الهليون: قراءة في رواية القاص الفلسطيني طلال أبو شاويش، وليد الهليس

الهليون، رواية

طلال أبو شاويش

مكتبة سمير منصور، غزة

الطبعة الأولى 2022

في روايته الأخيرة “الهليون”، اختار الروائي الفلسطيني طلال أبو شاويش أَن يقدم لنا صورة عن مكان مروع بالصراع في لحظة بدأت تتصدع فيها اتفاقية “سلام”، لم ينخدع بها أحد منذ ولادتها، غير بضعة لم تزل مقيمة عليها وفيها.

تبدأ الرواية الموزعة على 29 فصلاً بضابط متقاعد في الأمن الإسرائيلي، يسعى إلى الحصول على منزل يستمتع فيه بحياة وادعة في بيت ساحور الجميلة. إنه “يوشع بن ديفيد” أول شخصية تفتح الرواية بها باب القص على مصراعيه، فهو ابن فعلي للمشروع الصهيوني، تخلت أمه عنه لأنها لم تقتنع بمقايضة باريس المحررة لتوها من الاحتلال النازي الألماني بفكرة غامضة، وتركه أبوه الذي آمن بتلك الفكرة الغامضة وأفنى حياته في سبيلها، ليكرس الابن أيضا حياته لها وقد أخذت ملامحها المعدنية تتضح شيئا فشيئا مرسلة وميضها القاتل في كل الجهات.

اختار الروائي تقنية الأصوات المتعددة، مانحا كل شخصية مساحة من القص بقدر أهمية دورها في الرواية، متدرجا نزولا من منصور إلى نقيضه يوشع بن ديفيد ثم الهليون، سعد، أو ديفيد بن هيلين إلى حياة الفتاة المقاومة، وأخيرا سالم الصياد بن يافا الذي لجأ إلى بحر غزة بعد حرمانه من بحر يافا.

تتمحور الرواية حول سرديتين، ترد أولاهما على لسان “ديفيد بن هيلين” مناضل سابق ضد النازية في باريس أثناء الحرب الثانية، ومثقف صهيوني مخلص في إيمانه بالفكرة الصهيونية التي ضحى بسعادته ووحدة أسرته في سبيلها. ساعدته عائلات جزائرية وإمام مسجد باريس في مقاومة النازية، ودرس تاريخ المنطقة العربية وتعلم لغة أهلها لا حبا بها أو بهم، بل من أجل قتلهم بأنجع السبل. إنه الهليون، اسم لتلك العيدان البرية الرهيفة التي برع ديفيد في التقاطها من بيارات يافا وجعلها طعما يصطاد به أصحاب الأرض المطرودين والمروعين بإرهاب جماعته، والمحرومين من التقاط هليون أرضهم بأنفسهم، ذلك النبات النبيل صار اسما لديفيد، العين التي ستسهر على توجيه الرصاص إلى صدور أناس قاسموه طعامهم وقلوبهم على غفلة لم يكن التنبه منها أمرا مقدرا لهم.

إذا كنت قاتلا، فمن الحكمة أن تتخلص من جثة الضحية، وإذا فشلت فلا بد من أن تتخلص من الشهود. وهكذا ينتقل الهليون من يافا، بعد أن نجح مشروعه في اقتلاع أهلها وخنق من جازف منهم بالبقاء فيها، قاصدا لبنان مستكملا ملاحقة الفلسطينيين في المنافي. وقد اختار مخيم شاتيلا محطة ينتقل بعدها إلى غزة، حيث المرام سهل، والمغامرة محفوفة بالأمان. لهذا نراه يهيئ لوصول سالم إلى غزة، قبل أن يتوجه هو إلى شاتيلا. وسالم صياد سمك من يافا، غادر كل أفراد أسرته إلى غزة وتركوه وحيدا يواجه العسف والقسوة والكراهية، كما يخبرنا في فصل وحيد اطلعنا فيه على نماذج من المرارة التي تجرعها الفلسطينيون الذين اختاروا البقاء في أرضهم. ولكن سالم كان من حيث لا يدري سلما تسلقه الهليون ليحصل على الثقة الضرورية لاكتمال شروط الخديعة: كل شيء أعد بدراسة وإحكام ومقدرة.

