ماذا تغيّر في إسرائيل خلال خمسين سنة؟
هذا هو العنوان الفرعي للفصل الثاني من كتاب «دولة إسرائيل ضد اليهود» للكاتب اليهودي سيلفان سيبل، الصادر في باريس عام 2020. أما العنوان الرئيسي له فهو «التبوّل في حوض السباحة من أعلى المغطِس»! يبدأ الفصل بالتذكير بقصة ذات دلالة وقعت في ربيع 2017. يتعلق الأمر بفيلم وثائقي عن حيّ المنشيّة في يافا. يظهر مشهد يشرح فيه مهندس مدن تابع للبلدية لمجموعة من الطلبة تاريخ المكان. ويصل إلى القول بأن يهوداً مغاربة جاءوا عام 1950 وكانوا يسكنون هذا المكان حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي، عندما طردوا من بيوتهم من أجل إقامة مركز تجاري على أنقاض منازلهم. عندما سأله الأستاذ المرافق للطلبة لماذا لا يذكر بأنه ـ قبل ذلك ـ كان يسكن هذا الحيّ أولئك الذين طُردوا منه بالقوة عام 1948؟ يُجيبُ مهندس المدن: «لماذا يتوجب عليّ التحدّث عن ذلك؟». يردّ عليه الأستاذ: «لأنها وقائع تاريخية». تُرى ماذا كان رد مهندس المدن؟ ردّ وهو يضحك: «(…) أخت التاريخ.. التاريخ يكتبه المنتصرون» … وهذه فكرة منتشرة على نطاق واسع في إسرائيل.
هذه القصة تُلخّص التغيير الذي عرفه المجتمع الإسرائيلي خلال نصف قرن من الإحتلال: نهاية الإنكار. هذا يعني بأن مهندس المدن لا ينكر حقيقة طرد 95 بالمئة من سكان مدينة يافا على يد المنظمات الصهيونية الإرهابية بداية عام 1948؛ لا بل يعترف بالمسؤولية عن ذلك. وُيضيف: «ليذهب التاريخ إلى الجحيم». ويُعتبر هذا الموقف نقيضاً لما كانت تردّده الأطروحات الصهيونية، وهو إنكار طرد الفلسطينيين من أراضيهم. كانت الكتب المدرسّية الإسرائيلية تُدرّس التلاميذ بأن «الفلسطينيين غادروا بمحض إرادتهم». اما اليوم، فإن طردهم كان «عملاً مشروعاً» في أعين كثير من الإسرائيليين، بل ويُضيفون بأن «الخطأ الذي أرتكب هو عدم طردهم بالكامل»!!
هذا الحاجز (الإنكار) هو الذي انهار خلال خمسين سنة من إحتلال الضفة والقطاع؛ بل إن فكرة طرد ما تبقّى من الفلسطينيين أصبحت «مرغوبة» أكثر فأكثر، وتُعتبر «شرعية». أكثر من ذلك، يُعتبر ذلك الطرد في نظر قطاع واسع من الرأي العام الإسرائيلي بأنه هو «الحل»! خلال خمسين عاماً انحرفت عقلية اليهود الإسرائيليين تدريجياً باتجاه أصبحت معه سيطرة الروح الاستعمارية ونزع صفة الإنسانية عن العدو هي الطاغية. كمثال على ذلك، التطور الذي وقع في حزب مزراحي الصهيوني، وتغيّر اسمه إلى حزب مفدال. تاريخياً، كان نواب هذا الحزب يظهرون ﻛ «حمائم» فيما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين. واستمر هذا الموقف حتى حزيران (يونيو) 1982 عندما تحفّظ وزراؤه في الحكومة على غزو لبنان. لكن ورثة هذا الحزب الذين تجمّعوا في حزب أطلق عليه أسم «البيت اليهودي» يضمّ في صفوفه الشريحة الأكثر تطرّفاً قومياً والأكثر تمسّكاً بالمواقف الاستعمارية. وأمتد هذا «التطوّر» ليشمل تشكيلات من خارج التيار الديني والقومي المتعصّب.
