السنة الثانية والعشرون – العدد 6417
في هذا العدد:
■ أحمد حسين: في العروبة وناصر وصدام، عادل سماره
■ كيف تصنع ثورة؟: “سيرة ملهم الثورات الملونة”، سعيد محمد
■ نبض الضفة لا يهدأ: شاهد د. عادل سماره في برنامج “بانوراما اليوم” على فضائية “المنار” (البدء من دقيقة 32)
- الرابط: https://program.almanar.com.lb/episode/246783
- تعليق
✺ ✺ ✺
أحمد حسين: في العروبة وناصر وصدام
عادل سماره
وأنا أُعدَّ كتاباً مقارَناً، لا تأليفاً، عن الرفيق الراحل والمفكر المُغتال بالطمس والكراهية، أحمد حسين في اشتباكه مع إدوارد سعيد، محمود درويش، وجزئياً بل اضطرارا عن بعض ما كتبت، وجدت من المفيد للقارىْ/ة اقتطاف هذه الصفحات مدفوعاً بقرفي ممن ينهشون صدام حسين وعبد الناصر وهم في الحقيقة يهدفون بخبث هدم العروبة. أما هدفي الأساس ودائماً، هو تأكيد موقفي وليس الإملاء على غيري، بأن لا أحد مطلق الإيجاب ولا السلب وبأنك في الثقافة يمكن أن تتحالف وتختلف وتتناقض كما في السياسة. وهذا ما يُغري ولا يُغوي المثقف المشتبك على تحمُّل هجمات همجية من المثقف المنْشبك. ذلك لأن نهوضا عروبيا يقتضي قراءة كل ظاهرة أو شخص بكل جوانبه ويفرض بالطبع ألا يكون المثقف ولا المواطن عبداً لشخص أو نظام. فعبودية من هذا الطراز، تجعل العمالة أمراً مستساغا وأكثر. وما شدني كي أطرح هذا القول وجود عرب طيبين يعانون من عقدة التحيز: إما مع الأسد أو مع صدام! وفقط!!!! وأعتقد أن موقفا كهذا لا يُعوَّل عليه، مع المعذرة.
ما يلي اجتزئته من بحث لأحمد حسين بعنوان:
تداعيات حول ظاهرة ادوارد سعيد
أحمد حسين
كاتب عربي من فلسطين
نُشر في كتاب: حدود البعد الثقافي: نقد أطروحات إدوارد سعيد. إعداد عادل سماره، منشورات مركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية-رام الله عام 2000
“… وبالطبع لم يكن بوسع ادوارد سعيد الاستفادة من ما وارئية النبوّة لإخفاء تناقضاته المستلزمة باستباحة اللامنهج، فظل نبيا محاطا بالتناقضات. وعلاقة ادوارد سعيد بالعرب في مباحث “الثقافة والإمبريالية” علاقة طريفة ومتميزة. وأعترف بدون تردد أن العرب حالة تاريخية مميزة سلبا، وٕإلى درجة البذاءة، ثقافيا و”اجتماسيا”، ليس فقط قياسا على مشهد المعاصرة، وٕإنما قياسا على أية تجربة تاريخية إطلاقا. ولكن حالة كهذه تشكل بالنسبة للباحث تحديا استثنائيا للتفكيك، والمغامرة الاستكشافية، رغم استثارتها للشجب والتنديد في المشاهدة التلقائية. ويبدو ادوارد سعيد في هذا المجال مستسلما تماما لحالات لا يمكن أن تخص الباحث الحقيقي مثل التناول بالإحساس، والنبذ المسبق، والاكتفاء بالتحسس عن بعد، والانسياق وارء ظواهر التنديد والشجب المسيّس للمشهد العربي. أي مستشرق أو حتى إعلامي سيء النية، يستغل واقع البذاءة العربية في مشروع للعداء أو التشهير الغرضي بالعرب، لا يفترض أن يتجاوز “إنشاء” ادوارد سعيد بهذا الخصوص. فالعرب لم يكونوا حتى ممثلين بحثيا في “الثقافة