بيت أبوي في ترشيحا، وليد الهليس

صليحة سوداح، سيدة فلسطينية من ترشيحا الفلسطينية الشمالية. وهي أول فتاة في العائلة تحصل على درجة جامعية، فقد تخرجت من كلية الصيدلة بجامعة دمشق في العام 1966، كما ذكر لي ابن شقيقها الصديق الصحافي والشاعر سعادة سوداح.

لقد قامت السيدة بإملاء وصفها الشامل والدقيق لبيت والدها على سوداح، الذي بناه فوق صخور بلدته ترشيحا، وعاش فيه مع أسرته قبل أن يستولي الغزاة على البيت والوطن 1948.

تذكر السيدة ان هذا الوصف هو بمثابة زيارة من الذاكرة، وكانت وقتئذ في الثمانين من عمرها، ورغم انها فقدت بصرها، الا انها ما تزال تعيش مستقلة بذاتها معتمدة على نفسها في شؤونها اليومية.

لقد كانت زيارة سيدة الذاكرة، رحلة حاج إلى مزاره المقدس، وإسراءً بالروح عرجت خلاله على كل حجر من حجارة البيت وكل قطعة من أثاثه.

لنقرأ معا ما أملته السيدة الكبيرة في رحلة حجها الى البيت، لنتبعها وهي تطوف به في صلاة لا مثيل لها في كتاب.

هذه قصيدة غزل حسي تصير فيها الجدران الحجرية والأبواب الخضراء والشبابيك العسلية والحديقة والبئر والنحل وعريشة العناقيد والموقد وحتى أدوات الطبخ بفتنة اسمائها الأولي، كلها تصير مفردات صوفية وأسماء كائنات علوية تبعث رعدة الشوق في “الحواس الفلسطينية الألف ” التي تعرفون.

وليد الهليس

هيك كان بيت ابوي في ترشيحا..

كتبت بنت البلد الصيدلانية صليحة على سوداح:

بلهفة العاشق ولوعة المحروم أقوم بزيارة بيتنا في ترشيحا بذاكرتي فأراني الآن أسير في طريق صخري صاعد باتجاه قمة جبل المجاهد، ويظهر على يميني في الأسفل سطح وحديقة بيت جارنا السيد مصطفى كمال، وفي الجهة اليسرى سد صخري مرتفع يتربع فوقه بيتنا، وعند نهايته أصل إلى الى مفترق طرق أربعة على يميني يصل إلى بناء مدرسة الذكور؛ انحرف يسارا في طريق صخري آخر واسير عدة أمتار لأشاهد على يميني، من ارتفاع يقارب المترين، حديقة جارنا السيد حسن الجشي. وفى الصدارة يظهر مدخل سور دار جارنا السيد كمال محي الدين..

ويوجد على يساري باب سور دارنا الكبير المكون من الحديد المثبت بالأسلاك الشائكة. فإذا دخلت وصلت إلى صحن الدار الذي يتطاول يمينا وشمالا على امتداد كامل العقار. وفي أقصى اليسار توضعت كميات كبيرة من الحطب والقرميات نضدت بشكل متناسق. وقبلها بأمتار قليلة يوجد بئر المياه الصالحة لكافة الاستعمالات، وتسحب منه بواسطة دلو معدني ذو قاعدة خشبية، ربط بخيط ثخين وطويل، توضع امتاره الأخيرة على سطح الأرض إلى جانب فوهة البئر المغلق بغطاء معدني محكم..

واذا استدرت قليلا وتابعت سيري الى الأمام وصلت إلى ممر طويل تتدلى من أعلاه عناقيد العنب وتحيط بنهايته وحافته اليسرى حديقة واسعة على شكل حرف L تحوي ازهارا متنوعة وأشجارا مختلفة، وعددا من خلايا تربية النحل. وقد خصص أحد أركانها لزراعة البقدونس والنعناع والبصل والفلفل والبندورة. أما على يمين الممر فقد توضع البناء الحجري..

اذا دخلت الباب الأول أصل إلى غرفة الضيوف، وهي فسيحة متسعة لها نافذة تطل على صحن الدار وأخرى تشرف على الحديقة. وقد وضع فيها طقم الكنبايات، إلا أن الصبي المدلل؛ شقيقي الأكبر صالح، رحمه الله، قد احتل ركنا فيها فوضع له تختا (سرير) نحاسيا أصفر عاليا، مزودا بناموسية لنومه، وعلى مقربة منه طاولة خشبية وكرسي خيزران لدراسته. وعند نهايته كرسي قماشي قلاب لاستراحته، وخلفه على الجدار تعليقة خشبية. ولن أنسى منقل الفحم المخصص لتدفئته..

