السنة الثالثة والعشرون – العدد 6454
في هذا العدد:
■ السوفييت وتقسيم فلسطين: إضاءات على كارثة تاريخية وأيديولوجية وجيو – سياسية (الجزء السادس)، مسعد عربيد
- موقف الشيوعيين في فلسطين
■ مظاهر الانحدار الأمريكي البطيء، الطاهر المعز
✺ ✺ ✺
السوفييت وتقسيم فلسطين: إضاءات على كارثة تاريخية وأيديولوجية وجيو – سياسية
(الجزء السادس)
مسعد عربيد
(1)
بعض سمات الحركة الشيوعية في فلسطين
اتسمت الحركة الشيوعية في فلسطين منذ بدايتها عام 1919 ببعض الإشكاليات التي لاحقت مسيرتها حتى قيام الكيان الصهيوني وبعده، وأهم هذه السمات:
▪ أن أول نواة “شيوعية” في فلسطين، تشكلت في أكتوبر 1919 على أيدي بعض المهاجرين اليساريين اليهود الذين كانوا متأثرين وناشطين فيما سمّي “الصهيونية الاشتراكية”، أو “الصهيونية البروليتارية”.
▪ أن قياد الحزب الشيوعي الفلسطيني كانت يهودية منذ نشأته، وظلت كذلك إلى حين انتخاب لجنة مركزية في ديسمبر 1930، ضمت هذه اللجنة للمرة الأولى أغلبية من الشيوعيين العرب، وفي عام 1934 تسلّم رضوان الحلو منصب الأمين العام للحزب الشيوعي الفلسطيني.
▪ عانى الحزب عبر مسيريه من العديد من الخلاقات والانشقاقات حول العديد من القضايا المركزية أهمها الموقف من الصهيونية، الهجرة اليهودية الاستيطانية إلى فلسطين، الموقف من تقسيم فلسطين والحل النهائي للمسألة الفلسطينية وغيرها. وقد لعبت هبّة البراق (1929) والثورة الكبرى في فلسطين (1936-1939) دوراً كبيراً في تعميق الخلافات والانقسام داخل الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي خرج من ثورة 1936-1939 ضعيفاً ومهزوزاً.
▪ ظلّ الانشقاق داخل الحزب عميق الجذور على الرغم من الاتفاقيات المؤقتة، ومع حلول عام 1943 كان الحزب مهياً لانشقاق كبير، كان من نتيجته أن نشأ حزبان أحدهما عربي اتخذ اسم “عصبة التحرر الوطني في فلسطين”، والآخر يهودي حافظ على اسم “الحزب الشيوعي الفلسطيني”.[1]
▪ تأثرت أوضاع الحزب وسياساته وانقساماته بشكل عميق بتعليمات الكومنترن منذ انضمام الحزب الشيوعي إلى هذه المنظمة الشيوعية الأممية في فبراير 1924 ، وصولاً إلى قرار القيادة السوفييتية في فترة حكم ستالين بحل “الكومنترن” في مايو 1943 بسبب انهماك الاتحاد السوفييتي في الحرب ضد ألمانيا النازية. ولا شك أن حل الكومنترن أسهم في انشقاق الشيوعيين العرب عن الحزب وقيامهم بتشكيل تنظيم يساري عربي جديد باسم “عصبة التحرر الوطني في فلسطين”، بينما بقيت أغلبية أعضاء الحزب الشيوعي الفلسطيني من اليهود.
(2)
الشيوعيون الفلسطينيون وتقسيم فلسطين
عبّر الشيوعيون في فلسطين عن موقفهم من قرار التقسيم ورؤيتهم للحل المسألة الفلسطينية في تلك الفترة من خلال التنظيميْن الشيوعييْن الرئيسييْن: الحزب الشيوعي الفلسطيني وعصبة التحرر الوطني في فلسطين. وقد اتفق التنظيمان على المطالبة بإنهاء الاستعمار البريطاني وجلاء قواته عن فلسطين، ولكنهما تباعدا في تصور مستقبل فلسطين وحل المسألة الفلسطينية. ففي حين رأى الحزب الشيوعي الفلسطيني أن الحل يكون بإقامة دولة واحدة ثنائية القومية، دعت عصبة التحرر الوطني في فلسطين إلى دولة مستقلة ديمقراطية موحدة لجميع سكانها.
