دعوني أبدأ بإجابة لا سؤال:
قضاء العرب، على يد أنظمة تابعة وأسيادها الرأسماليين الاستعماريين، أكثر من مئة عام في تجزئة لأكثر من عشرين كيان هش بكل معنى، ودخولهم قرناً جديداً من التفتيت المتناسل أميبياً يعني أن قرار القتل على أيدي أنظمة في هذا القرن اتضح بأنها تنوب عن الرأسمالية الإمبريالية والصهيونية في استغلال الأمة دون أن تتكلف جملة الأعداء جندياً واحداً لمجرد إعطاء الأوامر!
نحن الأمة التي في كل قطر منها يوجد رجل واحد تلطخ صوره ذهنية ونفسية وجدار كل بيت وذلك بقرار خصي كل الرجال والنساء على السواء. هو البلد والبلد هو فقط، وهو نفسه محكوم لسادته من الخارج ليحفظوا كرسيه، سادته هو وليسوا بالضرورة سادة حقيقيين.
فلتتخيلوا أخي العربي وأختي العربية أن يكون سيدك سفاحاً احمقاً تافهاً مثل ترامب!
أو سيدتك حمقاء منحرفة مثل هيلاري رودني كلينتون!
لذا، وفي هذا المناخ الهابط بالقصد تتماسك الأمم القديمة الثلاث المحيطة بنا، ناهيك عن الكيان طبعاً، وتتقاسم هذا الوطن وراثة للاستعمار الأول العثماني ثم الغربي ولها في كل قطر وكيل محلي يعمل لها كمندوب سامي يحتل بلده لصالح سيده.
مختلف الأمم الثلاث هذه (إيران، تركيا، إثيوبيا) وصلت درجة ما من الاستقرار الجيولوجي الاجتماعي، فجرى إخضاع أو إقناع القوميات والإثنيات الأخرى فيها لدولة وطنية قومية كبيرة.
وللمقارنة فإن تعدد القوميات والإثنيات في الوطن العربي أقل بكثير من حال هذه الأمم الثلاث، ولكن مصادر التفكيك عديدة لعل أخطرها الطائفية وليس الطائفة ولنقل كما يسميه بعض العروبيين “الدين السياسي” ولهذا حديث آخر.
لقد فهم الأوربيون بعد القرون الوسطى وبعد الثورة الصناعية خصوصاً أن الصراع الطائفي والديني قاتل ومعيق للتطوير والتنمية، ولذا لم ينسفوا الدين ولا المذاهب، ولكنهم أحلوا في المقام الأول:
• العقل
• العلم والصناعة خاصة
• والقومية
وأصبح الدين طقوساً خاصة لكل أمرئ فيها كما يرى، بل وصلت الأمور إلى أن غدا الدين ورجاله من عتاة القوميين وكذلك مثقفين عضويين لدولة الأمة. أي أن الديني تابع للسياسي لأن السياسي وطني يخدم الأمة حتى ولو كانت معتدية وتوسعية.
ولهذه العوامل استقرت أقطار أوروبا على صعيد الجيولوجيا الاجتماعية واصبحت أوروبا المتصالحة والمتعاونة اقتصادياً وتقنياً وثقافياً…إلخ.
صحيح أن هناك تفاوتات ولكن ليس هناك أوربا تحتل أوربا لا لنفسها ولا لغيرها.
لماذا نحن والأمم الثلاث على خلاف عن أوروبا؟
لا مجل للإطالة، لأن ما يمهني الإشارة إلى عاملين وراء هذا:
• الأول: الأنظمة العربية التي جعلت الوطن هشاً قرابة الموت
• والثاني: أطماع القوميات الثلاث في الوطن العربي وصولاً إلى الاحتلال والاقتطاع وحبس المياه والتتبيع وخدمة الإمبريالية وحتى الصهيونية في حالات ضد هذه الأمة.
العروبة وإيران:
بداية، أعتقد أن علينا كمواطنين بسطاء نزعم بأننا عروبيون، أن ننجز المهمة الأولى وهي:
ما هي العروبة، أو في هذا العصر: من نحن؟
ولأن حديثي هذا متعلق بإيران ونحن، أختصر القول بأن العروبة ثقافة وانتماء ومصلحة مادية للأكثرية الشعبية، أي أنها جامع للعرب وكل من هم في هذا الوطن كإطار حضاري واجتماعي وجغرافي ومصلحي وطني مادي في الوحدة والتنمية.