والإمبريالية” سوى في حالات نادرة، من قبل أشخاص قيد المجاملة المكشوفة، أو قيد التنديد السياسي المباشر وبشكل رخيص تماما، أو قيد المنافقة المؤسفة والمستهجنة حتى على مستوى النفاق ذاته. من بين مئات الأشخاص والنصوص التي تناولها استهلالا أو تضمينا في كتاب “الثقافة والإمبريالية” لم تتخلل السياق أية أسماء أو نصوص عربية استهلالا. أما الإشارات التضمينية إلى بعض الأشخاص كالجابري، ومنيف على سبيل المثال، فقد كانت عابرة كالبرق، ومستدعاة بالحمل وليس بالتخصيص. كانت هناك بعض المجاملات الشخصية الرقيقة لمحمود درويش وأدونيس، لا يعيبها سوى أنها حاولت أن تبدو أكثر من مجرد مجاملة. ولكن ما يعيب حقا، ذلك النفاق المقرف ـ لم تسمح لي الموضوعية باستعمال وصف آخر ـ للكويت والسعودية. وهو نفاق مباشر يقوم كلية على تعمد الكذب حتى ولو اختبأ داخل عبارات شبه خالية من المعنى مثل أن ” السعودية بلد مهم لديه ما يسهم به ” أو أن هناك علاقة وعي من نوع ما بين الكويت وما يقوله ادوارد سعيد عنها حينما يعلن ـ بكل معنى كلمة “يعلن”ـ أنها ” تحررية ولبرالية” في بعض الجوانب وغير ذلك في جوانب أخرى.
أما صاحب الحظ الأوفر من الذكر في سرديات التاريخ المعاصر للعرب كما أوردها ادوارد سعيد، فهو صدام حسين. ويبلغ التناول بالإحساس هنا مداه الأقصى بحيث يصبح مجرد ” نرفزة ” ذات طابع دهمائي. فصدام حسين ومعه العراق غير قابل للتفكيك كما هو الأمر مع بوش وبعض كبار الصحفيين الأمريكان الذين يحافظ إدوارد سعيد على لياقة موضوعية واضحة في الإشارة إليهم، حتى عندما يبلغون درجة التهتك والكذب الإعلامي المباشر. وكون صدام حسين والنظام العراقي ـ وهما بالطبع شيء واحد بالنسبة لإدوارد سعيد ـ ظاهرة غير قابلة للتفكيك نابع من كونها ظاهرة التباسية شخصية تتحرك خارج السياق “المقنن” الذي اكتشفه ادوارد سعيد ” للكلية الجديدة” لحركة التاريخ والتطور، وهي ” التطابق الإمبريالي” الذي أخبرنا المكتشف أنه سياق تاريخي وثقافي يقوم بحل تناقضاته “بالتخطيط الجدلي” المسبق، بطريقة تواشج الأضداد تواشجا سورياليا. فصدام حسين لا يمكن اعتباره حتى عرَضا مرضيا على هامش هذا السياق، لأنه قرصان معاصر قام “باختطاف القومية العربية” لغرض الاستثمار الشخصي والعائلي، دون أن يشبه بذلك أي نظام عربي أخر حتى السعودية أو الكويت. ويعود غياب هذا الشبه المتوقع إلى تأثر صدام حسين باسمه الأول، والذي جعله ينحاز بالقومية إلى حلبة المواجهة “الصدامية” مع “الغرب!!” ملحقا أفدح الأضرار بالشعب العراقي وبالليبرالية الشيخية في “دولة” الكويت. بالطبع هناك شبه مؤكد ـ بالقرصنة والاختطاف ـ بين صدام وعبد الناصر، غير أن الفروق الفردية بين الرجلين من حيث الاسم والمزاج والرصيد العائلي، جعلت الأخير أكثر ميلا إلى الشعبوية والتعبئة القومية الشاملة. أما لماذا وقفت أمريكا ـ ومعها معظم الأنظمة العربية ـ من الرجلين موقفا عدائيا موحدا حتى أدق تفاصيله، يسيطر عليه الشجب الشخصي، وتكرار ذات التهم، فذلك أمر يحتاج إلى تفكيك الموقف الأمريكي. صحيح أن ادوارد سعيد قد عاتب الموقف الأمريكي بما يشبه تفكيك ردة الفعل، دون التعرض لأية قَبلْية استراتيجية لهذا الموقف إلا أنه من الصحيح أيضا أنه لم يجد سببا لما فعلته أمريكا بالعراق سوى ما فعله صدام حسين بالكويت ـ الدولة المستقلة ـ وبالشعب العراقي اي القومية العربية وتدمير العراق…الخ