أمّا موقف هذين التنظيميْن الشيوعييْن من قرار التقسيم، فسوف نعرضه هنا باقتضاب، ولكننا أفردنا في نهاية هذه الدراسة ملحقاً يتضمن المزيد من الملاحظات علّها تسهم في رسم السياق الذي تمت فيه صياغة موقف الشيوعيين في فلسطين من قرار التقسيم.
أ) الحزب الشيوعي في فلسطين
موقف الحزب قبل قرار التقسيم: مع تفاقم الأوضاع الحزبية الداخلية، ازدادت حدة الصراع بين الجناحين العربي واليهودي داخل الحزب الشيوعي الفلسطيني على خلفية الخلافات في الموقف من اليهود والصهيونية، والهجرة اليهودية، وكذلك الموقف من دور الفلاحين الفلسطينيين وطبيعته التقدمية في محاربة الصهيونية والاحتلال الاستعماري البريطاني. ونتيجة لذلك، وعلى هذه الأرضية، تعمقت الخلافات التي بذرت بذور الشقاق بين العرب واليهود داخل صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني، خاصةً بعد حركة تعريب الحزب الذي بدأ جدياً عام 1939 وتبلور عام 1943.[2]
كان الحزب حتى عام 1944 يركز على فضح طبيعة المغامرة الصهيونية ورفع شعار: “انشاء جمهورية ديمقراطية مستقلة تؤمن حقوقا كاملة للأقلية اليهودية”، ولكن الحزب عاد بعد سنتين وطالب بإنشاء “دولة ديمقراطية عربية-يهودية”.[3] اما الجناح اليهودي في الحزب فقد أصدر في تلك الفترة 1947 بيانات غامضة وخفف من هجماته على الصهيونية ورفع شعار (جمهورية ديمقراطية مستقلة) على اعتبار أن هذا يؤمن الحقوق الكاملة للعرب واليهود.[4]
يرى مائير فلنر[5]، القائد في الحزب الشيوعي في فلسطين، أنه في فلسطين “يعيش شعبان في هذه البلاد ولهما مصالح مشتركة. مستقبلهما منوط بقيام دولة ديمقراطية غير منحازة”، مضيفاً “لا يمكن أن تقوم في البلاد دولة عربية صرف ولا يمكن أن تقوم دولة عبرية..”.[6] وقد أوضح (فلنر) في 25 آذار 1946 موقف حزبه قائلاً ما مفاده: نشعر أن واجبنا يدعونا أن نكون حذرين من المكائد التي تهدف إلى تقسيم فلسطين. إن خطة التقسيم هي برنامج إمبريالي مُصمم لإيجاد شكل جديد لاستمرار الحكم البريطاني القديم حتى يزيد من التوتر بين العرب واليهود. إن مصلحة القوى الإمبريالية تكمن في إيجاد دولة للعرب ودولة لليهود، والنتيجة الحتمية لهذه المطالب ستؤدي إلى استمرارية الحكم الكولونيالي على العرب واليهود.
في تموز 1947، زارت فلسطين اللجنة الدولية لتقصي الحقائق (يونسكوب UNISCOP)، وأوصت بتقسيم البلاد إلى دولتين: عربية ويهودية. ورد الحزب الشيوعي في فلسطين على توصيات هذه اللجنة ببيان بتاريخ 1 سبتمبر 1947 (أي قبل أقل من ثلاثة أشهر من صدور قرار التقسيم) حدد فيه موقف الحزب من هذه التوصيات ونشرته صحيفة الحزب الشيوعي الفلسطيني “كول هعام”، جاء فيه: “مع نشر توصيات اللجنة الدولية بشأن مستقبل البلاد يجب القول بشكل واضح: إن توصيات الأكثرية في اللجنة الدولية ليست منطقية وغير قابلة للتطبيق. صحيح أنها أوصت بتقسيم “جيد”، لكنه “جيد” إلى درجة لم يكن بن غوريون يحلم بها. فحتى الوكالة اليهودية نفسها لم تطالب بأن تكون يافا وبئر السبع في إطار الدولة اليهودية”. وأضافت الصحيفة: “إن اقتراح الأكثرية في اللجنة الدولية لا يحقق الاستقلال القومي لا لليهود ولا للعرب، وإنما يضع الأسس للسيطرة الأجنبية على كلا الشعبين.”
