السنة الثالثة والعشرون – العدد 6482
في هذا العدد:
■ أقيموا حائط الصد الثقافي واحذروا المنشبكين (حلقة 1-2)، عادل سماره
- توظيف الزلزال لآخر سياسي
■ بيرو: نموذج الهيمنة الإمبريالية في أمريكا الجنوبية، الطاهر المعز
■ الهليون: قراءة في رواية القاص الفلسطيني طلال أبو شاويش، وليد الهليس
✺ ✺ ✺
أقيموا حائط الصد الثقافي واحذروا المنشبكين
(حلقة 1-2)
عادل سماره
- توظيف الزلزال لآخر سياسي
وهكذا، كما تعودنا منهم قفزوا على عنق الموقف واختطفوه! هكذا تفعل الثورة المضادة لأنها كامنة تحت جلد المرحلة. قيئ لم يتم فصدُه.
ولكن: من هم هؤلاء؟
إنهم: الأنظمة، إعلامهم ومثقفوهم الذين أخذوا يضخمون مواقف الأنظمة العربية تجاه الكارثة المؤلمة قطعا وحقاً ولكن الصغيرة في سوريا ، نعم الصغيرة أي الزلزال لأنهم صانعي كارثة سوريا الكبيرة منذ 2011 على الأقل وسيواصلون ذلك. إنهم ينصبون مناحة كذب ونفاق على السوريين وإعماء للناس، بعد أن نصبوا منارة دم وجوع. ووصل بهم التمييز بين ضحية تركي وضحية سوري، حتى بين الضحايا!!!
لك ان تختلف معي في التقييم ولكن:
هل حقاً ستتغير مواقف هؤلاء الحكام من سوريا، وهو تغير يعني انه أيضا تغير تجاه فلسطين بل تجاه الأمة كلها.
هل تشعر بالحذر والقلق والخوف حين يقول مذيع، محلل، مثقف:
“اتصل صاحب الجلالة، الفخامة، السمو، السلطان، صاحب العظمة…فلان بأخيه الرئيس السوري لأول مرة منذ أحد عشر عاماً، معزيا بالضحايا ومقدماً كل إمكانات بلاده لسوريا “.
يا إلهي، بعد أحد عشر عاماً من القطيعة المقصودة والملغمة بالحرب؟ وتبتهجون وتهللون بمجرد هاتف!!!أيُ تبهيت خبيث للحقيقة.
أولاً، هذا إذا إتصل حقاً،
وثانيا، هل كانت مجرد قطيعة وعدم كلام؟ ما هذا التسخيف لعقل الناس! أستغرب أيتها الأبواق كيف لا تتلعثمي.
وثالثاً: الحقيقة أنه مجرد هاتف بعد أحد عشر عاماً من الحرب على سوريا، نعم حرب
رابعاً: جرى استكمالها للإجهاز على سوريا بالحرب الاقتصادية الأمريكية قانون قيصر أمراً/قانون حكامنا تنفيذاً.
خامساً: تماما كما فعلوا بالعراق وأخطر.
سادساً: والفارق أن العدو الأمريكي اليوم، لأن بوتين ليس جورباتشوف، لا يمكنه شن حرب مباشرة بيده ضد سوريا فيستخدم الكيان المعرَّب بالتطبيع لعدوان بين يوم ويوم ضد سوريا.
لا تقل لي هذه مبالغة، فمعظم هذه الأنظمة تعترف بالكيان أكثر من اعترافها بسوريا وتقيم معه علاقات من الاقتصاد للعسكر للمخابرات….الخ. بينما بعد أحد عشر عاما أسوداً تتصل هاتفيا بسوريا! او ترسل بعض الأدوية، وهذا بعض واجبها ومرغمة كي تمتص النقمة وتحول الغضب بعيدا عن التثمير عروبياً.
ليس ما أكتبه هنا جديداً على المواطن العربي، ولكنه مجرد كشف لخطورة ما يتم من تضليل معيب.
يمكنك أن تفهم كذب ونفاق حاكم، لكن لا يمكنك فهم ما يثرثر به مثقف او تسونامي إعلام يهيىء لك أن الوحدة العربية قد تمت في ايام بينما ما يتم مجرد مأتم، والحقيقة أنه إذا سارت الأمور على هذا النحو فهو مأتم على الأحياء ال 400 مليوناً.
مأتم على مصير الأمة مصير العروبة.
فهل يُعقل أن حربا من الأنظمة العربية ضد بعضها، بل من التطبيعيات والممالك ضد الجمهوريات وما لحق ذلك من ملايين الضحايا ومن دمار، كل هذا يمكن شطبه باتصال هاتفي وإرسال بعض الأدوية؟
وهل يُعقل أن لا ننتبه بأن حكام امريكا يصدرون تعليمات يومية لهؤلاء الحكام، ثم يضطجع بايدن او بلينكن ليشاهد فيلم جنسي بعد ذلك!
قد ينتفض شعر رأس احدكم من هذا الكلام كأنه مبالغة، ولكن: ألم يكن بيل كلينتون يلعب بالسيجار في العضو التناسلي لعشيقه، وربما إحدى عشيقاته، بينما كان جيشه يشن حربا أخرى ضد العراق 1998! وهذه العلاقة بدل أن تأخذها زوجته هيلاري رودني كلينتون كموقف ضد ذكورية راس المال، أن تهجره مثلاً!!!! لكنها صبت حقدها على العرب! وحين كتبتُ هذا في حينه كتب متفذلك عربي(أ.أ.خ ) يتهمني بأنني ضد المرأة، تماما كما أُتهم اليوم لطمس حقيقة أن محاكمتي اساسها موقفي ضد التطبيع ودُعاة دولة مع المستوطنين!!!! لا بل كلا، ففي الغرب الرأسمالي وحضارته الفرويدية لا توجد أخلاق ولا موانع هو جاهز ليدير لك مؤخرته ويمضي. وهل إصرار الغرب جميعه على إهلاك الشعب العربي السوري اليوم بعد الحرب وحرب الجوع والزلزال غير كافٍ لفهم هذه الوحوش!
والآن السؤال الأول: أيهما الأكثر “وضوحاً وصدقاً” في معرض الجريمة:
الأول: الذين يكذبون عليك وعلى سوريا من حكام وإعلاميين محللين ومثقفين بالمعكوس…الخ
أم:
الثاني: العدو الأمريكي الأوروبي الذي لم يتوقف عن الدم
الثالث: أم الحكام ومثقفوهم الصامتون مؤقتا أو الذين ينبحون حتى في الكارثة ويصورون تصدعات وسقوط الأبنية على الناس بأنها معزوفات موسيقة فيتمترسون في أنقره ويواصلون ذبح سوريا؟
بصراحة: الفريق الأول يكذب وينافق بينما البقية صادقين بحقدهم ووقاحتهم.
