قارة في أزمة: أوروبا بعد عامٍ من الحرب، سعيد محمّد

بعد ما يقرب من عام على انطلاق العمليّة العسكريّة الروسيّة في أوكرانيا، فإن أوروبا قارة في حالة حرب. وسيكتب المؤرخون أنّ اللحظة الأوكرانيّة في العام 2022 كانت نقطة فاصلة في مسار تاريخ شعوب القارّة – والعالم – ونهاية لحقبة وبداية مرحلة جديدة. لقد أظهرت القيادات الأوروبيّة بدون استثناء تقريباً حقيقة خضوعها التام والنهائيّ وغير المشروط للهيمنة الأمريكيّة كما هو الأمر منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، وكشف انخراطها طرفاً في العداء للجار الروسيّ الكبير ونزوعها للعسكرة عن استعداد النخب الحاكمة للتربح وخوض مغامرات محفوفة بالمخاطر قد يتبيّن في النهاية أنها كانت على حساب رفاهية الأغلبيّة من الأوروبيين العاديين ومستقبل أجيالهم.

سعيد محمّد – لندن

لقد كانت التغييرات في المشهد الأوروبيّ بعد عام على اضطرار روسيا إلى إطلاق عمليتها العسكريّة في أوكرانيا دراماتيكية حقاً. تخلّت بريطانيا في ليلة وضحاها عن مصالحها الماليّة الهائلة والمتشابكة مع الأوليغارشيّة الروسيّة، وأنهت ألمانيا عقوداً من الاعتماد على الطاقة الروسيّة الرخيصة التي مكنتها من تحقيق فورة اقتصادية ملموسة واختارت – بعد التزام سياسة دفاعية حذرة ومكبّلة منذ سقوط برلين في 1945 – طريق العسكرة، وألغت فرنسا كل سعي لسياسة أوروبيّة مستقلّة عن حلف شمال الأطلسيّ (الناتو) وتحوّلت إلى رأس حربة له، فيما سارعت دول ذات تاريخ طويل من الحياد مثل فنلندا والسويد إلى التقدّم بطلبات للالتحاق بالناتو. وحتى الدّول التي كانت قياداتها على علاقات وديّة مع موسكو اصطفت جميعها، وبغض النظر عن ألوان حكوماتها وتباين مواقفها من العديد من القضايا، صفاً واحداً في فرض تسع رزم من العقوبات الصارمة على روسيا، والتزمت جميعها بحصار تجاري ونفطيّ وغازيّ متدحرج ضدّها، وأرسلت للنظام اليمينيّ المتطرف ودمية واشنطن في كييف دعماً مالياً بمليارات الدولارات، وأسلحة فتاكة، ووفرت له خدمات لوجستيّة، واستوعبت ملايين الأوكران اللاجئين، وفرضت سرديّة داعمة للحرب على كل وسائل الإعلام الجماهيريّ فيها.

وعلى عكس توقعات الآخذين بالظواهر، فقد صمد استعراض الوحدة الأوروبيّة هذا لإثني عشر شهراً الآن دون إشارات إلى حدوث تصدعات، على الرّغم من اهتزاز أمن الطاقة، وأزمة الارتفاعات الهائلة في تكلفة المعيشة، ومخاطر الركود، والتكاليف الاستثنائية لتمويل آلة الحرب الأوكرانيّة، واضطرار المجتمعات الأوروبيّة المأزومة باللاجئين إلى استيعاب عدة ملايين من الأوكران كلاجئين جدد، هذا بالطبع ناهيك عن الخلافات المستمرة بين تيارات اليمين المتطرف الصاعدة والوسطيين الليبراليين حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية سواء على مستوى الحكومات، أو داخل المجتمعات نفسها.

ويقول الليبراليون في تفسير هذا الصمود ضد كل العوامل المضادة بالكفاءة البنيوية للاقتصادات الأوروبيّة، ومرونة الأنظمة الديمقراطيّة فيها وقدرة شعوب القارّة على التكيّف، ودعمها لحكوماتها في مواجهة الشدائد، وأيضاً دور بيروقراطيّة الاتحاد الأوروبي في تقديم آلية فاعلة لاتخاذ القرار، اضافة بالطبع إلى ما يسمونه عودة الولايات المتحدة للعب دور أكثر فاعليّة في الشأن العالمي وتوفيرها مظلة حماية لأوروبا في مواجهة (الغطرسة) الروسيّة.

على أنّ الواقع لا يدعم هذا التفسير إلا جزئيّاً، ويجده يتجاهل بشكل سافر حقيقة أن الولايات المتحدة تهيمن وبشكل حاسم على الشأن الأوروبيّ منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانيّة سواء عبر الوجود العسكريّ والمخابراتي الكثيف في غير ما بلد أوروبي، أو لناحية التشبيك الاقتصادي في المنظومة الرأسماليّة المعولمة التي تديرها نخبة واشنطن، أو من خلال سيطرتها المحكمة على مصائر النخب، وتغلغلها المرعب في الأجهزة الإعلاميّة والثقافية والأكاديميّة لأغلب دولها. وإذا أضفنا لذلك أن النّخب البرجوازية الأوروبيّة استفادت بشكل أو آخر من الحرب على الصعيد الاقتصادي بوصفها تحتكر صناعات الطاقة والسلاح واللوجستيات، سنجد أنّ (خيار) الوحدة في مواجهة روسيا لم يكن خياراً، بقدر ما هو نتيجة حتميّة لعقود طويلة من عمليّة أمركة القارّة والتي أخذت أبعاداً أوسع وأعقد وأعمق بعد سقوط جدار برلين وانتهاء الاتحاد السوفياتي رغم كل مظاهر الاستقلال الشكلي المخصصة لاستهلاك العوام.

