السنة الثالثة والعشرون – العدد 6455
في هذا العدد:
■ بيت أبوي في ترشيحا، وليد الهليس
■ فى الذكرى 105 لمولده: الدين والدولة في فكر عبد الناصر (1-2)، د. رفعت سيداحمد
■ مقدّمات في تاريخ الصين الاقتصاديّ، عامر محسن
■ شاهد:
- عادل سماره في حديث مع الإخبارية السورية … تفنيد الابرثايد
✺ ✺ ✺
بيت أبوي في ترشيحا
وليد الهليس
صليحة سوداح، سيدة فلسطينية من ترشيحا الفلسطينية الشمالية. وهي أول فتاة في العائلة تحصل على درجة جامعية، فقد تخرجت من كلية الصيدلة بجامعة دمشق في العام 1966، كما ذكر لي ابن شقيقها الصديق الصحافي والشاعر سعادة سوداح.
لقد قامت السيدة بإملاء وصفها الشامل والدقيق لبيت والدها على سوداح، الذي بناه فوق صخور بلدته ترشيحا، وعاش فيه مع أسرته قبل أن يستولي الغزاة على البيت والوطن 1948.
تذكر السيدة ان هذا الوصف هو بمثابة زيارة من الذاكرة، وكانت وقتئذ في الثمانين من عمرها، ورغم انها فقدت بصرها، الا انها ما تزال تعيش مستقلة بذاتها معتمدة على نفسها في شؤونها اليومية.
لقد كانت زيارة سيدة الذاكرة، رحلة حاج إلى مزاره المقدس، وإسراءً بالروح عرجت خلاله على كل حجر من حجارة البيت وكل قطعة من أثاثه.
لنقرأ معا ما أملته السيدة الكبيرة في رحلة حجها الى البيت، لنتبعها وهي تطوف به في صلاة لا مثيل لها في كتاب.
هذه قصيدة غزل حسي تصير فيها الجدران الحجرية والأبواب الخضراء والشبابيك العسلية والحديقة والبئر والنحل وعريشة العناقيد والموقد وحتى أدوات الطبخ بفتنة اسمائها الأولي، كلها تصير مفردات صوفية وأسماء كائنات علوية تبعث رعدة الشوق في “الحواس الفلسطينية الألف ” التي تعرفون.
وليد الهليس
هيك كان بيت ابوي في ترشيحا..
كتبت بنت البلد الصيدلانية صليحة على سوداح:
بلهفة العاشق ولوعة المحروم أقوم بزيارة بيتنا في ترشيحا بذاكرتي فأراني الآن أسير في طريق صخري صاعد باتجاه قمة جبل المجاهد، ويظهر على يميني في الأسفل سطح وحديقة بيت جارنا السيد مصطفى كمال، وفي الجهة اليسرى سد صخري مرتفع يتربع فوقه بيتنا، وعند نهايته أصل إلى الى مفترق طرق أربعة على يميني يصل إلى بناء مدرسة الذكور؛ انحرف يسارا في طريق صخري آخر واسير عدة أمتار لأشاهد على يميني، من ارتفاع يقارب المترين، حديقة جارنا السيد حسن الجشي. وفى الصدارة يظهر مدخل سور دار جارنا السيد كمال محي الدين..
ويوجد على يساري باب سور دارنا الكبير المكون من الحديد المثبت بالأسلاك الشائكة. فإذا دخلت وصلت إلى صحن الدار الذي يتطاول يمينا وشمالا على امتداد كامل العقار. وفي أقصى اليسار توضعت كميات كبيرة من الحطب والقرميات نضدت بشكل متناسق. وقبلها بأمتار قليلة يوجد بئر المياه الصالحة لكافة الاستعمالات، وتسحب منه بواسطة دلو معدني ذو قاعدة خشبية، ربط بخيط ثخين وطويل، توضع امتاره الأخيرة على سطح الأرض إلى جانب فوهة البئر المغلق بغطاء معدني محكم..
واذا استدرت قليلا وتابعت سيري الى الأمام وصلت إلى ممر طويل تتدلى من أعلاه عناقيد العنب وتحيط بنهايته وحافته اليسرى حديقة واسعة على شكل حرف L تحوي ازهارا متنوعة وأشجارا مختلفة، وعددا من خلايا تربية النحل. وقد خصص أحد أركانها لزراعة البقدونس والنعناع والبصل والفلفل والبندورة. أما على يمين الممر فقد توضع البناء الحجري..
اذا دخلت الباب الأول أصل إلى غرفة الضيوف، وهي فسيحة متسعة لها نافذة تطل على صحن الدار وأخرى تشرف على الحديقة. وقد وضع فيها طقم الكنبايات، إلا أن الصبي المدلل؛ شقيقي الأكبر صالح، رحمه الله، قد احتل ركنا فيها فوضع له تختا (سرير) نحاسيا أصفر عاليا، مزودا بناموسية لنومه، وعلى مقربة منه طاولة خشبية وكرسي خيزران لدراسته. وعند نهايته كرسي قماشي قلاب لاستراحته، وخلفه على الجدار تعليقة خشبية. ولن أنسى منقل الفحم المخصص لتدفئته..
وإذا ولجت الباب الثاني، فقد وصلت إلى الليوان. وهو يشبه الموزع في الأبنية الحديثة في ناحية وحيدة فقط، وهي أن كليهما يمكن الوصول منهما الى كافة أنحاء المنزل، أما الليوان فعادة متسع فسيح ويستعمل لأغراض شتى..
في الجدار الأيمن باب يوصلني الى غرفة الضيوف. وفي الجدار الأيسر باب يوصلني الى الغرفة المخصصة لنا حيث وضع بمحاذاة الجدار الملازم لليوان من الجهة اليمنى خزانة خشبية كبيرة ذات ثلاثة أبواب عريضة؛ غطى الأوسط منها مرآة كبيرة، ويعلوها تاج خشبي جميل، خصصت لحفظ الملابس. والى جانبها على الجدار تعليقة خشبية. اما في الجهة اليسرى من الجدار نفسه فقد وضع بوفيه خشبي عريض وفوقه خزانة زجاجية بعرضه ولكنها أقل عمقا، وكلاهما خصصا لحفظ الأواني الزجاجية. وفوق البوفيه وضع إبريق الفخار والجنطاس المخصصان للشرب. اما الابريق فهو كروي له في الأعلى عنق ينتهي بفتحة عريضة، وقريبا من العنق نتوء فخاري أسطواني يسمى زنبوعة، وهي التى يسيل منها الماء إلى فم الشارب، ولكن استعماله محصور بمن يستطيع أن يزرنق (أي يصب الماء في فمه من الزنبوعة، وهي على بعد سنتيمترات منه) ومن لا يتقن الزرنقة يشرب بالجنطاس، وهو اناء نحاسي نصف كروي معتدل الحجم ولا يقارن بالطاسة الموجودة حاليا بأشكالها واحجامها المختلفة. وفي الجدار المجاور للبوفيه، نافذة تطل على الحديقة. اما في الجدار المقابل له، فيوجد نافذة تطل على الفضاء الخارجي، اذا نظرت منها إلى الأسفل ظهر سطح وحديقة جارنا السيد عمر حسنة..