في الخلاصة، رفض الحزب قرار التقسيم واعتبره غير عادل، وليس منطقياً وغير قابل للتحقيق، وبعد خطاب غروميكو وتأييد الاتحاد السوفييتي لتقسيم فلسطين، هاجم الحزب “مشروع الدولتين المنفصلتين وأيد مشروع دولة واحدة من قوميتين”. أمّا بعد صدور قرار التقسيم عن الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947، فقد “وافق الشيوعيون الفلسطينيون عامة على قرار التقسم بعد أن أصبح هذا القرار ناجزاً عالمياً، على الرغم من أن عصبة التحرر الوطني والشيوعيين الفلسطينيين كانوا هم الذين تمسكوا حتى اللحظة الأخيرة أكثر من أي قوة فاعلة أخرى على الساحة الفلسطينية والعربية برفض مشروع التقسيم”.[7]
ب) موقف عصبة التحرر الوطني
(1) الموقف قبل صدور قرار التقسيم
تضمن البرنامج السياسي لعصبة التحرر الوطني في فلسطين منذ تأسيسها مطلبيْن أساسييْن: (1) إنهاء الانتداب البريطاني و(2) إقامة دولة مستقلة ديمقراطية موحدة لجميع سكّانها. وفي نوفمبر 1945، أعلنت العصبة عن برنامجها واستمرت بالعمل به حتى صدور قرار التقسيم عام 1947 الذي أحدث انشقاقاً فيها.
ومن أهم التالية التي تضمنها هذا البرانامج:[8]
– استقلال فلسطين وإنشاء حكومة ديمقراطية مستقلة
– إشاعة الحريات الديمقراطية
– إيقاف الهجرة اليهودية
– فصل قضية فلسطين عن قضايا اللاجئين اليهود
– إحالة المشكلة اليهودية إلى الأمم المتحدة للفصل فيها.
في يونيو 1947 القى عضو المكتب السياسي للعصبة إميل توما – رئيس تحرير جريدة العصبة “الاتحاد”، والذي كان آنذاك من أكبر معارضي التقسيم داخل العصبة – محاضرة أكد فيها معارضته لتقسيم فلسطين ودعي لإقامة دولة ديمقراطية مستقلة في فلسطين.
وجهت العصبة، في أغسطس 19471، مذكرة إلى هيئة الأمم المتحدة، دعت فيها إلى إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وسحب الجيوش الأجنبية منها وإقامة دولة ديمقراطية مستقلة، تضمن حقوقاً متساوية لجميع سكانها من العرب واليهود.
في 19 أكتوبر 1947، ورداً على موقف أندريه غروميكو ممثل الاتحاد السوفييتي في الامم المتحدة، كتبت جريدة “الاتحاد”: “منذ تصريح غروميكو تبين أن موقف الاتحاد السوفيتي من مستقبل البلاد يقوم على إحدى إمكانيتين: إما الحل من خلال التفاهم اليهودي العربي على أساس إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية مستقلة، وإما التقسيم، ولا يوجد طريق ثالث.. إن الإتحاد السوفيتي أعلن موقفه هذا مع العلم بأن الخيار الأول غير وارد في ظل المؤامرات الامبريالية والصهيونية، وهو ما يعني قبول التقسيم، برغم أن التقسيم هو الحل الأسوأ”.
