وأنا أُعدَّ كتاباً مقارَناً، لا تأليفاً، عن الرفيق الراحل والمفكر المُغتال بالطمس والكراهية، أحمد حسين في اشتباكه مع إدوارد سعيد، محمود درويش، وجزئياً بل اضطرارا عن بعض ما كتبت، وجدت من المفيد للقارىْ/ة اقتطاف هذه الصفحات مدفوعاً بقرفي ممن ينهشون صدام حسين وعبد الناصر وهم في الحقيقة يهدفون بخبث هدم العروبة. أما هدفي الأساس ودائماً، هو تأكيد موقفي وليس الإملاء على غيري، بأن لا أحد مطلق الإيجاب ولا السلب وبأنك في الثقافة يمكن أن تتحالف وتختلف وتتناقض كما في السياسة. وهذا ما يُغري ولا يُغوي المثقف المشتبك على تحمُّل هجمات همجية من المثقف المنْشبك. ذلك لأن نهوضا عروبيا يقتضي قراءة كل ظاهرة أو شخص بكل جوانبه ويفرض بالطبع ألا يكون المثقف ولا المواطن عبداً لشخص أو نظام. فعبودية من هذا الطراز، تجعل العمالة أمراً مستساغا وأكثر. وما شدني كي أطرح هذا القول وجود عرب طيبين يعانون من عقدة التحيز: إما مع الأسد أو مع صدام! وفقط!!!! وأعتقد أن موقفا كهذا لا يُعوَّل عليه، مع المعذرة.
ما يلي اجتزئته من بحث لأحمد حسين بعنوان:
تداعيات حول ظاهرة ادوارد سعيد
أحمد حسين
كاتب عربي من فلسطين
نُشر في كتاب: حدود البعد الثقافي: نقد أطروحات إدوارد سعيد. إعداد عادل سماره، منشورات مركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية-رام الله عام 2000
“… وبالطبع لم يكن بوسع ادوارد سعيد الاستفادة من ما وارئية النبوّة لإخفاء تناقضاته المستلزمة باستباحة اللامنهج، فظل نبيا محاطا بالتناقضات. وعلاقة ادوارد سعيد بالعرب في مباحث “الثقافة والإمبريالية” علاقة طريفة ومتميزة. وأعترف بدون تردد أن العرب حالة تاريخية مميزة سلبا، وٕإلى درجة البذاءة، ثقافيا و”اجتماسيا”، ليس فقط قياسا على مشهد المعاصرة، وٕإنما قياسا على أية تجربة تاريخية إطلاقا. ولكن حالة كهذه تشكل بالنسبة للباحث تحديا استثنائيا للتفكيك، والمغامرة الاستكشافية، رغم استثارتها للشجب والتنديد في المشاهدة التلقائية. ويبدو ادوارد سعيد في هذا المجال مستسلما تماما لحالات لا يمكن أن تخص الباحث الحقيقي مثل التناول بالإحساس، والنبذ المسبق، والاكتفاء بالتحسس عن بعد، والانسياق وارء ظواهر التنديد والشجب المسيّس للمشهد العربي. أي مستشرق أو حتى إعلامي سيء النية، يستغل واقع البذاءة العربية في مشروع للعداء أو التشهير الغرضي بالعرب، لا يفترض أن يتجاوز “إنشاء” ادوارد سعيد بهذا الخصوص. فالعرب لم يكونوا حتى ممثلين بحثيا في “الثقافة والإمبريالية” سوى في حالات نادرة، من قبل أشخاص قيد المجاملة المكشوفة، أو قيد التنديد السياسي المباشر وبشكل رخيص تماما، أو قيد المنافقة المؤسفة والمستهجنة حتى على مستوى النفاق ذاته. من بين مئات الأشخاص والنصوص التي تناولها استهلالا أو تضمينا في كتاب “الثقافة والإمبريالية” لم تتخلل السياق أية أسماء أو نصوص عربية استهلالا. أما الإشارات التضمينية إلى بعض الأشخاص كالجابري، ومنيف على سبيل المثال، فقد كانت عابرة كالبرق، ومستدعاة بالحمل وليس بالتخصيص. كانت هناك بعض المجاملات الشخصية الرقيقة لمحمود درويش وأدونيس، لا يعيبها سوى أنها حاولت أن تبدو أكثر من مجرد مجاملة. ولكن ما يعيب حقا، ذلك النفاق المقرف ـ لم تسمح لي الموضوعية باستعمال وصف آخر ـ للكويت والسعودية. وهو نفاق مباشر يقوم كلية على تعمد الكذب حتى ولو اختبأ داخل عبارات شبه خالية من المعنى مثل أن ” السعودية بلد مهم لديه ما يسهم به ” أو أن هناك علاقة وعي من نوع ما بين الكويت وما يقوله ادوارد سعيد عنها حينما يعلن ـ بكل معنى كلمة “يعلن”ـ أنها ” تحررية ولبرالية” في بعض الجوانب وغير ذلك في جوانب أخرى.
