فى الذكرى 105 لمولده: الدين والدولة في فكر عبد الناصر (1-2)، د.رفعت سيد احمد

*  تمر هذة الايام الذكري ال 105 لميلاد  الزعيم الوطني والقومي جمال  عبدالناصر (ولد في 15 يناير 1918) ولانه لا يزال حيا بفكره وسيرته العطرة ومواقفه القومية الصلبة وثبات  وصواب رؤيته تجاه قضايا الامة الكبري..من هنا وجب التذكر والاهتمام والتدبر..ولعل في مواقفه ورؤياه تجاه علاقة الدولة بالدين و موقع  الاسلام كحضارة وثقافة في  قضايا الوطن..ما يتطلب إعادة تأمل لما قاله وفعله هذا الزعيم الكبير..عل ذلك يفيد الامة في صراعاتها الراهنة مع دواعش  وغلاة هذا الزمان والذين لا يقلون شذوذا  وجهلا وعنفا عن دواعش زمن عبد الناصر.

      ************   

*في البداية يحدثنا التاريخ فيقول إن عبد الناصر لدى (الدواعش القدامي: الإخوان ) وفى مجمل وثائقهم (حاكم يعادى الإسلام) لمجرد أنه يعاديهم، حيث هم الإسلام، ومن عاداهم يصبح بالتبعية خارجاً عن الملة، وعبد الناصر لديهم لا يمتلك رؤية إسلامية صحيحة بل رؤية فاسدة وأحياناً (كافرة) فهل هذه الاتهامات صحيحة ؟ وهل كان عبد الناصر علمانياً، معادياً للإسلام بالفعل، هذا ما ستحاول هذه الدراسة الإجابة عليه من خلال بحث علمى موثق، نرفع فيه اللبس ونرد على الاتهام بالعلم.

* سيظل عبد الناصر، حاضراً، بفكره وتجربته، مهما طال الزمن أو بعد، ربما يعود ذلك إلى أن تجربته كانت ثرية بإنجازاتها؛ ربما يعود ذلك إلى أنها جاءت فى لحظة تاريخية فاصلة من عمر الأمة، فخلقت واقعاً جديداً مفصلياً فى تاريخ مصر الحديث.. وربما لأسباب أخرى سياسية داخلية وخارجية كان لهذه التجربة الناصرية بريقها وديمومتها، رغم أخطائها، واليوم نعيد فتح ملف هذه التجربة من زاوية جديدة، زاوية نحسبها لاتزال تطلق تأثيراتها، وتفرض معاركها علينا، وعلى العالم، زاوية (الإسلام) وموقعه فى مدركات وسلوكيات الأنظمة الحاكمة، اليوم نحاول أن نعيد قراءة رؤية عبد الناصر للإسلام وهى الرؤية التى نحتاجها اليوم، تعبيراً عن جدلية الصراع بين  أنظمة الحكم الوطنية وبين  الاخوان ودواعش  الفكر التكفيري الجدد..والسؤال الاساس هنا ما الذي نستفيده من فكر وتجربة عبدالناصر  تجاه  علاقة الدين بالدولة بالثورة..وما هي الدروس الرئيسية في تلك التجربة والتي قد تفيدنا مصريا وعربيا اليوم (2023)  في صراعنا مع الاجيال الجديدة من التكفيرين  الدواعش الذين هم الابناء الشرعيون لحركة الاخوان وجهازها السري ؟.