وفي الزاوية المقابلة للخزانة توضع موقد الحطب المصنوع من الحجر والاسمنت، وفوقه مدخنة اسمنتية عريضة النهاية تغطى كافة مساحة الموقد. وأما ارض الغرفة فقد غطيت بالحصر المصنوعة من القش. وبمحاذاة الجدارين المجاورين للموقد وضعت الطراريح وخلفها المساند المصنوعة من القش مسندة الى الجدار لمن يريد أن يجلس، علما أن كافة نوافذ المنزل لها أبواب زجاجية تفتح الى الداخل، وقد طليت باللون العسلي، وأبواب خشبية تفتح الى الخارج، وقد طليت باللون الاخضر الزيتي..
واذا عدت إلى مدخل الليوان، وجدت في الزاوية اليمنى وعاء فخاريا ضخما يدعى الخابية، وهي مخصصة لحفظ زيت الزيتون. اما بقية مساحة الجدار بعد الباب المؤدى لغرفة الضيوف فقد شغلتها كاملة خزانة خشبية ضخمة تدعى الصمندرة، وهي مقسمة حسب الغرض؛ فكامل القسم العلوي الملازم للسقف خصص لحفظ البسط الصوفية التى تغطى بها أرض الغرف شتاء، وتحتها من الجهة اليسرى ترك متسع لتوضيب الفرشات واللحف والمخدات، سمي خزانة الفراش، وتحتها وضع عدد من الأدراج. وخصص القسم العلوي من الجهة اليمنى لحفظ الأكياس القماشية المحتوية كافة أنواع المؤن الجافة والحبوب. وتحتها خصص لحفظ مرطبانات المؤن بأنواعها؛ ومنها السمن العربي الذي كان هو وزيت الزيتون المادتان الدهنيتان الوحيدتان الموجودتان في حينه. وخصص القسم السفلي لحفظ الأدوات والأواني النحاسية التى منها الصحون، وجميعها كانت دائرية الشكل يحيط بأعلاها حافة مزخرفة. اما الطنجرة فهي عريضة القاعدة تضيق في الأعلى، ويحيط بأعلاها حافة بعرض عدة سنتيمترات تمسك بها عوضا عن المسكات الجانبية المعروفة حاليا. والطنجرة ذات الحجم الكبير منها يسمى الدست، الى جانب غلاية القهوة وبكرج القهوة المرة وابريق الشاي. ويضاف إلى ذلك الصواني والقلاية والهاون والمصافي واللجن وغيرها. وتحفظ الملاعق والشوك والسكاكين في أحد الأدراج. وكانت الملعقة تسمى الزلفة، اما ذات الحجم الأكبر والشكل النصف كروي فيسمى الكفكير. وتستعمل الملعقة الكبيرة المصنوعة من الخشب، للطبخ وتسمى القطالة، بالإضافة للمنقرة والمحقان والشوبك ودقماقة الكبة وغيرها..
وبمحاذاة الجدار المقابل للصمندرة وضعت خزانة خشبية ذات بابين تحوي المعدات اللازمة لاستخلاص العسل، والى جانبها طاولة خشبية كبيرة للغرض ذاته مطلية باللون البني، وكلاهما مع الصمندرة من تصميم وتصنيع والدي رحمه الله..
وفي الزاوية اليسرى عدد من الكراسي الصغيرة ذات المقعد المصنوع من القش، وعلى الجدار نفسه علقت خزانة صغيرة تحوي موادا اسعافية أهمها صبغة اليود التى كان والدي رحمه الله يدهن بها الحلق واللوزتين الملتهبتين عندنا مرة او مرتين فيحدث الشفاء التام..
واذا ما خرجت من الباب الرابع الذى يتصدر الليوان، وصلت إلى فسحة تتطاول يمينا وشمالا على امتداد كامل البناء الحجري. وهناك توضع المطبخ وخلفه دورة المياه، وامامه على الجدار علقت عدة طوق خشبية لتربية الحمام. وعلى بعد أمتار يوجد موقد الخشب المصنوع من الحجر والاسمنت المخصص لصنع الخبز الرقيق، وعلى مقربة منه فرن صغير لتصنيع الخبز المرقد، ولرغيفه اسم آخر هو كماجة. وفي أقصى اليسار كميات من الحطب والقرميات نضدت بشكل منسق.
تجدر الإشارة ان الحطب في بيتنا كان مخصصا للتدفئة وصنع الخبز وسلق القمح بالخلقينة، وصنع رب البندورة بالدست. اما الكاز فهو المستعمل للطهي. ويتم تسخين المياه اللازمة للاستحمام بواسطة جهاز يسمى بريموس أو ببور الكاز. كما يستعمل كذلك للإضاءة بواسطة ما يسمى ضوء الكاز او الشمعدان. وضوء الكاز هو المعروف حاليا باسم لمبة الكاز؛ وهو زجاجي صغير الحجم يضيء باحتراق فتيل مغمور بزيت الكاز الذي في داخله. اما الشمعدان فهو إناء زجاجي متطاول أبيض اللون مزخرف، وله قاعدة عريضة، ويعمل بنفس مبدأ ضوء الكاز انما اضاءته أشد قوة..
اذا ما اتجهت بنظري الى اعلى وعلى ارتفاع يقرب من المترين، ظهرت حديقة بيت جارنا كمال محي الدين. واذا عدت إلى صحن الدار وتسلقت السلم الخشبي المسند الى جدار غرفة الضيوف، وصلت إلى سطح البناء الواسع والذى كان يستعمل لتجفيف كافة المؤن المراد تجفيفها كالقمح المسلوق لإعداد البرغل والتين المجفف المسمى قطين..
ومن هذا المكان اذا ادرت ظهري الى الجبل ونظرت إلى البلدة ظهرت أمامي بكاملها لوحة فنية ولا أروع!!!..
وأود أن أشير إلى أن كافة البيوت في حينا مصنوعة من الحجر والاسمنت لا مكان للطين فيها، وتتقدم كل منها حديقة غناء تزيد في جمال اطلالتها التي تحتمها طبيعة تدرج الأبنية لتموضعها..
بيتنا جميل وبلدتي أجمل ووطني فلسطين أكثر جمالا، وان المي شديد وحزني عميق وحسرتي كبيرة لأنني غادرت بيتنا. وقد كان ذلك بخدعة من بعض عناصر الجيش العراقي لم أستطع أن اتبين مدى خبثها من براءتها. ولكنني بقلب مجروح لم ولن اسامح كل من كان سببا في خروجنا من بيتنا بشكل مباشر أو غير مباشر..
كان هذا عام 1948، أما الآن فقد تم إنشاء طابقين آخرين فوق الطابق الأصلي، فأصبح بناء بثلاثة طوابق. كما أزيلت كامل الحديقة واستبدلت بشقق سكنية بارتفاع طوابق ثلاثة أيضا، ولم يبق أي أثر للزهر أو الشجر أو النحل، فقد تحول كامل العقار الى مجمع سكني..
مصابنا جلل وحسبنا الله ونعم الوكيل..
الصور: البيت في مطلع الثمانينات، يسكنه حاليا ابن البلد حنا نحاس (ابو صادر) واولاده..
