السنة الثالثة والعشرون – العدد 6497
في هذا العدد:
■ المُفكّر الأسير وليد دقّة يكتب روايات للفتيان، رشاد أبوشاور
■ بين المماليك وآل عثمان … حول مسألة توحيد العالم الإسلامي، ياسر شعبان
■ مقتطفات واسعة من كتاب: «دولة إسرائيل ضد اليهود» (الحلقة الثالثة)، لمؤلفه سيلفان سيبل
✺ ✺ ✺
المُفكّر الأسير وليد دقّة
يكتب روايات للفتيان
رشاد أبوشاور
وليد دقّة (الأسير) منذ ستة وثلاثين عاما، والذي سيقضي قرابة ثلاثة أعوام أيضا حتى يغادر سجون الاحتلال التي تنقّل في أكثرها، وعرف زنازينها.
وليد دقة فاجأ عارفيه ومتابعيه بإصداره روايته الأولى للفتيان والتي تحمل عنوانا لها (حكاية سّر الزيت) عام 2018، والتي تكرر طبعها ثلاث مرّات، وهذا برهان على الحفاوة بها، ومن بعدها صدرت روايته الثانية (حكاية سر السيف) في العام2021والتي أنا بصدد التوقف عندها.
لعلّ كتاب المفكّر وليد دقّة (صهر الوعي) الصادر عام 2010 قد عرّف القراء به، وجعل كثيرين يقفون أمام جدّة وعمق ما طرحه في كتابه، وهو مخالف لما هو سائد، ويذهب عميقا في دور سجون الاحتلال واختلافها عن ما سبق وعُرف عن السجون في العالم، ويفتح العقول على أن الاحتلال الصهيوني وممارساته تختلف عمّا عرفه العالم من ممارسات الاحتلالات التي سبقته، وهو يقدّم دراسة غير مسبوقة فلسطينيا، وأذكّر بأن وليد دقّة فلسطيني من فلسطينيي الداخل المحتل منذ 1948مواليد باقة الغربيّة 1961وهو سجين منذ عام 1986ومحمكوم بالمؤبد.
إرادة الحياة دفعت وليد دقّة أن يُهرّب نطفة لزوجته سناء، بعد سنوات على زواجهما، ونجاح (العمليّة) و.. حمل الزوجة و.. إنجابها، وبهذا بات لوليد ورفيقة عمره السيدة سناء التي قضت نصف عمرها متنقلة على أبواب السجون، كما يصفها، بنتا جميلة هي ميلاد، و(ميلاد) الجميلة بلغت سنتها الثانية والتقيناها مع والدتها في عمّان قبل أيام في رابطة الكتاب الأردنيين حيث احتفينا بهما.
لعلّ أبوة وليد دقّة قد أينعت واخضرّت بولادة(ميلاد) الجميلة المفرحة.. ميلاد الأمل رغم عقود قضاها وليد في معاناة السجون فدفعته للكتابة للفتيان، بعد أن انشغل بالتنظير والتأمل وطرح الأفكار، فكتب رواية أولى(حكاية سّر الزيت)، ثم كرر التجربة في روايته الثانية (حكاية سّر السيف)، وقد علمت أنه على وشك أن ينجز روايته الثالثة رغم معناته الصحية مع مرض السرطان.
حكاية سّر السيف:
يهدي وليد دقّة الرواية الصادرة سنة 2021: إلى زوجتي ورفيقة دربي سناء، إلى من أمضت وما زالت نصف عمرها عند بوابات السجون على أمل أن تستعيد نصفه الآخر، وإلى ابنتنا ميلاد التي حولت اسمي لجملة مفيدة، ومنحت حياتنا والحرية معنى جديدا. (ص5)
في المدخل يتعرف قارئ الرواية على لينا وحصانها المدلل رهوان العائدين في الصباح الباكر من سهول القرية حيث يرعى العشب الطري قبل أن تشرق الشمس…
في الفقرة الثانية نلتقي ب(جود)، وهو كما عرفناه في الرواية الأولى (حكاية سّر الزيت) ابن أنابيب، والده في السجن، وقد دارت مغامراته هو وأصحابه، لتمكينه من رؤية والده، والمغامرات مشوّقة، وتعرّف القارئ ببعض مناطق فلسطين، وبما يتسبب به الجدار من متاعب وآلام للفلسطينيين.
يمزج وليد دقّة في روايته الثانية بين كل ما يتواجد في الطبيعة الفلسطينية، من بشر، وحيوانات، ونباتاتـ، وكلها تتعاون لتحقيق الهدف بروح جماعية، وبعد حوارات ديمقراطية بينها، فليس لأحد أن يفرض رأيه، وليس لأحد أن يقلل من رأي الآخر.
وكما هو متوقع فهناك أشرار في الحياة، وفي الطبيعة، كالضبع الذي يوصف بأنه نتن، وهو مفسد ومخبر وكاره للخير وفي خدمة الأعداء.
تبدأ أحداث الحكاية بالصوت القادم من الجهة الشرقية للقرية ومصدره الكلب أبوناب، والبس خنفور: الجيش ..الجيش يا جود. ويركضان بسرعة، ويخبران جود لاهثين: الجيش يا جود.. الجيش بيدوروا عليك. أُنبه إلى أن الحوار يجري باللهجة العامية المبسطة، فهناك لهجات شعبية فلسطينية كثيرة، وهذه إحداها، ولكنها سلسة ومفهومة ومستساغة.
الحيوانات تتكلم مع بعضها، ومع البشر، وهي تتعامل مع (العدو) على أنه عدو لها، فهي وأصحابها ينتمون لوطن واحد، ويعانون من نفس المتاعب التي يتسبب بها الاحتلال.
إذا كنا نلتقي بالحصان، والكلب أبو ناب، والقط خنفور، فلا بد أن نلتقي بالحمار أبوبراط الذي يتصف بشئ من الغباء وبالكثير من الطيبة، فهو غالبا يكرر ما يقال لمجرد أن يتنطع بالمشاركة في الحديث.