وإذا ولجت الباب الثاني، فقد وصلت إلى الليوان. وهو يشبه الموزع في الأبنية الحديثة في ناحية وحيدة فقط، وهي أن كليهما يمكن الوصول منهما الى كافة أنحاء المنزل، أما الليوان فعادة متسع فسيح ويستعمل لأغراض شتى..

في الجدار الأيمن باب يوصلني الى غرفة الضيوف. وفي الجدار الأيسر باب يوصلني الى الغرفة المخصصة لنا حيث وضع بمحاذاة الجدار الملازم لليوان من الجهة اليمنى خزانة خشبية كبيرة ذات ثلاثة أبواب عريضة؛ غطى الأوسط منها مرآة كبيرة، ويعلوها تاج خشبي جميل، خصصت لحفظ الملابس. والى جانبها على الجدار تعليقة خشبية. اما في الجهة اليسرى من الجدار نفسه فقد وضع بوفيه خشبي عريض وفوقه خزانة زجاجية بعرضه ولكنها أقل عمقا، وكلاهما خصصا لحفظ الأواني الزجاجية. وفوق البوفيه وضع إبريق الفخار والجنطاس المخصصان للشرب. اما الابريق فهو كروي له في الأعلى عنق ينتهي بفتحة عريضة، وقريبا من العنق نتوء فخاري أسطواني يسمى زنبوعة، وهي التى يسيل منها الماء إلى فم الشارب، ولكن استعماله محصور بمن يستطيع أن يزرنق (أي يصب الماء في فمه من الزنبوعة، وهي على بعد سنتيمترات منه) ومن لا يتقن الزرنقة يشرب بالجنطاس، وهو اناء نحاسي نصف كروي معتدل الحجم ولا يقارن بالطاسة الموجودة حاليا بأشكالها واحجامها المختلفة. وفي الجدار المجاور للبوفيه، نافذة تطل على الحديقة. اما في الجدار المقابل له، فيوجد نافذة تطل على الفضاء الخارجي، اذا نظرت منها إلى الأسفل ظهر سطح وحديقة جارنا السيد عمر حسنة..

وفي الزاوية المقابلة للخزانة توضع موقد الحطب المصنوع من الحجر والاسمنت، وفوقه مدخنة اسمنتية عريضة النهاية تغطى كافة مساحة الموقد. وأما ارض الغرفة فقد غطيت بالحصر المصنوعة من القش. وبمحاذاة الجدارين المجاورين للموقد وضعت الطراريح وخلفها المساند المصنوعة من القش مسندة الى الجدار لمن يريد أن يجلس، علما أن كافة نوافذ المنزل لها أبواب زجاجية تفتح الى الداخل، وقد طليت باللون العسلي، وأبواب خشبية تفتح الى الخارج، وقد طليت باللون الاخضر الزيتي..

واذا عدت إلى مدخل الليوان، وجدت في الزاوية اليمنى وعاء فخاريا ضخما يدعى الخابية، وهي مخصصة لحفظ زيت الزيتون. اما بقية مساحة الجدار بعد الباب المؤدى لغرفة الضيوف فقد شغلتها كاملة خزانة خشبية ضخمة تدعى الصمندرة، وهي مقسمة حسب الغرض؛ فكامل القسم العلوي الملازم للسقف خصص لحفظ البسط الصوفية التى تغطى بها أرض الغرف شتاء، وتحتها من الجهة اليسرى ترك متسع لتوضيب الفرشات واللحف والمخدات، سمي خزانة الفراش، وتحتها وضع عدد من الأدراج. وخصص القسم العلوي من الجهة اليمنى لحفظ الأكياس القماشية المحتوية كافة أنواع المؤن الجافة والحبوب. وتحتها خصص لحفظ مرطبانات المؤن بأنواعها؛ ومنها السمن العربي الذي كان هو وزيت الزيتون المادتان الدهنيتان الوحيدتان الموجودتان في حينه. وخصص القسم السفلي لحفظ الأدوات والأواني النحاسية التى منها الصحون، وجميعها كانت دائرية الشكل يحيط بأعلاها حافة مزخرفة. اما الطنجرة فهي عريضة القاعدة تضيق في الأعلى، ويحيط بأعلاها حافة بعرض عدة سنتيمترات تمسك بها عوضا عن المسكات الجانبية المعروفة حاليا. والطنجرة ذات الحجم الكبير منها يسمى الدست، الى جانب غلاية القهوة وبكرج القهوة المرة وابريق الشاي. ويضاف إلى ذلك الصواني والقلاية والهاون والمصافي واللجن وغيرها. وتحفظ الملاعق والشوك والسكاكين في أحد الأدراج. وكانت الملعقة تسمى الزلفة، اما ذات الحجم الأكبر والشكل النصف كروي فيسمى الكفكير. وتستعمل الملعقة الكبيرة المصنوعة من الخشب، للطبخ وتسمى القطالة، بالإضافة للمنقرة والمحقان والشوبك ودقماقة الكبة وغيرها..