وأضافت الصحيفة: “نحن لا نقبل موقف الاتحاد السوفييتي هذا بشأن القضية الفلسطينية. ونحن على قناعة بأن التقسيم هو حل غير عادل يحاولون فرضه على سكان البلاد من دون الاكتراث بمواقفهم. إن هذا الحل لا يحقق طموح السكان ولا يضمن الأمن والسلام في إنحاء البلاد، وليس من شأنه وقف المؤامرات الامبريالية”. وواصلت القول إن: “صداقتنا مع الاتحاد السوفييتي.. لا تعني أننا نأتمر بسياسته الخارجية. فنحن الذين نقرر سياستنا على أساس وضع قضيتنا وأهداف شعبنا التحررية العادلة”. وانتهت “الإتحاد” إلى القول: “علينا ان نعمل على توحيد صفوف الحركة الوطنية من أجل النضال ضد التقسيم ومن أجل إلغاء الانتداب البريطاني وجلاء العساكر الأجنبية وتحقيق استقلال البلاد”.[9] أي أن العصبة رفضت قرار التقسيم واعتبرته غير عادل، وأكدت أن “صداقتنا مع الاتحاد السوفييتي لا تعني أننا نأتمر بسياساته”. ودعا بولس فرح أحد مؤسسي وقادة عصبة التحرر إلى التمييز بين رفض قرار العصبة وبين تفهم موقف الاتحاد السوفييتي. وفي ديسمبر 1947، تم التصويت داخل المكتب السياسي للعصبة ولجنتها المركزية على معارضة قرار التقسيم.
(2) موقف العصبة بعد صدور قرار التقسيم
▪️ معارضة القرار: واجهت عصبة التحرر الوطني أوضاعاً شديدة التعقيد بعد صدور قرار التقسيم لأنه لم ينطو، في نظر قادتها، على الحل الأمثل للقضية الفلسطينية بل ألحق إجحافاً كبيراً بالشعب العربي الفلسطيني وحقوقه الوطنية فوق أرضه. وفي اليوم التالي لصدور قرار التقسيم، نشرت صحيفة العصبة “الاتحاد” نص القرار “بتجرد مع معارضة مُوهت بين السطور، حيث لم تتحمس الجريدة للقرار، لكنها لم تعارضه الا ضمنيا”.[10] ولكنها أكدت على أن الاستعمار البريطاني لفلسطين منذ 1918، هو الذي قسمها قبل صدور قرار التقسيم. وانتهت الصحيفة إلى أن الحل النهائي يكمن في فلسطين مستقلة ديمقراطية.
▪️ التراجع عن معارضة القرار … والقبول به: بقيت العصبة تعارض قرار التقسيم إلى شهر فبراير 1948، عندما قررت أغلبية مندوبي الكونفرنس الذي عُقد في مدينة الناصرة، وانسجاماً مع الموقف السوفياتي المؤيد لذلك القرار، الموافقة عليه وتعزيز النضال في سبيل قيام الدولة العربية الفلسطينية، معتبرة، في بيان أصدرته بعنوان: “والآن… ما العمل؟” وتوجهت به إلى الشعب العربي الفلسطيني، أن قيام هذه الدولة العربية “هو الطريق إلى إنقاذ المشردين [الفلسطينيين] من تشردهم، وهو الطريق للاحتفاظ بحدود فلسطين ضمن وحدة اقتصادية ثابتة ومنع تجزئتها وإضاعة معالمها إلى الأبد، وهو الطريق لأن يحكم الشعب [الفلسطيني] نفسه بنفسه.”
▪️ من المهم في موقف العصبة، أنها تراجعت عن معارضة قرار التقسيم وقبلت به بعد أن رأت أنه أصبح نافذاً وناجز عالمياً، وكان تبريرها لتغير موقفها أن خيارات الشعب الفلسطيني قد تغيرت:
– فقبل إقرار قرار التقسم كانت الخيارات بين (1) القبول بقرار التقسيم، من جهة، أو (2) إقامة دولة ديمقراطية علمانية (وهو ما دعت له العصبة)، أو دولة ثنائية القومية (وهو ما دعا له الحزب الشيوعي الفلسطيني).
– أما بعد صدور قرار التقسيم فقد أصبحت الخيارات بين (1) تقسيم فلسطين إلى دولتين، أو (2) نكبة شعب فلسطين. أي أن السؤال بات: هل يمكن انقاذ حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني؟[11]
وقد كان للدعم السوفييتي لقرار تقسيم فلسطين أثراً كبيراً على انقسام عصبة التحرر الوطني إلى قسمين:
الأول، بقيادة فؤاد نصار وإميل حبيبي يؤيد مشروع التقسيم ويتماشى مع السياسية السوفييتية؛
والثاني، بقيادة موسى الدجاني وإميل توما يعارض التقسيم ويؤيد الموقف الوطني العربي.