ينصح الخنفور جود: الواضح أنه انكشف أمرك يا جود، أكيد عرفوا إنك إنت يلي بتهرب الأطفال عن الحواجز بعد ما تدهنهم بزيت الإخفاء لتأخذهم ع بحر يافا. (ص9)
في الحكاية شجرة معمرّة يزيد عمرها على ألف وخمسمائة عام، وهي أيضا تتبادل الكلام مع جود ولينا ورؤية، ومع الحيوانات الأليفة ابنة البيئة الفلسطينية، وتخبئ الجميع بين اغصانها الكثيفة عن عيون أفراد العدو، وتمكنهم من النجاة والأمان.
تخفي رؤية جود في بيتها لأنه مُطرف عن القرية، وهناك يتعرف بجدتها المصابة بمرض النسيان، والتي لا تميّز بين السيف والمفتاح.. لقد أصبح السيف مفتاحا لذاكرتها، ويوضح لها حفيدها زين:
هذا سيف اشتراه لي عمي من البلدة القديمة في القدس. (ص34)
يقول الحاج صالح:
هاظ (هذا) المفتاح هو سيفي. إن فرطت فيه كمفتاح ما بفرّط فيه كسيف.
هذه المجموعة، من حيوانات، وفتيان وفتيات، يتوجهون إلى حيث سيحضرون (زيت الإخفاء)، وهو نوع من زيت (الجرجير) الذي يتم المسح به على الأجسام فلا يستطيع الأعداء رؤيتهم، وهو ما يمكنهم من عبور الأماكن إلى حيث يبلغون هدفهم.
تمّر المجموعة بواد الحوارث، وهو سهل استحوذ عليه(اليهود) قبل احتلال فلسطين، وطردوا الفلاحين منه، وهدفها الوصول إلى قاقون لإحضار زيت الجرجير.. ويتمكنون من إحضار كواشين أرضهم، ولعبة الجدة فريدة التي تركتها في القرية عند مغادرتها مع أهلها وهي طفلة.
يقترح جود على المجموعة: لازم نزور قاقون، زيارتها ممكن تحسم أمور كثيرة.
عندما يصلون إلى واد الحوارث يساعدهم التمساح بحملهم على ظهره حتى يعبروا المياه إلى قاقون حيث زيت الجرجير.
يجدون الكواشين التي تثبت ملكيتهم لأرض آبائهم وأجدادهم، ولعبة الجدة التي تركتها وهي طفلة، وبعد عودتهم من رحلتهم يقدمون اللعبة للجدة التي تتفتح ذاكرتها وتبدو كأنها استعادت ذاكرة وأيام طفولتها…
يقترح زين: لازم ننشر الكواشين.
قالت لينا: إحنا الكواشين، إحنا نسل الذاكرة. إحنا الأبناء والأحفاد كواشين وطننا المسروق.
قالت رؤية: إحنا في مخيمات اللجوء في لبنان وسورية والأردن وغزة والضفة، إحنا المهجرين في وطننا، في الجليل، والمثلث، والنقب حقيقة أكثر من أي حقيقة.
تنتهي الرواية بخاتمة ذات دلالة: في ذكرى النكبة، وفي ساعة متأخرة من مساء 15/5 شوهدت في سماء القرى المدن الفلسطينية المهجرة مئات البالونات والطائرات الورقية المضيئة، وقد نشرت بعض المواقع، الإلكترونية بأن مئات الأطفال نجحوا بتجاوز الحدود ووصلوا قراهم ومدنهم، وقد أُطلق على هذا الحراك: نسل الذاكرة لن ينسى.
*صدرت رواية الفتيان هذه في فلسطين عن مؤسسة تامر للتعليم الجامعي عام 2021.
✺ ✺ ✺
بين المماليك وآل عثمان … حول مسألة توحيد العالم الإسلامي
ياسر شعبان
في بدايات القرن الثالث عشر وجد المماليك أنفسهم “وهم جماعة عسكرية تم تربيتها وهندستها في القاهرة بداية من الملك الصالح أيوب بشكل منظم لتحترف الفنون القتالية والعسكرية” أمام مسئولية مواجهة مهمات العالم الإسلامي الاستراتيجية انطلاقاً من مصر وذلك في خضم اجتياح المغول لكل المشرق الإسلامي من حدود دولة خوارزم مع دولة جنكيز خان الصاعدة حتى اقتحام بغداد واسقاط الخلافة العباسية القيادة الروحية للمسلمين ووصولهم لعين جالوت أقصى موضع بلغه المغول توغلاً في العالم الإسلامي أي قرابة ال 5000كم من الزحف المخرب في ديار الإسلام .
كان هذا السيل المغولي يتدفق بلا أي أمل في كسر حدته في نفس اللحظة التاريخية التي يتعرض فيها المشرق العربي وقتها لأضخم حمله صليبية تستهدف أكبر دولة فيه فقد هاجم لويس التاسع ب 80 ألف جندي فرنجي دمياط بغرض غزو مصر وبتر وجودها الثقيل الذي أرهق الوجود الصليبي في الشام .
كان على المماليك مواجهة تلك التحديات بالغة الضخامة وكان عليهم أن يقدموا استجابات استثنائية والتي ستمثل بعد ذلك الركن المتين لشرعيتهم على مدار قرنين ونصف من الزمان..