والسؤال الثاني: أين جبهة الثقافة النظيفة؟ اين المثقف المشتبك، ولا أقصد هنا المثقفين المنشبكين مع هذا الطرف أو ذاك حتى من محور ا.ل.م.ق.ا,و.م.ة لأن هؤلاء ليسوا خونة ولكن ليسوا ثوريين إن أكفَّهم مسحوتة من كثرة التصفيق، بينما تتطلب المرحلة مبضع النقد أو الرسم بحامض الكبريتيك كما وصف كاتب ياباني رسومات ناجي العلي.
المثقف المشتبك موجود وإن كان مستتراً، ولذا، هذه دعوة لجبهة ثقافية عروبية تتصدى لكل هذه الزلازل.
قد يرى البعض أن هذه دعوة تصدٍ لطواحين الهواء على طريقة “دون كيخوت”. ولكن لا. بل وحتى لو هكذا، فكما قال الراحل معين بسيسو:
أنت إن سكتَّ مُت
وإن نطقت مُت،
قلها ومُت
ولكن لن نموت.
حاولنا عام 2009 اثناء المذبحة من الكيان ضد غزة وأعلنا جبهة ثقافية، ولكن اهواء القيادات حطمت رغبات المثقفين فانشبك الكثير بدل أن يشتبك، وهكذا تذكرت قول الراحل أحمد حسين، “ولكن هيهات، فكم من فارس تبَقى على ساحة الالتزام”
نعم قِلَّة ولكنهم هنا.
والتقيت د. فاضل الربيعي و د. موفق محادين في عمان عام 2012 وأنا عائد من الجزائر واتفقنا على وضع خطوط عريضة لجبهة ثقافية خارجة عن الحكام والقوى السياسية وليست بالضرورة ضدهم إلاَّ حسب موقف هذا أو ذاك، ولكن لم يحصل شيء، ومن حينها لم أتمكن من السفر.
وقبل ايام اقترح عليَّ رفيق أن نعمل على جبهة ثقافية. لن أذكر اسمه حتى أعرف إن رغب في ذلك.
إن للمثقف المشتبك دوره دائماً، ولكن دوره اليوم أكثر ضرورة وأشد تأثيراً.
صحيح أن إعلام الأعداء بتنوعاتهم هائل، ولكن الواقع يخدمنا ايضاً.
من كان يتخيل أن تنكشف عورة الديمقراطية واللبرالية الغربية بكل هذا الوضوح وبكل تفاهتها قبل الحرب الدفاعية الروسية ضد الناتو؟ من كان يتخيل أن حكام أوروبا وطغمتها المالية هم:
· دُمىً لأمريكا
· وخونة لشعوبهم بسبب مصالحهم.
من كان يتخيلهم كما هم اليوم يتلذذون بضحايا العرب السوريين!
فالمعلومة اليوم صار يسمعها من به صَمَمٌ، يمكن استخدامها في وسائل التواصل الاجتماعي ضد التسافل السياسي الرأسمالي والتابع. إن مواقع الإعلام الشعبي متوفرة في اللقاءات والكتابة والمحاضرات، والمساجد والكنائس والنوادي ومختلف جوانب الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية، فلماذا يحتلها الأوغاد؟
يجب أن نساهم فوراً في تفكيك مفاصل هذا الإعلام الخبيث وفي فصد الجلد لبزل القيح الكامن في مفاصل المجتمع على شكل مثقفي الطابور السادس، واليوم هو الأكثر مؤاتاةٍ لهذا كي نوقف اغتصاب وعي الأمة.
✺ ✺ ✺
بيرو: نموذج الهيمنة الإمبريالية في أمريكا الجنوبية
الطاهر المعز
بعد المظاهرات الضخمة يوم السبت الرابع من شباط/فبراير 2023، وتوسيع نطاق حالة الطوارئ (الأحد 05 شباط/فبراير 2023) في محاولة لمواجهة الإحتجاجات التي أدّى قَمْعُ المُشاركين بها إلى قَتْل العشرات، تعرّضت البلاد إلى انهيارات أرضية (زلزال) أودت بحياة حوالي خمسين مواطن، يوم الثلاثاء 07 شباط/فبراير 2023، وتعيش البلاد وضعًا مُضطربًا، منذ شهرَيْن إثر الإطاحة بالرئيس المُنتَخب، من قِبَل اليمين النيوليبرالي، الموالي للإمبريالية الأمريكية والشركات العابرة للقارات التي تستغل ثروات البلاد…
وُلد النظام الرأسمالي بغزو الأمريكتين وبناء اقتصاد قائم على استغلال الذهب، وخلال فترة “الإستعمار الجديد”، أصبحت نشاطات التّعدين والاستخراج من ركائز إعادة استعمار أمريكا الجنوبية وأفريقيا، حيث تشتري شركات الدّول الصناعية (الشركات متعددة الجنسيات) المواد الخام بسعر منخفض جدًا، ليتم شحنها إلى البلدان الرأسمالية المتقدمة ثم تحويلها إلى منتجات مُصنّعة وإعادة بيعها بأسعار عالية جدًا، في شكل سيارات أو آلات أو تجهيزات ومعدات إلكترونية، وبالتالي تتغذى الرأسمالية بنهب الموارد الطبيعية لشعوب الجنوب، كالليثيوم البوليفي أو التشيلي، الضروري لصناعات الإلكترونية وجميع أنواع البطاريات، وكالنحاس المُسْتَخْرَج من بيرو أو تشيلي، وهو ضروري لازدهار الصناعة الألمانية، أقوى اقتصاد أوروبي…
يتسبب استغلال المناجم واستخراج المعادن في إعادة تشكيل التنظيم الإجتماعي والإقتصادي والسياسي لمنطقة الأنديز بأكملها حيث يعيش السكان الأصليون، أول ضحايا تلوثت الغابات والأراضي والمياه، فضلاً عن مصادرة أراضيهم لصالح شركات التعدين والغاز والنفط والزراعة الأحادية المكثفة، ليتم اقتلاعهم وتهجيرهم من أرض أجدادهم.
تُعتَبَرُ بيرو نموذجا لهذا الشكل من الإستعمار الجديد، حيث تَمَتّعتْ شركات التعدين والنفط والغاز بامتيازات عديدة في مناطق ادّعت الحكومة والشركات إنها “خالية من السكان ومن أي أنشطة إنتاجية”، وهي نفس الأكاذيب التي روّجَتْها المشاريع الاستعمارية في الجزائر أو أمريكا الجنوبية أو فلسطين، إذ ادّعى الصهاينة إن فلسطين أرض بلا شعب، بينما تقع جميع المشاريع الاستخراجية بأمريكا الجنوبية، وفي بيرو، في مناطق تسكنها المجتمعات الريفية والفلاحية والسكان الأصليون، في الأمازون والمناطق الجبلية (جبال الأنديز)، وما ترويج أسطورة فراغ هذه الأراضي من السكان، سوى لتبرير مصادرتها لصالح المستوطنين والوافدين الجدد، من أَصْقاع بعيدة.