ولابد من التنبيه هنا أن إميل توما ومعه آخرون ممن عارضوا قرار التقسيم في ذلك الحين، عادوا لاحقاً ليؤيدوه. أمّا الدكتور خليل البديري، فقد أكد ” … وقوفه ضد المزاعم الصهيونية منذ تلك الفترة وحتى اليوم شباط 1975، وأن ما رفضته قيادة النضال الوطني الفلسطيني وعصبة التحرر الوطني في عام 1947 أي (مشروع التقسيم) ندعو لقبوله اليوم كخطوة على طريق حل المسألة الفلسطينية”.[12]
خلاصة القول، إنه كان من تداعيات قبول العصبة بقرار التقسيم ونكبة فلسطين (1948) وما تلا ذلك من تطورات جسيمة ومتسارعة على الساحة الفلسطينية، إحداث انشقاق في العصبة واعتزال بعض قادتها العمل السياسي، وانضمام بعضهم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي (1948)، ما جعل عصبة التحرر الوطني مبعثرة في مواقع ثلاثة منفصلة عن بعضها البعض داخل الكيان الصهيوني وقطاع غزة والضفة الغربية. وفي عام 1951 أقر تنظيم العصبة في الضفة الغربية برنامجا سياسياً جديداً، وغيّر اسمه إلى الحزب الشيوعي الأردني وضمّ بين صفوفه بعض الحلقات الماركسية في شرقي الأردن.
✺ ✺ ✺
مظاهر الإنحدار الأمريكي البطيء
الطاهر المعز
باتَت الولايات المتحدة في حالة حرب دائمة لا نهاية لها، منذ حوالي قَرْن، ولا تزال القوات الأمريكية، في بداية سنة 2023، تحتل أجْزاء من سوريا والعراق والصومال والعديد من الدول الأخرى، ولها قرابة 850 قاعدة عسكرية في أكثر من 70 دولة، وميزانية حرب بنحو تريليون دولار سنويًا، وتُعَدُّ الأسلحة من أهم الصادرات الأمريكية، حيث يتغير الرؤساء لكنهم جميعًا يؤيدون توسيع نطاق العدوان المسلح ضد شعوب العالم، ويترافق كل عدوان مُسلّح مع إجراءات اقتصادية مثل الحصار والتطويق و “العقوبات” التي يُمكن فَرْض تطبيقها بفضل سيطرة الدولار على النظام المالي والتبادلات التجارية، ما يجعل الجيش الأمريكي يدمر دولاً مثل صربيا أو الصومال أو العراق أو أفغانستان، وينهب الثروة ولا يقدم أي تعويض أو جبر للأضرار.
اتّفق السياسيون والرئيس الأمريكي وأعضاء الكونغرس والباحثون ومعظم الصحفيين الأمريكيين على ترديد الأسطورة الكاذبة، القائلة بأن الولايات المتحدة نموذج للديمقراطية الفريدة والإستثنائية التي لا غنى عنها للشعوب والدول الأخرى، والتغاضي عن التهديد الذي يُمثله النظام الاقتصادي النيوليبرالي وعسكرة السياسة الخارجية الأمريكية، سواء للخصوم أو للأعداء ولكن أيضًا للحلفاء، مثل اليابان أو الاتحاد الأوروبي.