كان عليهم مبدئيا مواجهة الغزو الصليبي الفرنسي وتحقق ذلك في معركتي المنصورة وفارسكور وتم جلاء القوات الغازية 1250م ثم مواجهة الاجتياح المغولي في موقعة عين جالوت وسحقه عام 1260م ثم أخذوا في معالجة تبعات انهيار الخلافة العباسية في بغداد فأعاد بيبرس إحياء الخلافة العباسية باعتبارها القيادة الروحية والدينية والشرعية .. ومحاولة للملمت جسد الخلافة المتشظي ضم الحجاز للسيطرة على الأراضي المقدسة وضم اليمن للسيطرة على طريق البحر الاحمر التجاري الذي صار رئيسيًا بعد تخريب المغول للطريق البري الواصل بين آسيا وأوروبا.. وأضحت هذه البلاد بِمُقتضى التقليد الذي منحهُ الخليفة العبَّاسي المُستنصر لِلظاهر بيبرس داخلة في نطاق الحُكم المملوكي. وقد جاء في هذا التقليد: «..وَقَد قَلَّدَكَ الدِّيَار المِصرِيَّة والبِلَاد الشَّامِيَّة والدِيَار بِكرِيَّة والحِجَازِيَّة واليَمَنِيَّة والفُرَاتِيَّة وَمَا يَتَجَدَّد مِنَ الفُتُوحَاتِ غَورًا وَنَجدًا» وقد مثل هذا التقليد رسم عام للاستراتيجية الخارجية للدولة المصرية وقتها ..
بعد إحياء الخِلافة العبَّاسيَّة، وتوطيد أركان الدولة المملوكيَّة، وإنزال الهزيمة القاسية بِالمغول كانت تحديات تصفية الوجود الصليبي ومقاومة المحاولات المغولية المتكررة لغزو مصر هما ركني الاستراتيجية العامة للدولة المصرية .
مهمة تصفية الوجود الصليبي:
بعد الانتصار الكبير في المنصورة وفارسكور وأسر لويس التاسع 1250م ثم موقعة عين جالوت التي رمت الخطر المغولي خلف الفرات وجه بيبرس سنة 1266م حملةً كُبرى ضدَّ أرمينية الصُغرى وأنزل بها هزيمة كُبرى قُرب دربساك ثم استرجع أنطاكية في سنة 1268م وفي سنة 1289م استعاد خليفته السلطان قلاوون طرابلس وفي سنة 1291م استعاد ابنه الأشرف خليل أخر معاقلهم في عكا منهيًا الوجود الصليبي تمامًا.
وفي عهد برسباي تم القضاء على خطر القرصنة الصليبية المنطلقة من قبرص بعد أن غزاها ثلاث مرات ثم حاول جقمق فتح رودس لكنه فشل .
مهمة القضاء على الخطر المغولي :
بدأت مع الانتصار في موقعة عين جالوت 1260م بقيادة الملك المظفر قطز حيث شكلت تلك المعركة المواجهة الأولى ثم كانت المواجهة الثانية في سنة 1277م حيث سحق بيبرس ِالمغول ومن حالفهم من السلاجقة في موقعة الأبلستين قرب قيسارية .
معركة حمص الثانية 1281م المواجهة الثالثة حيث التقى السلطان قلاوون بجيش مغول إيلخانة فارس و انتهت المعركه بهزيمه كبيرة للمغول .
ثم واجه المماليك في عهد الناصر محمد هجمة شرسة أخرى من مغول فارس بزعامة محمود غازان وفي موقعة مرج الأصفر 1302م حلت هزيمة ساحقة بهم وكانت تلك المعركة هي رابع مواجهة شاملة مع المغول.
ثم كانت هناك مواجهة رابعة وأخيرة في عهد السلطان فرج بن برقوق خلال اجتياح تيمور لنك ورغم أن المناوشات الأولى كانت لصالح المماليك إلا أن الاضطرابات في الجيش المملوكي والتمرد الداخلي أدى لانسحاب الجيش المملوكي وترك الشام لقدره وكانت الهجمه عنيفة لدرجة تحطيم الدولة العثمانية الناشئة في معركة أنقرة وأسر السلطان بايزيد الذي مات منتحرا لكن خطر دولة تيمور انتهى بمجرد موته ..ولم تواجه الدولة المصرية في عهد المماليك الخطر المغولي مرة أخرى.
مهمة لملمة كيان الخلافة المتشظي :
بدأت مع إحياء الخلافة في القاهرة ثم ضم الحجاز واليمن ثم تحرير الشام من الوجود الصليبي وضمه للسلطنة المملوكية ثم اكتفوا بدعم إمارات حدودية لتشكل حاجز بين التوسع العثماني وبين سلطنتهم ..
ولم يتكون خلف فكرة توحيد العالم الإسلامي أي دافع يجبرهم على تحقيقه وارتضوا بما تدره عليهم تجارة الترانزيت من أموال طائلة وأخذت الصناعة والزراعة في التدهور في القسم الثاني من سلطنتهم لأسباب كثيرة لا يتسع المجال لتفصيلها لكن أهمها نظام الإقطاع العسكري المركزي وإهمال الصناعة في مقابل تجارة الترانزيت للبضائع الصينية والهندية .. وكانت تلك المهمة التي فشلوا في استكمالها وهي توحيد العالم الإسلامي هي من أهم عوامل القضاء عليهم والتي ظلت مطروحة على جدول أعمال المنطقة تنادي على من يستطيعها حتى اقتنصها آل عثمان وكانت تلك مهمة عامة تخص الاستراتيجية الكلية للمنطقة .
وكانت هناك مهمة أخرى تخص الاستراتيجية العامة لمصر كجغرافيا وهو فتح الجنوب من بلاد النوبة وما يليها من بلاد وادي النيل وصبغها بالصبغة العربية الإسلامية .. والتي نجحوا فيها جزئيا عندما فتحوا بلاد النوبة حيث أرسل السُلطان الناصر محمد حملتين إليها بين سنتيّ 1315 و1316م ففتحها وأقام عليها أوَّل ملكٍ مُسلمٍ من أهلها هو عبدُ الله برشنبو لتبدأ في اتخاذ طابعها العربي الإسلامي. لكن المماليك لم يتطلعوا إلى أبعد من ذلك ..
