يا “فرحة” ما تمّت! عن النّكبة بعيون التّمويل الغربيّ، سعيد محمّد

“فرحة” باكورة أفلام المخرجة الأردنيّة دارين سلّام الذي تعرضه نيتفليكس منتج مبستر ملىء بالثقوب الفنيّة والتاريخيّة، ويقدّم سرديّة من زاوية فرديّة لنكبة فلسطين وفق ما تحبّ مؤسسات التمويل الغربي وترضى. النكبة، وأهلها يستحقون أفضل من ذلك بكثير.  

سعيد محمّد – لندن

توفّر نكبة فلسطين (1947-1949) منجماً هائلاً من المادّة الخام لإنتاجات دراميّة حول تجربة اقتلاع شعب من أرضه بمحض القوة بكل ما رافقها من مذابح جماعيّة وقتل على الهويّة واغتصاب وتشريد وسرقة، في سياق تآمر دوليّ وإقليمي وطبقي، وحقد صهيوني مؤدلج، ومقاومة وطنيّة فلسطينية باسلة. ومع ذلك، وباستثناء انتاجات (سوريّة أساساً) تعد على اليد الواحدة كتب معظمها وليد سيف، فإن هذه المرحلة بقيت بشكل عام دون توثيق سينمائي أو وثائقيّ، في الوقت الذي تسيطر الروايات الرسميّة البريطانيّة والإسرائيليّة بشكل حاسم على معظم المراجع المكتوبة بشأن تاريخ هذه البلاد ونكباتها المتتالية منذ 1881 وإلى اليوم.

هذه الفجوة بين حجم الألم والفقدان الذي أصاب الشعب العربي في فلسطين وأدوات التعبير الجماهيريّ عنها جعلت الجمهور الفلسطيني – والعربي عموماً -متعطشاً لأي عمل يستعيد تلك الصدمة القاصمة، ويستقرأ أبعادها ويرصد اسقاطاتها على واقع الإنسان الفلسطيني (والعربي) سياسياً، واجتماعيّاً، واقتصاديّاً، والأخطر دائماً: سيكولوجياً. وهذا وحده قد يفسّر هذا الاحتفاء الأعمى، والمبالغ به، لا سيّما من صحف ومواقع عربيّة ذات توجهات مغرقة بالعداء لفلسطين ولأهلها، بفيلم المخرجة الأردنيّة دارين سلام “فرحة، 2021 – 91 دقيقة”، والذي كان عرض في مهرجان تورنتو السينمائي بكندا في دورته العام الماضي (2021) وأطلق مع بداية الشهر الحالي على نيتفليكس الأمريكيّة للأفلام عبر الانترنت.   

وبالطبع فإن منصّة نيتفليكس (كما أخواتها الأمريكيّات الأُخر) مصنع انتاج مادة القوّة النّاعمة للإمبراطوريّة، ومعرض فلسفتها وقيمها أمام العالم، وتحكم قراراتها حول نوعيّة المادة المعروضة دائماً ديناميكيّات الانتاج السينمائي والتلفزيوني والوثائقي الغربيّة المرتبطة وبدون أوهام بثقافة أمريكيّة متصهينة لا ظلال فيها.  ولذا – كما قلت في مراجعتي لكوميديات “مو عامر” (أنظر الأخبار)، عندما تقدّم نيتفليكس (وأخواتها الأمريكيّات) أي عمل عن المسلمين أو العرب (وبالذات فلسطين) أتحسس مسدسي. لكن، ولأجل الجدل، فلنتجاهل هذه الحقيقة/الشمس، ولننظر في أمر “فرحة” سلّام بفصله تماماً عن حقيقة قناة وصوله إلى الجمهور، ومن خلال محاور المضمون التاريخيّ، والنقد الفنيّ قبل مناقشة مسألة منظومة الإنتاج والتمويل المهيمنة على سينما وتلفزيونات العالم العربي.