أصدرت بيرو، سنة 2011، قانون الاستشارة المسبقة الذي لا يتم تطبيقه، بل يتم تجاهله على نطاق واسع عندما يتعلق الأمر بالنشاطات الإستخراجية، وأشار بعض محامي السّكّان الأصليين أن حكومات بيرو المتعاقبة تنحاز إلى القطاع الخاص على حساب مصالح المواطنين المحليين، وتقمع أي شكل من أشكال المعارضة السياسية والاجتماعية. من جهة أخرى يشغل العديد من موظفي الدولة السابقين أو القادة السياسيين مناصب عليا في الشركات الخاصة، كما يسمح القانون البيروفي لأفراد الشرطة الوطنية بتقديم خدماتهم إلى الشركات الخاصة، باستخدام معدات الشرطة الخاصة بهم، ما يُحَوّل جهاز الشرطة إلى مليشيا مُسلّحة تعمل لفائدة الشركات الاستخراجية، وتساعدها على قتل زعماء السكان الأصليين في جبال الأنديز والأمازون والكويتشوا أو المزارعين الفقراء الذين يعارضون مشاريع شركات التعدين في بيرو وأمريكا الجنوبية.
الثمن المُرتفع لاستقلالية القرار
لماذا فشلت الإمبريالية الأمريكية في الإطاحة بنظام كوبا وبنظام فنزويلا، ونجحت نسبيا، ولفترة قصيرة في بوليفيا، وكذلك في هندوراس (سنة 2009) والأرجنتين والبرازيل، وإكوادور، ومؤخّرًا في بيرو؟
ما أسباب ودوافع استمرار الإحتجاجات في بيرو، وقبلها في بوليفيا، رغم القمع وتدخّل الجيش وفرض حالة الطّوارئ؟
ما الذي يميز وضع أمريكا الجنوبية عن وضع البلدان العربية والإفريقية؟
لا تُجيب هذه الفقرات عن هذه الأسئلة لأنها لا تتناول سوى الوضع في بيرو، لكن تبقى الأسئلة مطروحًة، تتطَلّب بحثًا وإجابة.
فاز المُدَرِّس النقابي بيدرو كاستيلو، في الدّور الثاني للإنتخابات الرئاسية أمام مرشحة اليمين “العريق” “كيكو فوجيموري”، والفائز نقابي، من منطقة ريفية تسكنها الشعوب الأصلية بالبلاد، وهو أول رئيس يمكن أن يُنْسَبَ إلى اليسار (بمفهومه الواسع) يفوز في بيرو التي حكمها ألبرتو فوجيموري ( والد كيكو فوجيموري) بالحديد والنّار، ولم يتردّد في تطبيق أساليب الأنظمة الفاشية، مثل تعقيم النساء والرجال من السّكّان الأصليين ومن الفُقراء، في مناطق غابات الأمازون وجبال الأنديز، عبر قطع القناة المَنَوِيّة (للرجال) أو الرّبط البوقي (للنساء) دون علمهم، خلال العقد الأخير من القرن العشرين، بمعدّل ثمانية آلاف سنويا، بذريعة “تنظيم الأُسْرة” و “تحديد النّسل”، وتمكّنت جمعيات الدّفاع عن حقوق الإنسان من تجميع شهادات حوالي ثلاثمائة ألف شخص تعرّض للتعقيم الذي استهدف الشعوب الأصلية التي لا تستطيع قراء الوثائق التي أُجْبِرُوا على توقيعها، وبعد عشرين سنة من الحملة الحقوقية، اضطر القضاء إلى فتح تحقيق بنهاية سنة 2021، ضد الرئيس السابق “ألبرتو فوجيموري” (وُلِد سنة 1938)، الذي حكم البلاد من سنة 1990 إلى 2000، ووزراء الصّحة السابقين، وتميّزت فترة حُكْمِهِ بالقمع الشديد والإعتداء على الحريات وبمعاداة الفُقراء والكادحين، وإطلاق يد الشركات العابرة للقارات لتنهب ثروات ومَعادن البلاد، فهو رمز الأوليغارشية وطبقة الأثرياء والمُضاربين…
في هذا المناخ السياسي، ترشّح المُدرّس النقابي “بيدرو كاستيلو” الذي لم يكن معروفًا قبل مشاركته النشطة في إضراب المُدرّسين سنة 2017 من أجل تحسين الأُجور وظروف العمل، ولما فاز، كانت أغلبية نواب الكونغرس تُعارض برنامجه، وتزدري أُصولَه الريفية، وعرقلت أغلبية النُّوّاب برنامجه فعجز عن إحداث “التغييرات الجذرية” التي وَعَد بها، منها تغيير الدّستور الذي تم إقراره خلال فترة حكم فوجيموري، ومنها كذلك “معالجة الفقر وعدم المُساواة” وزيادة ميزانيات التعليم والرعاية الصحية، وكان قد وَعَدَ بسيطرة الدّولة على القطاعات الإستراتيجية وعلى الموارد الطّبيعية والمعادن (بيرو ثاني أكبر مُنتج عالمي للنّحاس) الواقعة تحت سيطرة الشركات الخاصة والأجنبية، ووعد باستخدام عائدات الثروات الوطنية لمكافحة الفقر والبطالة والفوارق الطبقية المجحفة، لكن لم تكن للرئيس أغلبية برلمانية تدعمه لكي يتمكّن من الوفاء بوعوده، بل تم عزله بعد نحو 17 شهرًا من تولي منصب الرئاسة، وتم عَزْله لأن معظم مؤيّديه من عمال المدن وفلاحي القُرى من المقاطعات الفقيرة وذات الطابع الريفي، ومن صغار الموظفين والفئات الوسطى والدّنيا من البرجوازية الصغيرة، خلافًا لمنافسته كيكو فوجيموري التي تدعمها البرجوازية وسكان الأحياء الفاخرة بالمُدُن، فلم يُؤَثِّر سقوط والدها ومحاكمته وإدانته بتهم الفساد وتجاوز السّلطة في نفوذ الطّبقة التي تدعمه، بل نشر موقع محطة “صوت أمريكا” تحقيقًا يُؤَكّد أن الحكومات التي تلَتْ سقوط فوجيموري سنة 2000، لم تعالج الفجوة بين المناطق الحضَرِية والريفية ولا الفوارق الطبقية، رغم النّمو الإقتصادي، بل توسّع نطاق الفساد ونهب الثروات، وأكّد تقرير للأمم المتحدة أن 61,5% من السكّان فُقراء أو من الشرائح الدّنيا للفئات المتوسّطة، وأن حوالى 16,6 مليون مواطن، أي أكثر من نصف السكّان، “لا يحصلون بانتظام على طعام كافٍ وآمن”، وإن 40% في المائة من مجموع السّكذان تحت خط الفقر، سنة 2021، رغم تصنيف البلاد من قِبَل البنك العالمي كبلد متوسّط الدّخل، وتحتوي المناطق الجنوبية التي يدعم سكانها الرئيس المنتخب بيدرو كاستيلو، ثروات طبيعية هائلة ( حوالى 53% من الاستثمارات في مجال التعدين، ونحو 18% من الناتج المحلّي الإجمالي)، لكن سكان المنطقة يعانون من أعلى معدّلات الفقر بالبلاد، وأدنى مؤشّرات التنمية البشرية، فلم يستفد المواطنون من نمو الناتج المحلّي الإجمالي، ولم ينخفض معدّل البطالة والإقتصاد الموازي والفقر…
كانت بيرو تعيش حالة عدم استقرار، قبل الإنتخابات، وكان الرئيس بيدرو كاستيلو سادس رئيس، خلال ست سنوات، ولم يكن مدعومًا من قِبَل أغلبية نواب المجلس النيابي، بل عرقل النّواب مشاريع الإصلاح الزراعي والجبائي.