مصادر فكر عبد الناصر الإسلامى

 في البدية دعونا نسأل ماذا عن مصادر فكر عبد الناصر فيما يتصل بالدين وعلاقته بالدولة والثورة؟  لقد عرف (ولم يتأثر) عبدالناصر..حركة الإخوان المسلمين، وعرف  الحركات الشيوعية  والوفد، ومصر الفتاة، والمؤسسة العسكرية) وعلى المستوى الفكري  كانت له  وبشكل موسع قراءاته وثقافته العامة،

بالنسبة لعلاقته بالإخوان المسلمين، والتى بدأت عملياً عام 1944 بلقاء مع الضابط المتقاعد/ محمود لبيب، ولكن لم يصل تأثير الاخوان عليه اية أبعاد ذات قيمة. فقط هي قوة حزبية من عشرات القوي  التي يستطيع عبدالناصر توظيفها في إطار سعيه للثورة ضد النظام الملكي  ولم  يأخذ عنهم عبد الناصر –مثلا- فكرة الربط بين الدين والسياسة، بل كان حريصاً على عدم ربط حركته بأى أيديولوجية معينة، ولكنه فى ذات الوقت لم يعاد أياً من النظريات القائمة مما ساعده على إقامة اتصال بكل التنظيمات فكان منفتحاً على الشيوعيين، وعلى الإخوان المسلمين على السواء.

أما بالنسبة لعلاقته بمصر الفتاة، فيرى البعض أن نظرة عبد الناصر إلى السلطة، وموقفه وسياساته تجاه البريطانيين أو الغرب والشرق العربي، والعالم، كذلك إدراكه للمسألة الوطنية المصرية، كل هذه الأمور تبدو قريبة الشبه جداً من تصور مصر الفتاة إلى الحد الذي يصعب معه اعتبارها مجرد صدفة أو مبالغة فى التقدير.

ولا أحد ينكر هذه الحقيقة الهامة حول تأثر عبد الناصر بفكر مصر الفتاة، لتصبح أحد روافده الفكرية الهامة، وقد تعود إليها نظرته إلى قضايا الإصلاح وسياسات التمصير، ولكن تأثير مصر الفتاة الديني على عبد الناصر لم يكن واضحاً بالقدر الكافي ولا يمكن اكتشافه إلا فى سياق معاداتها للنموذج الغربى، على وجه العموم، والذي ظل يمثل هاجساً سياسياً مستمراً عند زعامة مصر الفتاة وتحديداً أحمد حسين وفتحى رضوان، وهو السياق الوحيد الذى يوضح موقع الدين والدولة عند هذه الزعامة، وحجم تأثر عبد الناصر بها.

ولعل فى إثارة العلاقة المفقودة بين عبد الناصر وحزب الوفد، ما يثير الانتباه، فهذه العلاقة لم تكن قائمة بنفس الدرجة التى قامت بين عبد الناصر وجماعات الرفض الأخرى كالإخوان المسلمين والشيوعيين ومصر الفتاة، وهو الأمر الذى قد يفسر ما أشار إليه أحمد حمروش بأنه لم يكن موجوداً بين قيادة التنظيم قبطى واحد، مما يعنى عدم تأثر عبد الناصر بعلمانية الوفد وموقفه تجاه مسألة الوحدة الوطنية، وعلاقة الدين بالسياسة، ومن جانب آخر فإن تزايد الفساد السياسى والاجتماعى الذى ارتبط ببعض قيادات الوفد أعطى صورة غير طيبة له عند عبد الناصر وزملائه، ولكن هذا الموقف من قبل عبد الناصر تجاه الوفد، لم يمنعه عندما تولى السلطة رسمياً عام 1954 من أن يبدأ طريقه مع العلمانية الاجتماعية، وإن كان بأداء مختلف عن أداء الوفد.

وتأتى تجربة عبد الناصر الشخصية فى التعليم الابتدائى والثانوى واشتراكه فى المظاهرات الصاخبة التى قادتها مصر الفتاة عام 1936 ثم دخوله فى الكلية الحربية وتأثره بالنموذج العسكرى فى التنظيم والتفكير، تأتى هذه التجارب لتمثل رافداً رابعاً وأخيراً فى روافد الفكر الدينى لعبد الناصر، والتى تؤكد جميعها على نقطة هامة وهى أن عبد الناصر كان لا يميل إلى العلمانية بمعناها الغربى فى علاقة الدين بالدولة.

