخاصة نقد الجبهة الشعبية. وهذا ما تبلور تحت تسمية المسار الثوري الفلسطيني البديل! والذي بدأت تظهر نشاطاته قبل بضع سنوات. ولكن التاسيس له، كما اشرنا أعلاه، كان في مجلة الآداب عدد 2010 التي كان يرأس تحريرها سماح إدريس والذي كان يدعي أنه ضد التطبيع ولكنه كان يقف في معسكر مضاد لمحور المقاومة ويدعم إرهابيي الإسلام السياسي ضد سوريا وشارك علانية في بيان ضد سوريا. فكيف يمكن أن يكون أحد ضد التطبيع وضد الكيان وفي نفس الوقت ضد سوريا. بينما تقول أطروحات مؤسسي الكيان الصهيوني سواء بن غوريون أو بيجن ولاحقاً نتنياهو بأن بقاء “إسرائيل” مرهون بتفكيك سوريا.
تتلخص المؤامرة التي مارستها جماعة المسار البديل وأهم سماتها:
· عدم إعلان الخروج من الجبهة الشعبية
· الاستقطاب السري من عناصر الجبهة لصالح المسار المذكور
· مهاجمة عزمي بشاره لغويا لإخفاء العلاقة الخاصة به والتي بدأت على الأقل منذ 2010.
· العلاقة الحذرة مع التروتسك ، وخاصة تروتسك الكيان وفرنسا، كي لا تنحرق أوراقهم؟
· اغتصاب تراث الجبهة الشعبية ما أمكن.
· اللجوء للعمل الدعاوي والإعلامي البحت في عواصم الغرب مما يطرح السؤال: هل تسمح بروكسل قاعدة الناتو والاتحاد الإمبريالي الأوروبي وبرلين لحركة فلسطينية مسلحة ضد الكيان الصهيوني أن تعمل منها! فلماذا يتمتع المسار البديل بهذه الحركة الحرة؟
ولذا، لا نجد الآن علاقات معلنة بين بشارة والتروتسك (سواء تروتسك الكيان وتروتسك فرنسا) والمسار البديل المذكور.
وهنا يجب التذكير بأن الثوري لا يتآمر بل يعلن موقفه بوضوح. لكن جماعة المسار لجأوا إلى أسلوب تآمري مخفي من جهة وكذلك إلى سرقة تراث الجبهة الشعبية وإنشاء منظمات أو انشطة بأسماء من تراث الجبهة مثل غسان كنفاني…الخ.
محور المقاومة:
في الجانب الآخر فلسطينيا وعربياً يقوم محور المقاومة على شعار وممارسة النضال من أجل التحرير بلا مواربة. بل حتى شعار العودة لم يعد له معنى لأنه ليس أكثر من استجداء الأمم المتحدة منذ سبعة عقود لإعادة الشعب الفلسطيني لوطنه ولم يحصل شيئا. لذا حتى شعار العودة والتحرير لا معنى له لأن التحرير يعني كتحصيل حاصل العودة. وعليه، فإن المظاهرات المرخصة للمسار البديل في الغرب هي شكل تنفيسي تحتويه المخابرات الغربية لأنها تظاهرات دعاوية في المكان الغلط وهي تتهرب من رفع شعار الكفاح المسلح لتحرير فلسطين وتُغيِّب عروبة الصراع والحل.
محور المقاومة هو تصدي بالكفاح المسلح للكيان الصهيوني وللثورة المضادة. وعليه، فإن تشكيل اي فصيل خارج الأرض المحتلة وخارج محور المقاومة يثير علامات استفهام كبيرة لأن اي فصيل ثوري حقا هو مسلح ويتواجد إما داخل فلسطين أو داخل محور المقاومة وهذا فقط هو المعنى الحقيقي للتخلص من تهاوي م.ت.ف أي تعيد بناء نفسها عبر محور المقاومة فقط.
وعليه، فالمسار البديل يمكن لو احترم نفسه لأقام موقع إلكتروني وتوقف عن استنزاف كثير من الشباب والشابات في حرب كلامية لغوية واستبدال هذا الهُراء بالتبرع لأسر الشهداء والجرحى في الوطن.