وحدة أوروبا، بغض النظر عن اتفاقنا بشأن أسبابها، وتماسكها في ظلّ الإمبراطوريّة الأمريكيّة، مكنّت نظام كييف من الصمود في وجه الآلة الحربيّة الروسيّة رغم الخسائر الباهظة، وتسببت في منع موسكو من تحقيق مجمل أهداف عمليتها العسكريّة ورفعت من تكلفتها المباشرة وغير المباشر، كما سمحت إلى حد كبير بتجاوز المجتمعات الأوروبيّة لخطر الركود الاقتصادي، وبناء نسقٍ بديلٍ للحصول على إمدادات الطاقة بعيداً عن روسيا.

لكن السؤال الآن هو هل ستستمر هذه الوحدة (الإجباريّة) بلا تصدعات؟

ثمة غيوم داكنة كثيرة تملأ سماء أوروبا مع دخول الصراع الأمريكي – الروسي في أوكرانيا عامه الثاني. فمن الواضح أن الحرب لم تنته بعد، وهي مرشحة للانتقال تالياً إلى مرحلة أكثر خطورة. فقد أعادت القوات الروسية تجميع صفوفها وعززت تسليحها، وقد يكون هجومها الربيعي المتوقع على طول الجبهتين الشرقية أو الجنوبية، أو ربما عبر بيلاروسيا أو مولدافيا، أمراً مفروغاً منه. لقد كان من الواضح لبعض الوقت أن القوات الأوكرانية رغم الاستعداد للحرب لأكثر من ثماني سنوات والدّعم الذي تتلقاه يومياً من الحلفاء باتت مرهقة من القتال، وأصيبت بخسائر بشريّة فادحة يصعب تعويضها، وتتراجع تدريجياً في مواقع رئيسيّة. وبرغم التعهدات الغربيّة بالمزيد من الأسلحة وأنظمة الدفاع الجويّ والدبابات الغربية المتطورة، فلا تزال هذه بطيئة في الدخول إلى حيّز الخدمة الفعليّة، كما لا توجد لدى الجيش الأوكراني طائرات مقاتلة أو صواريخ استراتيجيّة، مما يعني أن الحرب قد تنقلب من حال تقرب التّعادل في ظل معارك السلاح التقليديّ الحاليّة إلى انتصار روسي ولو بالنّقاط، الأمر الذي قد يعني انفراط مسبحة الوحدة الأوروبيّة تحت ضغط معضلة الدّخول مع موسكو إمّا في مواجهة عسكريّة شاملة ستمتد سريعاً عبر البلقان وبولندا إلى قلب القارة – ولا تبدو أوروبا بأي شكل قادرة على خوضها لا عسكرياً ولا اجتماعيّاً -، أو السعيّ للوصول إلى تفاهم ما معها، ولو على حساب أوكرانيا، وببعض التنازلات.

من ناحية أخرى فإن الوقت، وإن كان بشكل ما يخدم الأغراض الأمريكيّة، فإنّه حتماً ليس إلى جانب الأوروبيين. فالتّلفيق الاقتصادي وطبع العملات والدعم الحكوميّ للطبقات الوسطى لمواجهة تكاليف ارتفاع المعيشة سيصل في النهاية إلى حدوده القصوى ويبدأ في قضم مستويات الرفاهية التي اعتادت عليها الشّعوب الأوروبيّة، وسيؤدي ارتفاع تكلفة الطاقة إلى انهيار المنصة التي مكنّت الأوروبيين من بناء قاعدة صناعات تصديريّة من الدّرجة الأولى، وسيكون من الصعب الاعتماد على توسيع التبادل التجاريّ مع دول الجنوب بعد أن دفعت الولايات المتحدة الجميع إلى معاداة الصين وإيران وفنزويلا، فيما لم تنخرط دول كثيرة وازنة مثل الهند والأرجنتين ودول القارة الأفريقيّة في الحصار الغربيّ المفروض على روسيا واستمرت بالمتاجرة معها. ولن يمكن بالضرورة الاحتفاظ بصبر الطبقات الشعبيّة التي تتعرّض لمزيد من التّفقير بسبب تكاليف الحرب.

أمّا السيناريو الأسوأ فسيكون حتماً توسع ملعب الحرب الأمريكيّة الروسيّة الذي سيتمدد عندها على حساب أوروبا بداية ووسطاً ونهاية، وستكون نتائجه وخيمة على الشعوب الأوروبية أساساً، قبل بقيّة العالم برمته.    

على أننا لم نصل إلى هناك بعد، ولا تزال في جعبة الأوروبيين بقيّة من القدرة على المناورة، وقد لا تتطور الأمور بشكل شامل أبداً. لكن في الوقت الحالي، وفي ظل اعتزام الجانبين الأمريكيّ والروسيّ تعزيز مواقفهما من خلال النجاحات العسكرية في أوكرانيا، فسوف تستمر الحرب. والحرب دائماً تفرض منطقها الخاص على الواقع، ولا تعبأ بكل التوقعات. فالأداء في الماضي، كما يدرك المستثمرون والمقامرون، ليس ضمانة بأي صيغة للأداء في المستقبل. وبدون عقلاء، فإن أيّ قارة، مهما كانت منيعة وثريّة (وبيضاء)، فستنهكها الحرب إن اندلعت على أرضها.

:::::

موقع: الثّقافة المضادّة

الثّقافة المضادّة – لن يمرّوا: مقالات في السياسة والثقافة (counterculture1968.com)

________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….