أما عن آل عثمان فهم قبيلة حربية قذفت بهم الاضطرابات من وسط آسيا إلى غرب آسيا ويرجع احترافهم الفنون العسكرية نظراً لنمط الحياة الذي يميز القبائل المترحلة عامة وبدايةً شكلت هذه القبيلة إمارة حُدود تُركمانيَّة تعمل في خدمة سلطنة سلاجقة الروم ترد الغارات البيزنطيَّة عنها، وبعد سُقُوط السلطنة سالفة الذِكر استقلَّت الإمارات التُركمانيَّة التابعة لها، بما فيها الإمارة العُثمانيَّة، التي قُدِّر لها أن تبتلع سائر الإمارات بِمُرور الوقت ..
في تلك الفترة امتازت العلاقات العُثمانيَّة المملوكيَّة بِالود والتقارب الشديدين، مُنذُ أن قامت الدولة العُثمانيَّة وأخذت على عاتقها فتح بلاد البلقان ، وخطب السلاطين العُثمانيين ودَّ السلاطين المماليك باعتبارهم زُعماء العالم الإسلامي والقائمين على حماية الخِلافة الإسلاميَّة، واعترفوا لهم بِالأولويَّة السياسيَّة والدينيَّة، بينما خطَّطوا لِأنفُسهم دورًا مُتواضعًا هو دور البكوات حُماة حُدود ديار الإسلام. هذا وقد ظلَّ المماليك ينظرون إلى تحرُّكات العُثمانيين الجهاديَّة كجُزءٍ من المسألة الإسلاميَّة العامَّة. ولمَّا فتح العُثمانيُّون القُسطنطينيَّة سنة 1453م، اعتبر المماليك ذلك نصرًا عظيمًا لِعامَّة المُسلمين،واحتُفل في القاهرة بِهذا الحدث الجلل احتفالًا رائعًا، فزُينت الأسواق والحارات، وأوقدت الشُمُوع في الشوارع والمآذن، ودُقَّت البشائر السُلطانيَّة في قلعة الجبل عدَّة أيَّام، وعمَّ السُكَّان الفرح. وفي نفس الوقت شكَّل فتحُ القُسطنطينيَّة الحد النهائي لِلعلاقات الوديَّة بين المماليك والعُثمانيين.
ثم بدأت المواجهة المحتومة حيث جرت بين العُثمانيين والمماليك بضعة وقعات ما بين سنتيّ 1483 و1491م نتيجة الخِلافات الحُدوديَّة كانت الغلبة فيها للمماليك ، وانتهت بِعقد اتفاقيَّة سلام بين الدولتين بِوساطة السُلطان الحفصي أبي يحيى زكريَّاء بن يحيى..
وعندما ظهرت الدولة الصفوية مهددة بفتح باب الصراع في المنطقة على أساس مذهبي كان على مصر زعيمة أهل السنة في ذلك الوقت أن تقوم بمهماتها الجديدة لكن الخطر البرتغالي الذي ظهر فجأة بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح والمواجهة الفاشلة معه على ميدان المحيط الهندي في معركة ديو البحرية والتي أدت لانسحاب الأسطول المصري منه وبوار تجارة مصر على إثر ذلك .. وغرقها في الاضطرابات الداخلية وارتفاع الأسعار وضيق الأحوال .. جعلت مصر تنسحب تدريجيا مخلفة فراغ أخذ يملؤه آل عثمان فبدل من أن تهاجم مصر الدولة الصفوية وتنتزع منها العراق والجزيرة الفراتية لتقطع الطريق على طموحات آل عثمان في تطويق شمال السلطنة المصرية وبدل ذلك وقفت تتفرج وتنتظر أن يستنزف الطرفان بعضهما فما كان إلا أن فاجأ سليم الأول المنطقة بانتصار سريع ساحق على الصفويين في معركة جالديران واستدار ليكمل ضربته الثانية في مرج دابق ويهزم الغوري سلطان مصر مقر الخلافة العباسية ليتلوها بهزيمة طومان باي في الريدانية لينهي قيادة القاهرة للعالم الإسلامي وربما لو كان سليم الأول قد أصر على تنفيذ قراره ولم يرضخ للإنكشارية بنقل عاصمة دولته من اسطنبول للقاهرة لتغير كثير من تاريخ المنطقة ..
إن سلطنة آل عثمان كانت سلطنة ثغور لم تكن لتتمدد لو لم تنسحب مصر السلطنة المركزية إلا بسبب عجزها عن تحقيق المهمة الاستراتيجية الكبرى وهي توحيد شظايا الخلافة العباسية تحت زعامة القاهرة ذلك لا يعني أننا ننكر الأسباب الخاصة بطبيعة الإقطاع العسكري المركزي أو مضار الاعتماد على عوائد تجارة الترانزيت فقط كركيزة أساسية في الاقتصاد على ضعف الدولة المملوكية عن تحقيق مهماتها.
ما يعني أن الفراغ الذي خلفته مصر المملوكية ملأته تركيا العثمانية هذه هي طبيعة العلاقة والمعادلة في المنطقة وقتها فلم يتجنى العثمانيون بقدر ما تراخى المماليك ولم يكن ليستطيعوا التوغل في المنطقة لولا أن الساحة كانت مهيئة لتوغلهم ..
كانت تلك المهمة وهي توحيد هذا التشظي والذي سبق الاجتياح المغولي كانت دائما مهمة ملقاه على جدول أعمال المنطقة حاول البويهيون وحاول السلاجقة فيه وحاول الفاطميون وحاول الأيوبيون وحاول الموحدون في المغرب وحاول المماليك وحاول آل عثمان بل لعلنا أن نضيف محاولة إليخانية مغول فارس بعد إسلامهم في ضم الشام ومصر أيام محمود غازان أو أيام الدولة التيمورية فقد كان تيمور لنك مسلما أو نضيف توسعات الدولة الصفوية في إيران لكن ما الفرق بين أن تنطلق حركة التوحيد من القاهرة وانطلاقها من استانبول مثلا أو تبريز ما الفرق الجوهري الذي يجعلنا نرجح إنطلاقة عن الأخرى ..
