لا أدري لماذا تذكرت أمام مشهد لقاء البابا بشيخ الأزهر في البحرين، رتل السيارات العسكرية السعودية التي سندت الملك وقت انتفاضة شعبها مع أنها سلمية لم يرم فيها حجر. ربما لأن الكاميرات التي كانت مسددة على هيبة الرتل، سددت على منصة اللقاء الرفيع. نصح اللقاء بالحوار، لكننا لم نسمع ضرورته في البحرين لتغيير النهج الذي يطلبه شعبها المعروف بثقافته.
على كل حال، كان يفترض أن يكون اللقاء في مخيم جنين، سنداً لشباب يحاولون أن يهزوا الغائبين عن الوعي. أو للحفاوة بالشجاعة الفاتنة ورشاقة المطالبين بالاعتراف بحقهم في الوطن. أو كان يفترض أن يكون اللقاء في سورية، لأنها واجهت حرباً وظفت الوحشية في مشروع التفكيك السياسي، باسم الدين. ليوضّح أن الأديان ترفض اغتصاب الأطفال، وانحطاط جهاد النكاح، وتشريع القتل المذهبي، وتدمير الكنائس والأضرحة، وكسر مقاعد المدارس، والجباية على المعابر، ونهب بنوك الدولة، والتجارة بالآثار، وكسر شواهد الحضارة الإنسانية. لم يهدم الإسلام الكعبة التي ورثها من القدماء، بل ثبّت الحج إليها. ونصب القباب فوق أضرحة قادة الإسلام، فبقيت قروناً حتى دمرتها الوهابية.
لذلك يشعر المؤمنون الأنقياء الذين يفهمون أن الفضائل الأخلاقية أساس التديّن، بالدهشة لأن تضحيات السوريين طوال أحد عشر عاماً لم تستوقف ذلك اللقاء. فغاب الانحناء للشهداء الذين صمدوا في حصار المطارات والمستشفيات، وقتلوا بقرار وتصميم! ولم يستوقف اللقاء، ومسألة الطاقة في محور الحرب في العالم، أن السوريين يعانون من البرد، وينكّل بهم بالحصار والأزمات، ونفط السوريين يسرق ونفط الإخوة العرب ملتزم بالعقوبات!
واكب اختيار المكان الخطأ المسألة الخطأ. فهي ليست “سوء تفاهم” بين السنة والشيعة أو بين المسلمين والمسيحيين لتنصب له طاولة الحوار. بل المسألة القواعد العسكرية الأمريكية التي تحرس مخطط تفكيك الدول إلى معازل إثنية ومذهبية. وتقسيم المجتمعات العربية بمعيار الطوائف. وكسر الوحدة الوطنية المؤسسة على تاريخ ولغة وذاكرة وأدب وثقافة. ومن هذه الذاكرة شعار الثورة السورية الذي ثبّتته منذ قرن تقريباً: الدين لله والوطن للجميع. وما أكثر ما بيّن الباحثون أن فصل الشيعي عن السني عن المسيحي في تاريخ الوطن مستحيل. فمعيار التمييز بين الناس هو فقط أخلاقهم، كفاءتهم، صدقهم وشجاعتهم. لم نتصور يوماً أن صوت فيروز لن يطربنا لأن فيروز مسيحية! وأن القصائد التي غنتها في معرض دمشق الدولي، ولا نزال نرددها، كتبها شاعر مسيحي! نعرف كم تخسر العمارة العربية لو حذفت منها الكنائس! وكم نخسر من النساجين والصياغ والمفكرين والسياسيين الوطنيين، وكم نخسر من الذاكرة، لو قطّعناها بمعيار المذاهب!
ربما لمس ذلك اللقاء في البحرين جانباً فقط من الواقع بذكر الحرب في أوكرانيا، مع أنها حرب على روسيا. تمنى كما نتمنى أن تنتهي. لكنه لم يبصر جوهرها. ومع أن الأديان قدّست الحياة، لم يهتم اللقاء بجريمة تصنيع الأوبئة في مئات المخابر الأمريكية المنثورة في العالم، وتصريحات السياسيين الغربيين التي واكبتها عن ضرورة تقليص سكان الأرض. ولم يذكر خطر النازية الجديدة، المؤسسة على الاحتقار العنصري الذي يبيح حرمان بعض الشعوب من حقها في الحياة، ويمارس منع لغتها وأدبها وفنونها وتشويه تاريخها.
وبعد، لا يوجد في هذه اللحظة إنسان خارج الصراع العالمي. لأن الجنون العنصري قد يجعله حرب إبادة ذرية تكرر مأساة هيروشيما. وكل لقاء يتجاهل الصراع اليوم بين الهيمنة الغربية والحق في التنوع، هو خارج الزمن. يزيد في ثقل المسؤولية عن التيه أن يملك المشاركون نفوذاً روحياً. لذلك نتساءل: هل اختيار المكان الخطأ، واختيار مسألة بديلة عن مسألة جوهرية، تعبير عن موقف في الصراع العالمي، أم تعبير عن حاجة الضعيف إلى سند خارجي؟
:::::
صفحة الكاتبة على فيس بوك
_________
ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….https://kanaanonline.org/2022/10/27/%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7%d9%86-3/