ويوشع بن ديفيد، ابن الهليون الوحيد الذي تركه طفلا، هو الآن ضابط في جهاز الأمن الإسرائيلي، كان يحقق مع المعتقلين ويستمتع بتعذيبهم ويسرّي عن نفسه بتدمير حياتهم. إنه رجل سادي معتد بنفسه ومؤمن بدولته. وربما كان ميسوراً له أن يستمتع بتقاعده المريح وبالمزايا المادية التي حصل عليها لقاء براعته الفائقة في خدمة المشروع عبر التنكيل بالرجال والنساء في غزة المحتلة المقاومة، لولا اصطدامه بحقيقة حياة وموت والده “الهليون” ديفيد بن هيلين الذي عاش حياة شديدة التقشف ومات موتا يلفه الغموض في بيت بائس في مخيم للاجئين في غزة ذاتها، حيث خدم هو أيضا وأمضى هناك معظم حياته الوظيفية، في فترة كان والده الهليون ما يزال فيها على قيد الحياة.

لقد أعاده ذلك الكشف بصورة ملحة، إلى التفكير مجددا بوالده الذي اعتقد طيلة الوقت بأنه قد شيعه إلى القبر منذ زمن طويل، قبل ان يفاجأ بأن عليه ان يحمله من قبر الى قبر، وهو يريد الآن أن ينقب ليفهم حقيقة هذا اللغز.

يحضر الهليون في الرواية حضورا مؤرقا لابنه الوحيد الذي تخلى عنه لتتكفل الدولة بتربيته ليصبح رجلا قويا، جاهزا لسحق أعدائه، لكنه ضحل وجدانيا ومسطح إنسانيا تملؤه الرغبة في محو الآخر وتدميره، ويتبدى ذلك بوضوح وفي لمحة بارعة من الكاتب، عندما قرر يوشع، في نهاية الرواية، حرمان منصور، نقيضه الفني والأخلاقي، فرصة العلاج الوحيدة من مرضه العضال.

شخصية مركزية في الرواية، واللسان الفصيح للسردية الأخرى هو منصور، شاب تخرج في المدرسة الثانوية قبل وقت قصير من وقوع النكسة، وبدأ بتنظيم المقاومة دون انتظار، مع رفاقه: البحيصي من دير البلح ومهدي نصار منفذ أولى عمليات المقاومة وأول الشهداء من مخيم البريج ويوسف عمران من المغازي وسميح الذي استشهد بعد زواجه من المناضلة حياة التي أنجبت منه طفلها الوحيد “منصور” وكان زوجها سميح قد اختار له هذا الاسم تيمنا بصديقه ورفيق نضاله.

إن بطل الرواية الحقيقي هو المكان، هو الجغرافية بوصفها سيدة التاريخ وأنثاه السعيدة، أو سبيته وضحية عنفه الشقية. ويقوم طلال أبو شاويش في الرواية بملاحقة المكان، في صورة كائناته القصصية وعذاباتهم وأوهامهم ويحصي خساراتهم ويتعقب مصائرهم بأسلوب فيه الكثير من الوثائقية والتقشف تفاديا للوقوع في عاطفية مخلة أو في شعرية فائضة عن الحاجة. لقد جاءت الرواية تأريخاً حيوياً نابضاً للزمان والمكان، رواية عن الثمن الباهظ الذي على الناس ان يسددوه لمجرد أنهم يريدون أن يتنفسوا هواءهم بكرامة، لمجرد أنهم موجودون وجودا عاريا تحت سماء مسروقة وفوق أرض منتهكة.

لقد نجح الكاتب في رسم شخصيات لا تنسى وفي مقدمتها شخصية حياة الفتاة الشابة التي حملت قدرها ببسالة لا نظير لها، مقاومة فولاذية، وعاشقة تعسة الحظ، وعروساً سرعان ما ترملت، وأماً صغيرةً سجنت مع رضيعها لدى وحوش بشرية وضيعة. سوف يخرج القارئ وفي قلبه منديل مبلل بالدمع وهو يرى حياتها المجهضة التي عاشتها بنبل وثبات ومعها ولدها منصور الذي لم ير أباه وكان أصغر سجين في تاريخ العبودية، ولكنه حظي بعطف نادر من بعض سجانيه وكثير من عسل الأمومة في أحضان نساء سجينات كن يتنافسن على ملاعبته والعناية به.