إن ما يجعلنا نفاضل هي الطابع الذي يحكم الدولة والاتجاه العام للثقافة التي تحكم وتسود القاهرة عندما توحد فهي عربية بإدارتها ومؤسساتها وجيشها وآدابها وعلومها وفنونها فالقاهرة هي مركز الحضارة العربية حيث العلوم والآداب والإدارة بالعربية لكن الانطلاق من استانبول التي تستخدم التركية تؤدي إلى دولة مصابة بالفصام لغة أغلب سكانها العربية لكن إدارتها وحكومتها وسجلاتها بالتركية التوحيد من استانبول حجز عن الأتراك فرصة التعريب والاندماج النهائي في جسد الدولة العربية خاصة أنهم ليسوا كالفرس لهم سابقة حضارية قديمة بل هم قبائل رحل لا ماضي لهم ولا تراث حضاري وكان من الممكن امتصاصهم بسهولة .. إن التوحيد السياسي عندما أُنجز على يد استانبول جاء بتبعات مدمرة على جسد الدولة الموحدة الوليدة كان من الممكن تداركها لو نقل سليم مقر حكمه للقاهرة كما فعل المعز لدين الله الفاطمي قبله ب600 عام عندما انتقل بمقر حكمه من المغرب إلى مصر .. إن المفاضلة لم تكن بين المماليك وآل عثمان فكلاهما يحكم بروح بربرية لكن المفاضلة كانت بين استانبول التركية الجاهلة البربرية المتواضعة الجمال وبين القاهرة العربية المتعلمة المتحضرة عميقة الجمال.
لم تستطع استانبول بطبيعة الحال أن تُتَرّك القاهرة لكنها حرمت نفسها من التعريب واضمحلت القاهرة القلب النابض للمشرق وهذا ليس تجني أو رأي انفعالي فعندما الغيت الخلافة 1922 بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولي صرح سعيد النورسي صاحب رسائل النور وهو من شيوخ الإسلام الكبار في تركيا أن أكبر خطأ ارتكبته الدولة العثمانية أنها لم تتعرب ..
كانت العصور الوسطي ومشارف العصر الحديث فرصة لتشكل دولة كبرى تنصهر فيها القوميات الصغرى والفرعية تحت لواء الثقافة العربية ومركزية القاهرة السياسية الحضارية لتدخل المنطقة العصر الحديث بمساحة جغرافية موحدة عصية على التفتيت قابلة للتعاطي مع العصر الحديث ومفرداته كما دخلته الصين بحجمها الماموثي .
إن هزيمة المماليك في مرج دابق كانت هزيمة لمستقبل المنطقة كلها كانت هزيمة للمهزومين وللمنتصرين على السواء ..
ولربما حددت تلك المهمة الجوهرية التي كانت في مواجهة دولة المماليك مع الزمن جوهر الاستراتيجية المصرية المفترضة من وقتها وحتى الآن وكلما استعادت مصر وعيها الذاتي بجغرافيتها عبر إرادة سياسية حرة كلما انطلقت في تنفيذ هذه المهمة الناقصة وهي مد شرايين التواصل بين الجسد والرأس .. إن دور مصر الوحدوي هو من ميراث مهمات عصر المماليك واضطراباته وصراعاته فكثيرا من مهماتنا الاستراتيجية تعود جذورها لذلك العصر..
..حاول إنجازه كل من محمد علي وابنه إبراهيم عبر توسعاتهم وإصلاحاتهم واستعادة مركزية مصر في دولة المشرق الكبرى … ثم حاول إسماعيل عندما أوصل سيطرة القاهرة حتى منابع النيل …. ثم حاول جمال عبد الناصر إبان تجربته الوحدوية مع سوريا ثم ميثاق طرابلس الذي كان يمهد للوحدة بين ليبيا والسودان ومصر ..
فعندما كانت مصر دولة مركزية في المنطقة خلال فترة المد القومي كانت تركيا دولة هامشية على أطراف العالم العربي وهامشية على أطراف حلف الناتو وعندما انسحبت مصر بعد موت ناصر وتخلت عن مهماتها على مدار40 سنة حاولت تركيا ملئ الفراغ عبر جماعات الاخوان .. لكن هذه المرة ليس في إطار تناقضات المنطقة الداخلية وانطلاقا من مصالحها ذاتها لكن في إطار تناقضات المراكز الرأسمالية وانطلاقا من مصالح خارجية عن المنطقة ..
:::::
موقع “اشتباك”
✺ ✺ ✺
مقتطفات واسعة من كتاب: «دولة إسرائيل ضد اليهود» (الحلقة الثالثة)، لمؤلفه سيلفان سيبل
المصدر: “الهدف”
مقتطفات واسعة من كتاب خطير يُشرّح إسرائيل
«دولة إسرائيل ضد اليهود»
كتاب جديد من تأليف: سيلفان سيبل
(الحلقة 3: مقتطفات من كتاب «دولة إسرائيل ضد اليهود» للكاتب اليهودي سيلفان سيبل)
«لكن ما هو دمك؟»..قانون الدولة القومية اليهودية
عندما قُدّم مشروع القانون حول «الدولة القومية اليهودية» إلى الكنيست، قدّمت القائمة المشتركة التي تضم النواب العرب الفلسطينيين نصاً بديلاً يُوصي بإلتزام «مبدأ مواطنة متساوية لكل مواطن»، سواء أكان يهودياً أو عربياً أو أية صفة أخرى؛ أي أن النص يقف على النقيض تماماً من القانون الذي يمنح بشكل صريح المواطنة الكاملة «لليهود وحدهم». ماذا جرى للإقتراح البديل؟ هل رُفض؟ لا، لأنه ببساطة لم يُطرح للتصويت. وبذلك يكون البرلمان الذي من المفترض أن يُجسّد الديمقراطية، يُصبح هو نفسه غير ديمقراطي. لكن الرسالة المقصودة من وراء ذلك الرفض كانت تقول شيئاً آخر وهو: «انتم أيها النواب العرب… في هذا الأمر تحديداً، ليس لكم كلمة لتقولوها»! وقد قالها نتنياهو بالفم الملآن: «إسرائيل ليست دولة لكل مواطنيها، إنها الدولة ـ الأمة لليهود فقط».