✺ ✺ ✺
فى الذكرى 105 لمولده…
الدين والدولة في فكر عبد الناصر (1-2)
د. رفعت سيد احمد
* تمر هذة الايام الذكري ال 105 لميلاد الزعيم الوطني والقومي جمال عبدالناصر (ولد في 15 يناير 1918) ولانه لا يزال حيا بفكره وسيرته العطرة ومواقفه القومية الصلبة وثبات وصواب رؤيته تجاه قضايا الامة الكبري..من هنا وجب التذكر والاهتمام والتدبر..ولعل في مواقفه ورؤياه تجاه علاقة الدولة بالدين و موقع الاسلام كحضارة وثقافة في قضايا الوطن..ما يتطلب إعادة تأمل لما قاله وفعله هذا الزعيم الكبير..عل ذلك يفيد الامة في صراعاتها الراهنة مع دواعش وغلاة هذا الزمان والذين لا يقلون شذوذا وجهلا وعنفا عن دواعش زمن عبد الناصر.
************
*في البداية يحدثنا التاريخ فيقول إن عبد الناصر لدى (الدواعش القدامي: الإخوان ) وفى مجمل وثائقهم (حاكم يعادى الإسلام) لمجرد أنه يعاديهم، حيث هم الإسلام، ومن عاداهم يصبح بالتبعية خارجاً عن الملة، وعبد الناصر لديهم لا يمتلك رؤية إسلامية صحيحة بل رؤية فاسدة وأحياناً (كافرة) فهل هذه الاتهامات صحيحة ؟ وهل كان عبد الناصر علمانياً، معادياً للإسلام بالفعل، هذا ما ستحاول هذه الدراسة الإجابة عليه من خلال بحث علمى موثق، نرفع فيه اللبس ونرد على الاتهام بالعلم.
* سيظل عبد الناصر، حاضراً، بفكره وتجربته، مهما طال الزمن أو بعد، ربما يعود ذلك إلى أن تجربته كانت ثرية بإنجازاتها؛ ربما يعود ذلك إلى أنها جاءت فى لحظة تاريخية فاصلة من عمر الأمة، فخلقت واقعاً جديداً مفصلياً فى تاريخ مصر الحديث.. وربما لأسباب أخرى سياسية داخلية وخارجية كان لهذه التجربة الناصرية بريقها وديمومتها، رغم أخطائها، واليوم نعيد فتح ملف هذه التجربة من زاوية جديدة، زاوية نحسبها لاتزال تطلق تأثيراتها، وتفرض معاركها علينا، وعلى العالم، زاوية (الإسلام) وموقعه فى مدركات وسلوكيات الأنظمة الحاكمة، اليوم نحاول أن نعيد قراءة رؤية عبد الناصر للإسلام وهى الرؤية التى نحتاجها اليوم، تعبيراً عن جدلية الصراع بين أنظمة الحكم الوطنية وبين الاخوان ودواعش الفكر التكفيري الجدد..والسؤال الاساس هنا ما الذي نستفيده من فكر وتجربة عبدالناصر تجاه علاقة الدين بالدولة بالثورة..وما هي الدروس الرئيسية في تلك التجربة والتي قد تفيدنا مصريا وعربيا اليوم (2023) في صراعنا مع الاجيال الجديدة من التكفيرين الدواعش الذين هم الابناء الشرعيون لحركة الاخوان وجهازها السري ؟.
مصادر فكر عبد الناصر الإسلامى
في البدية دعونا نسأل ماذا عن مصادر فكر عبد الناصر فيما يتصل بالدين وعلاقته بالدولة والثورة؟ لقد عرف (ولم يتأثر) عبدالناصر..حركة الإخوان المسلمين، وعرف الحركات الشيوعية والوفد، ومصر الفتاة، والمؤسسة العسكرية) وعلى المستوى الفكري كانت له وبشكل موسع قراءاته وثقافته العامة،
بالنسبة لعلاقته بالإخوان المسلمين، والتى بدأت عملياً عام 1944 بلقاء مع الضابط المتقاعد/ محمود لبيب، ولكن لم يصل تأثير الاخوان عليه اية أبعاد ذات قيمة. فقط هي قوة حزبية من عشرات القوي التي يستطيع عبدالناصر توظيفها في إطار سعيه للثورة ضد النظام الملكي ولم يأخذ عنهم عبد الناصر –مثلا- فكرة الربط بين الدين والسياسة، بل كان حريصاً على عدم ربط حركته بأى أيديولوجية معينة، ولكنه فى ذات الوقت لم يعاد أياً من النظريات القائمة مما ساعده على إقامة اتصال بكل التنظيمات فكان منفتحاً على الشيوعيين، وعلى الإخوان المسلمين على السواء.
أما بالنسبة لعلاقته بمصر الفتاة، فيرى البعض أن نظرة عبد الناصر إلى السلطة، وموقفه وسياساته تجاه البريطانيين أو الغرب والشرق العربي، والعالم، كذلك إدراكه للمسألة الوطنية المصرية، كل هذه الأمور تبدو قريبة الشبه جداً من تصور مصر الفتاة إلى الحد الذي يصعب معه اعتبارها مجرد صدفة أو مبالغة فى التقدير.
ولا أحد ينكر هذه الحقيقة الهامة حول تأثر عبد الناصر بفكر مصر الفتاة، لتصبح أحد روافده الفكرية الهامة، وقد تعود إليها نظرته إلى قضايا الإصلاح وسياسات التمصير، ولكن تأثير مصر الفتاة الديني على عبد الناصر لم يكن واضحاً بالقدر الكافي ولا يمكن اكتشافه إلا فى سياق معاداتها للنموذج الغربى، على وجه العموم، والذي ظل يمثل هاجساً سياسياً مستمراً عند زعامة مصر الفتاة وتحديداً أحمد حسين وفتحى رضوان، وهو السياق الوحيد الذى يوضح موقع الدين والدولة عند هذه الزعامة، وحجم تأثر عبد الناصر بها.
ولعل فى إثارة العلاقة المفقودة بين عبد الناصر وحزب الوفد، ما يثير الانتباه، فهذه العلاقة لم تكن قائمة بنفس الدرجة التى قامت بين عبد الناصر وجماعات الرفض الأخرى كالإخوان المسلمين والشيوعيين ومصر الفتاة، وهو الأمر الذى قد يفسر ما أشار إليه أحمد حمروش بأنه لم يكن موجوداً بين قيادة التنظيم قبطى واحد، مما يعنى عدم تأثر عبد الناصر بعلمانية الوفد وموقفه تجاه مسألة الوحدة الوطنية، وعلاقة الدين بالسياسة، ومن جانب آخر فإن تزايد الفساد السياسى والاجتماعى الذى ارتبط ببعض قيادات الوفد أعطى صورة غير طيبة له عند عبد الناصر وزملائه، ولكن هذا الموقف من قبل عبد الناصر تجاه الوفد، لم يمنعه عندما تولى السلطة رسمياً عام 1954 من أن يبدأ طريقه مع العلمانية الاجتماعية، وإن كان بأداء مختلف عن أداء الوفد.
وتأتى تجربة عبد الناصر الشخصية فى التعليم الابتدائى والثانوى واشتراكه فى المظاهرات الصاخبة التى قادتها مصر الفتاة عام 1936 ثم دخوله فى الكلية الحربية وتأثره بالنموذج العسكرى فى التنظيم والتفكير، تأتى هذه التجارب لتمثل رافداً رابعاً وأخيراً فى روافد الفكر الدينى لعبد الناصر، والتى تؤكد جميعها على نقطة هامة وهى أن عبد الناصر كان لا يميل إلى العلمانية بمعناها الغربى فى علاقة الدين بالدولة.