وهذا ما يجب أن تفهمه الأمم القديمة الثلاث أو على الأقل أن تسمح لنا بما تسمح به لنفسها، لكنها لا تريد ولا تقبل!
وهذا يفتح على أن نقرأ ماذا تريد إيران؟
بل ما ومن هي؟
ثم؛ هل هي دولة قومية أم دولة دينية؟
أم حالة تراكبية؟
أعتقد أنها دولة قومية عنصرية تقودها القومية الفارسية تماماً كما بقية الأمم الحية، وليست حالة تراكبية بالقطع من خلال الوقائع الموثقة والملموسة، وهي دولة نظامها الاقتصادي نظام رأسمالي، وأما تسمية اقتصاد إسلامي فليس سوى طربوش لتطريب الواقعين تحت الاستغلال الديني وتغطية على من يتحكمون بالسلطة وبالثروة، فلا فارق بين الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الإسلامي سوى في درجة التطور لبلد من المركز وآخر من الأطراف.
فهي منخرطة في السوق الرأسمالية العالمية، ولذا كانت العقوبات عليها موجعة لأنها في أحضانهم.
وللإنصاف ليست وحدها، فالجمهوريات العربية كلها منخرطة كذلك وبعضها أقل وطنية منها.
وإيران دولة فيها طبقات اجتماعية، فيها الرأسمالية والوسطى والكادحة، وجميعهم مسلمون!
فما هو الفارق الحاسم: الطبقية والمصالح المادية أم الدين؟
لكن برجوازية إيران وطنية أي أنها تحاول إبقاء الاقتصاد في خدمة الوطن بغض النظر عن التوزيع.
وهذا بعكس معظم الأنظمة العربية التي تشتغل للآخر وضد الأمة.
ولذا، فإن دخول إيران البريكس لن يغير في توزيع الثروة والسلطة فيها شيئاً ولكن سيزيد من حمايتها لنفسها لأن البريكس أيضا دول رأسمالية لكن ليست إمبريالية على الأقل حتى الآن، وهذا يؤكد وطنية النظام في إيران.
لكن القومية الفارسية متطرفة، تستخدم الدين لتنجز أمرين:
• قطع الطريق على أية مطالب قومية أو إثنية للأمم الأخرى تحت حكمها
• وللدخول في تشارك مع تركيا في السيطرة وإن أمكن تقاسم الوطن العربي وحتى تشارك غير معلن مع الأمريكي.
وإذا كانت تقوية سيطرة القومية الفارسية داخل فارس هو حقها، فإن دورها ضد الوطن العربي خطير وعدائي وهذه مشكلتنا معها.
وفي سياق موقف إيران من الأمة العربية من المهم التمييز بين دورها في العراق ودورها في سوريا وفقاً لسياقات هذه الأقطار.
لعل مقارنة هاتين الحالتين تكشف لنا الغطاء بل تخلع الطربوش الديني ولأن الطربوش الديني تركي نقول العمامة.
إيران في العراق جعلت منه بعد الغزو مدى حيوياً لها في كل شيء، ومن هنا كانت المستفيد الثاني بعد أمريكا، حيث احتلت أمريكا العراق ودمرته مما سمح لإيران تحقيق الربح من جهة، سواء بمشيئة أمريكا أو رغماً عنها، والظهور بمظهر العدو للأمريكان!!! وهذا مدهش حقاً!
وإيران في سوريا، هي حليف كما سوريا حليف لها، ولكن تسييل الدعم دقيق ومحسوب بحيث تبقى سوريا “قوت ولا تموت” ولعل آخر خطأ وقعت فيه إيران بكشف موقفها المحسوب كما يبدو بدقة بائع الذهب، حيث أعلنت أنها سترسل إلى سوريا صواريخ (خرداد) بعد العدوان الأخير على أحياء دمشق السكنية، وهو إعلان يتكرر منذ أكثر من عامين!
ولكن لماذا اليوم وليس قبله؟
وحتى الآن لم يتحقق شيء من هذا الزعم وعلى الأغلب لن يتحقق.
وبالمقابل، ليست هكذا علاقات قوى الثورة المضادة التي تقدم للكيان الصهيوني ما تنتجه لنفسها فوراً!
إن الفاضح هو الإعلان بهذا الأسلوب الفوقي والإهاني لسوريا، وبمعنى أن عدم النطق به كان أفضل لكرامة إيران نفسها.