وهذا أمر قد أثلج صدري شخصيا، لأنه أتاح لسوداويتي القومية التلذذ بحالة ادوارد سعيد المتردية، وهو يراوح بين عناء المحافظة على حيثية الباحث وعذاب الكراهية الشخصية لصدام حسين. والمهم أن صدام حسين قد انتصر أيضا عليه، حينما جعله ـ بدون علم أو تدخل من جانبه ـ يهدر كل مدخراته العاطفية، وطاقاته الانفعالية، وحيثيته المكتسبة كباحث، على موقف سياسي نزق، مفعم باندفاع أريحي بدائي نحو كراهية ماجنة.
إن الأوصاف الفاقعة التي أضفاها ادوارد سعيد على الوضع العربي العام أثناء تتبعه لظواهر الفساد الشامل في هذا الوضع، هي صحيح وصفي، لم يوفّ حتى الآن حقه من التنديد المكافئ لأن اللغة الاجترارية الشائعة عاجزة عن ذلك. ولكن كون ذلك صحيحا وصفيا، مهما كان فاقعا في الإد ارك، يظل أقل استنفارا للاستهجان من ذلك الانهيار المنهجي العلني لادوارد سعيد، حينما يستجدي الإنشاء فرصة تتيح له استغلال الظاهرة وكأنها خامة معرفية مؤكدة تبدأ وتنتهي بالبدء والانتهاء من وصفها. فحينما يختص الأمر بالعرب، يتحول ادوارد سعيد إلى مجرد داعية سياسي عصبي المزاج، يقوم بتناول الظواهر تناولا ميدانيا تكتيكيا لدعم مزاعم تحليلية منحازة سلفا إلى الهدف السياسي.
واعتزال المنهج ـ مهما كان رديئا في التركيب والأداء ـ لصالح مزاعم التحليل الذاتي، وبمثل الوضوح الذي اتبعه ادوارد سعيد، هو عمل ناب يشير إلى الاستهانة بالمتلقي من ناحية، وٕإلى انغماس الباحث في سيكولوجيته الخاصة في التناول. والأمر المؤكد أنه ـ حينما يتعلق الأمر بالعرب ـ فإنه ينصرف إلى عملية تركيب غائي للظواهر المتاحة وليس إلى عملية تفكيك كما يريدنا أن نعتقد. وهو يفعل ذلك بهوس “واحتدام” شديدين، ولكن دون أن يفقد وعي المهمة. فإهمال الصيغ النشوئية للظواهر أو الوقائع الجزئية، والاكتفاء بجردها وصفيا، يعني الادعاء أن هذه الأمور هي إنتاج مرضي محلي خالص من حيث المسؤولية، وأن المحلية العربية التي من المفروض أنها ـ على الأقل في مظهريتها المعاصرة ـ وليدة أوضاع التطابق مع الإمبريالية ـ كما ظل يردد دون انقطاع ـ تعود الآن لتصبح عند المستوى التقابلي الإمبريالي وكأنها حادثة تشوه خَلقي ومطابقة مجانية لاستيهامات عرقية وأصلانية ترفض بشدة حوار الثقافة والخضوع لاملاءات التطابق الجدلي مع الفعل الإمبريالي الموجه نحوها. أي أن هناك انعزالية محلية عربية تجعل من “الداخل” العربي مسؤولا مسؤولية كاملة عن جدله الارتدادي الخاص المنكفئ نحو ملاحقة التخلف والأصلانية وٕإعادة إنتاج تراثه العقائدي