موقع (الدين) فى فكر عبد الناصر:
بعد نجاح الثورة عام 1952 استمر الصراع على السلطة، ومن حولها حتى عام 1954، ومنذ هذا التاريخ وحتى عام 1970، كان عبد الناصر الرجل الأول فى النظام وعليه أثير ولايزال الجدل، حول موقع الدين وقضاياه المختلفة من الإدراك الناصرى وأيضاً موقع الإسلام تحديداً منه، وفى هذا السياق يمكن طرح الأسئلة التالية:
أ – ما هي الأبعاد التي يثيرها موقع الدين في فكر عبد الناصر؟
ب – هل تغير موقع الدين عند عبد الناصر حسب لتطور التاريخي والسياسي العام الذي مرت به مصر خلال الفترة (1952-1970)؟ وهل توجد مواقف أو نقاط تاريخية معينة يبرز فيها دور الدين وأخرى يخبو فيها؟
جـ – هل لجأ عبد الناصر إلى الدين عندما كان في موقف الدفاع عن النفس تجاه الإتجاهات الفكرية والسياسية الأخرى؟
وعند وضع هذه الأسئلة في إجابات محددة تصير متصلة: فى أبعاد موقع الدين فى فكر عبد الناصر والتى حول:
البعد الأول، أن الدين فى إدراك عبد الناصر هو جزء من عملية التنمية الشاملة والتغير الاجتماعى فهو يساهم فى عملية التحول تجاهها، ويخضع لنفس الشروط ولذات التحديات وخاصة فى المجتمعات ذات الثقافة التقليدية والتى يلعب الدين ورجاله فيها دوراً مؤثراً، وبالنظرة السريعة للعينة السابقة نلاحظ أن الدين قد استخدم فى مجال التنمية الشاملة وكعنصر دافع لها خلال الفترة (1952 – 1970) والدين هنا أصبح يلعب دوراً فى التنمية من خلال كشف أعدائها حيث ” شريعة الله هى شريعة العدل وهى شريعة المساواة، أما شريعة الرجعية فهى شريعة ضد الإسلام وضد الدين مهما تمسحت به ” () خطاب عبدالناصر في 22/3/1966.
وحيث يرتبط الدين لدى عبد الناصر بالعدالة ” فالذى يريد أن يطبق الدين لا يقسم الشعب إلى أسياد وشعب من العبيد.. ده.. ده هو الكفر ” كما يقول فى خطابه فى 1/5/1966.
أما البعد الثانى من أبعاد موقع الدين فى إدراك عبد الناصر، فهو أنه كان يرى أن للدين الإسلامى دور مؤثر فى توحيد وتضامن العالم الإسلامى تجاه أهداف اجتماعية وسياسية وهنا ينبغى التأكيد على نقطتين هامتين:
الأولى: الدين عند عبد الناصر لم يكن هو الإسلام وحسب، ولكنه مثل لديه كل التراث من قيم وتقاليد وتاريخ دينى، عاشته مصر والمنطقة العربية، يعنى هذا ادخال المسيحية، وبعض العادات الدينية والفرعونية وغير الفرعونية، والتى لايزال المواطن العربى والمصرى يمارس بعض طقوسها كالموت، أو زيارة القبور أو إرسال الرسائل إلى الموتى وما شابه ذلك أما الإسلام فهو أكثر تحديد وأقل شمولاً من الدين عند عبد الناصر
أما الثانية: فهى أن الدين ككلمة أو كفكرة، استخدمت عند عبد الناصر فى المجال الداخلى المصرى أو الإقليمى العربى، فهى لم تتعد كثيراً عنده إلى حيث الإطار الدولى أو اطار العالم الثالث أو الإسلامى، فالدين استخدم فى مواجهة الرجعية العربية وأعداء الاشتراكية والتنمية أيضاً أعداء الجمود الفكرى حيث:
” الرجعية التى أرادت احتكار خيرات الأرض لصالحها وحدها أقدمت على جريمة ستر مطامعها بالدين، وراحت تتلمس فيه ما يتعارض مع روحه ذاتها لكى توقف تيار التفكير، أما الإسلام فإنه يتجه إلى العالم الخارجى، وفى مواجهة الحلف الإسلامى ومن أجل تضامن الأمم الإسلامية على نحو مطلق، وبشأن دخول الإسلام كعامل مؤثر فى توحيد العالم الإسلامى يلاحظ استخدام عبد الناصر لكلمتى التضامن والتعاون وعدم استخدامه لكلمة الوحدة مع العالم الإسلامى، حيث لم يظهر أساساً مفهوم الوحدة الإسلامية، فى الخطاب الناصرى إلا مرة واحدة قبل 1956 فى السياق التالى ” إنما أرى فيكم – الجنود – وحدة قومية بل أرى أيضاً وحدة عربية، بل أرى أيضاً وحدة إسلامية، بل أرى أيضاً وحدة إسلامية أفريقية ” فى خطابه وسط مجموعة من الضباط المصريين فى عام 1955.
أما البعد الثالث لموقع الدين فى فكر عبد الناصر، فهو رفض الرؤية المتزمتة والتفسيرات الجامدة للدين وللإسلام، ويفرق عبد الناصر هنا بين الإسلام كعقيدة ثابتة ومقدسة وبين الفكر الدينى المتجدد والمتغير ويرفض عبد الناصر هنا أيضاً احتكار بعض القوى الدينية لحق تفسير الدين وخاصة إذا تعارض هذا التفسير وعملية التحول الاجتماعى التى يقودها، عندئذ يصير الدين جزءاً من عملية التعبئة السياسية فى مواجهة الفكر الرجعى، وفى مواجهة الأعداء التقليديين له، الرجعية العربية والاستعمار وإسرائيل، ولعل فى نموذج اعتلائه لمنبر الأزهر إبان العدوان الثلاثى عام 1956 وحديثه المستمر عن الدين كعنصر فى عملية التعبئة السياسية ومواجهة الصراع الخارجى وبهدف تعبئة الجماهير، ما يؤكد عليه،.
أما البعد الرابع والأخير من محددات موقع الدين فى فكر عبد الناصر، نجد أنه يرى أن الدين لا يصلح كأيديولوجية سياسية مستقلة بل يصلح كأداة وكمنطلق وكأحد العناصر لأيديولوجية سياسية هى القومية العربية،
من هذه الأبعاد السياسية لموقع الدين فى فكر عبد الناصر أمكن تحديد أربعة محاور أساسية تتحدد حولها رؤية الناصرية للدين هى:
– الدين كأحد عناصر القومية العربية.
– الدين كعنصر فى عملية التعبئة السياسية.
– الدين كعنصر فى عملية التغير الاجتماعى.
– الدين كعنصر فى عملية المواجهة للصراع الخارجى.
****************
الخلاصة…إن مصادر الفكر الدينى عند عبد الناصر تعود إلى مرحلة ما قبل عام 1952، حيث تعرف وفهم آليات عمل وفكر وسياسات كل من حركة الإخوان المسلمين ومصر الفتاة والقوى السياسية الأخرى وكيف أن الدين – وتحديداً الإسلام – قد احتل موقعاً هاماً فى فكره، ولكن برؤية مستنيرة وليس منغلقة أو ضيقة الافق مثل(الاخوان: دواعش زمن عبدالناصر )، وأن أبرز أبعاد الرؤية الناصرية للدين تمثلت في كونه: عنصرا مهما فى عملية التعبئة السياسية، والتنمية الشاملة، والقومية العربية، ومواجهة الصراع الخارجي.