وهنا نلاحظ الفارق بين إيران في سوريا وإيران مع حزب الله والحوثيين والحديث عن المسيرات وعشرات آلاف الصواريخ البالستية والدقيقة، فليس سهلاً قبول أن هذه الصواريخ تصنيع يمني، وحبذا لو كان ذلك كذلك.
وهذا يغري بالسؤال: هل هذا الانحياز -وخاصة لحزب الله- قائم على أساس طائفي والارتباط بولاية الفقيه التي هي مسألة خلافية لا أرضية دينية ولا علمية لها حتى في الوسط الشيعي العام! هناك المهدي المنتظر والمسيح المخلص، ولكن ليس هناك من وكيل أو وليِّ عيناه لا هذا ولا ذاك.
يفتح هذا على رؤية أو نظرة إيران للعرب من باب أن إيران لا تريد وطناً عربياً قوياً وموحداً وهذا من البديهيات التنافس في منطقة لم يستقر حراكها الجيولوجي الاجتماعي القومي ولم تنضج مسألة الجيوبوليتيك فيها وهذا ينطبق على تركيا ويضيع في حالة العرب المجزئين. وبالطبع ليس واجب إيران توحيد العرب- كما ليس واجب تركيا ولا واجب إثيوبيا ولكن، ليس من حق إيران الاستفادة من تفكك العرب والتلاعب بهم لخدمة مصالحها الوطنية والقومية إذا كانت تدعي بأنها إسلامية وصديقة!
قد تكون تسمية الخليج مثالاً على موقف إيران القومي المتطرف وليس الديني تجاه العرب، وقد شاهد الجميع ذلك في بطولة الخليج العربي الأخيرة المقامة في البصرة الذي أصاب النظام الإيراني بنوبة سعار قومي على الرغم من أن الحكومة القائمة حالياً والمجلس مكون من قوى اليمين المحافظ بحسب تصنيفات النظام نفسه، ولم تكن هذه المرة الأولى التي ينفضح فيها زيف شعارات الدين والتشيع الإيراني علماً بأن الإمام علي عربي والتشيع في أصله ومركزه عربي في العراق.
فعندما تم إعلان أهوار الجنوب العراقي -الذي كانت تتباكى أحزاب إيران عليه في التسعينات- على لائحة التراث العالمي، احتجت إيران بذات الطريقة الفوقية والعدائية، ولا ندري بصفتها ماذا؟ فالأرض عربية.
فهل هي وصي أمريكا على العراق بعد الغزو التدميري الإمبريالي للعراق، أم هل طلب منها العراق وصاية عليه؟
يذكر وزير الموارد المائية وقتها في إحدى مقابلاته شهادة خطيرة وثقها بشكل تفصيلي في كتابه المنشور بعنوان “الدولة العقيمة” ص ٩٦ أن الوفد الإيراني أراد فرض تسمية “الخليج الفارسي” في المسودة العراقية المقدمة إلى اليونسكو بطريقة استعلائية وكأنها بالنسبة لهم مسألة وجود أو عدم!
والهم، أنه، أي الوفد الإيراني، أشار إلى أنهم قد تلقوا الأمر من السلطة العليا في طهران بشأن الموضوع!
بل ويذكر أن الوقاحة والتجرأ على العراق قد وصل بهم إلى أن يطلبوا تغيير اسم هور الحويزة التاريخي!
ولا ندري ما هي عقدتهم تجاه هكذا تسمية راسخة!
هل هو حرف الحاء العربي الذي لا يستطيعون نطقه، أم أن التسمية تذكرهم بالأحواز المسلوبة؟
علماً أنهم لا يستخدمون هذه التسمية على خرائطهم الفارسية ويسمون الهور “هور العزيم”
أي هور العظيم، لأن الأهواز عربية عراقية عصية على التفريس، كما وأنهم لا يضعون الاسم التاريخي والرسمي لملتقى دجلة والفرات، أي شط العرب، ويقومون بتسميته “نهر أرواند”!
يا للحقد!
ويذكر الوزير العراقي أن الوفد الإيراني المفاوض تجاهل حديث الوفد العراقي عن احتلال نصف هور الحويزة بعد العام ٢٠٠٣ وقطع المياه عن النصف الآخر داخل الأراضي العراقية.