أقر مجلس النواب في بيرو (الكونغرس) تشريعًا يقيد استخدام الاستفتاء، وعَدَّلَ الدستور من خلال قوانين تضعف السلطة التنفيذية، مما يخل بتوازن القوى والسُّلُطات، وقبل الإنتخابات استثمرت قوى اليمين، خلال الحملة الانتخابية، مليون دولار في لافتات مُضيئة تعلن “لا للشيوعية” و “لا نريد أن نكون فنزويلا أخرى”، ومع ذلك فاز بيدرو كاستيلو بالرئاسة، لكن كانت أغلبية النواب تنتمي لخصومه الذين لم يتوقفوا عن حملتهم لتشويه سمعة هذا “المعلم الريفي المنحدر من الشعوب الأصلية “، كما كثّفَت المعارضة اليمينية من محاولات عزل الرئيس المنتخب، خصوصًا وهي تمتلك وسائل الإعلام (كما هو الحال في معظم دول أمريكا الجنوبية) التي تفتقر إلى الموضوعية، بل تلعب دورًا مزعزعًا للاستقرار، وفقًا لتقرير صادر عن بعثة منظمة الدول الأمريكية.
أثارت الدوافع العنصرية والمناهضة للديمقراطية للانقلاب “الدستوري” حركة احتجاج اجتماعية في جميع أنحاء البلاد، وشعر السكان بالغضب لما شاهدو في وسائل الإعلام بثًّا مُباشرًا لاعتقال الرئيس المُنْتَخَب بشكل شرعي، وإهانته من خلال تكبيل يَدَيْهِ ونقله إلى السجن، بعد استخدام المجلس النيابي اليميني كل الحِيَل المُمْكِنَة لعزله.
دفعت مظاهر الإنتقام والتّشَفِّي التي عبّر عنها اليمين العنصري، النقابات وقطاعات كبيرة من السكان إلى التظاهر في معظم مدن البلاد، رغم إعلان حالة الطوارئ، للمطالبة بالإفراج عن الرئيس بيدرو كاستيلُّو وحل الكونغرس وتنظيم انتخابات جديدة وتكوين جمعية تأسيسية، وأغلقت مجتمعات السكان الأصليين طريقًا سريعًا تستخدمه شركة ( Las Bambas ) وهي واحدة من أهم شركات التعدين في أمريكا الجنوبية، وأعلنت إضرابًا لأجل غير مسمى في هذه المنطقة.
قمعت سلطات الإنقلاب بعنف التظاهرات السلمية (أكثر من 60 قتيلاً في أقل من شهرين)، وأدّى القمع إلى زيادة أعمال التخريب ضد رموز الفساد: المصارف وبعض شركات المتاجر والمحاكم، كما أغلق المتظاهرون مطارين دوليين (أريكويبا وكوسكو)، والعديد من الطّرقات البَرِّيّة، ورموا الحجارة على مقرّات القنوات التلفزيونية والمواقع الإعلامية المطبوعة، وتم الاستيلاء على أهم محلات إنتاج الألبان في البلاد…
أعلنت حكومة الإنقلاب، في الرابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2022 (بعد أسبوع واحد من الإنقلاب) حالة الطوارئ لمدة 30 يومًا، تم تمديدها فيما بعد، مما يسمح بتعليق حريات التجمع والعبور وحرمة المنزل، وما يسمح بنشر القوات المسلحة لدعم الشرطة، لكن ذلك لم يفل في عزيمة المتظاهرين الذين يمثلون شرائح واسعة من المواطنين…
في الخارج، وعلى مستوى أمريكا الجنوبية، أصدرت حكومات المكسيك وكولومبيا والأرجنتين وبوليفيا بيانًا مشتركًا في 12 كانون الأول/ديسمبر 2022 نددت فيه بـ “المضايقات المناهضة للديمقراطية” التي كانت مُقدّمة لانقلاب السابع من كانون الأول/ ديسمبر 2022.