✺ ✺ ✺
مقدّمات في تاريخ الصين الاقتصاديّ
عامر محسن
دَعْكَ من الكلام عن فوائد السفر، فإنّ التجربة المباشرة ليست دوماً الطريقة الأنسب للتعرُّف إلى الشعوب والحضارات الأخرى. التجربة الفرديّة محدودة بطبيعتها، وتتلوّن بانحيازاتِ صاحبها وخبراته والزاوية التي يرى منها العالم. كان لدى أحدهم نظريّة بأنّ العربي، الذي نشأ في بلد مشرقي وتلقّى فيه تعليمه والنسخة الوطنية المكرّسة عن التاريخ، إن التقى بتركيٍّ «ستاندارد» أيضاً – يحمل هو الآخر نسخته الوطنية الرسمية عن الماضي القريب – فإنّ أوّل ما سيحصل بينهما – إنْ تناقشا – هو أنهما سيصطدمان. في ما بعد، قد يَعقلان ويَفهمان أن حقيقة كلّ منهما ليست كاملة، ولكن من الصعب ألّا يختلفا في البداية. بيننا وبين الصينيين، مثلاً، الكثير من المشتركات: في نمط العائلة، معاملة الكبار في السن، مفهوم الضيافة وغير ذلك. ثقافة أخرى وحضارة مختلفة ودين/ فلسفة لها مصدرها الخاص. ومع هذا، هم أقرب إلينا من نواحٍ كثيرة من شعوبٍ تحيط بنا (لعلّ ذلك ما جعل هادي العلوي يعتبر أنّنا ننتمي، كـ«شرقيين»، إلى مجال حضاري مشترك). ولكن من الصّعب أن يستنتج ذلك عربيّ يلتقي بصينيّ للمرّة الأولى. إنْ كان البحث التاريخي عماده التحليل والعقلانية والتجريد، فإنّ التجربة والانطباعات الفرديّة عمادها سوء الفهم. على الأخصّ، إيّاكم أن تأخذوا بأحكام مَن يزور بلداً في إجازة لأسبوع ثمّ يعود ليشرح لك كنهه، وأنّ «الأتراك هم كذا» و«المصريّون يريدون كذا» (هؤلاء، في حالاتٍ كثيرة، أناس لا يزالون غرباء عن فهْم مجتمعهم الخاص بعد حياةٍ كاملة فيه، فلا داعيَ، معهم، لأن تثق بخلاصات ما بعد الإجازة).
أنا هنا، أعترف، أوّل المذنبين. بل إنّ لقائي الأوّل مع «الحضارة الصينية» انتهى، للأسف، وأنا أصرخ في وجه سائقٍ صينيٍّ في نيويورك وأخلق ذعراً صغيراً في باص (لا داعي للتفاصيل). غنيٌّ عن القول إنّ الحال قد تغيّر كثيراً في ما بعد، وتعرّفت عن قرب إلى الكثير من الآسيويين (خاصةً حين عشت على الساحل الغربي)، بل إنّي سكنتُ لفترةٍ في مبنى تملكه المافيا الصينيّة، وهم كانوا أناساً لطفاء للغاية، وشرفاء بمعنى الكلمة.
هناك ماضٍ مثير للعلاقات بين العرب والصينيّين، وهذا أيضاً ليس موضوعنا اليوم؛ ولكنّك تجد مراسلات وعلاقات تجاريّة، بل – مثلاً – جيشاً عربياً عبّاسياً يتمّ استقدامه من وسط آسيا ليقاتل في الصين ضمن حربٍ أهلية شهيرة اشتعلت في أواسط القرن الثامن (ثورة آن لوشان – ويبدو أنّ العباسيين، بعدما تحاربوا مع الصينيين في وسط آسيا ثمّ تصالحوا، أرسلوا جيشهم كبادرة حسن نية لدعم حكم الـ«تانغ»). قبل ذلك، وقبل توحيد الصين حتى، فإنّ الكثير من التقنيات الزراعية والعسكرية والصناعات والمحاصيل الرئيسة قد جاءت إلى الصين من إقليمنا في غرب آسيا. إنْ وضعنا جانباً دور التجار العرب في آسيا الجزرية، ودور الإسلام بعد انتشاره في الصين، فإنّ العلاقات «الرسمية» بين الصين وإقليمنا قد مرّت بوضوح بمرحلة صعودٍ تبعها خفوت. ازدهار العباسيين والـ«تانغ» جاء تقريباً في مرحلة زمنية واحدة، وقد كان بين الدولة العباسية الفتيّة والصين تنافسٌ وتعاون، نجده يتقلّص في ما بعد حتّى يكاد يختفي مع مرور الزمن. قد يكون في هذا توكيدٌ على المقارنة التي عقدها سمير أمين بين الكتل الكبيرة في العالم القديم (الشرق الأوسط، الهند والصين). نظرية أمين هي أنه، بعد القرن الحادي عشر، حصل انحدارٌ تدريجي ومستمرّ لـ«قيمة» منطقتنا، مقارنةً بالإقليمين الآسيويين (في الديمغرافيا أساساً، وفي الإنتاج الاقتصادي، بمعنى أنّ عدد سكان الهند والصين ظلّ يرتفع بشكلٍ متوازٍ تقريباً وبلا توقّف حتى وصل إلى مئات الملايين، في حين تخلّفت منطقتنا عنهما بشكلٍ كبير بعدما كانت توازيهما حجماً). هذا، يضيف أمين، قد دفع السلالات الصينية المتأخّرة إلى «تجاهل» منطقتنا وتحويل أنظارهم واهتمامهم عن جهة الغرب، وترْك الشرق الأوسط لتحكمه القوى التركية القادمة إلى المنطقة.
الهدف من هذا المقال هو تقديم ملاحظات ابتدائيّة، تقديميّة، عن تاريخ الصين لمَن هو – مثلي – لم يدرسها ولا يعرف بالتجربة المباشرة عنها شيئاً. الموضوع الأساس هنا، هو التاريخ الاقتصادي ونشوء الدولة في الصين، وسنستخدم في السّرد التاريخي مجموعة من المراجع، بعضها شموليّ مثل كتاب ريتشارد فون غلان «التاريخ الاقتصادي للصين»، وبعضها متخصّص أكثر ككتاب جين شو عن التاريخ النقدي للصين («إمبراطورية الفضّة، منشورات «يال»، 2017)، إضافة إلى «تاريخ كامبردج الاقتصادي للصين» الذي نُشر منه الجزء الأول العام الماضي فقط، وهو يصل بنا حتى سنة 1800 (إنْ كنتَ تريد أن تعطي مثالاً عن أنّ الحياة قصيرة مقارنة بما يمكن قراءته، فما لك إلا أن تَستحضر «تاريخ كامبردج»: مجموعة سلاسل عن تاريخ إيران أو الصين أو الإسلام أو أيّ موضوع آخر، تكون الواحدة منها في عدّة كتب قد تصل إلى أكثر من عشرة، وتُنشر تباعاً على مدى سنواتٍ طويلة، وقد كانوا – خاصّة في الماضي – يستقدمون أفضل الباحثين والمستشرقين ليكتب كلٌّ فصلاً في مجاله).