إنتاجا جديدا إرهابيا قائما على القرار البشري والاجتماعي الخاص وعلى فرادة التجربة وحدها. والمعنى، أن ادوارد سعيد يعترف بوجود “داخل” عربي غير مستباح، سياسي وثقافي واقتصادي لا يستطيع التغلغل الإمبريالي الوصول إلى نواته الصلبة. وأن هذا الداخل يتجاوز في اندفاعته الثقافية والاجتماعية المفردة، وفاعليته الارهابية، سياق المواجهة التطابقي مع الامبريالية، إلى الانبعاث الشمولي البدئي الموجه ضد مجرد وجود الآخر وليس ضد فاعليته المناهضة. ووصفيا، فإنني أتفق مع ادوارد سعيد حول صورة الوضع العربي الظاهرة للعيان، ولكنني أختلف معه في ادعاءاته التفكيكية المريبة. وكم كنت أتمنى لو كان ادوارد سعيد صادقا، وأن هناك مساحة غير مستباحة في المحلية العربية يمكن أن تشكل نواةً لداخل عربي مستقل مهما كان مضمونه، يسمح بمجرد ادعاء حضور عربي ـ ولو شيطاني ـ على واقعة التضاد مع أمريكا أو “الغرب” إذا شاء. ولكنني واحد من أؤلئك الذين استهجن ادوارد سعيد غرارهم الوعيوي، والذين لا يستطيعون تفسير أية واقعة مرحلية، سياسية أو ثقافية أو إجرائية في المحلية العربية خارج إطار التدبير والاحتواء الأمريكي. والسبب كامن تفصيليا في أن المتاخمة بين الحضور الأمريكي الإيجابي حتى حدود المداهمة الشرسة، المزودة بكل ديناميات الفعل وآلياته، وبين الحضور العربي “الجثماني” على موات السلبية وغياب الفعل، لها نتيجة منطقية واحدة هي التغلغل الحر والاختراق التام حتى حالة الاحتواء الكامل كما هو حاصل فعلا. والتفكيك الحقيقي لهذا الوضع يجب أن يضع في اعتباره أن “أصلانية” العالم العربي ومدخراته التراثية الهجرية، يتم تفعيلها الآن كديناميات وعي زائفة وآليات استخدام من جانب أمريكا، بادراك أمريكي تام أن هذه الأصلانيات والمدخرات اليهوسيحية، هي عقابيل ردة عربية تاريخية عن أصلانية قومية وعرقية وحضاريةأصيلة، تشكل هذه العقابيل والمدخرات اليهوسيحية الهجرية نقيضها القومي والعرقي والحضاري التام.
وأمريكا بوعيها التام لعبثية أي انبعاث ديني معاصر، وارتداد مضار هذه العبثية على مصادرها فقط، هي المشجع ـ بل والداعم الأكبر ـ لمثل هذه الانبعاثات العبثية. إن ما يقلق أمريكا هو الانبعاثات القومية الأمامية، التي تجمع بين وجدانيات الهوية والسيادة الوطنية، وبين ديناميات الوعي المعاصر المندفع بدون عوائق نحو استخدام كل إمكانات وآليات التقدم والمعاصرة، وليس عملاء التخلف الذين تقوم باستغلال الأصول الهجرية ـ تحديدا ـ لإنتاجهم، ونسبتهم إلى “الأصلانية” المتطرفة، ثم التلويح “بخطرهم” لخدمة أهدافها الخفية، وٕإجراءاتها الظاهرة. ويجب على الباحث أن يتعمد التجاهل لكي لا يرى ويعترف أن العلاقة الأمريكية بالأنظمة العربية التي تعيش على مجرد كونها دفيئات لأصلانية تقوم على تحري المضمون الهمجي بالذات للقبْلية، في مقابل علاقتها الصدامية الهوجاء بأنظمة عربية أخرى تحاول الاقتراب من العلمانية والمعاصرة، هو أمر بحاجة إلى تفكيك.