موقع (الدين) فى فكر عبد الناصر:

بعد نجاح الثورة عام 1952 استمر الصراع على السلطة، ومن حولها حتى عام 1954، ومنذ هذا التاريخ وحتى عام 1970، كان عبد الناصر الرجل الأول فى النظام وعليه أثير ولايزال الجدل، حول موقع الدين وقضاياه المختلفة من الإدراك الناصرى وأيضاً موقع الإسلام تحديداً منه، وفى هذا السياق يمكن طرح الأسئلة التالية:

أ – ما هي الأبعاد التي يثيرها موقع الدين في فكر عبد الناصر؟

ب – هل تغير موقع الدين عند عبد الناصر حسب لتطور التاريخي والسياسي العام الذي مرت به مصر خلال الفترة (1952-1970)؟ وهل توجد مواقف أو نقاط تاريخية معينة يبرز فيها دور الدين وأخرى يخبو فيها؟

جـ – هل لجأ عبد الناصر إلى الدين عندما كان في موقف الدفاع عن النفس تجاه الإتجاهات الفكرية والسياسية الأخرى؟

وعند وضع هذه الأسئلة في إجابات محددة تصير متصلة: فى أبعاد موقع الدين فى فكر عبد الناصر والتى حول:

البعد الأول، أن الدين فى إدراك عبد الناصر هو جزء من عملية التنمية الشاملة والتغير الاجتماعى فهو يساهم فى عملية التحول تجاهها، ويخضع لنفس الشروط ولذات التحديات وخاصة فى المجتمعات ذات الثقافة التقليدية والتى يلعب الدين ورجاله فيها دوراً مؤثراً، وبالنظرة السريعة للعينة السابقة نلاحظ أن الدين قد استخدم فى مجال التنمية الشاملة وكعنصر دافع لها خلال الفترة (1952 – 1970) والدين هنا أصبح يلعب دوراً فى التنمية من خلال كشف أعدائها حيث ” شريعة الله هى شريعة العدل وهى شريعة المساواة، أما شريعة الرجعية فهى شريعة ضد الإسلام وضد الدين مهما تمسحت به ” ()  خطاب عبدالناصر في 22/3/1966.

وحيث يرتبط الدين لدى عبد الناصر بالعدالة ” فالذى يريد أن يطبق الدين لا يقسم الشعب إلى أسياد وشعب من العبيد.. ده.. ده هو الكفر ” كما يقول فى خطابه فى 1/5/1966.

أما البعد الثانى من أبعاد موقع الدين فى إدراك عبد الناصر، فهو أنه كان يرى أن للدين الإسلامى دور مؤثر فى توحيد وتضامن العالم الإسلامى تجاه أهداف اجتماعية وسياسية وهنا ينبغى التأكيد على نقطتين هامتين:

الأولى: الدين عند عبد الناصر لم يكن هو الإسلام وحسب، ولكنه مثل لديه كل التراث من قيم وتقاليد وتاريخ دينى، عاشته مصر والمنطقة العربية، يعنى هذا ادخال المسيحية، وبعض العادات الدينية والفرعونية وغير الفرعونية، والتى لايزال المواطن العربى والمصرى يمارس بعض طقوسها كالموت، أو زيارة القبور أو إرسال الرسائل إلى الموتى وما شابه ذلك أما الإسلام فهو أكثر تحديد وأقل شمولاً من الدين عند عبد الناصر

أما الثانية: فهى أن الدين ككلمة أو كفكرة، استخدمت عند عبد الناصر فى المجال الداخلى المصرى أو الإقليمى العربى، فهى لم تتعد كثيراً عنده إلى حيث الإطار الدولى أو اطار العالم الثالث أو الإسلامى، فالدين استخدم فى مواجهة الرجعية العربية وأعداء الاشتراكية والتنمية أيضاً أعداء الجمود الفكرى حيث:

” الرجعية التى أرادت احتكار خيرات الأرض لصالحها وحدها أقدمت على جريمة ستر مطامعها بالدين، وراحت تتلمس فيه ما يتعارض مع روحه ذاتها لكى توقف تيار التفكير، أما الإسلام فإنه يتجه إلى العالم الخارجى، وفى مواجهة الحلف الإسلامى ومن أجل تضامن الأمم الإسلامية على نحو مطلق، وبشأن دخول الإسلام كعامل مؤثر فى توحيد العالم الإسلامى يلاحظ استخدام عبد الناصر لكلمتى التضامن والتعاون وعدم استخدامه لكلمة الوحدة مع العالم الإسلامى، حيث لم يظهر أساساً مفهوم الوحدة الإسلامية، فى الخطاب الناصرى إلا مرة واحدة قبل 1956 فى السياق التالى ” إنما أرى فيكم – الجنود – وحدة قومية بل أرى أيضاً وحدة عربية، بل أرى أيضاً وحدة إسلامية، بل أرى أيضاً وحدة إسلامية أفريقية ” فى خطابه وسط مجموعة من الضباط المصريين فى عام 1955.

أما البعد الثالث لموقع الدين فى فكر عبد الناصر، فهو رفض الرؤية المتزمتة والتفسيرات الجامدة للدين وللإسلام، ويفرق عبد الناصر هنا بين الإسلام كعقيدة ثابتة ومقدسة وبين الفكر الدينى المتجدد والمتغير ويرفض عبد الناصر هنا أيضاً احتكار بعض القوى الدينية لحق تفسير الدين وخاصة إذا تعارض هذا التفسير وعملية التحول الاجتماعى التى يقودها، عندئذ يصير الدين جزءاً من عملية التعبئة السياسية فى مواجهة الفكر الرجعى، وفى مواجهة الأعداء التقليديين له، الرجعية العربية والاستعمار وإسرائيل، ولعل فى نموذج اعتلائه لمنبر الأزهر إبان العدوان الثلاثى عام 1956 وحديثه المستمر  عن الدين كعنصر فى عملية التعبئة السياسية ومواجهة الصراع الخارجى وبهدف تعبئة الجماهير، ما يؤكد عليه،.

أما البعد الرابع والأخير من محددات موقع الدين فى فكر عبد الناصر، نجد أنه يرى أن الدين لا يصلح كأيديولوجية سياسية مستقلة بل يصلح كأداة وكمنطلق وكأحد العناصر لأيديولوجية سياسية هى القومية العربية،

من هذه الأبعاد السياسية لموقع الدين فى فكر عبد الناصر أمكن تحديد أربعة محاور أساسية تتحدد حولها رؤية الناصرية للدين هى:

– الدين كأحد عناصر القومية العربية.

– الدين كعنصر فى عملية التعبئة السياسية.

– الدين كعنصر فى عملية التغير الاجتماعى.

– الدين كعنصر فى عملية المواجهة للصراع الخارجى.

                           ****************

الخلاصة…إن مصادر الفكر الدينى عند عبد الناصر تعود إلى مرحلة ما قبل عام 1952، حيث تعرف وفهم آليات عمل وفكر وسياسات كل من حركة الإخوان المسلمين ومصر الفتاة والقوى السياسية الأخرى وكيف أن الدين – وتحديداً الإسلام – قد احتل موقعاً هاماً فى فكره، ولكن برؤية مستنيرة وليس منغلقة أو ضيقة الافق مثل(الاخوان: دواعش زمن عبدالناصر )، وأن أبرز أبعاد الرؤية الناصرية للدين  تمثلت في كونه: عنصرا  مهما  فى عملية التعبئة السياسية، والتنمية الشاملة، والقومية العربية، ومواجهة الصراع الخارجي.

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….