لم يستسلم الموطنون في وجه القمع، منذ عَزْل الرئيس بيدرو كاستيلو، ولا يزال آلاف المتظاهرين يحتشدون في الساحات والشوارع وبالقرب من الكونغرس للمطالبة بالإفراج عنه واستقالة الرئيسة المُنَصَّبَة “دينا بولوارتي” التي خانت الرئيس المُنتَخَب (كانت نائبته)، والدعوة إلى انتخابات جديدة، وجاء الفُقراء من مناطق نائية، وخصوصًا من أقاليم السُّكّان الأصليين، رغم حواجز الجيش والشرطة وإغلاق الشوارع المحيطة بالقصر الحكومي ومنع المتظاهرين من التقدّم، واستخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطيّ أيضاً، ما أدّى إلى قَتْل 54 وجرح ثمانمائة، حتى الأسبوع الثاني من كانون الثاني 2023، تمامًا كما كانت تتعامل معهم دكتاتورية فوجيموري، وتهدّد النقابات بوقف العمل بمنجم النحاس الذي تستغله شركة “غلينكور” العابرة للقارات، وأغلق المُحتجُّون الطرقات الرئيسية وبعض المرافق الحيوية، وتحاول السلطة القضائية تهدئة الوضع، من خلال فَتْح تحقيق أوّلي بشأن الرئيسة المؤقتة “دينا بولوارتي” وبعض الوزراء بتهمة ارتكاب “إبادة جماعية”، كما وافق الكونغرس، مبدئيًّا، على تقديم موعد الانتخابات العامّة إلى نيسان/ابريل 2024، بدل 2026…
أعلنت الحكومة الإنقلابية، يوم الأحد 15/01/2023، تمديد فرض حالة الطوارئ، أي تدخّل الجيش وتعليق الحريات – التي كانت سارية منذ تاريخ الإنقلاب، قبل شهر- في العاصمة “ليما” وثلاث مناطق خارجها، لكن المُحتجّين تجاهلوا القرار، واحتج الآلاف في العاصمة يوم الإثنين 16/01/2023، وتواصل قطع الطرقات كما تواصل القمع، خاصة ضد سكّان مقاطعة بونو، جنوب البلاد، حيث الغالبية من السكّان الأصليين (“الكيتشوا” و “الأيماراس” )، جنوب جبال الأنديز، وكذلك ضد النقابيين، حيث اعتقلت الشرطة الزعيمة النقابية الشيوعية “روسيو لياندرو”، بتهمة التحريض على الإحتجاجات وتمويلها، وأصبحت مناطق إقامة السّكّان الأصليين خاضعة للأحكام العُرفية والإشراف المباشر للجيش، وهي المناطق التي لم تهتم بها الحكومات المتعاقبة، ما زاد من الفوارق الطبقية بين الأثرياء والفقراء، وبين السكان الأصليين والسكان المُنْحَدِرِين من أصل استعماري أوروبي، الناطقين بالإسبانية، وحتى بالألمانية، والذين تجمّعت لديهم جميع السلطات، كإرْث من أجدادهم المُستوطنين، ولذلك يعتبر الفُقراء والسّكّان الأصليون أن بيدرو كاستيلو يُمثّلهم، ومنحوه أصواتهم وثقتهم، ودافعوا عنه (وعن أنفسهم) بعد تنحيته بالقوة، ضد نفوذ الشركات العابرة للقارات التي سيطرت على مناجم المعادن وعلى الأراضي الزراعية التي تمتلكها مجموعات السكان الأصليين بشكل جماعي، وصادرتها السلطة لأنها لا تعترف بالملكية الجماعية للأرض…
عندما أراد الرئيس بيدرو كاستيلو تغيير هذا الوضع، وفق “قواعد الديمقراطية” البرجوازية، اعترضت على مخططاته جبهتان، جبهة سياسية داخل مجلس النواب، وجبهة اقتصادية ومالية تدافع عن مكتسبات طبقة الأثرياء التي حصلوا عليها بالنّهب والإستغلال الذي يُجيزه القانون، ثم أتفقت الجبهتان على إزاحته واعتقاله، وتعيين نائبته “دينا بولوارتي” رئيسة مُؤقتة، وهي في واقع الأمر وَاجِهَة، لأن المشرف الفعلي على عمل الحكومة هو رئيس الوزراء “ألبرتو أوتارولا” ووزير الدفاع “خورخي لويس شافيز”، وحلفائهما من الأثرياء الذين حرضوا على إعلان حالة الطّوارئ وقمع المتظاهرين واغتنام الفُرصة لاعتقال النقابيين والمناضلين الشيوعيين، واعتبرت المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان، إن إطلاق النار على المتظاهرين وعلى السكان الأصليين عمليات إعدام خارج نطاق القانون، ولم يتمكّن رصاص الجيش من إخماد أصوات المحتجين، بل أعلنت جمعية السكّان الأصليين في منطقة أمازون، ومنظمات المزارعين الفقراء، والنقابات والعديد من الجمعيات الأهلية، مُقاومة انقلاب الأثرياء ومواجهة السلطات الأمنية والعسكرية…
ماذا يعني استمرار الإحتجاجات، رغم القمع وتدخل الجيش وحالة الطوارئ؟
يُمثل الرئيس المعزول “بيدرو كاستيلو” رمزًا للفقراء وأهل الريف والسّكّان الأصليين، وَوَاجَهَ العنصرية والتمييز، خلال سبعة عشر شهرًا من الحُكْم، قبل الإطاحة به وسجنه… سَخِر منه الأثرياء ووسائل إعلامهم، لارتدائه قبعة تقليدية، وسخروا من لهجته وانتقدوه لإدماجه احتفالات السكان الأصليين في الاحتفالات الرسمية، وفق وكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية، يوم 25/01/2023، ووفق منظمة الدول الأمريكية التي وثّق مُراقبوها بعض مظاهر الميز العنصري ضد السكان الأصليين، وضد الرئيس “من قِبَل مؤسسات وقطاعات تُرَوّح للعنصرية والتمييز، ولا تقبل أن يشغل شخص من خارج الدوائر السياسية التقليدية كرسي الرئاسة، لكن نائبته السابقة التي أصبحت رئيسة (وهي أيضًا من السكان الأصليين، وكانت تدّعي “اليسارية”) لا تتعرض للتمييز أو للسّخرية لأنها خادمة مُطيعة لرأس المال وللشركات الأجنبية.
ظهرت هذه التعبئة الجديدة للأغلبية المضطهدة من مُواطني بيرو لأول مرة كقوة ساهمت في فوز بيدرو كاستيلو في الانتخابات سوم السادس من حزيران/يونيو 2021، ثم عادت هذه القوة الشعبية للظهور بعد الانقلاب الذي أطاح بكاستيلو في السابع من كانون الأول/ديسمبر 2022، وهو أول يساري يتم انتخابه رئيسًا للبلاد، واستطاع أن يهزم “كيكو فيجيموري”، حاملة لواء الأوليغارشية والجيش، وابنة الدكتاتور والرئيس السابق ألبرتو فوجيموري.
احتل المتظاهرون منذ يوم 19 كانون الثاني/يناير 2023 بشكل جماعي ليما ومنعوا الوصول إلى المكاتب الحكومية، فيما كان سُكّان الأحياء الشعبية بالعاصمة والمنظمات الإجتماعية يوفرون لهم الطعام والشُّرب، ووفّرت لهم المدارس والجامعات المأوى، ما جعل من هذه الحركة، مقاومة شعبية في وجه القمع السياسي الذي لم يتمكّن من إخماد الحركة الإحتجاجية، رغم اعتداء الشرطة والجيش على المتظاهرين في جميع أنحاء البلاد بالعنف الشديد، وبالرصاص الحي الذي قتل أكثر من 60 متظاهرًا (حتى يوم 20 كانون الثاني/يناير 2023) وجرح حوالي 600 فيما تم اعتقال المئات، وفي 21 كانون الثاني/يناير 2023، حشدت حكومة الانقلاب ما يقرب من اثني عشر ألف شرطي لصد المظاهرات ومضايقة السكان والطلاب، وحشدت 14 ألف آخرين لتفتيش المنازل والمكاتب ومحلات النقابات والمنظمات، ودخلت قوات الشرطة جامعة سان ماركوس، دون إذن، وألقت القنابل المسيلة للدموع، وانهالت ضربًا على المشاركين في اجتماع عام، واعتقلت أكثر من مائتي طالب.