✺ ✺ ✺
كيف تصنع ثورة؟
“سيرة ملهم الثورات الملونة”
سعيد محمد
15 نوفمبر 2022
توفي البروفيسور الأمريكي جين شارب العام الماضي عن 90 عاماً في بيته المتواضع في بوسطن بين رفوف الكتب وزهرات الأوركيد التي كان يرعاها. لكن الرجل الذي يوصف بأنه واضع دليل عمل الثورات الملونة في صربيا وأوكرانيا وغواتيمالا وإيران وتونس ومصر وسوريا والعراق، يبعث حيّاً بأفكاره الملهمة عن اسقاط الحكومات التي تستهدفها الولايات المتحدة من خلال الأنشطة اللاعنفيّة المنظمة كلما اندلعت “ثورة” جديدة في مكان ما من العالم. “كيف تصنع ثورة” وثائقيّ بريطانيّ نادر (2011) متخم بتبجيل ومديح للبروفيسور الرّاحل، لكنه سجل تاريخي مهم لكل من يريد أن يفهم الحاضر.
“بالكلمات، وليس بالسّلاح”.
جين شارب (1928 -2018)
مثلت الحرب الأمريكيّة على فيتنام بكل نتائجها الكارثيّة وتكاليفها الباهظة مادياً وبشرياً وسياسياً نقطة تحوّل كبرى في العقل الإمبراطوريّ الأمريكي. لقد أقنعت تلك الحرب نخبة واشنطن بالحاجة إلى طريقة أخرى غير قتل الناس لإسقاط الأنظمة التي تستهدفها الولايات المتحدة. عند تلك اللحظة اكتشف روبرت هارفي – الحائز على تكريم الجيش الأمريكي لبطولاته المأثورة في قتل الفيتناميين وكان بعد تقاعده يعمل مستشاراً متعاقداً مع المخابرات الأمريكيّة توفده لتوجيه الثوريين حول العالم – أستاذاً في جامعة هارفارد كان يدّرس للمبعوثين من أوروبا الشرقيّة ودول العالم الثالث أساليب اسقاط الحكومات من خلال اللاعنف والمقاومة السلبيّة وأسلحة سايكولوجيّة واجتماعيّة واقتصاديّة. كان ذلك جين شارب.
أرسل هارفي وراء شارب للالتحاق به في بورما عام 1992 حيث كان يقدّم التوجيه للثوار الذين كانوا يقاتلون منذ عشرين عام لإسقاط النظام هناك. جاء شارب بالقارب من تايلاند إلى الأدغال البورميّة، وأعطى نصائحه للثوار ولخصها لهم في 198 تكتيكاً طبعت كمناشير بالإنجليزيّة والبورميّة قبل أن تجمع لاحقاً في كتيّب عنون ب(من الديكتاتوريّة إلى الديمقراطيّة) ما لبثت أن تحول بفضل المخابرات الأمريكيّة إلى دليل عمل الثورات الملونة، فترجم إلى عشرات اللغات، وطبعت منه ملايين النسخ، ويتوفر للتحميل مجاناً على الإنترنت. كانت ردة فعل قائد المتمردين البورميين الأوليّة على محاضرات شارب. “اللعنة، أين كان هذا الأمريكي قبل عشرين عاماً؟”.
قصة شارب مع اللاعنف قديمة. فهو عندما كان شاباً في مقتبل العمر وشن الأمريكيّون حربهم على كوريا بداية الخمسينيات، رفض الالتحاق بالخدمة العسكريّة، ولذا فقد سجن وقتها لعدّة أشهر. وقد كتب من سجنه لألبرت آينشتاين – عالم الفيزياء المعروف – مستفتياً عن رأيه في موقفه ذاك، فأجابه بلطف متفهماً ومؤيداً. وقد أطلق شارب لاحقاً اسم اينشتاين على المعهد الواجهة الذي مارس من خلاله أنشطته، ونشر عنه أعماله الكثيرة.