المزارع والغابة
لا بدّ أن نبدأ من أنّ المقولة الشائعة عن أنّ الصين هي «مجتمع زراعي قديم» ليست صحيحة بالكامل. حتّى فترة قريبة كان هذا هو الاعتقاد الراسخ في الأوساط البحثيّة، بل إنّ بعض المستشرقين الأوائل (تحديداً البارون فون ريشتهوفن) خرجوا بمقولات اعتُمدت بلا نقديّة، من نمط أنّ التربة الصفراء في شمال الصين هي بطبيعتها مثالية للزراعة (وبالتالي للدولة)، وأنها تربة تخصّب نفسها بنفسها، وأنّها لا تصلح لإنبات الأشجار والغابات، إلخ. أي أنّ الزراعة كانت بمثابة «قدرٍ طبيعي» للبيئة الصينيّة. في «تاريخ كامبردج»، يشرح الباحث موتوكو هارا كيف تمّ تصحيح هذه الصور النمطية حتّى خرجنا، في العقود الأخيرة، بسرديّة مختلفة تماماً عن نشوء الدولة والزراعة في الصين.
بفضل الأركيولوجيا والحفريات والتقنيات الجديدة، نحن نعرف – مثلاً – أنّ منطقة شمال الصين (مولد الدولة ومهْدها) وحوض النهر الأصفر، كانت لا تزال مغطّاة بالغابات الكثيفة حتى نهاية حكم سلالة الـ«شانغ» القديمة (أي حوالى الألف الأول قبل الميلاد، قبل أن تتوحّد الصين بقرون طويلة). نمط الحياة في الصين حينها، كان أقرب إلى مجتمع الجمع والالتقاط، منه إلى المجتمع الزراعي: الزراعة لا تمارَس إلّا على نطاق ضيّقٍ جدّاً، على ضفاف الأنهار حيث هي «سهلة» ولا تحتاج إلى جهد. والناس يجنون أكثر قوْتهم من الغابة ويذهبون للصيد ضمن طقسٍ محدّد في فصل الشتاء، ويتمّ توزيع الطرائد والمحاصيل بشكلٍ طقسي تراتبي على السادة والأفراد. نحن ما زلنا في عصر البرونز وثورة الحديد (التي ابتدأت قبل قرونٍ في المتوسط) لم تصل بعد الى الصين. بل إنّه يمكن اعتبار سقوط دولة الـ«شانغ» (النظام القديم) وصعود دولة الـ«جو» تجسيداً للانتقال التدريجي من مجتمع صيدٍ والتقاط، إلى مجتمعٍ حضريّ يمارس الزراعة، فمنهج دولة الـ«جو» كان في التشجيع على الاستقرار واستثمار السهول النهرية في الزراعة الدائمة.
قبل توحيد الصين تحت سلالة إمبراطورية تملك، في عُرفها، «تكليفاً سماوياً»، ستعرف الصين ثورة الحديد، بالتوازي مع صعود الدولة العسكرية
فَلْنأخذ هنا خطوةً إلى الخلف ونحاول أن «نرسم» خريطةً بدائية للصين التاريخية، بحسب مقاصدنا. في وسعنا (بتبسيط مخلّ) أن نتخيّل الصين باعتبارها ثلاثة أنظمة نهرية كبيرة، تسير كلّها من الغرب إلى الشرق (وضمن كلّ منها روافد وأنهر متعدّدة). هي، بالتوالي: نظام النهر الأصفر في الشمال، اليانغتسي في الوسط ويصبّ قرب شانغهاي، ومنطقة الجنوب وحوض نهر اللؤلؤ. كما مع الفرات ودجلة، فإنّ مجرى كلّ نهر من هذه، يُقسَّم إلى عددٍ من الأقاليم والسهول التي تصلح للزراعة الكثيفة، أي أنه لديك «اليانغتسي الأعلى» و«اليانغتسي الأوسط» والأدنى – مع فارق أنّ كل «وحدةٍ» من هذه الوحدات قد تحوي أرضاً زراعية توازي ما في العراق ووادي النيل معاً.
«الحركة» العامّة لتاريخ الدولة في الصين، كانت في انتشارها من الشمال وحوض النهر الأصفر (وهي المنطقة الأكثر جفافاً في البلد) في اتجاه الجنوب؛ فحصل استيطان حوض اليانغتسي أوّلاً، وقد كان منطقة أدغال ومستنقعات وَجد الملّاك الصينيّون أنها تصلح لملكيات الأرزّ الكبيرة ذات الإنتاج الكثيف المروي (وهو ما لم يكن متاحاً في الشمال، حيث زراعة القمح والشعير هي الغالبة)، وقد تمّ «تحضير» الجنوب الصيني وتثبيت الدولة فيه آخِراً؛ وقد ظلّت غاباته، حتى فترة قريبة تاريخياً، تمدّ البلد بخيراتها من الأخشاب والفراء وغيرها من الموارد. سقوط دولة الـ«شانغ»، بداية التاريخ الصيني، افتَتح قروناً طويلة من الصراع والتوسّع، وبناء دولٍ متنافسة واستيعاب تقنيات جديدة وتجريب نظرياتٍ في الحكم والاقتصاد («مرحلة الربيع والخريف» و«مرحلة الدول المتحاربة»)، قبل أن نصل إلى التوحيد الأوّل لـ«صينٍ» تشبه تلك التي نعرفها اليوم، وبمجتمعٍ أغلبه زراعي تحكمه دولة مركزية، وذلك في أواخر القرن الثالث قبل الميلاد.
حين أخبرتُ حسن الخلف عن بدايات الدولة في الصين، كان تعليقه أنّ «دولتهم فتيّة»، بمعنى أنّ المجتمع الزراعي الصيني (ومعه الدولة وتنظيمها) قد «تأخّر» على الأقلّ بألفي عام مقارنة بنشأة الزراعة والدولة في مصر والرافدَين. السؤال هنا يعود بنا إلى النقاش الطويل حول طبيعة المجتمع الزراعي و«استعدادية» الناس للانضمام طوعاً إليه. والمشكلة، دائماً، هي أنّ السجلّ التاريخي الرسمي والثقافة الموروثة هي ثقافة حضرية تمجّد المجتمع الزراعي وتعتبره تطوّراً طبيعياً عن حياة الإنسان «البدائي». ولكن علم الآثار والإثباتات المادية يشيران أحياناً إلى ما هو عكس ذلك. يشرح فون غلان وغيره، أنّ دولة «جو» وأسلافها كانت تبذل جهوداً كبيرة لحثّ الناس على اعتماد حياة الزراعة، وأن الكثيرين من أجدادنا لم يمارسوها – في بداية الأمر – إلّا كخيارٍ أخيرٍ أو بالإرغام. بمعنى آخر، لو خُيّر الناس، فإن الكثير منهم كان سيفضّل حياةً «بربريّة»، يَجمع فيها الثمار ويصطاد في الغابة، على حياة المزارع في العالم القديم، وهي حياة من العمل المضني، والضرائب، والخوف الدائم من الجوع (هذه، تقريباً، هي خلاصة جيمس سكوت). من وجهة نظر الدولة، فإن مجتمع المزارعين المنتجين هو المجتمع «المثالي»، يسمح بجمع الخراج وتجنيد الجيوش، وإسكان أكبر عددٍ ممكنٍ من الناس في بقعةٍ خصبة. من هنا، فإنّ الأدبيات التي تمجّد المزارع وعمل الأرض تتخلّلها تاريخياً «بروباغاندا» حكومية، من مصلحتها تحويل الناس إلى مزارعين ولفْظ البداوة والحياة غير الحضرية. نجد، في الأدبيات الكلاسيكية الصينية، مثلاً، ذمّاً في مهنة التجارة، ولكنك تكتشف أنّ الأمر لا يعود إلى نزوعٍ اشتراكي أو زهديّ، بل هو جزءٌ من فلسفة كاملة تُعلي من شأن الزراعة وتعتبرها العمل الوحيد «الشرعي»، وتذمّ كلّ نمطٍ آخر منافس للحياة والإنتاج (سواء كان الرعي أو الصيد أو التجارة والإبحار).