لماذا يتواصل القمع والقتل والإعتقال في بيرو وسط تجاهل وسائل الإعلام الأمريكية الشمالية والأوروبية، ومنظمات حقوق البشر؟
بالتزامن مع توسّع رقعة المقاومة، كان مُمثلو الإمبريالية الأمريكية يراقبون ما يجري ويتدخّلون مباشرةً إن كان ذلك ضروريا، ففي 19 كانون الثاني/يناير 2023، أعلنت الجنرال “لورا ريتشاردسون”، قائدة القيادة الجنوبية لجيوش الولايات المتحدة، خلال اجتماع المجلس الأطلسي أن “أكبر احتياطيات من النفط والخام الخفيف اكتشفت قبالة غويانا”، وذكّرت بأهمية “النفط والنحاس والذهب في فنزويلا والغاز والليثيوم في بوليفيا”، كما ذكرت “إن هذه المنطقة تحتوي على 31% من المياه العذبة في العالم… هذه المنطقة مُهِمّة لأمننا القومي وعلينا أن نكون يقظين “.
في 18 كانون الثاني/يناير2023، طلبت الرئيسة “دينا بولوارت” من نواب الكونغرس السماح بدخول وحدات بحرية وجنود أجانب مجهزين بأسلحة حرب إلى بيرو، والجنود المعنيين هم جنود الجيش الأمريكي الذي اعتاد على الانتشار في بيرو، بترخيص أو بدونه.
في اليوم السابق لإزاحة بيدرو كاستيلو (7 كانون الأول/ديسمبر 2022)، كانت السفيرة الأمريكية ليزا كينا (ضابطة سابقة في وكالة المخابرات المركزية) في مكتب وزير دفاع بيرو، وفي 18 كانون الثاني/يناير، التقت بوزير الطاقة والمناجم البيروفي، وَرَحَّبَ الوزير “بدعم حكومة الولايات المتحدة لنا في قضايا التعدين والطاقة” وأشار إلى الأولوية التي توليها حكومته “لقطاعي الغاز الطبيعي والطاقة وحماية استثمارات الشركات الأجنبية،” حاليًا ، ومنذ الإنقلاب، يتم – بأمر أمريكي – شحن كامل الغاز الطبيعي المسال المنتج في بيرو إلى أوروبا، لتعويض الغاز الروسي.
كانت بيرو تعيش حالة عدم استقرار، قبل الإنتخابات، وكان الرئيس بيدرو كاستيلو سادس رئيس، خلال ست سنوات، ولم يكن مدعومًا من قِبَل أغلبية نواب المجلس النيابي، بل عرقل النّواب مشاريع الإصلاح الزراعي والجبائي.
أقر مجلس النواب في بيرو (الكونغرس) تشريعًا يقيد استخدام الاستفتاء، وعَدَّلَ الدستور من خلال قوانين تضعف السلطة التنفيذية، مما يخل بتوازن القوى والسُّلُطات، وقبل الإنتخابات استثمرت قوى اليمين، خلال الحملة الانتخابية، مليون دولار في لافتات مُضيئة تعلن “لا للشيوعية” و “لا نريد أن نكون فنزويلا أخرى”، ومع ذلك فاز بيدرو كاستيلو بالرئاسة، لكن كانت أغلبية النواب تنتمي لخصومه الذين لم يتوقفوا عن حملتهم لتشويه سمعة هذا “المعلم الريفي المنحدر من الشعوب الأصلية “، كما كثّفَت المعارضة اليمينية من محاولات عزل الرئيس المنتخب، خصوصًا وهي تمتلك وسائل الإعلام (كما هو الحال في معظم دول أمريكا الجنوبية) التي تفتقر إلى الموضوعية، بل تلعب دورًا مزعزعًا للاستقرار، وفقًا لتقرير صادر عن بعثة منظمة الدول الأمريكية.
أثارت الدوافع العنصرية والمناهضة للديمقراطية للانقلاب “الدستوري” حركة احتجاج اجتماعية في جميع أنحاء البلاد، وشعر السكان بالغضب لما شاهدو في وسائل الإعلام بثًّا مُباشرًا لاعتقال الرئيس المُنْتَخَب بشكل شرعي، وإهانته من خلال تكبيل يَدَيْهِ ونقله إلى السجن، بعد استخدام المجلس النيابي اليميني كل الحِيَل المُمْكِنَة لعزله.
دفعت مظاهر الإنتقام والتّشَفِّي التي عبّر عنها اليمين العنصري، النقابات وقطاعات كبيرة من السكان إلى التظاهر في معظم مدن البلاد، رغم إعلان حالة الطوارئ، للمطالبة بالإفراج عن الرئيس بيدرو كاستيلُّو وحل الكونغرس وتنظيم انتخابات جديدة وتكوين جمعية تأسيسية، وأغلقت مجتمعات السكان الأصليين طريقًا سريعًا تستخدمه شركة ( Las Bambas ) وهي واحدة من أهم شركات التعدين في أمريكا الجنوبية، وأعلنت إضرابًا لأجل غير مسمى في هذه المنطقة.
قمعت سلطات الإنقلاب بعنف التظاهرات السلمية (أكثر من 60 قتيلاً في أقل من شهرين)، وأدّى القمع إلى زيادة أعمال التخريب ضد رموز الفساد: المصارف وبعض شركات المتاجر والمحاكم، كما أغلق المتظاهرون مطارين دوليين (أريكويبا وكوسكو)، والعديد من الطّرقات البَرِّيّة، ورموا الحجارة على مقرّات القنوات التلفزيونية والمواقع الإعلامية المطبوعة، وتم الاستيلاء على أهم محلات إنتاج الألبان في البلاد…
أعلنت حكومة الإنقلاب، في الرابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2022 (بعد أسبوع واحد من الإنقلاب) حالة الطوارئ لمدة 30 يومًا، تم تمديدها فيما بعد، مما يسمح بتعليق حريات التجمع والعبور وحرمة المنزل، وما يسمح بنشر القوات المسلحة لدعم الشرطة، لكن ذلك لم يفل في عزيمة المتظاهرين الذين يمثلون شرائح واسعة من المواطنين…
في الخارج، وعلى مستوى أمريكا الجنوبية، أصدرت حكومات المكسيك وكولومبيا والأرجنتين وبوليفيا بيانًا مشتركًا في 12 كانون الأول/ديسمبر 2022 نددت فيه بـ “المضايقات المناهضة للديمقراطية” التي كانت مُقدّمة لانقلاب السابع من كانون الأول/ ديسمبر 2022.
✺ ✺ ✺
الهليون
قراءة في رواية القاص الفلسطيني طلال أبو شاويش
وليد الهليس
الهليون، رواية
طلال أبو شاويش
مكتبة سمير منصور، غزة
الطبعة الأولى 2022
في روايته الأخيرة “الهليون”، اختار الروائي الفلسطيني طلال أبو شاويش أَن يقدم لنا صورة عن مكان مروع بالصراع في لحظة بدأت تتصدع فيها اتفاقية “سلام”، لم ينخدع بها أحد منذ ولادتها، غير بضعة لم تزل مقيمة عليها وفيها.