أما صاحب الحظ الأوفر من الذكر في سرديات التاريخ المعاصر للعرب كما أوردها ادوارد سعيد، فهو صدام حسين. ويبلغ التناول بالإحساس هنا مداه الأقصى بحيث يصبح مجرد ” نرفزة ” ذات طابع دهمائي. فصدام حسين ومعه العراق غير قابل للتفكيك كما هو الأمر مع بوش وبعض كبار الصحفيين الأمريكان الذين يحافظ إدوارد سعيد على لياقة موضوعية واضحة في الإشارة إليهم، حتى عندما يبلغون درجة التهتك والكذب الإعلامي المباشر. وكون صدام حسين والنظام العراقي ـ وهما بالطبع شيء واحد بالنسبة لإدوارد سعيد ـ ظاهرة غير قابلة للتفكيك نابع من كونها ظاهرة التباسية شخصية تتحرك خارج السياق “المقنن” الذي اكتشفه ادوارد سعيد ” للكلية الجديدة” لحركة التاريخ والتطور، وهي ” التطابق الإمبريالي” الذي أخبرنا المكتشف أنه سياق تاريخي وثقافي يقوم بحل تناقضاته “بالتخطيط الجدلي” المسبق، بطريقة تواشج الأضداد تواشجا سورياليا. فصدام حسين لا يمكن اعتباره حتى عرَضا مرضيا على هامش هذا السياق، لأنه قرصان معاصر قام “باختطاف القومية العربية” لغرض الاستثمار الشخصي والعائلي، دون أن يشبه بذلك أي نظام عربي أخر حتى السعودية أو الكويت. ويعود غياب هذا الشبه المتوقع إلى تأثر صدام حسين باسمه الأول، والذي جعله ينحاز بالقومية إلى حلبة المواجهة “الصدامية” مع “الغرب!!” ملحقا أفدح الأضرار بالشعب العراقي وبالليبرالية الشيخية في “دولة” الكويت. بالطبع هناك شبه مؤكد ـ بالقرصنة والاختطاف ـ بين صدام وعبد الناصر، غير أن الفروق الفردية بين الرجلين من حيث الاسم والمزاج والرصيد العائلي، جعلت الأخير أكثر ميلا إلى الشعبوية والتعبئة القومية الشاملة. أما لماذا وقفت أمريكا ـ ومعها معظم الأنظمة العربية ـ من الرجلين موقفا عدائيا موحدا حتى أدق تفاصيله، يسيطر عليه الشجب الشخصي، وتكرار ذات التهم، فذلك أمر يحتاج إلى تفكيك الموقف الأمريكي. صحيح أن ادوارد سعيد قد عاتب الموقف الأمريكي بما يشبه تفكيك ردة الفعل، دون التعرض لأية قَبلْية استراتيجية لهذا الموقف إلا أنه من الصحيح أيضا أنه لم يجد سببا لما فعلته أمريكا بالعراق سوى ما فعله صدام حسين بالكويت ـ الدولة المستقلة ـ وبالشعب العراقي اي القومية العربية وتدمير العراق…الخ
وهذا أمر قد أثلج صدري شخصيا، لأنه أتاح لسوداويتي القومية التلذذ بحالة ادوارد سعيد المتردية، وهو يراوح بين عناء المحافظة على حيثية الباحث وعذاب الكراهية الشخصية لصدام حسين. والمهم أن صدام حسين قد انتصر أيضا عليه، حينما جعله ـ بدون علم أو تدخل من جانبه ـ يهدر كل مدخراته العاطفية، وطاقاته الانفعالية، وحيثيته المكتسبة كباحث، على موقف سياسي نزق، مفعم باندفاع أريحي بدائي نحو كراهية ماجنة.
