عروبيات 5: معنى العروبة اليوم​​ – التنمية بالحماية الشعبية وفك الارتباط، عادل سماره

استكمالا لسؤال د. الصويص، عن ما هي العروبة التي أتحدث عنها.

وفيما بيّننا في الحلقة السابقة، ارتكازا على الاقتصاد السياسي، بأن الدولة القُطرية العربية ليست ناقلة للوحدة والاستقلال بل مؤكِّدة/مكرِّسة للتجزئة، فإن هذه الحلقة تبين أن الدولة، وخاصة مع تجربة فشل أنظمة بلدان الاشتراكية المحققة، بما هي رافعة طبقية سواء بالملكية أو التحكم البيروقراطي بالفائض ليست هي الرافعة الفعلية للثورة الاشتراكية حتى لو طبقت، كدولة طبقية، إستراتيجية فك الارتباط.

وبغض النظر عن تعدد وتفارق التسميات لبلدان الاشتراكية المحققة في القرن الماضي أو تسميتها ب رأسمالية الدولة، أو دول الانحطاط العمالي، او البيروقراطية…الخ، إلا أن بقاء القرار الاقتصادي الاجتماعي في يد الحزب وقيادته من الأعلى أي في السلطة ولَّد شريحة النومنكلاتورا التي سرعان ما اتضح بأنها: تتحكم بالفائض وإن كانت لا تملكه بالمعنى الرسمي وبالتالي كان سهلاً عليها مغادرة النظام الاشتراكي أو تقويضه من الداخل واغتنامه بديلا للدولة وللشعب وخاصة حالة روسيا الاتحادية في فترة يلتسين حيث وُضع مصير الاتحاد السوفييتي بيد  خبراء اقتصاد رأسمالي أمريكيين ولا سيما جيفرش شاكس صاحب نظرية العلاج بالصدمة Shock Therapy التي كانت وهدفت أن تكون قاتلة. ولعل المفارقة أن هذا الرجل اليوم يلبس لبوس الاقتصادي الإنساني. وقد ساعده في دوره التقويضي لأسس النظام الاقتصادي الإشتراكي كثير من “الخبراء” الغربيين والروس ومنهم إيجور كيدار.

بكلام آخر، حل الحزب المبقرط والمدراء محل الطبقة العاملة في إدارة الاقتصاد والتحكم بالفائض وأصبح على الطبقة العاملة او الطبقات الشعبية أن تعمل وتُنتج وحسب ودون قرار لها لا في إدارة الاقتصاد ولا في قرار أو وضع وإقرار السياسات الاقتصادية. وهذا ما بدأ مع حكم خروتشوف وانتهت مهمته مع حكم جورباتشوف.

ولعل فهم انهيار هذه الدولة العظمى كأول تجربة دولانية إشتراكية بهذه الطريقة والسرعة ووقوف الطبقة التي يُفترض أن النظام نظامها مبهوتة عاجزة وحتى متشفية بانهيار دولتها، لعل فهم هذا كامن في الخلل المتأتي عن بقاء التحكم بالاقتصاد بيد سلطة الدولة من الأعلى التي تبين أنها تعبر عن مصالح طبقة  كما اشرنا، تتحكم وإن كانت لا تملك بالمعنى القانوني. وكذلك استسلام حزب عريق وعجزه عن التصدي لرئيس الدولة والحزب وهو يهدم الدولة حجرا بعد حجر في عجز عن مواجهة هذا الحاكم لأن مقتضيات هيبة مركز الرئيس والأمين العام تقتضي القبول أو الصمت. وبالطبع، لا حاجة للشرح كم تدهور مستوى المعيشة والدخل وحتى الثقة بالنفس في الاتحاد السوفييتي في فترة حكم يلتسين.

أفادت تجربة بلدان الإشتراكية المحققة أن توليد الحزب من الشعب وانفصاله على الشعب بيروقراطيا ومن ثم إستدواله كان مثابة خروج عن مداره وبالتالي تحكمه هو بالمدار، هذا التطور دفع باتجاه توفر آلية وضمانة أن يبقى الحزب متعلِّما من الشعب ليبقى التمثيل مباشرا وواسعا.