وعندما جاء الخميني أضاف لاسم الدولة الإيرانية -التي وللمناسبة ولدت بخديعة ألمانية في الثلاثينات – اسم الإسلامية، لكنه رفض مقترح العقيد الشهيد معمر القذافي لتسمية الخليج بالإسلامي، الموقف الذي يحرفه ويزيفه أنصار الخميني لنسب المقترح له، واتهام الأطراف العربية بالرفض، وأبسط دليل على كذبهم هو أن الخميني حينما أراد تغيير اسم دولة بكاملها كان وحصل، فلماذا لم يسمي الخليج بالخليج الإسلامي على الأقل في خرائط نظامه وحده بدلاً من تسمية الخليج الفارسي الزائفة وغير المنطقية؟
وإذا كان العرب قد رفضوا هذه التسمية، فهل تنازلت عنها إيران فقط محبة واحتراماً للأنظمة العربية؟
بالقطع: لا.
فقد كان ولا يزال بوسع إيران تسميته الخليج الإسلامي أو الخليج الفارسي العربي أو العكس على الرغم من أن السكان على ضفتيه عرب أقحاح، وبذلك كان يستطيع النظام محاباة العرب الأحوازيين على الأقل أو دفعنا لتصديق أن الطبقة الحاكمة في إيران من أحفاد آل البيت القرشيين الهواشم!
الشأن الداخلي لإيران ربما نقول: أمر يخصها، أما فيما يخص العلاقة بالعرب وخاصة العراق، فالأمر مختلف بشكل جذري، وهو في هذا المقال الأهم.
لن نعود إلى الحقبة الشاهنشاهية لأن هذا ليس الموضوع ولأننا نتعامل منذ أكثر من ٤٠ عاماً مع نظام جديد لم يختلف عما سبقه سوى بنوعية التدخل وليس الكم.
قد نميل إلى القول: لا شأن لنا بقمع الشيوعيين الإيرانيين والقوى غير الدينية الأخرى سيما اليسارية التي كانت المشعل الحقيقي للثورة ضد الشاه، رغم ان أخذنا هذا الموقف المحايد هو مساومة في مستويين:
الأول: بالمعنى الإنساني، لأنه موقف رجعي/لا علماني لأن عالم الحضارة يتجاوز تسليم أمة أو أمم لرأي رجل “الفقيه” لما في هذا من ديكتاتورية لا سابق تاريخي لها وهذا يُسجل عالميا ضد الإسلام ليبدو متعصباً ومتخلفاً!
والثاني: لأن إيران بهذا الزعم الإسلامي تستخدمه “لتفريس” الأمة العربية وخصوصاً العرب الشيعة تحت طربوشٍ هو اليوم عمامة!
مرة أخرى، المهم هو الموقف من العراق!
فقد صرح الخميني أكثر من مرة عن تصدير “الثورة الإسلامية” إلى دول الجوار، ويقصد العرب وكأن العرب ليسوا بمسلمين!
وهذا موقف عدواني متعصب واستهاني بالعرب، ويؤكد عداءه للعرب وليس انتماءه للإسلام لأن العرب مسلمون قبل أي أمة غيرهم، ولم يعلن العرب أنهم تخلوا عن الدين الذي هو رسالتهم في الأساس!!!
فالخميني بهذا يتناسى بأنه دينهم ودين أجدادهم الذين أدخلوا إليه غيرهم بحرّ سيوفهم وصليل صوارمهم صاغرين ورغماً عن أنوفهم، كما أن أي تصدير ولو لثورة حقيقية من دولة أجنبية لدولة أخرى هو أمر مرفوض وطنياً!
بل إن تصدير ثورة إسلامية إلى الوطن الأول للإسلام هو تكفير ونفي للإسلام لصالح طائفة وقومية معينة وليس خدمة للإسلام وبالتالي هو مثار فتنة وانقسام ووجوب حرب من جهة، وهو أداة وفرصة للأنظمة العربية كي تغطي على قمعها للأمة لصالح استعدادها لمواجهة تصدير الإسلام الإيراني!!!
ومن هنا اشتعلت حرب دامت لثماني سنوات خدمت إيران والخمينية السياسية وأهلكت العراق.
لسنا هنا بصدد الحكم والحسم من الذي بدأ، ولكن شعار تصدير الثورة كان واضحاً لكل ذي عقل ووطنية!
وهنا لا يعود ذا قيمة القول بأن هذا الطرف أول من أطلق النار أو ذاك، بل من أطلق النار الثقافية العدائية أولاً، لأن النار الثقافية أقوى وتعيش أطول وتستمر آثارها لأجيال.