يحكي الفيلم قصّة صبيّة فلسطينية في الرابعة عشرة من عمرها تدعى فرحة (تلعب دورها كرم طاهر) تعيش في قرية فلسطينية في مكان ما من الضفة الغربيّة في أجواء حرب 1947 – 1949 أو ما صار يعرف ب”النكبة”. تحاول فرحة المتعلقة بالقراءة والكتب إقناع والدها (أشرف برهوم) وهو مختار القرية، بإرسالها للدّراسة في مدرسة ثانويّة بالمدينة عند أقاربها. وعندما يقبل الأب أخيراً، تجتاح العصابات الصهيونيّة المنطقة، فيضطر المختار لحماية ابنته أن يخفيها داخل العقّاديّة (غرفة المونة)، فيغلق عليها الباب ويتركها وحيدة مع خنجر ووعد بالعودة لأخذها. ومن محبسها، تشهد فرحة من شقوق الباب على عمليّة اعدام تقوم بها قوات الاحتلال لعائلة مهجرين احتموا بالبيت المهجور، قبل أن تنجح أخيراً بالخروج لتهيم وحيدة على وجهها (وتنتهي في سوريا بحسب ما تزعم سلام التي تذكر في نص بنهاية الفيلم عن بطلة القصة الأصليّة التي سمعتها المخرجة من صديقة لأمّها).

منهجيّة سلام (التي أدارتها شبكة تشيمني السويديّة المتخصصة في صياغة السرديّات وسنعود لهذا تالياً) تقوم على تصوير الفلسطيني ضحيّة سهلة لعدوّ مجهّل – لا تُذكر كلمة اليهود في كل الفيلم – مأساته ذاتيّة من سوء إدارة أهله للصراع (لا علاقة لليهود بحبس فرحة دون ماء أو تواليت وراء باب مغلق من الخارج وإنما هي جناية والدها)، والمقاومة فيه غريبة ومعزولة عن المجتمع، ونخبة المجتمع (المختار الساذج، والقريب المتعلم والمتحدث بلغة أجنبيّة) بين مسالم وعميل بينما الباقون مجرّد كتل هلاميّة هائمة، والعميل الخائن يقدّم بطلاً يجرؤ على مناهضة القائد اليهوديّ ويعارض الاعتداء على النساء والعزّل، فيما يصوّر الجندي الإسرائيلي الشاب كذي قلب مرهف، يرفض تنفيذ أوامر قائده بالإجهاز على الرضيع الذي قتل أهله فيلقي ببندقيته أرضاً غاضباً  وقبل أن يلتحق ببقية الجنود يغطيه بمنديله الشخصي.

الثّقوب التاريخيّة في هذه الحكاية كثيرة. ف”اليهود” كانوا مركز الحدث في فلسطين قبل أن تصبح لهم دولة يعترف بها الغرب والعرب – وهذه تسمية موجودة بكثافة في المصادر العبرية والبريطانية ولأمريكيّة من فترة ما قبل النكبة وتجاهلها تغاب عن الواقع الذي يدعي العمل تسجيله، والمقاومة الوطنيّة كانت حبّة عين المجتمع الفلاحي الفلسطيني الذي كان بيئتها الحاضنة ومصدر قواتها وتمويلها وتسليحها، وهي مقاومة صلبة وعنيدة اضطرت معها بريطانيا لأن تستجلب سوى العصابات اليهوديّة تعداداً للقوات فاق ما كان تسيطر به على كل الهند – القارة –، أما الخونة فكانوا أنذالاً من كل الطبقات ولا يجوز تقديمهم كشجعان، والجنود العبران بشهاداتهم ووفق الوثائق الإسرائيليّة الرسميّة لم يرحموا رضيعاً، فقتلوا الصغير قبل الكبير والنساء قبل الرجال والعزّل قبل المسلحين، وبقروا بطون الحوامل وسلقوا جثث أولادهن بالماء الساخن، فمن غير المفهوم ولا المعقول ولا المقبول تقديمهم لطفاء وإنسانيين وذوي ضمائر.

على المستوى الفنيّ المحض وباستثناء البداية الواعدة من أجواء الأثواب والأعراس الفلسطينية في القرى، فإن الكاميرا تقضي ساعة كاملة داخل غرفة المونة في إيقاع بطىء ومخلّ للغاية، وهناك بسترة ظاهرة لكل العنف لمصلحة تفاصيل ليست بذات قيمة، وليس هناك ذكر لفلسطين البلد أو مشهد لعلمها أو أيّ من معالمها، ولا حتى اسم القرية أو اسم المدينة، ولا يسمع في كل الفيلم سوى جملة عبرية واحدة في الخلفيّة ما يجعل الحكاية برمتها خارج الجغرافيا كما هي خارج التاريخ، وتتعدد المقاطع غير المقنعة درامياً مثل أن الجنود الصهاينة لم يعثروا على باب (غرفة المونة) بينما نراه يطل مباشرة كباب على قلب مصطبة البيت حيث نفذت الإعدامات بحق المدنيين، وهناك ضعف شديد في توظيف الصوتيات لخدمة بنية الفيلم، وهناك قطع غير سليم تقنياً في المشهد بين منظر الرّضيع وقد فارق الحياة يتكاثر حوله الذباب وما بعده، وتخرج فرحة من البيت إلى القرية، ومنها إلى سوريا دون أن نرى جثة واحدة،  فيا له من احتلال حضاريّ نظيف!