بعد أن يشرح المؤلف القانون المشار إليه أعلاه، وهو الذي صوّت عليه الكنيست في 19 تموز (يوليو) 2018، يوضّح «الخبث والتحايل» الذي كان يُميّز بين «الجنسية» و «المواطنة»، منذ إنشاء إسرائيل. فاليهودي هو يهودي الجنسية (أي الهوية الإثنية)، لكنه يحمل المواطنة الإسرائيلية (الهوية القانونية). أما الفلسطيني فتكون جنسيته «عربي» أو «درزي» إلخ.. يؤكد المؤلف بأن «الرؤية» التي يُجسّدها هذا القانون قديمة جداً، وهي راسخة في الصهيونية الأصلية التي كانت متأثرة جداً بالقوميات الإثنية الموجودة في بلدان شرق أوروبا. ويلفت الإنتباه بعد إقرار القانون تصريح وزيرة العدل آنذاك «إيليت شاكيد» التي قالت: «إنه لأمرٌ مشروع الحفاظ على أغلبية يهودية في إسرائيل حتى لو كان ثمن ذلك إنتهاك حقوق المواطنين غير اليهود». وحتى لا يكون هناك أي التباس في أقوالها، حدّدتْ بدقّة قائلة: «لا يجب على الصهيونية الإستمرار في الخضوع لنظام حقوق فردية يتم تأويلها بصورة عالمية». يتّضح من ذلك بأن المبادرين لصياغة قانون الدولة القومية اليهودية كان استهدافهم أساساً مبدأ الحقوق الفردية العالمية غير القابلة للتصرف.
«هذا القانون سيئ لدولة إسرائيل وسيئ للشعب اليهودي». هذه الكلمات لم تصدر عن زعيم «الحزب العربي»، أيمن عوده، ولا عن اليساريين من أمثال المؤرّخ زيف شتيرنهل، بل عن روفين رفلين، رئيس دولة إسرائيل الذي كان واحداً من مؤسسي الليكود! هذه عيّنة من أصوات كثيرة ارتفعت احتجاجاً وتنديداً ورفضاً للقانون الذي يتعارض مع نصوص «إعلان إستقلال دولة إسرائيل»؛ والأخطر من ذلك كله انه القانون الذي يُكرّس انتصار النزعة الإثنية (العرقية) العنصرية.
يُورد المؤلف بعد ذلك القصة التالية التي وقعت في آب (أغسطس) 2018، أي بعد شهر من سنّ القانون ونُشرت في الصحافة، وهي تُظهر المدى الذي وصلت إليه العنصرية في إسرائيل. يجتاز نديم سرّوح، 34 سنة، دكتور في علوم المعلوماتية، الحدود الإسرائيلية مع الأردن حيث أمضى إجازة مع العائلة الفلسطينية لزوجته فينوس أيوب، خرّيجة هندسة معمارية من معهد تخنيون في إسرائيل. يسأله شرطي إسرائيلي في البداية فيما إذا كانت زوجته حاملاً، فيجيبه نديم بلا. «جيّد، يعني بإمكانها البقاء تحت الشمس»، يقول الشرطي. كانوا في صحراء عربة، وفي ذلك اليوم كانت درجة الحرارة تتجاوز 45 درجة مئوية. في القسم قام شرطي ومعه موظفة من «شين بيت» (المخابرات الإسرائيلية) باستجواب نديم. من أين أتيت؟ ماذا تفعل؟ من كان والدك؟ هذا الأخير ولد في حيفا عام 1940، وطُرد إلى لبنان في عام 1948. وفي عام 1968 ذهب إلى ألمانيا للدراسة حيث بقي هناك. وهناك وُلد نديم عام 1984. دخل إلى إسرائيل بجواز سفر ألماني وعثر على عائلته الفلسطينية. هنا تسأله موظفة «شين بيت»: ما هو أصلك بالضبط؟ يُجيبها نديم: «من ألمانيا، وليس لديّ أية مواطنة أخرى». تعود الموظفة لتسأل: «أجل، لكن ما هو دمك؟ ألماني أم فلسطيني؟». يرد عليها نديم: «لا أفهم ماذا تريدين.. لكن إذا كنتِ تتكلمين عن دمي، فهو أيضاً بولندي». في الواقع تزوّج والده من ألمانية أصلها بولندي.
بعد ذلك يستمر التحقيق لوقت طويل حيث تسأله موظفة «شين بيت» ـ مثلاً ـ عن رأيه حول ما يجري في غزة. وعندما تملّك الغيظ نديم أجاب: «لا أعتقد بأنه مسموح لكم طرح هذا النوع من الأسئلة عليّ». هنا فقدت الموظفة السيطرة على أعصابها وأجابت: «نفعل ما نريد، نحن لسنا في ألمانيا هنا. لا ندع اللاجئين يدخلون كما يشاؤون مثلما تفعل ميركل خاصتك»؛ ثم تُشير إليه لتريه علماً يرفرف في الخارج، «أترى؟ أنتَ في إسرائيل، وهذه ليست بلدك، وإذا كان هذا لا يعجبك، بإمكاننا مصادرة جواز سفرك وإعادتك إلى الأردن». بعدها، يتناوب الشرطي في التحقيق: ماذا تفعل في برلين؟ ما هي علاقاتك؟ وتستأنف الموظفة مكررة للضغط عليه «لا تكذب.. إذا ما أردت يوماً أن ترى زوجتك ثانية». بعدها تعود من جديد لكي تسأله هذه المرة باللغة العربية «أنت تعزف في مجموعة موسيقية وتقدّم حفلات مجانية من أجل غزة». يُذكّرها بأنه لا يفهم اللغة العربية، فتبدأ بالصراخ: «ما هذا العربي الذي لا يتكلّم لغة دمه؟» لكن عندما تستجوبه عن القدس يعود «دمه» للظهور. لا تريد أن تصدّق بأنه لا يحمل أية مشاعر نحو المدينة المقدسة. دمه لا يسمح له بذلك. وعندما تسأله متى ألقى حجراً آخر مرة على إسرائيلي ينفجر نديم ضاحكاً. بعدها أعيد له جواز سفره، وتمكّن من الالتحاق بعائلته.