كانت الولايات المتحدة تلوح بعبع “الشيوعية” في حقبة الحرب الباردة ثم استبدلتها ب”الإرهاب”، للتلاعب بالرأي العام الأمريكي والعالمي، عندما شعرت ببداية انهيار نفوذها في العالم، وهو انهيار بطيء وتدريجي، وتسعى الولايات المتحدة إلى تعطيل وتأجيل إعادة توزيع النفوذ في العالم، عبر الدعاية والإعلام وعبر الحُروب، المُباشرة أو بالوكالة، خصوصًا ضدّ القوى التي تسعى إلى إرساء “عالم متعدّد الأقطاب” (روسيا والصّين)، ولو كان ذلك ضمن إطار الرأسمالية، وأعربت الولايات المتحدة عن استعدادها لاستخدام جميع الأدوات، منها الإعلام والحصار التجاري والمالي و”العقوبات” والعدوان المُسلّح، للحفاظ على مواقعها ونفوذها…
أظهرت الحرب في أوكرانيا قُدْرَةَ الولايات المتحدة ومُجَمّع الصّناعات العسكرية – مركز قُوّة الإقتصاد الأمريكي- على التّكيّف مع الوضع والمزج بين الانخراط في حروب ساخنة مباشرة، كما في الصومال وأفغانستان والعراق، وهي باهظة الثّمن، وتكتيك نقل الحرب إلى عقر دار الخصوم، عبر وكلاء (تنظيم “داعش” ومليشيات الأكراد في سوريا، وجيش أوكرانيا ضد روسيا وتايوان ضدّ الصّين…)، ويُمكّن هذا التّكتيك من إرسال الأسلحة والمعدات العسكرية إلى وكلاء الولايات المتحدة واستخدام جميع أدوات الحرب، لإغراق خصومها في نزاعات طويلة الأمد، تُقوّض الاستقرار السياسي والاقتصادي والإجتماعي للدولة “المعادية” (روسيا مثلا)، وإعاقة تنميتها وتطورها الإقتصادي…
من غير المُستبْعَد أن تشن الولايات المتحدة حربًا بالوكالة ضدّ الصّين، فقد بدأ المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، منذ بداية 2021، في تشجيع تايوان على استفزاز ومواجهة الصّين، وأعد المُجمّع ميزانية أولية بقيمة 22,7 مليار دولارا مخصصة ل”مبادرة الردع في المحيط الهادئ”، وتكثيف الحُضور العسكري الأمريكي في المحيطَيْن الهادئ والهندي، وفي بحر الصين، وتعدّد المناورات العسكرية بمشاركة بريطانيا وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها، بهدف استعراض القُوّة واستفزاز الصّين…
طبقت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني تكتيكات مماثلة في الخليج العربي لاستفزاز إيران، بالتوازي مع الحصار والعقوبات والاغتيالات والحرب الإلكترونية، واستغلّت الولايات المتحدة الإحتجاجات والمُظاهرات التي اجتاحت إيران طيلة الربع الرابع من سنة 2022، لتكثيف الدّعاية حول حرية التعبير وحقوق الإنسان (والمرأة بشكل خاص) ودعم المُعارضة الليبرالية المُسلّحة ‘(مثل منظمة مُجاهدي خَلْق) التي تدعو علنًا إلى الحرب الأهلية والتّخريب (تصريح بمحطة سي إن إن بتاريخ 17 تشرين الأول/اكتوبر 2022)، ودعت وكالة “إيران الدّولية” ( 31 تشرين الأول/اكتوبر 2022) التي تُمولها السعودية، ومقرها لندن إلى اغتيال “كل من يتعاون مع النظام… كالمحامين والمحققين والقضاة الإيرانيين المتورطين في قضايا متعلقة بالاحتجاج”، وأطلقت منظمات إيرانية مقرها أمريكا الشمالية وأوروبا على عمليات الإغتيال صفة “التخريب المشرف” و “القتل الأخلاقي”، وفق موقع شبكة “الجزيرة” بتاريخ 20 كانون الأول/ديسمبر 2022…
حاولت دول الإتحاد الأوروبي التخفيف من حدّة الهجومات الإعلامية ضد إيران، بعد أزمة المحروقات وانقطاع إمدادات الغاز الرّوسي، لكن الولايات المتحدة استخدمت أذربيجان الغنية بالغاز (وبها قواعد أمريكية وصهيونية وتركية) لشن حرب إعلامية ولإعاقة أي تقارب مع إيران، من خلال إنشاء “ممر توران” الهادف إلى جلب قوات حلف شمال الأطلسي إلى الحدود الشمالية لإيران، والحدود الجنوبية لروسيا، والحدود الغربية للصين (شينجيانغ)، وتطويق روسيا من البحر الأسود والصين من بحر الصين الجنوبي وإيران من الخليج، وإثارة الاضطرابات العرقية بين الأذاريين في إيران والتتار في روسيا والأويغور في الصين، وفق وكالة “رويترز” بتاريخ 22 أيلول/سبتمبر 2022…