كانت الدول الزراعية الأولى، في الصين كما في العراق، ترى الناس كـ«خزّان زراعيّ» محتمَل، وتسُوقهم أحياناً بالقوّة ليتحوّلوا إلى مزارعين منتِجين؛ تقول تقديرات المؤرخين إنّ الدولة الآشورية في العراق القديم، قد هجّرت وأعادت توطين أكثر من 4 ملايين إنسان خلال ثلاثة قرون، أكثرهم تمّ نقلهم إلى داخل الإمبراطورية ليصبحوا مزارعين، وهو ما يوازي تهجير 44 مليون إنسان بمقاييس اليوم. من جهة أخرى، حتى لا ننتج «نوستالجيا» لمجتمع ما قبل الدولة، يجب أن نتذكّر بأنّ الانتقال إلى نمط الاستقرار الزراعي كان يجري غالباً لأنّ المجتمع «البدائي» الذي لا يحتاج إلى دولة وضرائب لم يَعُد ممكناً أو متاحاً. تحصل تغييرات مناخية أو يزداد عدد السكّان ولا تعود موارد الغابة تكفي لإعالة الجميع، وهذا على الأرجح هو ما حصل في الصين القديمة وأَطلق عهد الدولة الزراعية فيها. المفارقة، بالطبع، هي أنّ الصين التي طَردت من أراضيها نمط الرعي والبداوة، قد حُكمت غالباً من سلالات بدويّة. كونها سهلاً زراعياً ثرياً، كانت الصين، كمصر والعراق، عرضةً دائمة لغزوات الشعوب المحيطة، ولن تجد بين السلالات الإمبراطورية الصينية التي تعاقبت أكثر من اثنتين أو ثلاث هي «إثنياً» صينية قحّة، فالباقي أصله تركي أو مغولي أو منشوري أو خليط.
الدولة/ «التنّين»
في مرحلة الانتقال الطويلة هذه، قبل توحيد الصين تحت سلالة إمبراطورية تملك، في عُرفها، «تكليفاً سماوياً»، ستعرف الصين ثورة الحديد، بالتوازي مع صعود الدولة العسكرية. الحديد، وهو أسهل تصنيعاً وأكثر توافراً من البرونز، سمح بتسليح جيوش ضخمة، من مئات الآلاف بل والملايين من الجنود، بأسلحة حديدية فعّالة. اندحر النمط القديم من القتال (الذي يقوم على فرق النخبة وعربات الحرب) مقابل حربٍ تقوم على العدد وتنظيم حشودٍ ضخمةٍ من الفلّاحين في تشكيلاتٍ، يتمّ تحريكها من قِبَل الجنرالات مثل قطع الشطرنج. وأصبح تحدّي الدولة هو في تأمين الضرورات الاقتصادية لمثل هذا الحشد، والتفوّق في ذلك على جيرانها ومنافسيها. الأدوات الحديدية أدخلت أيضاً ثورةً زراعية ونهضةً في الإنتاج والبناء. باستخدام الحديد، يمكنك قطع الغابات بشكل أسرع، فيما إنتاج الحديد يحتاج بدوره إلى كميات كبيرة من الطاقة والأخشاب. تنبّهت سلالة الـ«هان» الصينية، منذ ألفَي عام، إلى أن هذا النمط سوف يوصل بسرعة إلى صينٍ لا تملك أيّ غطاء شجريّ، فاستدخلت شروطاً على الفلّاحين، من بينها أن يزرع كلّ بيت عدداً معيّناً من الأشجار في أرضه لغايات مختلفة (ثمار، حرير، إلخ)، وقد جرت هذه سنّةً لقرونٍ طويلة. على الهامش: في السنوات الماضية، عاد الغطاء الشجري في الصين ليرتفع إلى ما يزيد على الـ20% من المساحة العامة، وذلك بعد جهود هائلة استمرّت منذ الخمسينيات لإعادة الغابات إلى الصين.
من مرحلة الانتقال والتنافس هذه، سيخرج نموذج الدولة الذي يسميه فون غلاهن: «الدولة الفيزيوقراطية-العسكرية»، أي تلك التي تَعتمد على خراج الأرض الزراعية كمصدر أساسي، وتستخدم هذا الريع لبناء آلتها العسكرية. الدولة هنا، إذاً، هي أساساً عبارة عن جيش وجهاز ضريبي؛ والعلاقة بينها وبين المواطن/ المزارع واضحة ومستقرّة: الفلّاح يدفع ضريبة معروفة، هي حصّة من الإنتاج (كانت تُدفع نقداً في بعض الأزمنة ولكنها في الغالب عينية، حبوب وغلال ولفائف حرير)، وعليه أنْ يؤدّي فترة محدّدة من الخدمة العسكرية، وأن يعمل عدداً من الأيام في السنة (25 عادةً) لصالح الدولة. منذ ذلك التاريخ، والصين في تجاذب دائم بين دول تحاول تعديل هذا النموذج، أو تطويره، أو الانقلاب عليه. يكتب الباحث جين شو أنّ الصين قد حكمتها على الدوام ثنائية: من جهة لديك مفهوم الدولة الخراجية «البسيطة»، التي يؤيّدها كبار الملّاك، وعلى الطرف الآخر طموحٌ يتجدّد بأن تحصّل الدولة ريعاً من خارج قطاع الزراعة، وأن تتدخّل في تنظيم الاقتصاد، وتحتكر بعض المواد كالحديد والملح، وتصنع جهازاً مركزياً بحقّ. إلّا أنّه، بسبب ترامي أطراف الصين، واختلاف أنماط الملكية بين الشمال والوسط والجنوب، وتعقيد النظام المالي وعوامل أخرى كثيرة لم تكن الدولة المركزية – على النمط الأوروبي – ممكنة التحقيق حتى أواسط القرن العشرين.
ما فعله ماو لم يكن «إعادة صياغة» أو «تحديثاً»، بل تجربة جديدة للدولة المركزية لم تَعرف الصين مثيلاً لها في تاريخها
الفكرة هي أنّ الكثير من التحليلات الرائجة تربط بين الدولة الإمبراطورية وبين الصين الحالية، باعتبار أنّ النظام القائم ليس سوى استمرار للتقليد الإمبراطوري في الحُكم. في هذه السرديّة، يتمّ تقديم الصين الإمبراطورية على أنها «الدولة/ التنّين»: استمرّت لألفَي عام، نظّمت أكبر مجتمع في العالم وجمعت منه الضرائب، بنت السور العظيم والقنال الكبيرة (وهي قناة داخلية هائلة، حُفرت على مدى قرون، تصل جنوب الصين بشمالها فلا يعود الصينيون في حاجةٍ – نظريّاً – إلى البحر). أي أن حالة الضعف في القرن التاسع عشر كانت استثناء، و«الحزب الشيوعي» هو استعادة حديثة لهذه «الدولة/ التنين». في الحقيقة، فإن سطوة الدولة في الصين ومركزيتها لم تكونا يوماً على هذا النّحو. التشبيه الأقرب للإدارة الإمبراطورية قد يكون ذاك الذي خرج به إيمانويل والرستين، مفسّراً عمرها المديد: لم تكن إدارة ناجحة كفاية بحيث تخلق مركزية وتراكُماً رأسمالياً، ولكنها أيضاً لم تكن فاشلة وطفيلية إلى درجة تجعلها تنهار وتتفكّك ليستبدلها نظامٌ آخر.