إن الأوصاف الفاقعة التي أضفاها ادوارد سعيد على الوضع العربي العام أثناء تتبعه لظواهر الفساد الشامل في هذا الوضع، هي صحيح وصفي، لم يوفّ حتى الآن حقه من التنديد المكافئ لأن اللغة الاجترارية الشائعة عاجزة عن ذلك. ولكن كون ذلك صحيحا وصفيا، مهما كان فاقعا في الإد ارك، يظل أقل استنفارا للاستهجان من ذلك الانهيار المنهجي العلني لادوارد سعيد، حينما يستجدي الإنشاء فرصة تتيح له استغلال الظاهرة وكأنها خامة معرفية مؤكدة تبدأ وتنتهي بالبدء والانتهاء من وصفها. فحينما يختص الأمر بالعرب، يتحول ادوارد سعيد إلى مجرد داعية سياسي عصبي المزاج، يقوم بتناول الظواهر تناولا ميدانيا تكتيكيا لدعم مزاعم تحليلية منحازة سلفا إلى الهدف السياسي.
واعتزال المنهج ـ مهما كان رديئا في التركيب والأداء ـ لصالح مزاعم التحليل الذاتي، وبمثل الوضوح الذي اتبعه ادوارد سعيد، هو عمل ناب يشير إلى الاستهانة بالمتلقي من ناحية، وٕإلى انغماس الباحث في سيكولوجيته الخاصة في التناول. والأمر المؤكد أنه ـ حينما يتعلق الأمر بالعرب ـ فإنه ينصرف إلى عملية تركيب غائي للظواهر المتاحة وليس إلى عملية تفكيك كما يريدنا أن نعتقد. وهو يفعل ذلك بهوس “واحتدام” شديدين، ولكن دون أن يفقد وعي المهمة. فإهمال الصيغ النشوئية للظواهر أو الوقائع الجزئية، والاكتفاء بجردها وصفيا، يعني الادعاء أن هذه الأمور هي إنتاج مرضي محلي خالص من حيث المسؤولية، وأن المحلية العربية التي من المفروض أنها ـ على الأقل في مظهريتها المعاصرة ـ وليدة أوضاع التطابق مع الإمبريالية ـ كما ظل يردد دون انقطاع ـ تعود الآن لتصبح عند المستوى التقابلي الإمبريالي وكأنها حادثة تشوه خَلقي ومطابقة مجانية لاستيهامات عرقية وأصلانية ترفض بشدة حوار الثقافة والخضوع لاملاءات التطابق الجدلي مع الفعل الإمبريالي الموجه نحوها. أي أن هناك انعزالية محلية عربية تجعل من “الداخل” العربي مسؤولا مسؤولية كاملة عن جدله الارتدادي الخاص المنكفئ نحو ملاحقة التخلف والأصلانية وٕإعادة إنتاج تراثه العقائدي إنتاجا جديدا إرهابيا قائما على القرار البشري والاجتماعي الخاص وعلى فرادة التجربة وحدها. والمعنى، أن ادوارد سعيد يعترف بوجود “داخل” عربي غير مستباح، سياسي وثقافي واقتصادي لا يستطيع التغلغل الإمبريالي الوصول إلى نواته الصلبة. وأن هذا الداخل يتجاوز في اندفاعته الثقافية والاجتماعية المفردة، وفاعليته الارهابية، سياق المواجهة التطابقي مع الامبريالية، إلى الانبعاث الشمولي البدئي الموجه ضد مجرد وجود الآخر وليس ضد فاعليته المناهضة. ووصفيا، فإنني أتفق مع ادوارد