لا شك في الإنحدار الأمريكي، لكنه بطيء وقد يدوم عُقُودًا، قبل أن تتجاوزها قوى أخرى، لكن هل تستفيد الشُّعُوب والطبقة العاملة والكادحون من هذا التّغْيِير إذا ما انحدرت قوة رأسمالية احتكارية وحَلّتْ محلّها قوى أُخْرى مماثلة؟
لا تمتلك الطبقة العاملة والشعوب الواقعة تحت الإستعمار والإضطهاد – في الظّرف الحالي – قوى مُستقلّة، قادرة على إلحاق الهزيمة بالإمبريالية ورأس المال، وتحقيق انتصارات لصالح الكادحين والشّعوب والأُمم المُضْطَهَدَة، وهو الأمر الذي يجب تلافيه لتكون هزيمة الإمبريالية والرأسمالية انتصارًا للشعوب وللكادحين…
الحرب بالوكالة
أجرت وكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ – 30 كانون الأول/ديسمبر 2022) مقابلة مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “ينس ستولتنبرغ” الذي دعا أعضاء الحِلْف إلى إمداد أوكرانيا بمزيد من الأسلحة، لأن من مصلحتنا الأمنية أن تنتصر أوكرانيا وأن تهزم الرئيس الروسى فلاديمير بوتين…” وكان رئيس أوكرانيا، فولوديمير زيلينسكي، قد طلب أسلحة ومعدّات وأنظمة دفاع جوي، وأعلنت الولايات المتحدة مَدّ جيش أوكرانيا – الذي يُصمم عملياته ويشرف على إنجازها الضباط الأمريكيون والأطلسيون – بنظام الدفاع الجوي “باتريوت” وصورايخ كروز، وبأسلحة إضافية تفوق قيمتها مليارَي دولار، وسبق أن أعلن وزير الحرب الفرنسي، يوم 28 كانون الأول/ديسمبر 2022، خلال زيارته الأولى إلى كييف، أنه سوف يرسل أسلحة بقيمة بقيمة 200 مليون يورو
قَدَّرَ مؤشر رصد الدعم العسكري لأوكرانيا التابع لمعهد كيل، “مُساعدات” الولايات المتحدة الأمريكية لأوكرانيا بأكثر من 50 مليار دولار (حتى يوم 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2022) وبلغَ إجمالي “مساعدات” دول الاتحاد الأوروبي 55 مليار دولار، منها 15 مليار دولارا من ألمانيا… وطلبت إدارة الرئيس جوزيف بايدن ضخ 37 مليار دولار إضافية في أوكرانيا، غير أنَّ أعضاء الكونغرس رفعوا المبلغ إلى 45 مليار دولار، فضلاً عن أسلحة بقيمة فاقت خمسين مليار دولارا ( بين بداية آذار/مارس و30 تشرين الأول/اكتوبر 2022) وتدريب القوات الأوكرانية، ومساعدات استخباراتية لتحديد مواقع القوات الروسية في أرض المعركة وتدميرها، وفق الرئيس بايدن، وكتبت صحيفة “بوليتيكو” الأمريكية، يوم 29 كانون الأول/ديسمبر 2022، أن الرئيس الأوكراني طلب من جوزيف بايدن مرة أخرى صواريخ «ATACMS» ( ATACMS ) التي يصل مداها إلى 300 كيلومتر لتدمير مواقع روسية هامة مثل جسر القرم والقواعد الجوية وخطوط الاتصالات، وسبق أن أرسلت الولايات المتحدة إلى الجيش الأوكراني صواريخ جافلين وهيمارس قبل إرسال باتريوت…
في نفس اليوم (29/12/2022) أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية موافقتها على بيع أنظمة مضادّة للدبابات لتايوان مقابل 180 مليون دولار، بعد أسبوع من توقيع الرئيس الأميركي قانوناً للإنفاق الدفاعي، ينص على “مساعدة” عسكرية بقيمة عشر مليارات دولار لتايوان بين سَنَتَيْ 2023 و2027، وأعلن بيان صادر عن وزارة الحرب الأمريكية (البنتاغون) أن صفقات الأسلحة الأمريكية لأوكرانيا وتايوان تخدم المصالح الوطنية والاقتصادية والأمنية للولايات المتحدة…
تندرج هذه “المُساعدات” (الصفقات) ضمن المخططات العدائية الأمريكية والإستفزازات ضد روسيا والصّين، حيث تعدّدت شحنات الأسلحة الأمريكية والأوروبية والدعم العسكري واللُّوجستي والمالي والإعلامي، لأوكرانيا، واتخذت دول الإتحاد الأوروبي قرارات العقوبات الاقتصادية والتجارية والمالية ضدّ روسيا، ما أضَرّ بمصالحها، بضغط من الحليف الأمريكي الذي قَطَعَ كل خُطُوط التعاون بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي، بهدف تعزيز النفوذ الأميركي.