تبدأ الرواية الموزعة على 29 فصلاً بضابط متقاعد في الأمن الإسرائيلي، يسعى إلى الحصول على منزل يستمتع فيه بحياة وادعة في بيت ساحور الجميلة. إنه “يوشع بن ديفيد” أول شخصية تفتح الرواية بها باب القص على مصراعيه، فهو ابن فعلي للمشروع الصهيوني، تخلت أمه عنه لأنها لم تقتنع بمقايضة باريس المحررة لتوها من الاحتلال النازي الألماني بفكرة غامضة، وتركه أبوه الذي آمن بتلك الفكرة الغامضة وأفنى حياته في سبيلها، ليكرس الابن أيضا حياته لها وقد أخذت ملامحها المعدنية تتضح شيئا فشيئا مرسلة وميضها القاتل في كل الجهات.
اختار الروائي تقنية الأصوات المتعددة، مانحا كل شخصية مساحة من القص بقدر أهمية دورها في الرواية، متدرجا نزولا من منصور إلى نقيضه يوشع بن ديفيد ثم الهليون، سعد، أو ديفيد بن هيلين إلى حياة الفتاة المقاومة، وأخيرا سالم الصياد بن يافا الذي لجأ إلى بحر غزة بعد حرمانه من بحر يافا.
تتمحور الرواية حول سرديتين، ترد أولاهما على لسان “ديفيد بن هيلين” مناضل سابق ضد النازية في باريس أثناء الحرب الثانية، ومثقف صهيوني مخلص في إيمانه بالفكرة الصهيونية التي ضحى بسعادته ووحدة أسرته في سبيلها. ساعدته عائلات جزائرية وإمام مسجد باريس في مقاومة النازية، ودرس تاريخ المنطقة العربية وتعلم لغة أهلها لا حبا بها أو بهم، بل من أجل قتلهم بأنجع السبل. إنه الهليون، اسم لتلك العيدان البرية الرهيفة التي برع ديفيد في التقاطها من بيارات يافا وجعلها طعما يصطاد به أصحاب الأرض المطرودين والمروعين بإرهاب جماعته، والمحرومين من التقاط هليون أرضهم بأنفسهم، ذلك النبات النبيل صار اسما لديفيد، العين التي ستسهر على توجيه الرصاص إلى صدور أناس قاسموه طعامهم وقلوبهم على غفلة لم يكن التنبه منها أمرا مقدرا لهم.
إذا كنت قاتلا، فمن الحكمة أن تتخلص من جثة الضحية، وإذا فشلت فلا بد من أن تتخلص من الشهود. وهكذا ينتقل الهليون من يافا، بعد أن نجح مشروعه في اقتلاع أهلها وخنق من جازف منهم بالبقاء فيها، قاصدا لبنان مستكملا ملاحقة الفلسطينيين في المنافي. وقد اختار مخيم شاتيلا محطة ينتقل بعدها إلى غزة، حيث المرام سهل، والمغامرة محفوفة بالأمان. لهذا نراه يهيئ لوصول سالم إلى غزة، قبل أن يتوجه هو إلى شاتيلا. وسالم صياد سمك من يافا، غادر كل أفراد أسرته إلى غزة وتركوه وحيدا يواجه العسف والقسوة والكراهية، كما يخبرنا في فصل وحيد اطلعنا فيه على نماذج من المرارة التي تجرعها الفلسطينيون الذين اختاروا البقاء في أرضهم. ولكن سالم كان من حيث لا يدري سلما تسلقه الهليون ليحصل على الثقة الضرورية لاكتمال شروط الخديعة: كل شيء أعد بدراسة وإحكام ومقدرة.
ويوشع بن ديفيد، ابن الهليون الوحيد الذي تركه طفلا، هو الآن ضابط في جهاز الأمن الإسرائيلي، كان يحقق مع المعتقلين ويستمتع بتعذيبهم ويسرّي عن نفسه بتدمير حياتهم. إنه رجل سادي معتد بنفسه ومؤمن بدولته. وربما كان ميسوراً له أن يستمتع بتقاعده المريح وبالمزايا المادية التي حصل عليها لقاء براعته الفائقة في خدمة المشروع عبر التنكيل بالرجال والنساء في غزة المحتلة المقاومة، لولا اصطدامه بحقيقة حياة وموت والده “الهليون” ديفيد بن هيلين الذي عاش حياة شديدة التقشف ومات موتا يلفه الغموض في بيت بائس في مخيم للاجئين في غزة ذاتها، حيث خدم هو أيضا وأمضى هناك معظم حياته الوظيفية، في فترة كان والده الهليون ما يزال فيها على قيد الحياة.
لقد أعاده ذلك الكشف بصورة ملحة، إلى التفكير مجددا بوالده الذي اعتقد طيلة الوقت بأنه قد شيعه إلى القبر منذ زمن طويل، قبل ان يفاجأ بأن عليه ان يحمله من قبر الى قبر، وهو يريد الآن أن ينقب ليفهم حقيقة هذا اللغز.
يحضر الهليون في الرواية حضورا مؤرقا لابنه الوحيد الذي تخلى عنه لتتكفل الدولة بتربيته ليصبح رجلا قويا، جاهزا لسحق أعدائه، لكنه ضحل وجدانيا ومسطح إنسانيا تملؤه الرغبة في محو الآخر وتدميره، ويتبدى ذلك بوضوح وفي لمحة بارعة من الكاتب، عندما قرر يوشع، في نهاية الرواية، حرمان منصور، نقيضه الفني والأخلاقي، فرصة العلاج الوحيدة من مرضه العضال.
شخصية مركزية في الرواية، واللسان الفصيح للسردية الأخرى هو منصور، شاب تخرج في المدرسة الثانوية قبل وقت قصير من وقوع النكسة، وبدأ بتنظيم المقاومة دون انتظار، مع رفاقه: البحيصي من دير البلح ومهدي نصار منفذ أولى عمليات المقاومة وأول الشهداء من مخيم البريج ويوسف عمران من المغازي وسميح الذي استشهد بعد زواجه من المناضلة حياة التي أنجبت منه طفلها الوحيد “منصور” وكان زوجها سميح قد اختار له هذا الاسم تيمنا بصديقه ورفيق نضاله.