سعيد حول صورة الوضع العربي الظاهرة للعيان، ولكنني أختلف معه في ادعاءاته التفكيكية المريبة. وكم كنت أتمنى لو كان ادوارد سعيد صادقا، وأن هناك مساحة غير مستباحة في المحلية العربية يمكن أن تشكل نواةً لداخل عربي مستقل مهما كان مضمونه، يسمح بمجرد ادعاء حضور عربي ـ ولو شيطاني ـ على واقعة التضاد مع أمريكا أو “الغرب” إذا شاء. ولكنني واحد من أؤلئك الذين استهجن ادوارد سعيد غرارهم الوعيوي، والذين لا يستطيعون تفسير أية واقعة مرحلية، سياسية أو ثقافية أو إجرائية في المحلية العربية خارج إطار التدبير والاحتواء الأمريكي. والسبب كامن تفصيليا في أن المتاخمة بين الحضور الأمريكي الإيجابي حتى حدود المداهمة الشرسة، المزودة بكل ديناميات الفعل وآلياته، وبين الحضور العربي “الجثماني” على موات السلبية وغياب الفعل، لها نتيجة منطقية واحدة هي التغلغل الحر والاختراق التام حتى حالة الاحتواء الكامل كما هو حاصل فعلا. والتفكيك الحقيقي لهذا الوضع يجب أن يضع في اعتباره أن “أصلانية” العالم العربي ومدخراته التراثية الهجرية، يتم تفعيلها الآن كديناميات وعي زائفة وآليات استخدام من جانب أمريكا، بادراك أمريكي تام أن هذه الأصلانيات والمدخرات اليهوسيحية، هي عقابيل ردة عربية تاريخية عن أصلانية قومية وعرقية وحضاريةأصيلة، تشكل هذه العقابيل والمدخرات اليهوسيحية الهجرية نقيضها القومي والعرقي والحضاري التام.
وأمريكا بوعيها التام لعبثية أي انبعاث ديني معاصر، وارتداد مضار هذه العبثية على مصادرها فقط، هي المشجع ـ بل والداعم الأكبر ـ لمثل هذه الانبعاثات العبثية. إن ما يقلق أمريكا هو الانبعاثات القومية الأمامية، التي تجمع بين وجدانيات الهوية والسيادة الوطنية، وبين ديناميات الوعي المعاصر المندفع بدون عوائق نحو استخدام كل إمكانات وآليات التقدم والمعاصرة، وليس عملاء التخلف الذين تقوم باستغلال الأصول الهجرية ـ تحديدا ـ لإنتاجهم، ونسبتهم إلى “الأصلانية” المتطرفة، ثم التلويح “بخطرهم” لخدمة أهدافها الخفية، وٕإجراءاتها الظاهرة. ويجب على الباحث أن يتعمد التجاهل لكي لا يرى ويعترف أن العلاقة الأمريكية بالأنظمة العربية التي تعيش على مجرد كونها دفيئات لأصلانية تقوم على تحري المضمون الهمجي بالذات للقبْلية، في مقابل علاقتها الصدامية الهوجاء بأنظمة عربية أخرى تحاول الاقتراب من العلمانية والمعاصرة، هو أمر بحاجة إلى تفكيك.
_________
ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….https://kanaanonline.org/2022/10/27/%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7%d9%86-3/