يُظهر هذا التحقيق جهل محققّي الأمن بالبيئة التي يعملون فيها: الجميع إرهابيون بالنسبة لهم. كما يُظهر أيضاً العنصرية والساديّة التي يتعاملون بها مع الآخر. وقد أصبحت مظاهر ممارسة العنصرية في المجتمع الإسرائيلي منتشرة على نطاق واسع، خاصة ضد العرب في جميع المجالات. على سبيل المثال، تظاهر سكان العفّولة لأنهم لا يريدون أن تكون مدينتهم مختلطة، بل مدينة يهودية. جاءت التظاهرة بعد أن حصل 43 من سكان المدينة العرب على عطاءٍ لبناء منازل لهم في الحيّ الجديد. وقد ألغي البيع من قبل المحكمة التي قدّرت بأن شروط منح العطاء مخالفة للأنظمة!
بعد ذلك، يُفصّل المؤلف مخططات الإسرائيليين لضم الضفة الغربية وتجميع الفلسطينيين في أماكن معيّنة في منطقة (أ) و (ب) من أجل إفراغ الأرياف من السكان وتجميعهم حول المدن. أما الهدف النهائي من ذلك فهو إنشاء «كانتونات» للفلسطينيين، كما اقترح أفيغدور ليبرمان عام 2004.
«لا يفهمون بأن هذا البلد مِلْكٌ للرجل الأبيض»
فكرةٌ صاعدة: النقاوة العنصرية
في هذا الفصل الرابع من كتاب «دولة إسرائيل ضد اليهود» للكاتب اليهودي سيلفان سيبل، يشرح المؤلف كيف استقرّت العنصرية في المجتمع الإسرائيلي بتواطؤ وحسن استقبال من جانب السلطات العمومية. كمدخل لذلك يعرض بالتفصيل طريقة تعامل الإسرائيليين مع «المتسلّلين» الأفارقة (خاصة من دارفور وإثيوبيا) إلى إسرائيل، وهي ظاهرة بدأت منذ عشر سنوات، بينما يعود وجود الأجانب هناك إلى وقت أبعد من ذلك، خاصة من دول شرق أوروبا، وأيضاً من الفلبّين وغيرها لإستخدامهم كأيدٍ عاملة رخيصة. ويستشهد بتصريح لوزير داخلية ينتمي إلى حزب «شاس» الديني؛ إذ يقول فيه: «هؤلاء المسلمون الذين جاءوا إلى بلدنا لا يعتقدون بأنها مِلْكٌ لنا، إنها مِلْكٌ للرجل الأبيض». ويُضيف بأن على إسرائيل أن تلجأ إلى جميع الوسائل لطرد هؤلاء الأجانب، بحيث لا يبقى منهم احداً.
يُعلّق المؤلف على ذلك مُظِهراً جهل وزير الداخلية؛ إن معظم الأرتيريين مسيحيون، وليسوا مسلمين. كما أن عدداً كبيراً من سكان دارفور أرواحيون (animists). وُيلاحظ بأن العنصرية ضد السود لم تكن موجودة في إسرائيل من قبل، ربما لأن عددهم كان قليلاً جداً، ولأن العرب هم الذين كانوا في بؤرة اهتمام العنصريين. أما فكرة الدفاع عن الرجل الأبيض فهي جديدة تماماً. من المفهوم ان يُدافع الإسرائيليون عن الغرب، أما عن الرجل الأبيض، فهذا ما لم يرد أي نص حوله في الأدبيات الصهيونية. وفيما يتعلق باليهود الفلاشا (يهود إثيوبيا وعددهم مئة ألف) الذين قدموا إلى إسرائيل فهم لا يزالون يتعرضون إلى التمييز والأعمال العدوانية والحرمان من العمل والتعليم والمسكن اللائق. وبالنتيجة، يَصعبُ القول أنهم تمكنوا من الإندماج في المجتمع. أخيراً فيما يتعلق باللاجئين أو طالبي اللجوء الأفارقة الذين جاءوا بداية سنوات 2000 من شرق إفريقيا، فإنهم يُعانون من العداء الشديد لهم. وقد اتخذت حكومة نتنياهو في عامي 2012 ـ 2013 إجراءات من أجل إبعادهم إلى بلادهم الأصلية. ويُلاحظ المؤلف أنه في الوقت الذي كان يعلو فيه الصراخ محذّراً من «تهديد الهويّة» الذي يُمثّله دخول الأفارقة إلى البلاد، كان استيراد العمالة الوافدة من الفلبّين وتايلاند يجري على قدمٍ وساق؛ ويستنتج من ذلك بأن العداء للأفارقة لا يمكن ان يُعزى إلّا إلى الزنوجة (negritude). وهذه ظاهرة جديدة ربما تُفسَّر في ضوء التقارب المتزايد الذي يجمع بين أوساط أقصى اليمين الإسرائيلي والإنجيليين الأمريكيين، ومن ثم مع عتاة التفوّق العنصري للعرق الأبيض. ومعروف بأن العداء لدى هؤلاء يأتي ضد السود في المرتبة الأولى.
ولإظهار عمق إنغراس الأفكار العنصرية لدى اليمين الديني الإسرائيلي يستشهد المؤلف بأقوال للحاخام غيوري ريديل، أحد المسؤولين عن المدرسة العسكرية الحاخامية «بني ديفيد» المذكورة سابقاً، قالها في نيسان (إبريل) 2019 في مستوطنة «إيلي»، وهي أقوال مسجّلة: «لقد كانت ايديولوجية هتلر صحيحة مئة بالمئة، لكنه كان يقصد الجانب السيء». وقبل أن يلتقط المرء أنفاسه، يُضيف: «نعم هذا هو» ؛ والمقصود أن هتلر تعرّض لليهود بدلاً من أن يعمل على إبادة الشياطين الحقيقية، وهم العرب والمسلمون. حقاً، إنه لمن الصعب أن يعرف المرء كيف يفكر أمثال هذا المسؤول!