تُقدّر الميزانية العسكرية الروسية بنحو 67 مليار دولارا، وقدرت النفقات العسكرية الأطلسية منذ بداية حرب أوكرانيا بأكثر من مائة مليار دولار، وترفض حكومات أوروبا وأمريكا الشمالية إنفاق مثل هذه المبالغ على تحسين الرعاية الصحية والقضاء على الفقر، وأدّت سياسات “العقوبات” الأوروبية (التي قَرّرتها واشنطن) ضد روسيا إلى ارتفاع معدل أسعار الطاقة بنسبة 41% في شهر تشرين الأول/اكتوبر 2022، وارتفاع نسبة التضخم بمعدل فاق 11,5% وتقلص النمو، وفق رئيسة المصرف المركزي الأوروبي، وتتوقع منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية ارتفاع نسبة التضخم في روسيا سنة 2022 إلى 14% وإلى 6,8% سنة 2023، وسجّل الاقتصاد الروسي نمواً بنسبة 3,4 %، سنة 2022، وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدّولي.
تُشير بعض وسائل الإعلام الأوروبية (القليلة) إلى التأثيرات السلبية لحرب أوكرانيا على دول الاتحاد الأوروبي، لتبقى الولايات المتحدة الرابح والمستفيد الوحيد من حرب الإستنزاف الطويلة التي تُخطط لها ضد روسيا لإنهاكها…
________
تابعونا على:
- على موقعنا:
- توتير:
- فيس بوك:
https://www.facebook.com/kanaanonline/
- ملاحظة من “كنعان”:
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.
- عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
- يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org
[1] ناجي علوش، “الحركة الوطنية الفلسطينية أمام اليهود والصهيونية 1882- 1848″، ص 263- 266.
[2] مهدي عبد الهادي، ص 117.
[3] ناجي علّوش، المرجع السابق، ص 266.
[4] مهدي عبد الهادي، “المسألة الفلسطينية ومشاريع الحلول السياسية! (1934-1974)”، ص 121.
[5] مير فيلنر Meir Vilner (1918 – 2003)، مستوطن يهودي من بولندا. انضم في عام 1940 إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني، وشغل مناصب حزبية عديدة من بينها عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، نائب سكرتير الحزب، عضو المكتب السياسي وأمين عام الحزب. وكان الأصغر سناً بين الموقعين على ما يُسمى “إعلان الاستقلال الإسرائيلي” عام 1948. المصدر: موقع “الكنيست” الصهيوني https://main.knesset.gov.il/ar/MK/APPS/mk/mk-print/395
[6] عصام مخول “قرار التقسيم: عصبة التحرر الوطني – وطريق فلسطين الى الحرية”، ص 124.
[7] عصام مخول، المرجع السابق، ص 128.
[8] عبد القادر ياسين، “كفاح الشعب الفلسطيني قبل العام 1948″، ص 202.
[9] عصام مخول، المرجع السابق، ص 124 – 125.
[10] عبدالقادر ياسين، انظر مقال “التباسات حول تقسيم فلسطين”.
[11] انظر مقال عصام مخول في المرجع السابق، ص 126
[12] مهدي عبد الهادي، المرجع السابق، ص 121.