درس شارب علوم السياسة في جامعة أكسفورد ببريطانيا معقل الفكر الإمبراطوري الأنجلو ساكسونيّ، وهناك انتهى إلى نتيجة لوّنت حياته كلّها مفادها بأن الأنظمة الحاكمة تستند مع قوّة السلاح واحتكار العنف المشروع إلى مصادر قوّة محددة ترتبط أساساً بطاعة الجمهور، وأنّه عبر أنشطة سلميّة موصوفة يمكن إضعاف تلك الأنظمة لدرجة التهاوي دون تدمير مقدرات الدولة بالكامل. إذ من الضروري للثوار المنتصرين أن يجدوا شيئاً لحكمه.
راقب شارب تمرّد تيانآن مين في الصين 1989 عن كثب. تحليله للحدث كان بأن اللاعنف التلقائيّ بدون استراتيجيّة متكاملة وصفة تامة للهزيمة أمام الأنظمة المدججة بالسلاح. ولذا أصبحت تعاليمه تتمحور حول التخطيط الاستراتيجي للإطاحة بالأنظمة وفق خطط متدرجة لتنفيذ ال 198 تكتيكاً العتيدة. كانت صربيا المتململة من حكم سلوبودان ميلويسفيتش الساحة الأولى التي طبقت عليها هذه التعاليم بنجاح تام. هارفي الذي كانت أوفدته المخابرات الأمريكيّة إلى بودابست لتنسيق الثورات في أوروبا الشرقيّة سافر إلى بلغراد سراً والتقى زعيم المتمردين. لم يكن ذلك الزّعيم سوى سرخا بوبوفيتش الذي وجد في الطبعة الصربيّة من دليل الثورات الملونة التي جلبها هارفي مع ملايين الدولارات من المخابرات الأمريكية ضالته المنشودة، فوُضعت استراتيجية متكاملة وخطة متدرجة نفذتها بحذافيرها وفق تكتيكات شارب حركة أطلقت نفسها اسم المقاومة (أتوبر باللغة الصربيّة). لقد سقط النّظام بالفعل في العام 2000 بعدما نجحت أتوبر في شق القوى الأمنيّة عبر الضغوط الاجتماعية واللاعنفيّة من استخدام السخريّة كسلاح، وتوجيه الغضب مركزاً نحو شخصية (الطاغية)، وعزل التلاميذ الذين يعمل آباؤهم في الجيش والشرطة، وطرق الأواني في وقت إذاعة نشر الاخبار الرئيسيّة على التلفزيون الحكومي، ودفع الحسناوات والأطفال والعجائز والمتقاعدين العسكريين إلى مقدمّة التظاهرات في الميادين العامة، وإغلاق الطرقات أو القيادة بسرعات بطيئة لخلق أزمات سير خانقة، وتوزيع الورد على الجنود ، وعزف الموسيقى والرّقص الماجن والأغاني البذيئة، إلى اقتحام مبان عالية الرمزيّة واسقاط التماثيل مع توفير نقل مباشر لمحطات التلفزيون العالمية المعروفة بدعمها للثورات المتأمركة (سي ان ان، و بي بي سي وفرانس 24 وسكاي والجزيرة عربيّة وانجليزيّة)، وما إلى ذلك مما ورد في وصفات شارب.
