إن إعادة إحياء المشروع القومي العربي كمشروع علماني اشتراكي يناهض الإمبريالية ويتحالف مع دول المقاومة عالميا يشكل صلب المعركة القائمة حاليا في بلادنا. صمود سوريا كركن لهذا المشروع وتجديد الرئيس الأسد لالتزام سوريا به يجب ألا يغفلنا عن المخاطر العدة التي تحدق بالمشروع القومي. الأخطار قد تكون واضحة، كمشاريع التطبيع مع الكيان الصهيوني التي تقودها الأنظمة الرجعية في بلادنا، والحملة الصهيونية والغربية التي لم تتوقف عن محاولة كبح التيار القومي العربي منذ ولادته عبر تمويل الأصوليين ونشر الطائفية وخلق تناقضات بين العروبة من جهة ومكوناتها الاجتماعية من جهة أخرى على خلفيات عرقية، دينية وإثنية. ولكن الأخطار التي قد تكون أجسم تظهر بلباس آخر وتهدد الحركة من الداخل. فبالإضافة إلى دفع المشروع الإخواني والأصولي في المنطقة، تدعم الولايات المتحدة وقوى “الناتو” سردية للعلمانية تتماشى مع مصالحها تماما كما تتماشى التيارات الأصولية، مما يخلق لها قدما في اليسار المساوم كما في اليمين. لكن الهدف يبقى واحدا، ألا وهو زعزعة الدولة الوطنية العلمانية والتي تسعى لتسخير مواردها لخدمة شعبها (وهذا هو صلب الاشتراكية) عن طريق دعم اليمين المتطرف بكل أشكاله أو عن طريق اللعب على ديباجة الحرية والحقوق المدنية للأقليات التي تظهر الولايات المتحدة بدور أبوها الحنون.
إن خطورة التيار الليبرالي بضرب استقلال الدول التي تسعى للحفاظ على سيادتها من فنزويلا إلى الجزائر وسوريا فالصين تكمن في ظهوره كوجه للحرية ولمناهضة الاستبداد وكممثل لليسار، بالرغم من أن صعوده اعتمد بالدرجة الأولى على محاربة اليسار عالميا وحتى القضاء عليه في دول الغرب “المتقدمة”، فيظهر الحزب الديمقراطي الأمريكي كحزب “يساري”، وتُختصر الاشتراكية بتأميم بعض الخدمات، وتقتصر الحرية على حرية التعبير والحريات الشخصية (كحريات المثليين) والتصويت – أي نموذج الديمقراطية الرأسمالية الغربي المعتمد والذي ينفذ “فتوحاته” الاقتصادية عن طريق ضعضعة السيادة أولا ومن ثم إدخال شركاته لتنهب خيرات الدول. فمن نفس المنبر تضخ الولايات المتحدة عبر سفاراتها والمنظمات الخيرية والمدنية الغربية التي باتت لا تحصى الدعم لليمين المتطرف في فينزويلا ولمنظمات مدنية تعني بحقوق المضطهدين المثليين على سبيل المثال، وتدعم اليمين في البرازيل كما التحركات المدنية لأقليات تساهم بخلقها ضد حزب العمال، وتدعم اليمين الكوبي اللاجئ لديها كما تزعم الوقوف مع السمر من أصول إفريقية في كوبا بوجه الدولة رغما أنه ليس هنالك من دولة كانت ومازالت تضطهد وتعدم السمر علنا بقدر ما تفعله الولايات المتحدة، وفي بلادنا تساهم بدعم المشروع الرجعي الإخواني وحقوق الأقليات التي تصنعها وتدعمها في آن واحد (كالأكراد والأمازيغ) والحقوق الفردية. هذه الازدواجية مهمة جدا لفهم التحديات للمشروع العروبي، فهكذا تخرج من الدوحة وإسطنبول أكبر كمية دعم وبدون منازع للإخوانية والإرهاب من جهة، ولديباجة الديمقراطية العربية والحقوق الفردية والـ “تقدم” من جهة أخرى. هنا تكمن خطورة الإمبراطورية الإعلامية والثقافية التي يقودها عزمي بشارة، والتي تستقطب الكثير من أنصاف المثقفين ومن الأجيال الشابة، مقدمة نفسها كأنها العلمانية الوحيدة في البلدان العربية، ولا كأن الصراع التقدمي ضد الاستعمار كان قد حدث، فمحو هذا الجزء من تاريخنا وإعادة كتابة التاريخ ليظهر التيار الليبرالي كأنه تقدمي قد يكون أكثر ما يخدم الاستعمار في بلادنا.