بالطبع فإن المشاكل الفنيّة والتقنيّة في الفيلم تحملها سلام وفريقها (المنتجون الأردنيّون ديمة عازر ، وآية جرادنة والمخرج السويدي ويليام يوهانسين كالين)، لكن مجمل الصياغة والمنهجيّة التاريخيّة والبصريّة يمكن قراءتها في ظهور اسم شبكة تشيمني السويديّة المتخصصة في صياغة السرديّات التي يبدو أنها نظّفت الفيلم بصرياً وصوتياً من كل ما من شأنه أن يزعج الصهاينة، وكذلك في قائمة الممولين الطويلة: الهيئة الملكيّة الأردنيّة للأفلام (واجهة السلالة الحاكمة في الأردن للسينما والمعروفة بتواطؤها مع السرديات العبريّة والغربيّة)، وصندوق مهرجان البحر الأحمر السينمائي (واجهة آل سعود للسينما وهم من هم في التهوّد والتطبيع)، والمورد الثقافي (واجهة تحالف منظمة المجتمع المفتوح – سوروس ورفاقه -، والاتحاد الأوروبي، وفورد فاونديشن – المرتبطة بالمخابرات الأمريكيّة -، ومؤسسات سويدية وسويسريّة وبريطانيةّ لتسميم الثقافة في العالم العربي)، إضافة إلى دعم خاص من المخرجة اليهوديّة المعروفة مادلين إيكمان تنفيذيّة الأفلام لمعهد السينما السويدي المعروف بتوجهاته المعادية لفلسطين ولسوريّا. سلاّم ليست وحدها في شباك هذا المنظومة، إذ يكفيك أن تدقق قليلاً في الأفلام الروائية والوثائقيّة التي تصل إلى المهرجانات العالميّة للسينما والوثائقيّات لتجد أنّها مقتصرة على تقديم صور مستشرقة عن الشرق، وحكايات المثليين والمتحولين فيه، وهجاء (الديكتاتوريات) العربيّة – بشقّها الجمهوريّ دون الملكي -، وقصص اللاجئين السوريين – وهم ضحايا برنامج غربي لكسر سوريا -، ومأساة تشريد الفلسطينيين من مخيّم اليرموك حصراً – التي تلقى ظلماً وزوراً على عاتق النّظام السوري -، وممولة جميعها دون استثناء من ذات مجموعة الأطراف المخابراتية المشبوهة.

يجب أن ندرك كمشاهدين فلسطينيين وعرباً بأن المنتج الفنيّ ليس محايداً، ولم يكن ولو لمرّة واحدة في التّاريخ كذلك ولن يكون بأي حال، وهو ابن قحّ للجهات القائمة على انتاجه، يحمل جيناتها الوراثية، ويتربى في ظلّها، ويحمل لغتها، وانحيازاتها وعماها وأوهامها. “فرحة” منتج غربيّ محض وإن وضع عليه اسم مخرجة عربيّة، يحكي النكبة الفلسطينية كما يسمح لنا التمويل الغربي بأن نراها، مع تعاطف غريب مبالغ به مع الجانب العبري – رغم تذمّر استعراضيّ لمتطرفين إسرائيليين من عرض الفيلم على منصة عالميّة يعدونها فضاء مغلقاً عليهم – ولذلك شخصيّاً أشاهد السينما، وما يصل من أفلام عربيّة إلى نيتفليكس، ومسدسي لا يفارق جانبي.

:::::

مدونة الكاتب “الثقافة المضادة”

https://counterculture1968.wordpress.com

نشر هذا المقال في صفحة الثقافة بجريدة الأخبار اللبنانية عدد الثلاثاء 6 ديسمبر2022

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….