بوبوفيتش ورفاقه اختفوا لاحقاً من المشهد السياسي في صربيا بعد ميلوسيفيتش إذ حصلوا على أقل من 2% من مجموع أصوات الناخبين. لكن المخابرات الامريكيّة حولتهم إلى مدربين عالميين لثوار تعدّهم لمهمات مستقبليّة في دول تجد الاستراتيجية الامريكيّة أنّه من الضروري تغيير أنظمتها وذلك عبر معهد معروف بإسم (كانفيس) يستلهم شارب للقرن الحادي والعشرين، لا سيّما بعد شيوع الإنترنت. وليس سراً أن الثورات الملونة التالية في أوكرانيا وجورجيا وإيران وزيمبابوي وفنزويلا وما عرف بموجة الربيع العربي في تونس ومصر وسوريا ولاحقاً في لبنان والعراق جميعها عبرت عبر هذا المعهد، وتلقى قادتها توجيهات مكثّفة ودعماً مالياً ولوجستياً (ومنها حركة 6 إبريل و”كفاية” في مصر، والثورة المزعومة في سوريا، وحراك “طلعت ريحتكم” في لبنان، والحراك الحالي في العراق).
“كيف تصنع ثورة” الذي أنجزه روريد أرو مراسل ال بي بي سي في القاهرة إبان حراك يناير 2011 كان ردة فعل شخصيّة منه على ما لمسه من تأثير شارب وتكتيكاته في الثورة المصريّة المزعومة، التي أطاحت بحسني مبارك من منصب الرئاسة. ورغم محدوديّة ميزانية الفيلم، وضعفه التقنيّ الظاهر، ونبرته المبجلّة لشارب بوصفه حكيم الحريّات، فإنّه وثيقة تاريخيّة هامة تؤرّخ لتحوّل هام في منطق الحرب عند الإمبراطوريّة الأمريكيّة. وقد اتفق كثيرون من النقاد على تقريض الفيلم من تلك الناحية رغم كثرة المآخذ الفنيّة عليه وحاز لذلك على عدة جوائز. ولعل مما قد يثير الاهتمام بالنسبة للمشاهدين العرب تحديداً الشهادات التي قدمها منذ 2011 قادة في ربيعات العرب في مصر وسوريا عن علاقاتهم المتقادمة مع شارب قبل سنوات عدّة من انطلاق الحراكات. يتحدث أحمد ماهر من حركة 6 إبريل مثلاً عن تحضير مكثف لثورة لاعنفيّة في مصر تضمنت زيارة لكوادر “كفاية” إلى شارب في مقر عمله ببوسطن عام 2006، ومن ثم استفادة الثوار المصريين بكثافة من الخبرة الصربيّة، وتوجيهات معهد كانفس لا سيما فيما يتعلق بتوظيف مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن الجزء الأكثر اثارة في الفيلم فهو شهادة الثائر السوري أسامة المنجد الذي كان ضمن الطاقم التحضيري للثورة المزعومة في سوريا وهو زار شارب شخصياً في بوسطن عام 2006 بسبب ما أسماه وجود استفسارات استراتيجيّة حول الخطة التي كان يتم العمل عليها حينذاك لإطاحة النظام. وعندما شاهد العالم العربي سقوط مبارك على قناة الجزيرة مباشرة، وجد المخططون بأن تلك كانت اللحظة المناسبة لإطلاق ثورة سوريّة. يقول المنجد بأن فريقه كان قد نشر مبكراً عدداً هائلاً من الكاميرات السريّة المرتبطة بنظام بث عبر الستالايت في أحياء دمشق ومدن أخرى، وهذه كانت جاهزة لمدّ الجزيرة بنسختيها، وبقيّة جوقة الإعلام الثوري المعروفة بأشرطة مصورة عن المظاهرات المفتعلة، والصدامات مع القوى الأمنيّة، إضافة إلى توفير خدمات شهود العيان، والتقارير المصورة لمن يطلبها من المؤسسات الإعلاميّة. “لقد كانت الثورة في شوارع دمشق تطبيقاً عملياً على دروس شارب”.