فلنأخذ مسار أوسلو على سبيل المثال. خطورة المسار الظاهرة والواضحة هي التسليم بالأرض وإعادة تعريف الصراع من صراع على فلسطين إلى صراع على الأراضي المحتلة عام 1967. ولكن الخطورة الكامنة التي لا تقل فتكا بالقضية الفلسطينية هي إعادة تعريف المقاومة حيث يظهر أبو عمار والسلطة كرموز للكفاح، ويصبح صراع الفلسطينيين في الداخل صراع مدني للحصول على حقوق كاملة في الكيان الصهيوني، وهذا هو التيار “المقاوم” الذي أنشأه عزمي بشارة في الداخل الفلسطيني (التجمع الديمقراطي) قبل أن “يلجأ” إلى قطر. فأصبحت رام الله، بالإضافة إلى كونها مركزا للسلطة التي تنسق أمنيا مع الاحتلال وتفتك بالمقاومة من الداخل، ما يشبه “لاس فيجاس” للمنظمات الثقافية والمدنية التي تشرذم القضية الفلسطينية إلى حقوق مرأة، وحقوق مياه، وحقوق إنسان وما ذلك، كأن هذه القضايا لا ترتكز على مشكلة واحدة وهي احتلال الوطن أو كأن هنالك امرأة فلسطينية من دون فلسطين! وبموازاة لذلك، تنشط منظمات مجتمع مدني قي الأراضي المحتلة حاملة نفس السردية للصراع وتنسق مباشرة مع المنظمات في مناطق سيطرة سلطة أوسلو في مقاومة الاحتلال والذي يقتصر بالطبع في نظرها على أراضي 1967.
كما يدعم ابن عزمي بشارة المدلل “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” حراك ثقافي ليبرالي على المستوى العربي وينشط في مناطق السلطة الفلسطينية، كتأسيس وحدة “دراسات إسرائيلية” في جامعة بيرزيت مثلا، يمد المركز نفسه أذرعته إلى الجولان السوري المحتل حيث تقوم منظمات مجتمع مدني باللعب على ديباجة حقوق الإنسان والديمقراطية لتظهر كأنها تعمل وفي آن واحد ضد الدولة السورية والاحتلال الإسرائيلي، بيد أن أفعالها على الأرض تصب في مصلحة الاحتلال والمشروع الرجعي في المنطقة كما يصب التيار الليبرالي التي تنبع منه والذي يمولها أصلا. كسائر “المراصد” والخوذ البيضاء التي أصبح دورها وضحا في الحرب على سوريا،[1] تلعب منظمات غير ربحية في الجولان ممولة غالبا عن طريق ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني الغربية، كالصندوق الأوروبي للديموقراطية (European Endowment for Democracy) ومنظمات أخرى غربية معنية بنشر التعايش في “اسرائيل” ومنها تبشيرية، دورا مشبوها في الحرب على الدولة السورية والتطبيع غير المباشر وزعزعة المقاومة من الداخل. فيدعم القائمون على “المرصد العربي لحقوق الإنسان” ما يسمى بالثورة السورية، والذي ينشر السردية الساذجة (والمعمّمة غربيا) عن الحرب على سورية بأنها ثورة سلمية قام “النظام” بعسكرتها عن طريق القمع، ويدين مقاومة أهل الجولان ضد تطبيب جيش الاحتلال للإرهابيين عبر الجولان عام 2015 على أنها عنف ضد “محاربين سوريين”.[2] كما وتعمل نفس الحفنة من الأشخاص مع “مركز حرمون للدراسات المعاصرة” المتمركز في إسطنبول والتابع مباشرة لـ “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في الدوحة، والذي ينشط في انتاج محتوى ضد مؤسسات الدولة السورية بغطاء الديمقراطية ويلعب فيما يخص الجولان على ديباجة الجولان “المُباع” من قبل “النظام” كما تشهد ندوة “الجولان السوري المنسي” التي نظمها المركز نفسه.[3]
لا يبدو أن كون هذه المجموعة تفتقر لحاضنة شعبية يمنعها من التكلم باسم أهل الجولان (أو حتى الشعب السوري) ضد الاحتلال (لأراضي 1967 طبعا) والدولة السورية معا، وهذا قد لا يكون من المستغرب بما أن حاضنتهم غربية وتركية وخليجية، فمن يحاسبك عندما تتكلم باسم الشعب مع أيا كان عدا الشعب (كما هو الحال مع “المعارضة” الخارجية في سوريا)؟ من الممكن، لا بل من السهل تجاهل نشاطات لمنظمات كهذه عادة وعندما تكون المقاومة الشعبية متعافية، ولكن الخطورة الحقيقية تكمن في خطفهم لجهود المقاومة، فمثلما تصبح الليبرالية البديل “اليساري” الوحيد الذي يستقطب الأجيال الشابة عبر شعارات رنانة كالحرية وبمساعدة شبكة تمويلية هائلة، تأخذ هذه المنظمات مكان المقاومة الشعبية الواقعة بين فك الاحتلال الذي لم يتوقف عن محاربتها منذ أن وطأ الأرض من جهة، وفك المسار المساوم والذي يضعف علاقة أبناء الجولان بدولتهم من جهة أخرى. مثلا، يقود المرصد حملة المقاومة ضد أحد مشاريع الاحتلال لبناء التوربينات في الجولان بتعاون مع ناشطين بيئيين في الكيان (طبعا بالإضافة إلى مقاومة الدولة السورية الوطنية).[4] هذه الخطورة لا تحدق بالجولان فحسب، بل بالمشروع القومي العربي عامة والقضية الفلسطينية تحديدا، فهذه المنظمات مرتبطة بشبكة منظمات أوسع (وطبقة “مثقفين”) فلسطينية ومن ثم بالدوحة وقطر والغرب.