وهذا بمعزل عن خيار الحرب وجدواه، لأن صدام كان يستطيع مواجهة الخطر الخميني بأدوات أخرى بدلاً من سياسات صبت في صالح إيران والنظام الإيراني حتى اليوم بل وانتهت بصدام على أبواب طهران!
بمعزل عن كل هذا، وبوضوح: ما معنى تصدير “الثورة الإسلامية” إلى العرب؟
هل من معنى غير أن العرب كفرة!!!
وفي ماذا يختلف هذا عن تكفيريي الدين السياسي السنة ضد سوريا اليوم!
ألم تكن هناك طرقاً أخرى للتواصل؟
ألم يكن الخميني يضع على رأسه عمامة عربية استطاع بفضلها الوصول للسلطة؟
ألم يعش بين عرب العراق وأكل من زادهم لسنوات أيام كان يطغى على العراق المد القومي والشيوعي؟
كيف تحمل ذلك وهم كفرة!
لذا، وبصدق، وعلى لسان ابنة لأسرة أبيدت بشكل شبه كامل على يد النظام الصدامي،
إن الهجوم الإيراني على صدام حتى اليوم والمتاجرة بالحرب العراقية الإيرانية مقصود به العرب والتنكيل بهم وليس شخص صدام، لأنهم تحالفوا معه في التسعينات أصلاً.
لقد احتربت أوروبا داخليا حروباً هائلة، ولكنها لم تعد تشعلها لا ثقافياً ولا عسكرياً!
ويبدو أن إيران بعد تجربة تصدير الثورة بالحرب، خصوصاً وأن الخميني أطالها لست سنوات أخرى أملاً باحتلال العراق أو البصرة على الأقل وبشكل معلن وموثق، وطبعاً احتلال العراق والبصرة هنا كله لخدمة الإسلام!!!
المهم أن إيران اقتنعت بأن هذا النمط من العدوان ليس ثورة ناعمة بل توسع إمبريالي مكشوف، وبأن بضاعة تصدير ثورة دينية لأناس هم أكثر أصالة في هذا الدين سواء شيعة أو سنة من الإيرانيين وتحديداً الفرس، يشبه تصدير بضاعة بالية لمن لديه أفضل وأعرق منها.
هذا ناهيك عن أن الأمة العربية مكونة من عرب مسلمين وعرب مسيحيين بل وصابئة ويهود عرب وإثنيات مسلمة ومسيحية أخرى أيضاً، ولذا ليس من قبيل العقل فرض دولة دينية عليهم.
إن إصرار الخميني على مواصلة الحرب رغم الخسائر في الطرفين هو الذي:
• يكشف أن النزعة العدائية في البداية كانت إيرانية
• وأن هدف مواصلة الحرب حتى آخر نفس هو احتلال العراق وصولاً لغيره
• وأن هناك إصراراً على تصدير الثورة أي العدوان وهذا ما علينا فهمه جيداً بعيداً عن الاستقطاب الطائفي الحاد في المنطقة، وهو أمر تعيه جيداً كل القوى العربية الوطنية سواء الشيعية أو السنية.
اضطر الخميني لوقف الحرب دون قناعة كما قال بنفسه بأنه يتجرَّع السُم.
فإذا كان مسلماً، وأخطأ هو أو صدام في حرب المسلمين، كان يجب أن يقول: نعم لحقن دماء المسلمين في أسرع وقت.
وهذا يؤكد أمرين:
• الأول: أنه لا يهتم بكون العراقيين مسلمين أم لا أي أن الهدف ليس نشر الإسلام لأنه يعرف أن الإسلام عربي عراقي وكذا التشيع.
• والثاني، لأنه قومي إيراني فارسي عتيد يهدف التوسع.
من هنا، وبعد العجز عن احتلال العراق وتصدير الثورة بالقوة والتحدي الثقافي المعلن، لجأت إيران إلى طريقة أكثر هدوءاً، وهي التغلغل الناعم في أي قطر عربي حتى ولو كان سنياً. أليس مثلاً التغلغل في تركيا التي هي أطلسية وصهيونية أكثر “منطقية”، بل لماذا لم تتجه ثورة الدين الإيراني إلى أذربيجان مثلاً؟ أليست أولى؟
من هنا اعتمدت السلطات الإيرانية المتلاحقة مشروع الطبعة الإيرانية للدين السياسي.