تُظهر الدراسات الأركيولوجية كيف كان الصينيون، ما إنْ اعتمدوا تقنية جديدة، حتى بنوا حولها نظام إنتاج جماعي مقسّم المهام، على طريقة خطوط التصنيع الحديثة. الأجران والمعدّات التي يتمّ اكتشافها وتعود إلى فترات سحيقة (قبل توحيد الصين)، تُظهر مشاغل ضخمة لإنتاج البورسلين والسيراميك، يعمل فيها مئات العمّال والحرفيين على مدار الساعة، وتستخدم أفراناً بأحجام صناعية. وحين يبتدع الحرفيون وسائل تسهّل استنتساخ الأشكال الزخرفية، عبر قوالب منقوشة من الداخل، تبدأ المشاغل بإنتاج الآلاف من تحف البورسلين الصينية التي ستصدّر وتباع في العالم. بالمثل، حوّل نظام الإنتاج الزراعي الريف الصيني بغالبيته إلى ماكينة كبيرة لإنتاج الحرير وغيره من المواد الأوّلية، عدا الحبوب التي تُطعم الجيش والمدن. بمعنى آخر، لم تكن الصين في حالة تخلّف تكنولوجي، ولديها أكبر اقتصاد وسوق في العالم، ومع ذلك، لم تخرج منها «ثورة صناعية» تثوّر الإنتاج كما فعلت الرأسمالية الأوروبية.
يعطي الباحثون إجابات مختلفة على هذا السؤال، بعضها ينطلق من الحدود التي وضعتها الإدارة الإمبراطورية على النشاط الاقتصادي، والبعض الآخر على طبيعة النخب الحاكمة وتوزيع السلطة في الأقاليم. إلّا أنّ لدى جين شو تفسيراً «نقدياً/ مالياً» مثيراً. الصين لم تكن تنقصها التقانة أو الإدارة، يكتب شو، بل كان ينقصها نظام نقدي موحّد ومتطوّر. مع أنّ الصين أصدرت عملات ورقية (اسميّة) قبل أوروبا بقرون، إلا أنّ النقد الصيني المتداوَل ظلّ معتمَداً على المعدن البسيط، وفي البلد أكثر من «عملة» يتم التعامل بموجبها في وقت واحد، بعضها برونزي يعود إلى السلالات الأولى (يتمّ صفّها في رزمٍ عبر خيوط)، وبعضها قروش نحاسية لاحقة، ومن ثمّ أصبحت الفضة هي الغالبة في البلد بعد القرن السادس عشر. هذا النمط من الاقتصاد، يحاجج شو، كان يصلح للتعامل اليومي والصفقات التجارية المحدودة، ولكنه لا يسمح بتطوير أدوات مالية متقدّمة وحسابات دفترية منفصلة عن العملة المعدنية. بمعنى آخر، بتعبير شو، لم يكن الاقتصاد الصيني قابلاً للصيرفة (non-bankable)؛ ومن غير المصارف والعملات الاسمية (بحيث يتحوّل المعدن إلى مجرد احتياط ويصبح المال أرقاماً في دفاتر)، لا يمكنك تحويل الثروة وادّخار الأفراد إلى رأسمال وتوجيهه في استثمارات كبيرة. ظلّت بيوت الأموال في الصين محدودة في الحجم، يقتصر عملها على التسليف البسيط والتعاملات الشخصية. بل إنّ الصين ظلّت، حتى القرن التاسع عشر، لا تملك مؤسّسة تشبه مصرفاً مركزياً، أي أنّ الدولة لا تقدر على التحكّم بالعملة والنقد والاستثمار (تخيّل أن تكون عملتك الوطنية هي الفضّة، التي لا تملك احتياطاً منها ولا تتحكّم بإنتاجها ولا بأسعارها).
خاتمة: ماو دائماً
الخلاصة هنا، هي أنّ الدولة الصينيّة الحالية ليست مجرّد استمراريّة لنظام قديم. في كتاب جديد اسمه «ماو والأسواق» (منشورات «يال»، 2022)، يرصد المؤلّفان كيف صاغت التعاليم الماويّة نظام السوق في الصين «الرأسمالية» النامية اليوم. ما فعله ماو لم يكن «إعادة صياغة» أو «تحديثاً»، بل تجربة جديدة للدولة المركزية لم تَعرف الصين مثيلاً لها في تاريخها. حين يحكم الناس على التجربة الصينية (وهي هي «اشتراكية» أو «رأسمالية»)، فهم غالباً ينطلقون من مفهوم تبسيطي عن الاشتراكية ورأس المال. هم يعتبرون أنّ الخيار ثنائي، محصور بين نموذجَين مثاليَّين: إما شيوعيّة كاملة، لا ملكية فردية فيها، أو نحن، طالما هناك سوق وأرباح، في «الرأسمالية»، والصين وأميركا هما الشيء نفسه. في الحقيقة، فإنّ المعادلة هي أعقد كثيراً من ذلك. سنناقش الموضوع في المستقبل، ولكن خلاصته هي أنّ المسألة ليست في خيارٍ بين أن تُدير الدولة الاقتصاد أو أن يُدار عبر أدوات سوقيّة. السؤال الحقيقي هو: من يتحكّم بهذه الأدوات وبرأس المال ويوجّهه؟ الموضوع ليس بسطحية: هل هناك أثرياء في البلد وبليونيرات أم لا؟ بل هو: هل الأثرياء هم من أسّسوا المصرف المركزي ويديرون النظام المالي، أم أنّ الدولة والمصرف المركزي يخلقان الأثرياء؟
في الصين القديمة، بينما كانت الدولة تصعد وتقوى، وتنتزع الإنسان من مجاله الطبيعي وتحوّله إلى مواطن/ مزارع/ جندي، خرجت من هذه العملية توليفة كونفوشيوسية تحاول أن تصالح بين الإنسان والقوّة. صيغت قاعدة مفادها أنّ الحياة الزراعية هي نمط الحياة المثالي في المجتمع، ولكن ليس أيّ زراعة، بل نموذج الفلاح المستقلّ المزدهر، الذي يملك أرضه ويستثمر فيها. لا البربرية ولا العبودية، بل مساحة أخلاقية في كنف «العالم الجديد». على الرغم من أنّ هذا المثال لم يُطبّق في كامل الصين، ولا في كلّ أقاليمها، إلّا أنه ظلّ بمثابة مفهوم فلسفي حاضر بقوّة على طول التاريخ الصيني باعتباره الهدف الذي نسعى إليه. الأثر العميق للتجربة الصينية اليوم، وهي لم تزل في بدايتها، والاختبار الحقيقي لها، قد لا يكون في خلخلة موازين القوى وخريطتها في العالم، بل في أن تبتدع – كما فعل الأسلاف في الصين – مفهوماً جديداً بالكامل للحياة في عصر السوق.
:::::
“الأخبار”
12 كانون الثاني 2023
________
تابعونا على:
- على موقعنا:
- توتير:
- فيس بوك:
https://www.facebook.com/kanaanonline/
- ملاحظة من “كنعان”:
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.
- عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
- يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org