هذه الحرب المزدوجة على المشروع القومي العربي وجهود الاستيطان والقمع غير المسبوقة في الداخل المحتل تخلق أجواء من اليأس وقلة الحيلة، فالمنظمات المدنية والطبقة المتعلمة المستفيدة منها تنشط على النطاق الإعلامي والثقافي بشكل أكبر بكثير من قوى المقاومة وبمقدرات خيالية. شبكة “الناشطين” هذه في الجولان على سبيل المثال، وحتى لو كانوا مجرد حفنة من الأشخاص المتشابكين مع منظمات مشابهة في فلسطين، تتمتع بمنابر واسعة التغطية وتشمل الفنون والموسيقى والسياسة والحقوق المدنية وغيرها من المجالات، مما يوحي للمراقب أنهم الوحيدين في الساحة السياسية. وذلك ينطبق على الساحة العربية عموما. ولكن، ختاما، هل على ذلك أن يدعو فعلا لليأس وقلة الحيلة؟ هل شبه انعدام المقاومة في الظاهر على الصعيد الداخلي في المناطق المحتلة دليلا على نفاقها؟ هنا علينا استشارة تاريخنا الحديث وعدم خلط المفاهيم بين القدرة على الصراخ الإعلامي وأمام جمهور أوروبي في غالبيته (أي “المعمعة”) وبين المقاومة الحقيقية. أي شخص يستطيع أن يحصّل شهادة ويرتدي وشاح وبيريه ويسمي نفسه “مثقف عضوي” أو “مثقف مشتبك” وما ذلك من التبجيل الذاتي الذي يجتاح الجامعات والمنظمات المدنية اليوم، ولكن تاريخنا الحديث وخاصة في سوريا يجب أن يذكرنا أن المقاومة الحقيقية هي لحظة فعل تجتمع فيها التضحية والروحانية والتسامي عن النفس، وأن من قام بها سابقا لم يكونوا بغالبيتهم العظمى “مثقفين” أو كتّاب أو إعلاميين أو “مؤثرين” على صفحات التواصل الاجتماعي – أي أنه لم يكن لهم صوت واضح بالضرورة على الساحات الإعلامية والثقافية. وتمتلئ صفحات ثوراتنا بقصص عن أشخاص استبدلوا غنمة ببارودة أو باعوا قطعة سجاد ليشتروا الذخيرة ويشاركوا في محاربة المستعمر. هذه المجموعة التي قد تظهر كأنها منقرضة في صخب الامبراطوريات الإعلامية التي تغطي عليها والتي يتهافت إليها مِن المتعجرفين من لم يجد استعمالا لشهادته التعليمية غير التعالي على أبناء شعبه وأحيانا باسم المقاومة، هي صامته تزاول أعمالها أيا كانت وتلتقط لقمة عيشها وليست بالضرورة ميتة. أي أن المقاومة الشعبية تستحق أن نراهن على وجودها حتى عند غياب مؤشرات هذا الوجود، استنادا على تجربتنا التاريخية الحديثة على الأقل.
[1] “مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان في بريطانيا يعترف لـRT… لم أزر سوريا منذ 15 عاما”. روسيا اليوم، ٧/١٠/٢٠١٥:
[2] https://golan-marsad.org/wp-content/uploads/2021/01/Syria_Report_April_2013.pdf
[3] الخريطة المؤسساتية التي تصف علاقة مركز حرمون بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ورؤيته:
“ندوة الجولان السوري المنسي” في مركز حرمون، التي تلعب على ديباجة الجولان المُباع:
يمكن الحصول على النص الكامل على هذا الرابط:
https://archive.org/details/20200301_20200301_1129/mode/2up
[4] على سبيل المثال التقرير الصادر عن المرصد – المركز العربي لحقوق الإنسان في الجولان المحتل: آرون ساوثلي، د. نزيه قاسم بريك. 2019. “في مهب الريح: استغلال طاقة الرياح في الجولان المحتل.”