يتوقع القارئ أن تكون الهليون رواية عن حياة جاسوس نموذجي، يرسم الكاتب فيها ملامحه المتميزة، مستعرضا دهاءه وعبقريته في الخداع وذكاءه في التخلص من المآزق وسحره الخاص…الخ. ومع أن نموذج الهليون هو نموذج متكرر في مضمار التجسس، إلا أن الفارق كبير بين حالة وحالة داخل النموذج ذاته، فبين جاسوس من طراز كوهين مثلا، وآخر من طراز ديفيد بن هيلين اختلاف كبير في الشخصية والدور والسلوك المتوقع. وقد تصلح قصة كوهين لرواية الإثارة في حين أن عنصر التشويق ليس له دور كبير في قصة الهليون. إن رواية الهليون ليست رواية عن عالم الجاسوسية، وليس الهليون هنا جاسوسا من طراز جيمس بوند، وأنا لا أعني بهذا أنه دون بوند مهارة وذكاءً، بل إن رواية الهليون لم تكن في الجوهر رواية تدور حول جاسوس قام بدوره حتى النهاية في إطار ضيق من الرتابة والعادية. وبانكسار ذلك الإطار جاءت النهاية معاكسة لدورة حياته كلها. وقد تحطم ذلك الإطار تحت وطأة حبه العاصف لفتاته الغجرية ليال التي تزوجها لاحقا. ومع ذلك فهو ذاته من اختار تلك النهاية، وهو من صنعها، مستخدما حبر صانع الرواية المبدع دون ريب، حيث نراه في لحظة حضور بعده الإنساني المغيب، وهو يحطم جهاز الوقت، تلك الساعة الفضية التي ترمز من جهة إلى التفوق التكنولوجي للغزاة، وإلى الزمن الصهيوني المضبوط على رسالة موت الآخر، والمتحجر على أوهام التاريخ والآلهة. التغير هنا يأتي من الهامش، من الغجر الممنوعين من الدخول في قلب نسيج الجماعة التي أقاموا بين ظهرانيها قرونا طويلة. هناك دائما أسلاك شائكة غير مرئية، تضربها الجماعة حول ذاتها فلا يجوزها غريب مهما أقام على مشارف الجماعة.  

ويبدأ التغيير العميق هنا من تلك الفتاة الغجرية المنبوذة المشتهاة والمتعالية، ليال التي أيقظت في أعماق الهليون إنسانه السجين والمكمم. وكأن الكاتب أراد أن يقول لنا إن الإنسان الحقيقي لا يمكن أن يحيا على محو الآخر. فلا يمكن أن تكون مقاتلا في سبيل الحرية وتاجر عبيد في وقت واحد. ومن هنا كان موت الهليون ضرورة لا مفر منها.

ولا شك أن شخصية منصور هي من الشخصيات التي استثمر فيها الكاتب وقدم لنا من خلالها الكثير من الإضاءات والوقائع والتاريخ الشخصي /العام إن جاز التعبير. فهو يتمتع بشخصية نبيلة فيها فروسية وشهامة واستعداد هائل للتضحية ونكران الذات والقدرة على القيادة وتقديم القدوة. لكن في تلك الشخصية بعدا آخر علاوة على كل هذا، ففيما وراء رواية الكاتب لما حل بالبلد وأهلها من نوازل، ولأشكال المقاومة ومنازلة البؤس، نتلمس رسالة ما، هي من نوع تلك الرسائل السرية التي يزرع بها الكاتب عادة حقله الروائي، أعني هنا ضرورة العثور على ذلك الخيط الرابط من بداية الرواية، بين منصور جامع قطع السلاح التي سقطت من أيدي المهزومين المرتعشة ليحفظها بعناية من أجل اللحظة القادمة، (ولا ننسى دور حياة التي قاسمته العمل والإيمان والمخاطرة) ومنصور جامع أجزاء الذاكرة/البحث أو الدراسة، التي حرص عليها وهربها من السجن وكرس لها جهده وما ترك له المرض من وقت وطاقة، وانكب على إتمامها وحاور رفيقه شيبوب في تفاصيلها الهامة. ثمة خيط رابط أراده الكاتب هنا، خيط، شريان حياة، حبل سري ضروري بين أمانة السلاح وأمانة الذاكرة، فالذاكرة هي أيضا سلاح، بل إنها السلاح الأهم في الليلة الظلماء، ليلة الخراب الكبير. هنا ومرة أخرى تطل “حياة” الرائعة لتكون أمينة على الوثيقة، أمينة على الذاكرة. ربما تهاوت قيادة وربما فسدت قيادة وانهارت، لكن الأمة دائما هي الباقية، وهي ال “حياة” الأمينة على الذاكرة.           

أخيرا، رواية الهليون هي رواية ضرورية لأنها تتصدى لفترة من أكثر الفترات غنى بالحوادث المصيرية والوقائع والمآسي، وفوق هذا هي رواية جميلة وقاسية، لأن طلال أبو شاويش لم يجامل ولم يغض البصر عن شيء في صورة جمعت في أجزائها ما يعز وما يشين. لقد جعلنا نبصر النقائض كما هي، لكنه بشجاعة وبصيرة وبكثير من التجرد، واجه سردية بسردية في تجليات كليهما على الأرض وفي مصائر البشر.

هذه الرواية هي جملة قوية تشكل إضافة جميلة إلى سردية المقاومة.

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….