ما الذي يمكن أن يقدمه المسار حينما يقيم بُنى نقابية طلابية أو شعبية في الغرب متنافسة وموازية للتي اقامتها المقاومة كما يفعل المسار البديل حيث لا يقدم سوى تكرار واستنزاف الطاقات.
لكن الفارق أن مؤيدي المقاومة في الشتات هم تكملة للكفاح المسلح بينما المسار البديل هو ضد محور الكفاح المسلح كما كتب وتحدث كثير من مؤسسيه بلا مواربة ناهيك عن استخدامهم خطاب اللبرالية المزيف وخاصة مفردات: “الاستبداد والديمقراطية” والتي يستخدمها معسكر الثورة المضادة وممثله عزمي بشاره ضد الدول التي تقف ضد هذا المعسكر وتحاول خلق نظام عالمي جديد لا تسيطر عليه الإمبريالية. لقد كشفت الحرب في أوكرانيا عن ديمقراطية الغرب التي وصلت منع كتب ديستوفسكي وموسيقى تشايكوفسكي! أليس هذا استبداداً!
وهذا يطرح السؤال: ما هي مرجعية هذا المسار؟ طالما هو ليس ضمن الجبهة الشعبية بل يقوم بتجويفها من داخلها؟ ولماذا استهداف هذا الفصيل اليساري تحديداً؟ ولماذا يستهدف من بين الدول العربية سوريا؟ التي تتعرض لإرهاب قوى إسلامية؟ ولماذا يقف ضد حزب الله!
ولأن هذا المسار يقف ضد هؤلاء، فأين ولائه؟ وأين يتخندق!
وهل تحتاج القضية الفلسطينية إلى كل هذا الانشغال في دعاية إعلامية كلامية من جهة وتحتل تراث غيرها؟ هل لدى الشعب الفلسطيني فائض وقت لهذا؟
فالعمل الدعاوي لصالح فلسطين في الغرب وكل الخارج هو مهمة أصدقاء فلسطين والمتضامنين معها وليس مهمة فلسطينيين يتمولون من أطراف مشبوهة ويخلقون بُنى منافسة للموجود دون أن تكون على يساره وليست جذرية أكثر منه! فالفلسطيني ليس مجرد نصير لشعبه.
من اين لهذا المسار اموالاً للإنفاق على مؤسساته ومؤتمراته وتنقلاته في أوروبا وأمريكا حيث التكاليف الباهظة؟ من هو الذي يدفع الفلوس لمؤتمرات مدريد الأول والثاني والذي حضره المآت؟
قيل أن الحزب الشيوعي الإسباني دفع تلك التكاليف، بينما نفى الحزب ذلك. .
ويزعم المسار البديل بأن عناصره يتنقلون على حسابهم!
لو صح هذا، فهو يعني أنه مُكوَّن من برجوازيين يخلقون لأنفسهم متعة الكلام في السياسة والبروز الشخصي. وحتى في هذه الحالة، اليس الأحق بهذه الفلوس قطاع غزة وجنين وكامل الأرض المحتلة بدل هذا الإنفاق العبثي. إن هذا تكرار لبيروقراطية اليمين الفلسطيني مع فارق أن اليمين بدأ بالسلاح وانحرف، أما المسار فبدأ بلا سلاح! أي اخذ الطريق الأقصر للانتهازية.
لكن هذا الصرف الموسع هو الذي يكشف بأن مصادر تمويل هؤلاء ليست وطنية وهي بين أموال قطر ومنظمات الأنجزة الممولة من دوائر غربية وخاصة وكالة ما وراء البحار في الدول الغربية Overseas Development Agency
يمكن للمتتبع التقاط تجنيد بعض صحفيي جريدة الأخبار اللبنانية لصالح هذا المسار حيث يتم النشر لهم. وهناك تقديرات بأن الأزمة المالية للصحافة الورقية تدفع هكذا صحف لتمرير كتابات ضد المقاومة كي تحفظ الصحف نفسها من الإفلاس وتغطي تورطها ب “حرية التعبير”!