ولأن السلطة الإيرانية شيعية فقد ركزت على الدين السياسي الشيعي كآلية للتغلغل وتفكيك المجتمع العراقي، والتركيز على العرب الشيعة في هذا المشروع الإيراني وهو اقتلاع عروبتهم كي يتحولوا إلى كتلة بشرية بلا روح تابعة لمشروع توسعي معادٍ لهم ولوطنهم.
أنظروا!!! فها هو العراق اليوم أمامكم،
وعلى سبيل المقارنة، هل يتحول الإنجيلي البريطاني إلى كاثوليكي لصالح القومية الفرنسية؟
وهنا لا تكون المشكلة في نوعية الحرب أو حتى الدين أو الطائفة، بل في الوسيلة ذاتها وفي مبدأ التفكير والتخطيط والأهداف والأطماع الرسمية الدولانية والقومية.
الطائفة والمذهب هي وجود مجتمعي موضوعي، بشرياً كطائفة وفكرياً كمذهب، وهو إما وراثة أو اختيار حر، ولكن ضمن المجتمع والدولة.
ولذا، فإن الخطورة في تحويل الطائفة إلى الطائفية وبالتالي تفكيك البنية الوطنية القومية واحترابها ذاتياً، ففي هذه الحرب تتحول الطائفة إلى شكل مسخ للدولة:
• برجوازية الطائفة ومعها رجال الدين كقيادة منتفعة مسيطرة
• شريحة طائفية وسطية
• وشريحة فقيرة واسعة هي التي تقاتل الطوائف الأخرى وتُقتَل.
وفي حال كهذا لا يعود للأمة من وجود، وهذا ما اشتغل عليه الاستعمار منذ أكثر من قرن وكرسه العدوان الأمريكي باحتلال العراق وتقسيمه طائفياً ووطنياً.
ولذا نسأل أين العراق اليوم وإلى أين يذهب؟
وإثر الاحتلال الأمريكي فُتح الطريق لتنفذ إيران توجهها الآخر في ابتلاع العراق والسيطرة عليه دون حرب قومية!
إن أية بنية اجتماعية لبلد تقوم على الطائفية سواء داخل بلد ما، أو بين بلد وآخر هي علاقة مريضة وخطرة تثير الفتنة وتعمّق الشروخات الاجتماعية وتستدعي العمالة والاستعمار حيث تستنجد القيادات الطائفية بالعدو، وهذا ما يحصل في لبنان وحصل بفجاجة في العراق وحتى اليوم.
فالعلاقة بيننا وبين إيران كعرب أو كعراقيين يجب أن تكون علاقة الجيران والأنداد قومياً وطبقياً، وليست علاقات دينية أو طائفية، بل يمكن التزاور للأماكن المقدسة الشيعية والسنية على أساس طقوس دينية عامة وليس على أساس تجييش طائفي. وكمثال: هل هناك من العرب السنة من لا يعتبر آل البيت مثالاً وقدوة؟
ولكن المشكلة في أن تحتل إيران أهل البيت وتستخدم هذا التراث العظيم والجامع للعرب ضد العروبة!
إننا لنعجب أيُّ عقل الذي وراء هذا الخطر!
ويجب أن نتذكر في هذا السياق أن إيران تعتبر المشكلة والحل في فلسطين هو بين الأديان الثلاث! وهذا هو حل ديني لقضية عربية سياسية ضد الغرب والصهيونية!!!
فاليهود أنفسهم كما أثبتت البحوث الأركيولوجية حتى الصهيونية لم يكن لهم في فلسطين وجود بالمعنى المزعوم بل كانت طائفة يهودية صغيرة من أصول عربية ومشرقية وشامية.
هذا إضافة للأهم وهو أن يهود اليوم ليسوا أبداً بني إسرائيل الذين كانوا وبادوا قبل ثلاثة آلاف سنة كما كتب عنهم ماركس، أمة أبيدت وغدت من بقايا التاريخ.
بل ما علاقة المستوطن الأوربي ببني إسرائيل الساميين الجزيريين التاريخيين؟
فلسطين وطن العرب الفلسطينيين قومياً، وهم أحفاد الكنعانيين الجزيريين، وهم دينياً مسلمون ومسيحيون ولكن محدد وجودهم قومي وثقافي وحضاري وتاريخي.