وبمحاذاة الجدار المقابل للصمندرة وضعت خزانة خشبية ذات بابين تحوي المعدات اللازمة لاستخلاص العسل، والى جانبها طاولة خشبية كبيرة للغرض ذاته مطلية باللون البني، وكلاهما مع الصمندرة من تصميم وتصنيع والدي رحمه الله..

وفي الزاوية اليسرى عدد من الكراسي الصغيرة ذات المقعد المصنوع من القش، وعلى الجدار نفسه علقت خزانة صغيرة تحوي موادا اسعافية أهمها صبغة اليود التى كان والدي رحمه الله يدهن بها الحلق واللوزتين الملتهبتين عندنا مرة او مرتين فيحدث الشفاء التام..

واذا ما خرجت من الباب الرابع الذى يتصدر الليوان، وصلت إلى فسحة تتطاول يمينا وشمالا على امتداد كامل البناء الحجري. وهناك توضع المطبخ وخلفه دورة المياه، وامامه على الجدار علقت عدة طوق خشبية لتربية الحمام. وعلى بعد أمتار يوجد موقد الخشب المصنوع من الحجر والاسمنت المخصص لصنع الخبز الرقيق، وعلى مقربة منه فرن صغير لتصنيع الخبز المرقد، ولرغيفه اسم آخر هو كماجة. وفي أقصى اليسار كميات من الحطب والقرميات نضدت بشكل منسق.

تجدر الإشارة ان الحطب في بيتنا كان مخصصا للتدفئة وصنع الخبز وسلق القمح بالخلقينة، وصنع رب البندورة بالدست. اما الكاز فهو المستعمل للطهي. ويتم تسخين المياه اللازمة للاستحمام بواسطة جهاز يسمى بريموس أو ببور الكاز. كما يستعمل كذلك للإضاءة بواسطة ما يسمى ضوء الكاز او الشمعدان. وضوء الكاز هو المعروف حاليا باسم لمبة الكاز؛ وهو زجاجي صغير الحجم يضيء باحتراق فتيل مغمور بزيت الكاز الذي في داخله. اما الشمعدان فهو إناء زجاجي متطاول أبيض اللون مزخرف، وله قاعدة عريضة، ويعمل بنفس مبدأ ضوء الكاز انما اضاءته أشد قوة..

اذا ما اتجهت بنظري الى اعلى وعلى ارتفاع يقرب من المترين، ظهرت حديقة بيت جارنا كمال محي الدين. واذا عدت إلى صحن الدار وتسلقت السلم الخشبي المسند الى جدار غرفة الضيوف، وصلت إلى سطح البناء الواسع والذى كان يستعمل لتجفيف كافة المؤن المراد تجفيفها كالقمح المسلوق لإعداد البرغل والتين المجفف المسمى قطين..

ومن هذا المكان اذا ادرت ظهري الى الجبل ونظرت إلى البلدة ظهرت أمامي بكاملها لوحة فنية ولا أروع!!!..

وأود أن أشير إلى أن كافة البيوت في حينا مصنوعة من الحجر والاسمنت لا مكان للطين فيها، وتتقدم كل منها حديقة غناء تزيد في جمال اطلالتها التي تحتمها طبيعة تدرج الأبنية لتموضعها..

بيتنا جميل وبلدتي أجمل ووطني فلسطين أكثر جمالا، وان المي شديد وحزني عميق وحسرتي كبيرة لأنني غادرت بيتنا. وقد كان ذلك بخدعة من بعض عناصر الجيش العراقي لم أستطع أن اتبين مدى خبثها من براءتها. ولكنني بقلب مجروح لم ولن اسامح كل من كان سببا في خروجنا من بيتنا بشكل مباشر أو غير مباشر..

كان هذا عام 1948، أما الآن فقد تم إنشاء طابقين آخرين فوق الطابق الأصلي، فأصبح بناء بثلاثة طوابق. كما أزيلت كامل الحديقة واستبدلت بشقق سكنية بارتفاع طوابق ثلاثة أيضا، ولم يبق أي أثر للزهر أو الشجر أو النحل، فقد تحول كامل العقار الى مجمع سكني..

مصابنا جلل وحسبنا الله ونعم الوكيل..

الصور: البيت في مطلع الثمانينات، يسكنه حاليا ابن البلد حنا نحاس (ابو صادر) واولاده..

_______

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….