هناك إشاعات بأن حركة الجهاد الإسلامي المقاتلة تقيم علاقة مع جماعة المسار البديل! وهذا، إن صح، يندرج في قوى دين سياسي ضد اليسار!
المسار الثوري الفلسطيني البديل: حالة هجينية
نورد هنا بعض مرتكزات هذا المسار:
أولاً: يدعو البيان النهائي للمسار إلى: “إقامة المجتمع الديمقراطي القائم على العدل والمساواة، الخالي من الاستغلال الطبقي ومن العنصرية والصهيونية…”.
بغض النظر عن ميوعة “ديمقراطي” يبقى السؤال كيف سيقتلع المسار الاستغلال الطبقي بدون موقف فكري نظري ماركسي ومن ثم نضالي عملي؟ هل تطوع أحد بالتخلي عن الملكية الخاصة؟
وكيف يقتلع العنصرية والصهيونية؟ هل بالنصائح والتعاويذ؟ وهل إعلان صهيوني أنه لم يعد صهيونيا يُجيز له البقاء في أرض وبيت الفلسطيني! دائما يتهرب المسار من التحرير والكفاح المسلح. وهذا ما يُسعد الغرب الذي يفتح له ابواب عواصمه.
فبيان المسار يدعو الى الحفاظ على “حق العودة، وحق تقرير المصير على كامل التراب الوطني الفلسطيني” دون التطرق الى اشتراط التحرير اولا. وما ترديد مقولة “من النهر الى البحر،” و”على كامل التراب الفلسطيني،” وتركها عائمة سوى تفريغ كلام طالما بلا سلاح. أي دون اشتراط التحرير. إن طرح هذه الشعارات الفضفاضة هو ما قصد به بالذات “التلاعب بالعواطف وعدم الوضوح.” وهذا من اجل ايهام الذين يريدون تحرير كامل التراب الفلسطيني من الوطنيين بأن هذا هو الهدف. وطالما لا يشترط التحرير فليقل لنا كيف سيحقق العودة!
اما الفقرة التي استعملها “المسار الثوري البديل” في دعاياته للترويج عن نفسه: “…… فأننا نؤكد على تعزيز العلاقة مع مختلف الشخصيات اليهودية المناضلة والمناهضة للصهيونية والعنصرية والاستعمار، الداعمة لحقوق شعبنا ومقاومته الباسلة لتحرير فلسطين،”.
نحن نعرف هؤلاء، ولسنا ضدهم ودائما نسألهم: المعيار هو تحرير فلسطين وعودة شعبنا لممتلكاته وبيوته. فهل تقبلون بذلك؟ وحينها لا يتبقى منهم سوى بعدد اصابع اليد الواحدة.
في عداء المسار هذا للمشروع العروبي في التحرير والوحدة والاشتراكية للوطن العربي يستخدم بل يخلق معسكر وهمي بقوله “معسكر المقاومة العربي”! أين هو خارج محور المقاومة؟ هل هو في قطر والسعودية ونظام المغرب والإمارات! أم في حزب راكاح الشيوعي الصهيوني!
كما يكرر المسار شعار:” كل فلسطين من النهر إلى البحر”. طبعا تمتد فلسطين من النهر إلى البحر، ولكن:
· هل نستعيدها بالبلاغة اللغوية
· وترجي عواصم الإمبريالية؟
· وتغييب الدور العربي في الصراع
أم بالكفاح المسلح والتحرير وعبر محور المقاومة.
في بيانه كتب المسار البديل:
“… كما يدعو المؤتمر كلّ القوى والجمعيات والمنظّمات الشعبية المنضوية في «حركة المسار الثوري الفلسطيني» إلى تصعيد وتيرة النضال الجماهيري داخل وخارج فلسطين المحتلة، والعمل على مواجهة مشروع الحكم الإداري الذاتي التصفوي على طريق عزله وإسقاطه.”