فكيف نُساوي بين هذا الوجود والحضور وبين استيطان طارئ وعدواني لنخلق دولة دينية مع اليهود؟
وحبذا لو يجيبنا السادة في سلطة إيران: ما الفارق بين الحل الديني الإيراني وبين إبراهيمية ترامب!
إن الحل في فلسطين هو سؤال للعرب، للشعب العربي لا الحكومات، يجيبون عليه وليس لسلطات إيران ان تفرض حلاً ولا تجيب على سؤال قط.
لم نسمع بشهيد إيراني استشهد في فلسطين، ولكن الشهداء العرب منذ القرن الماضي بلا حصر ومن كل الأقطار، فأي حل ديني يمكن الحديث عنه؟
أما شهداء إيران في لبنان وحتى في سوريا فذلك أمر جيد رغم ارتباطه بسياق طائفي وسياسي، ولكن ليس لفلسطين.
إنه أمر غريب أن يُعطى للمستوطن حق في وطن أصحاب الوطن يساويه، بل يتجاوزه بمعايير سيطرة الإمبريالية ودعمها للكيان الصهيوني.
فالمستوطن، يا حضرة المرشد: ليس إنسانياً، وليس لبرالياً، ولا تقدمياً، ولا ماركسياً، هو مغتصِب، قاتل وحسب.
وبالانتقال من علاقة إيران بنا كعرب إلى علاقتها بأمريكا.
لعل ما أغاظ أمريكا أن إيران كسبت من تدمير أمريكا للعراق دون أن تتكلف هي شيئاً لا من حيث المس بسمعتها ولا دفع ثمن من المال أو الدم.
لذا ترفض أمريكا أن تكون لإيران حصة كبيرة في العراق كما هو الحال على يد القشرة الطائفية الحاكمة والتي جلبتها وعينتها أمريكا ثم راحت تدين بالولاء لإيران!
مشكلة إيران الخمينية مع الغرب وبالتحديد أمريكا أوسع حتى من العراق، إيران تريد اقتسام النفوذ معهم على الوطن العربي، على عكس نظام الشاه الذي كان وكيلاً لمصالحهم في المنطقة وهنا الفرق إذن وهو في النوع وليس في الدرجة فقط كما أشرنا، لكن الهدف واحد، وهو أن يتوسع المدى الحيوي لإيران إلى البحر المتوسط على الأقل، هذا بالنسبة لأي ذهنية إيرانية، سواء قومية صريحة أو متوارية. أمَّا ونحن نفنِّد أطماع إيران لا ننسى قط أن تبعية وعمالة العديد من الأنظمة العربية ومثقفيها التابعين هي التي تُغري إيران بهذا التغوُّل فما أكثر المثقفين العرب الذين يهتفون لإيران وهذا ناجم إما عن انعدام تاريخ نضالي لهؤلاء أو ارتزاق من إيران.
هذا مع العلم أن وطن عربي قوي يمكنه وإيران أن يكونا كتلة تقدمية إنسانية حضارية ضد الغرب عدو الجميع لو كانت إيران صادقة فعلاً في شعارها!
وهذا يفتح على مسألة النووي، فهل حقاً تخشى أمريكا من نووي إيراني؟ وهي وراء النووي الباكستاني والصهيوني طبعاً! ولو افترضنا أن إيران حصلت على النووي وهي تمتلكه فعلاً وأمريكا تعلم، وهذا حق لإيران. فنحن إذ نُدين، نُدين إثنين وعشرين وكيلاً للإمبريالية على عنق أمتنا، ولا ننظر بعين الحاسدية لأي نظام وطني إلا إذا كان يبني نفسه للتوسع في وطننا أو يبث دعاية ناعمة مؤداها تبهيت وتحقير وتفتيت العروبة.
لو حصلت إيران على النووي، فهل بوسعها استخدامه؟ بالتأكيد كلا. وهل النووي الإيراني لمواجهة النووي الصهيوني؟
الحقيقة هي أنه لو رأى الصهيوني أن تناقضه مع إيران إلى الحد الذي يوجب العدوان النووي لما تورَّع.
وهل لدولتين نوويتين الاحتراب كمسألة نظرية؟
الصهيوني يعلم بأن إيران لن تحارب في فلسطين أبداً.
ونحن لا نطلب منها ذلك ولا يشرفنا.
ولكن نطلب أن تكف عن استعمار الوطن العربي والتشيع باسم القدس وفلسطين!
لذا، فإن مراوحة المفاوضات النووية أوصلتنا إلى أن هناك لعبة وراء ذلك لا بد من البحث عنها خارج كلام التضارب النووي المتبادل وهذا المخفي هو ما يعنينا.