لم تأتي عملية التحوّل إلى مواقف أقصى اليمين دفعة واحدة، لكنها كانت سريعة نسبياً؛ إذ جاء المؤرخون الجدد، في سنوات 1980 ـ 1990، وكشفوا الحقائق عن عمليات طرد الفلسطينيين، وأخذ البعض «يُنظّر» بأن تلك العمليات كانت «الثمن» الذي دفعه المدنيون، مثلما يحصل في «الحروب الحديثة»! ثم جاءت اتفاقيات أوسلو واندلاع الانتفاضة الثانية وتفاقم العمليات الانتحارية التي أصبحت «تهدّد وجود إسرائيل».
أجل، «الهروب الطوعي للفلسطينيين عام 1948» كان اختراعاً إسرائيلياً.. لكن مَنْ يُعير الماضي اهتماماً عندما يُهدّد «الإرهاب» الفلسطيني وجود الدولة؟ على سبيل المثال، نشرت صحيفة «هآرتس» بتاريخ 27 آيار (مايو) 2019 مقالاً مأخوذاً من الأرشيف، ويتعلق بتدمير بيوت فلسطينيين بعدما أخليت من سكانها بين 1947ـ 1950. جاء في وثائق الأرشيف: «.. ولكي يتم التأكد من عدم إمكانية عودة العرب إلى قراهم، قامت السلطات بمسح تلك القرى عن بكرة أبيها وزراعة غابات مكانها». لكن مَنْ هم أولئك الذين سيهتمّون بهذه القصص القديمة؟ لا أحد. على النقيض من ذلك: الرأي المسيطر على الإسرائيليين ـ سواءٌ أكانوا من المتديّنين أو العلمانيين ـ هو أن الخطأ الأكبر الذي أرتكب عام 1948 هو عدم طرد جميع الفلسطينيين. هذه الروح السائدة تنطلق من أمنية مفترضة، وهي أن يروا العرب وقد اختفوا تماماً من المشهد.. «وهذا ما سوف يُحرّرهم من أي ذنب»، كما يعتقد المؤلف.
قضية آزاريا
يُورد المؤلف مثالاً آخر عن «اختفاء الشعور بالذنب أو العار عند الإسرائيليين»، نقلاً عن مدير منظمة «بتسيلم» لحقوق الإنسان. إنها حالة الجندي ايلور آزاريا الذي كان ضمن دورية أطلقت النار على شاب فلسطيني اسمه عبد الفتاح الشريف عام 2016 بينما كان يُشهر سكّيناً. جُرح عبد الفتاح وكان ينزف دماً، وهو ممدّد على الأرض. إقترب منه آزاريا وقضى عليه بإطلاق رصاصة في رأسه. طبعاً لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يرتكب فيها جنود الإحتلال مثل هذه الجريمة؛ لكن هذه المرّة، كان هناك فلسطينيٌ صوّر المشهد. كانت الصور مرعبة، وأضطر الجيش للتحقيق مع الجندي. على الفور، سرعان ما نظّمت أوساط أقصى اليمين حملة للدفاع عن «العمل المشروع» ﻠ «بطل» صفّى «إرهابياً»! لم تكن تلك الأوساط وحدها منْ اتخذ هذا الموقف. قام نتنياهو (رئيس الوزراء آنذاك) بزيارة تضامنية لعائلة الجندي، ودافع عنه وزراء واعتبروا محاكمته «غير مبرّرة». وأخيراً حُكم عليه بالسجن 18 شهراً، خُفّضت لاحقاً إلى 8 أشهر. يُلاحظ المؤلف بأن هذه العقوبة (8 أشهر) تساوي العقوبة التي حكمت بها المحكمة على الفتاة عهد التميمي لأنها صفعت ضابط صف إسرائيلياً عندما دخل إلى بيت عائلتها، علماً بأن الجيش كان قبلها بأيام قد قتل إبن عمّها (15 سنة) برصاصة في الرأس. أي أن عقوبة جريمة قتل إنسان تساوي عقوبة صفعة لضابط صف!