لاحظ هذه الكلمات المفرغة من اي محتوى نضالي حقيقي حيث تتعمد تغييب الكفاح المسلح والتحرير.
بل إن بعض كتاب المسار محمد الخطيب ثملاً كرر أكذوبة الإمبريالية وارهاب الدين السياسي عن “البراميل المتفجرة” في هجومه ضد سوريا التي جرى غزوها بمآت آلاف الإرهابيين! فهل هذا موقف فلسطيني!
شاهد له هذا الفيديو الذي يعج بالكلام ولا يحتوي طلقة رصاص فارغة واحدة!
في مسيرة المسار البديل في برلين رُفعت أعلام الانتداب/الاستعمار الفرنسي فهل هكذا يكون البديل لتحرير فلسطين!
ويقول بيان المسار:
“…عاشراً: التأكيد الدائم على حق العودة للاجئين الفلسطينيين باعتباره جوهر قضية شعبنا وخيار الشعب الفلسطيني، والعمل على نقله من حيز الشعار السياسي إلى ميادين العمل والنضال وتثبيته كأولوية نضالية على برنامج حركات المقاطعة العربية والدولية وقوى التضامن مع الشعب الفلسطيني. وفي هذا الإطار، ندعو إلى ممارسة الضغط على وكالة الغوث (الأونروا) وعدم الاستجابة أو التكيّف مع سياسات ومواقف بعض المموّلين التي تنافي الحقوق الوطنية الأصيلة لشعبنا.”
هل هذا هو النضال الذي يرفع سقفاً عالياً وينتهي إلى معاتبة الأونروا!
التطورات الأخيرة الشعب يخلق البديل:
أتت التطورات الأخيرة في الضفة الغربية خاصة سواء معركة سيف القدس أو العمليات المسلحة الحالية سواء الفردية أو التي تقودها فصائل م.ت.ف، أتت لتؤكد أن المطلوب فلسطينيا، بل حتى من كل من يتضامن مع فلسطين، أمران اثنان:
الأول: أن يكون مناضلا في الميدان داخل الأرض المحتلة ومحور المقاومة الممتد من طهران دمشق لبنان والقدس.
والثاني: أن يكون اي نشاط وجمع اي فلس وطباعة اي منشور في الشتات والقيام بأية تظاهرة او ندوة…الخ بتنسيق مع محور المقاومة لا كبديل له ولا منافس له.
ففي لحظة اشتداد المقاومة يصبح كل شيء للجبهة وليس للظهور الشخصي والانتهازي.
هذا هو المعنى الحقيقي لرص الصفوف وتوحيد النضال سواء المسلح او الثقافي أو الإعلامي.
ولذا، فإن اي نشاط بعيد عن محور المقاومة أو معادي له هو نشاط مشبوه وخطير حتى لو قام على سذاجة ونوايا حسنة من البعض وكما قال الرفيق لينين” إن جهنم مبلطة بالنوايا الحسنة”.
في لحظة اشتداد الكفاح المسلح وتوحيد المقاومين من كل الفصائل في “عرين الأسود” الذي يستقطب الشباب الفلسطيني من مختلف الفصائل ومن بقية المجتمع، ينخرط المسار البديل في الطعن في الفصائل وتبخيس نضالها محاولاً كما يفعل الاحتلال الزعم أن المقاومة المسلحة اليوم في الضفة الغربية لا علاقة لها بالفصائل. بينما لا يقوم هذا المسار سوى بالثرثرة اللغوية والتهجم على تراث المقاومة.
ولا شك بأن هذا المسار البديل سوف يهتف ضد الفصائل بعد لقاء الجزائر التعيس. ولكن الفيصل ليس هنا أو هناك، الفيصل في الانضمام لمحور المقاومة على الأرض لا محور المكالمة في برلين وبروكسل.
:::::
موقع “الراية”، 18 أكتوبر، 2022
____
- تابعوا “كنعان اون لاين” Kana’an Online على موقعنا: https://kanaanonline.org/
- ملاحظة من “كنعان”:
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.
- عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
- يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org