وفي هذا السياق، فإن هناك طرفين عربيين يخدمان أمريكا وإيران معاً خدمة أخطر حتى من الطائفية وهي خطيرة طبعاً وهما:
• هزال وعمالة الأنظمة العربية المعادية للأمة إلى حد عدم وجود فرصة لتذكُّر الأبطال العرب الحقيقيين ولا حتى أبطال عرين الأسود.
• وهزال كثير من المثقفين العرب وخاصة القوميين والماركسيين الذين أصبحوا أبواقاً لإيران وذلك لأن وعيهم الثوري تابع وزائف وشكلاني ولأنهم قصَّروا أيام النضال الحقيقي، ولذا يشعرون بأنهم مذنبون في قرارة أنفسهم، وتعويضاً لهذا يرون النضال في إيران!
بل إن خطورتهم في أن يصبحوا هم الذين يُقيِّمون ما هو النضال ومن هو المناضل وأين موقع النضال! هؤلاء أخطر من الأنظمة العربية لأن الأنظمة مكشوفة ولا ثقة بها، بينما المثقف أكثر مهارة في تغطية خطورته وارتباطه بسيد آخر.
لعل أتفه ما يردده هؤلاء بأنه: إذا تخلت إيران عن فلسطين فسيكون ذلك لصالح أمريكا! عجيب!
وكأن إيران قد حررت فلسطين ونحن لا نعلم!
أرجوكم، احترموا أنفسكم على الأقل، الخمينية السياسية تأخذ شرعيتها من العمامة العربية والنسب الهاشمي وشعارات استعداء الغرب والصهيونية كما نشأت كل المدارس الدينية الإسلامية، فأي شرعية ستبقى لها لو كان ما تزعمون؟
وهنا تجدر الإشارة إلى فريق مثقفين آخرين، لكن هذه المرَّة بتركيا، وهؤلاء على الأقل قسمين:
· فريق الدين السياسي الإخوان وحزب التحرير الذين ينزعون الخلافة من آل البيت وقريش والعرب ويمنحوها لسيدهم العثماني!
· وفريق مثقفين بهم لوثة ماركسية، يرفضون القومية العربية، ولكن ليس من باب طرح ستالين المتهافت “بأن العرب أمة في طور التكوين” لأنه، مع أنه شيوعي ربط تبلور الأمة بالرسملة وبتوحيد السوق. وهنا يكون قد قرأ بالغلط ما ورد في البيان الشيوعي بأن الدولة القومية المتطورة هي اقرب إلى انتصار الاشتراكية. هؤلاء يرددون مقولة تثير التقزز الذهني: “كان أجدادنا يعتبرون أنفسهم عثمانيين”. يا للجحيم، وهل كان جميع أجدادنا يقولون هذا؟ وحتى لو حصل من بعضهم، اليس اجدادنا العرب قبل الاستعمار العثماني وقبل الإسلام، وهل كان بني أمية وبني العباس إلا من أجدادنا، وهل كانوا يعتبرون أنفسهم غير ذلك!! حقاً، إن للتبعية تلوينات حربائية. فأي علم في جملة أن اجدادنا كانوا يعتبرون أنفسهم عثمانيين!
نشكر دعم إيران للبنان رغم علمنا بأنه غير مجاني، وحتى خطابها عن فلسطين نشكرها، ولكننا لا نزال نسأل:
أي إيران نعتمد؟
• إيران الداعية لدولة دينية حتى مع المستوطنين
• أم إيران التي تقول بأن الكيان الصهيوني غدة سرطانية تجب إزالتها!
ثم، أمريكا لم تقبل اقتسام النفوذ على العالم مع ألمانيا أو بريطانيا أو فرنسا أو الاتحاد السوفيتي. فهل يمكن أن تقبل بذلك مع دولة مثل إيران؟
الاقتسام أيها السادة عدوان أكثر ووحشية، وهو درجة من الاستيطان، ولذا، لا يقبل أي طرف أي اقتسام مع آخر، فاللصوص لا تآخٍ بينهم قط.
ومن هنا، فإن العبرة ليست في تفنيد ونقد الاقتساميين بل في وجوب بناء تيار عروبي حقيقي وحدوي وتنموي، من المغرب إلى الأحواز،
وغياب هذا التيار أكبر مقاتلنا …


_________
ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.