يقول يهود شاؤول، أحد أعضاء حركة «كسر الصمت» بأن «آزاريا ليس تفاحة مخمّجة منفردة في سلة من التفاح.. إن السلة كلها مخمّجة»، ويُضيف، وهو الجندي السابق في الجيش، «هناك فلسطينيون يُقتلون كل أسبوع بعيداً عن أعين الكاميرات» بدون أن يُلاحق الجنود أو يُعاقبوا. وحتى عندما تكون الوقائع معزّزة بأدلة لا يمكن الإعتراض عليها، فإن الجيش نادراً ما يحوّل هذه الحالات إلى القضاء. تأكيداً لذلك، يورد المؤلف حادثة أخرى أكثر بشاعة من السابقة. في 12 آذار (مارس) 2019 قبلت المحكمة العسكرية ـ أخيراً ـ أن تُبثّ صور خمسة جنود وهم يضربون بأسلحتهم بطريقة مرعبة فلسطينيين موثّقي الأيدي ومعصوبي العينين: رجلٌ في السابعة والأربعين من عمره، وإبنه القاصر. يُلحقون بهما جروحاً خطيرة تحت نظر وسمع ضابط لا يحرّك ساكناً. كان أولئك الجنود ينتمون إلى وحدة «نتزاه يهودا»، وهي مؤلّفة فقط من شبّان متديّنين من غلاة القوميين المتعصبين. كانوا يشتبهون بأن الفلسطينيين الإثنين يملكان معلومات حول إغتيال إثنين من الجنود، رفاقهم في السلاح، وقع قبل شهر. لم يكن لهذين الرجلين أية علاقة بالقضية. الصور التي نُشرت مرعبة بكل معنى الكلمة. يصفها الصحفي جدعون ليفي على النحو التالي: لا يمكن قياس مدى الغثيان والقرف من هذه الصور. ثم يشعر المرء بالغضب والعار. صوت الضرب على الرأس، ضربة بعد أخرى.. أنين الأب وإبنه والأصوات التي يطلقانها وهما بلا أية وسيلة للدفاع عن نفسيهما… الضحك المجنون للمعتدين، والجندي الذي يأخذ صوراً لكي يعرضها على أصحابه» … حقاً، كان الجنود يتلذّذون بصورة سادية، وهم يُوقعون الآلام على كائنين عاجزين عن دفع الأذى عن نفسيهما.
في كلا الحادثتين، كان هناك وزراء وحاخامات يدافعون عن الجنود. عندما قالت مقدّمة برنامج حواري على إحدى قنوات التلفزة بأن «الإحتلال يُحوّل جنودنا إلى حيوانات»، ردّ نتنياهو على حسابه التويتر بأنه «فخور بجنودنا»، بينما رد وزير التربية على مقدّمة البرنامج «لا، الحيوانات البشرية هم الإرهابيون… إعتذري فوراً»! حُكم على الجنود الخمسة أحكاماً مخزية.
ليس بمحض الصدفة أن يكون جنود وحدة «خلود اليهودية» من الشبّان المتديّنين المتعصبين والمتطرفين؛ إذ أخذ التديّن يحتل وزناً مهماً في الوحدات المنخرطة في قمع الفلسطينيين خلال الخمسين سنة الماضية. تُجسّد المدارس التلمودية ذلك بصورة واضحة. استفحلت هذه الظاهرة إلى حد دفعت معه محامياً عضواً في جمعية حقوق الإنسان إلى شن حملة في تشرين الأول (أكتوبر) 2018 للطلب من المحكمة العليا الحدّ من عمل الأكاديمية العسكرية «بني ديفيد» الموجودة في مستوطنة «إلي»، أي في الأراضي الفلسطينية. تأسست هذه الأكاديمية عام 1988، والغرض منها تكوين نخب المستقبل في الجيش الإسرائيلي. مناهجها معبأة بالتديّن وروح التعصّب والتطرف؛ يؤمن طلبتها بأن المسيح سيأتي من نسل داوود. تتلقى الأكاديمية ملايين الدولارات من وزارة التربية ووزارة الدفاع. وقد اعتلى العديد من خرّيجيها مناصب عالية في الجيش. ومنْ يطّلع على موقع الأكاديمية على الإنترنت فلسوف يقرأ عبارات مثل «الجيش هو الأداة التي تبرزُ بواسطتها قوة الله»، وعبارة أخرى للحاخام جوزيف كالنر «جميع اليهود العلمانيين خونة، ويحقّ للدولة أن تتخذ أي إجراء ضدهم، بما في ذلك طلقة في الرأس». يقول حجاي إلعاد، مدير منظمة «بتسيلم» لحقوق الإنسان: «من الآن فصاعداً، إسرائيل تُبوّل في حوض السباحة من أعلى خشبة القفز أمام الجميع… النتيجة واحدة، لكن الأثر مختلف».. لفترة طويلة كان الإسرائيليون يُخفون قبائحهم.. الآن يرتكبونها على مرأى ومسمع الجميع بضمير مرتاح. من وجهة نظر إلعاد، «يعتقد كثير من الزعماء الإسرائيليين بأنهم قادرون اليوم على الحصول على أشياء أكثر بكثير مما كان متاحاً من قبل مقابل ثمن سياسيّ زهيد جداً». ولسان حالهم يقول: «لماذا لا نُبوّل من أعلى خشبة القفز عندما نستطيع القيام بذلك دون أي عقاب.. من يمنعنا من القيام بكل ما نريد؟».