إن بطل الرواية الحقيقي هو المكان، هو الجغرافية بوصفها سيدة التاريخ وأنثاه السعيدة، أو سبيته وضحية عنفه الشقية. ويقوم طلال أبو شاويش في الرواية بملاحقة المكان، في صورة كائناته القصصية وعذاباتهم وأوهامهم ويحصي خساراتهم ويتعقب مصائرهم بأسلوب فيه الكثير من الوثائقية والتقشف تفاديا للوقوع في عاطفية مخلة أو في شعرية فائضة عن الحاجة. لقد جاءت الرواية تأريخاً حيوياً نابضاً للزمان والمكان، رواية عن الثمن الباهظ الذي على الناس ان يسددوه لمجرد أنهم يريدون أن يتنفسوا هواءهم بكرامة، لمجرد أنهم موجودون وجودا عاريا تحت سماء مسروقة وفوق أرض منتهكة.
لقد نجح الكاتب في رسم شخصيات لا تنسى وفي مقدمتها شخصية حياة الفتاة الشابة التي حملت قدرها ببسالة لا نظير لها، مقاومة فولاذية، وعاشقة تعسة الحظ، وعروساً سرعان ما ترملت، وأماً صغيرةً سجنت مع رضيعها لدى وحوش بشرية وضيعة. سوف يخرج القارئ وفي قلبه منديل مبلل بالدمع وهو يرى حياتها المجهضة التي عاشتها بنبل وثبات ومعها ولدها منصور الذي لم ير أباه وكان أصغر سجين في تاريخ العبودية، ولكنه حظي بعطف نادر من بعض سجانيه وكثير من عسل الأمومة في أحضان نساء سجينات كن يتنافسن على ملاعبته والعناية به.
يتوقع القارئ أن تكون الهليون رواية عن حياة جاسوس نموذجي، يرسم الكاتب فيها ملامحه المتميزة، مستعرضا دهاءه وعبقريته في الخداع وذكاءه في التخلص من المآزق وسحره الخاص…الخ. ومع أن نموذج الهليون هو نموذج متكرر في مضمار التجسس، إلا أن الفارق كبير بين حالة وحالة داخل النموذج ذاته، فبين جاسوس من طراز كوهين مثلا، وآخر من طراز ديفيد بن هيلين اختلاف كبير في الشخصية والدور والسلوك المتوقع. وقد تصلح قصة كوهين لرواية الإثارة في حين أن عنصر التشويق ليس له دور كبير في قصة الهليون. إن رواية الهليون ليست رواية عن عالم الجاسوسية، وليس الهليون هنا جاسوسا من طراز جيمس بوند، وأنا لا أعني بهذا أنه دون بوند مهارة وذكاءً، بل إن رواية الهليون لم تكن في الجوهر رواية تدور حول جاسوس قام بدوره حتى النهاية في إطار ضيق من الرتابة والعادية. وبانكسار ذلك الإطار جاءت النهاية معاكسة لدورة حياته كلها. وقد تحطم ذلك الإطار تحت وطأة حبه العاصف لفتاته الغجرية ليال التي تزوجها لاحقا. ومع ذلك فهو ذاته من اختار تلك النهاية، وهو من صنعها، مستخدما حبر صانع الرواية المبدع دون ريب، حيث نراه في لحظة حضور بعده الإنساني المغيب، وهو يحطم جهاز الوقت، تلك الساعة الفضية التي ترمز من جهة إلى التفوق التكنولوجي للغزاة، وإلى الزمن الصهيوني المضبوط على رسالة موت الآخر، والمتحجر على أوهام التاريخ والآلهة. التغير هنا يأتي من الهامش، من الغجر الممنوعين من الدخول في قلب نسيج الجماعة التي أقاموا بين ظهرانيها قرونا طويلة. هناك دائما أسلاك شائكة غير مرئية، تضربها الجماعة حول ذاتها فلا يجوزها غريب مهما أقام على مشارف الجماعة.
ويبدأ التغيير العميق هنا من تلك الفتاة الغجرية المنبوذة المشتهاة والمتعالية، ليال التي أيقظت في أعماق الهليون إنسانه السجين والمكمم. وكأن الكاتب أراد أن يقول لنا إن الإنسان الحقيقي لا يمكن أن يحيا على محو الآخر. فلا يمكن أن تكون مقاتلا في سبيل الحرية وتاجر عبيد في وقت واحد. ومن هنا كان موت الهليون ضرورة لا مفر منها.
ولا شك أن شخصية منصور هي من الشخصيات التي استثمر فيها الكاتب وقدم لنا من خلالها الكثير من الإضاءات والوقائع والتاريخ الشخصي /العام إن جاز التعبير. فهو يتمتع بشخصية نبيلة فيها فروسية وشهامة واستعداد هائل للتضحية ونكران الذات والقدرة على القيادة وتقديم القدوة. لكن في تلك الشخصية بعدا آخر علاوة على كل هذا، ففيما وراء رواية الكاتب لما حل بالبلد وأهلها من نوازل، ولأشكال المقاومة ومنازلة البؤس، نتلمس رسالة ما، هي من نوع تلك الرسائل السرية التي يزرع بها الكاتب عادة حقله الروائي، أعني هنا ضرورة العثور على ذلك الخيط الرابط من بداية الرواية، بين منصور جامع قطع السلاح التي سقطت من أيدي المهزومين المرتعشة ليحفظها بعناية من أجل اللحظة القادمة، (ولا ننسى دور حياة التي قاسمته العمل والإيمان والمخاطرة) ومنصور جامع أجزاء الذاكرة/البحث أو الدراسة، التي حرص عليها وهربها من السجن وكرس لها جهده وما ترك له المرض من وقت وطاقة، وانكب على إتمامها وحاور رفيقه شيبوب في تفاصيلها الهامة. ثمة خيط رابط أراده الكاتب هنا، خيط، شريان حياة، حبل سري ضروري بين أمانة السلاح وأمانة الذاكرة، فالذاكرة هي أيضا سلاح، بل إنها السلاح الأهم في الليلة الظلماء، ليلة الخراب الكبير. هنا ومرة أخرى تطل “حياة” الرائعة لتكون أمينة على الوثيقة، أمينة على الذاكرة. ربما تهاوت قيادة وربما فسدت قيادة وانهارت، لكن الأمة دائما هي الباقية، وهي ال “حياة” الأمينة على الذاكرة.
أخيرا، رواية الهليون هي رواية ضرورية لأنها تتصدى لفترة من أكثر الفترات غنى بالحوادث المصيرية والوقائع والمآسي، وفوق هذا هي رواية جميلة وقاسية، لأن طلال أبو شاويش لم يجامل ولم يغض البصر عن شيء في صورة جمعت في أجزائها ما يعز وما يشين. لقد جعلنا نبصر النقائض كما هي، لكنه بشجاعة وبصيرة وبكثير من التجرد، واجه سردية بسردية في تجليات كليهما على الأرض وفي مصائر البشر.
هذه الرواية هي جملة قوية تشكل إضافة جميلة إلى سردية المقاومة.
________
تابعونا على:
- على موقعنا:
- توتير:
- فيس بوك:
https://www.facebook.com/kanaanonline/
- ملاحظة من “كنعان”:
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.
- عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
- يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org