لقد نجحت الماوية في هذاالأمر، ولكن تيار “طرائقيو الراسمالية” Capitalist Roadersعاد وتغلب على الماوية التي فطنت للعودة إلى الشعب متأخرة عبر الثورة الثقافية التي لم تكلل بالنجاح. (أنظر كتابنا:هزائم منتصرة وانتصارات مهزومة 2019 /مركز المشرق/عمان)

 مأ أجادل من أجله هو: إن تبني إستراتيجية فك الارتباط De-linking طالما هي قرار من أعلى الدولة وحتى من الحزب منفصلة عن التغذية القاعدية الشعبية بل تحولها إلى آمر لهذه القاعدة لم تعد ضمانة لمواصلة الطريق إلى الإشتراكية، أو إلى ما بعد الرأسمالية كي لا يُقال بأن الكاتب متمترس ومتكلس عند الخيار الإشتراكي الذي فشل في بلدان معينة، هذا مع انني لم أجد ما هو أكثر إقناعاً من الطريق الإشتراكي بغض النظر عن تعدد آليات التطبيق.

وعليه، ولكي تبقى العلاقة والتغذية المتواصلة بين الطبقات الشعبية والسلطة فإن ما يُقتضى هو:

المرحلة الأولى: العمل على تعميق وبلورة موديل التنمية بالحماية الشعبية بحيث يكون الشعب:

·        مقتنع بهذا الموديل ثقافة ووعياً

·        ويمارسه بعيدا عن مقتضيات انخراط النظام السياسي الاقتصادي للبلد في السوق العالمية

وهذا المناخ الشعبي هو الذي يفرز الحزب ويغذيه بالعناصر والكوادر شريطة أن تبقى العلاقة مفتوحة بين القاعدة الشعبية والحزب والسلطة بمعنى أن تكون القرارات الاقتصادية خاصة بناء على رؤية ومصلحة الطبقات الشعبية.

المرحلة الثانية: أن ينخرط الحزب مع القاعدة الشعبية في تبني هذا الموديل وأن يواصلا الضغط على السلطة بحيث تقلل انخراطها في السوق العالمية وخاصة تقليص إلى حد الإنهاء لهيمنة قانون القيمة المعولم لصالح قانون قيمة محلي وصولاً إلى  تبني السلطة إستراتيجية فك الإرتباط .

أي أن التنمية بالحماية الشعبية هي شرط نجاح الانتقال إلى فك الارتباط بما هي اي التنمية بالحماية الشعبية هي الناقلة والمناخ الشعبي الحامل لمنطق وضرورة فك الارتباط.

كنت قد طورت هذا المفهوم أثناء إعداد رسالتي للدكتوراة في بريطانيا في الثمانينات وحينما عدت إلى الوطن في أكتوبرعام 1987 وحصلت انتفاضة 1987 في شهر نوفمبر 1987 لاحظت أن الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع قد مارس بنفسه الحماية الشعبية، دون كتابي ودون اي معلِّم.

المرحلة الثالثة: وهي فك الارتباط بالسوق الدولية. وهي النظرية التي استقر عليها سمير أمين، من خلال تجربته العميقة في الاقتصاد السياسي والتي هي اتباع موديل يعمل بمنطق الفكاك مع السوق الدولية وليس القطيعة Autarkism كما يحاول البعض تشويه هذا الموديل.

وفك الارتباط هو المدخل الطبيعي والممكن للانتقال إلى الإشتراكية.

لقد وجدت أن فك الاتباط بناء على تجارب دول الإشتراكية المحققة دون التهيئة له بموديل التنمية بالحماية الشعبية سوف يؤول، بل آل إلى الفشل لأن العلاقة بين القاعدة الشعبية والسلطة قد جفت وتبقرطت عبر استيعاب الحزب في السلطة وحصول انفصام بينه هو والدولة من جهة والطبقات الشعبية من جهة ثانية. أي بقول آخر، فإن هذا الموديل المركب من التنمية بالحماية الشعبية وبين فك الارتباط يقوم على جوهر اساس هو العلاقة الديمقراطية الموسعة بين السلطة والشعب.

أما كيف يُمارس هذا التواصل الديمقراطي فذلك عبر آليات تبتكرها  كل تجربة على حدة مثلاً، وجود لجان شعبية تمثل مختلف القطاعات الإنتاجية/تعاونيات /جَماعيات Communes لتكون برلمان شعبي يوفر للسلطة رؤية تعبر عن حاجات وطموحات القاعدة الشعبية، وهذا غير البرلمان بالمعنى السياسي بل هي الأكثر ضمانة لإشراك الشعب عبر الديمقراطية الاقتصادية وهذا بالطبع بعكس تنزيل الأوامر أو الخطة من الأعلى إلى الأسفل عبر المدراء. إنه حلول الحزب الشعبي بين السلطة والشعب بدل المدراء. لذلك كان عنوان كتابي:

Beyond De-linking: Developing by Popular Protection vs Development by State

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….