لاحظ مديرٌ سابق ﻠ «شين بيت»، كارمن غيلون، عام 2016 بأنه يوجد علاقة مباشرة بين «الإحتلال الذي يُفسد» والصعود القوي لصورة «الإسرائيلي البشع» المعاصرة، وهي صورة تمزج بين «عدم إكتسابه للصفات المدنية والإبتذال». أما ديفيد شولمان، الأستاذ في جامعة القدس، فيرى بأن «إحتلال الفلسطينيين انتهى ـ بالتراكم ـ إلى الوصول بإسرائيل إلى عملية من الفساد المعنوي والإنهيار لا مجال للخروج منها». ويُتابع: «صحيحٌ بأن الخوف من العرب وكرههم كان موجوداً قبل 1967؛ لكننا لم نكن نشهد هذه العنصرية الزاحفة التي يمكن استنتاجها يومياً بسهولة من خلال ما يُبثّ عبر قنوات التلفزيون وأثير الإذاعات. لقد اختفى الشعور بالعار». وعليه، أصبحت العنصرية وإظهار الكره للأجانب (الذي يُغذّي العدوانية) مقبولاً على نطاق واسع بين الجمهور الإسرائيلي حتى وصل إلى الممثلين الكوميديين الذين لا يتورعون عن إظهار عنصرية فاقعة ضد الفلسطينيين في مسرحياتهم.
يستشهد المؤلف ببعض الدعايات الإنتخابية غير المباشرة لحملة نتنياهو في نيسان 2019 للقول بأن الفاشية قد استقرّت في ممارسات القادة السياسيين، سواء في الحكومة او الكنيست أو تلك الأوساط المحيطة بالقادة السياسيين. ويضربُ مثالاً على ذلك بالملياردير اليهودي الأمريكي شيلدون أدلسون الذي كان يُغدق على نتنياهو بالملايين، إضافة إلى ما أغدقه من مئات ملايين الدولارات على اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وفي دعم الحملة الإنتخابية لترامب.
في 9 نيسان (أبريل) 2014 طُرح السؤال على أدلسون حول مخاطر تخلّي إسرائيل عن الديمقراطية إذا ما استمرّت في احتلال الأراضي والسكان الفلسطينيين. كان رد أدلسون: «لا أعتقد بأن التوراة تقول شيئاً عن الديمقراطية. والله لم يقل كلمة واحدة حول الحفاظ على إسرائيل كدولة ديمقراطية. تقول لي بأن إسرائيل لن تكون ديمقراطية… وماذا في ذلك؟».
من بين مظاهر الفاشية تلك العبارة التي أطلقتها عضو الكنيست، ميري ريجف التي عُيّنت وزيرة للثقافة في 2015، بوجه أعضاء الكنيست من الفلسطينيين «أخرج هذا برّا». تعتبر هذه الوزيرة «العرب» و «المسلمين» برابرة متخلفين مجرمين معادين للسامية. أما هدفها الثانوي فهم «اليساريون» الإسرائيليون الذين يُقدّمون الدعم ﻠ «الطابور الخامس»، أي نواب الكنيست الفلسطينيين؛ وهي تتمنى أن يأتي يوم تُنزع فيه الجنسيّة عن هؤلاء. إضافة لذلك، لا تتردّد «وزيرة الثقافة» عن التعبير عن احتقارها للمثقفين كلما سنحت لها الفرصة.
أما أفيغدور ليبرمان الذي كان وزيراً لعدة مرات ومدافعاً شرساً عن العلمانية، فهو يريد إعدام المواطنين العرب غير الموالين للدولة. وكان قد هدّد عام 1998 بقصف السد العالي في أسوان. وخلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2012 صرّح ﺑ « أننا يجب أن نعيد غزة إلى القرون الوسطى وتدمير بنيتها التحتية، بما في ذلك الشبكات والطرق والمياه».
:::::
المصدر: “الهدف”
_________
ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….