ويُلفت المؤلف الإنتباه إلى أن الدور الذي قام به بعض اليهود الأمريكيين في نشر العنصرية، خاصة القاطنين في مدينة الخليل، يجب أن لا يقلّل من شأنه. ولتأكيد ذلك، يستشهد بما ورد في كتاب لإستاذة في جامعة بوسطن صدر عام 2017، وتقول فيه بأنها استنتجت بأن اليهود الأمريكيين الذين يهاجرون إلى إسرائيل هم ايضاً من المتديّنين المتطرفين. يقف وراء هذا الإلتحاق بنظريات التفوّق العرقي الأبيض ظاهرة تتوسّع بقوة، وهي فكرة الحفاظ على النقاوة العرقية. في الواقع تلتقي هذه الفكرة مع الرغبة العميقة بإنطواء المرء على نفسه، بإعتبار ذلك أفضل طريقة للعيش.
في 9 شباط (فبراير) 2016، كان نتنياهو قد أعلن عن خطة «لإحاطة إسرائيل بأسوار أمنية». ونظراً ليقينه بأن هذه الفكرة ستحظى بموافقة واسعة من قبل الرأي العام، تابع القول: «في نهاية الأمر، ستكون دولة إسرائيل ـ كما أراها ـ محاطة تماماً بالاسوار. سوف يُقال لي: هل، إذنْ، ما تريده هو حماية الفيلا؟ الجواب نعم. هل سنحيط دولة إسرائيل بكاملها بحواجز وأسوار؟ الجواب نعم. في البيئة التي نعيش فيها يتوجب علينا أن ندافع عن أنفسنا في مواجهة حيوانات متوحشّة» (صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية بتاريخ 9 شباط / فبراير 2016). كان تشبيه «الفيلا في الأدغال» منسوباً لإسرائيل وحدها كدولة متحضرة محاطة بحيوانات متوحشة قد صدرت بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 عن رئيس الوزراء العمالي آنذاك إيهود باراك.
هذا المفهوم هو منطلق الإنطواء على الذات الذي يرفض حضور الآخرين، ويُمكن ان يُفضي إلى نزعات عنصرية مستمدة من بواعث أخرى غير الحاجة إلى الأمن، هي في معظم الأحيان من وحي ديني؛ بل وأكثر من ذلك، من مشّتقّات التشوّش بين التديّن والقومية. وكإمتداد لذلك، يُفصّل الكتاب الحديث عن معارضة رجال الدين لزواج اليهودي من غير اليهودية، من أجل الحفاظ على النقاوة اليهودية. ويضرب مثالاً على ذلك بردود الفعل العنيفة لدى المتديّنين عندما كُشف النقاب عام 2014 عن علاقة بين إبن نتنياهو وطالبة نرويجية.
الأمر الأكثر خطورة في هذا المجال هو إنبثاق مدرسة علمية تريد أن تجعل من «علم الوراثة اليهودية» ألف باء التبرير للصهيونية، أي «الحق التاريخي» لليهود في العودة إلى أرض أسلافهم. بدأ ذلك بعقد ندوة أكاديمية في تل أبيب (كانون الثاني 2014) حول موضوع « اليهود والعرق: علم الوراثة (الجينات)، التاريخ والثقافة»… لكن السؤال الذي يُطرح: هل هناك تاريخٌ للأعراق؟ هل يُمكن لعلم الوراثة أن يُحدّد من هو اليهودي؟.. ومع ذلك، تجرّأ أستاذ أمريكي (هاري أوسترر) على سبيل المثال (وهو يدير مختبراً في علم الوراثة في جامعة يهودية خاصة)، على إصدار كتاب عام 2012 أثار وقعاً شديداً. اسم الكتاب «التراث، تاريخ وراثي للشعب اليهودي»، ويطرح فيه المؤلف ما يسميه «الأساس الوراثي لليهودية». عناوين فصوله الستة تتحدث عن نفسها: الأول: «مظهر اليهودي»، الثاني « المؤسسون»، الثالث «شجرات العائلة»، الرابع «القبائل»، الخامس «الصفات»، والأخير ـ طبعاً «اليهودية». تعرّض هذا الكتاب لنقد شديد في مجلة «نيويورك ريفيو بوكس» على يد عالم شهير في علم الوراثة في جامعة هارفرد هو ريشارد ليوانتان الذي فنّد كل ما جاء فيه تماماً. بالرغم من ذلك، أصبح لأوسترر أقران ومنافسون في إسرائيل، كعالم الوراثة جيل أتزمون. يورد المؤلف مقتطفات من مناقشة أجراها مع هذا الأخير عام 2014 تُظهر مدى هشاشة المنطق العلمي الذي تحدّث به.
في المحصّلة، صحيحٌ أن هذه الإتجاهات المخيفة لا تزال هامشية في إسرائيل، لكن من الخطأ عدم أخذ تقدّمها على محمل الجد. في عام 1967، عندما احتلت إسرائيل القدس الشرقية، خرج حاخام الجيش شلومو غورين ليطالب بهدم صخرة المسجد الاقصى لكي يبني مكانها الهيكل الثالث. وصفته الطبقة السياسية الإسرائيلية وقتها ﺑ «المجنون». لكننا نرى ـ بعد 53 من إحتلال القدس ـ بأن أنصار إعادة بناء الهيكل لم يعودوا هامشيين، بل يسير في ركابهم وزراء ونواب وجمعيات جيوبها محشوّة بالأموال.. الفكرة واضحة!
________
تابعونا على:
- على موقعنا:
- توتير:
- فيس بوك:
https://www.facebook.com/kanaanonline/
- ملاحظة من “كنعان”:
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.
- عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
- يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org