بالطبع يظهر شارب في الفيلم (صور في 2011) منتشياً بانتصارات ربيعه العربي، لكن مآلات ذلك الرّبيع انتهت إلى فشل في تحقيق التغيير المستهدف، وتحول النزاع في سوريا إلى مواجهة عسكريّة. بوبوفيتش فسّر لاحقاً أسباب فشل ربيعي مصر وسوريا تحديداً في تحقيق أهدافهما. هو يرى في أن المصريين ظنوا أنهم بإسقاط شخص مبارك قد أنجزوا المهمة وعادوا إلى بيوتهم، ليتركوا الأمور بين العسكريين والإخوان لتصارعهم الدائم على السلطة، بينما سرق الإسلاميون حراك سوريا اللاعنفيّ نحو العسكرة بمراهنتهم على دعم الولايات المتحدة، وهما أمران يلقي الآن محاضرات ويكتب مقالات للتعلم منهما للراغبين. الثورة يجب ألا تنتهي باستقالة الطاغيّة يقول في مقابلة صحفيّة معه، بل يجب أن يكون الفرصة السانحة للقفز على الحكم الحكم والسيطرة على مؤسسات الدولة من قبل الثوريين. كما يصرّ على الامتناع عن العسكرة نهائياً بوصفها ستكون لعبة محسومة للأنظمة، واختيار نوع معركة بديل: “بشار الأسد مثل الملاكم الشهير تايسون، لا يمكنك أن تهزمه في حلبة المصارعة، لكنك قد تهزمه في لعبة شطرنج”.
ماذا عن استخدام البذاءة في الحراك الثوري؟ إنه التكنيك رقم 30 في كتيب جين شارب “من الديكتاتوريّة إلى الديمقراطيّة.
نشر هذا المقال بصفحة الثقافة بجريدة الأخبار اللبنانيّة عدد الأربعاء 6 تشرين الثاني 2019
:::::
موقع: الثّقافة المضادّة
✺ ✺ ✺
نبض الضفة لا يهدأ
شاهد د. عادل سماره في برنامج “بانوراما اليوم” على فضائية “المنار”
الرابط: (البدء من دقيقة 32)
- تعليق
انتهيت من كتابة تعليقي على حديث د. عادل سماره مع قناة المقاومة المنا ر وبدايته في الدقيقة 35.
الفيس مسح لي التعليق الطويل بسب الرابط ولذلك أعيد الكتابة.
المقابلة وبرأي الكثيرين كانت ناجحة وعميقة وفي الصميم. وهي ليس مفاجأة حين يكون د. عادل هو المتحدث وعن المقاومة تحديداً لأنها كل كينونته بلحمه وعقله وعظمه وروحه و كل ما فيه..
لكن الغريب هو درجة الانحطاط الوطني والأخلاقي والثقافي والوضاعة التي تحاول النيل من فكر ومكانة ونضال وتاريخ د. عادل وحين تستمر محاكمته للعام السابع دون توقف وستكون الجلسة القادمة يوم 20/11/2022 أمام محكمة جواسيس رام الله لأن د. عادل وقف و مع غيره من الشرفاء و تصدى لمشروع دولة مع المستوطنين و هو عروبي اصيل و ضد التطبيع بالمطلق.
كما وصل الحقد بمتزعم أيتام وتقيّحات التنسيقيات السورية في أوروبة، خالد بركات، الغلام المأجور لفتى الموساد عزمي بشارة إلى الكتابة في جريدة بيروتية بأن محطات المقاومة الإعلامية ترفض استضافة د. عادل!!
مشكلة أعداء ومنتقدي د. عادل سماره أنهم لا يعترفون بالنضال والمقاومة إلا إذا كانت من أجل دولة تحت رحمة المستوطنين أو بمسيرات في بروكسل و برلين و بشارع الفوانيس الحمراء في أمستردام..
شتان ما بين الثرى والثريا..
:::::
المصدر: فيس بوك
https://www.facebook.com/profile.php?id=100087652393662
______
تابعونا على:
- على موقعنا:
- توتير:
- فيس بوك:
https://www.facebook.com/kanaanonline/
- ملاحظة من “كنعان”:
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.
- عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
- يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org