السنة الثالثة والعشرون – العدد 6512
في هذا العدد:
■ قراءة في كتاب: “المرأة المقدسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر”، لمؤلفه د. منيب منصور، قراءة د. عادل سماره
■ اختراق الإسرائيليات لتاريخ الشرق، موفق محادين
✺ ✺ ✺
قراءة في كتاب:
“المرأة المقدسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر”
رسالة دكتوراة ل د. منيب منصور
كلية الآداب /جامعة القاهرة 2014
د. عادل سماره
دراسة حفرت في القديم وبعمق كما يجب في البحوث الأكاديمية مما يتطلب الصبر والأناة والدقة ليكون البحث مساهمة في مجاله.
يلحظ القارئ خيطاً واصلاً في البحث حتى نهايته هو التركيز على وضع ودور المرأة المقدسية في البنية الاقتصادية الاجتماعية في فترة الاستعمار العثماني.
صحيح أن الكاتب لم يستخدم مصطلح الاستعمار، ربما لأن هذا مرفوض لدى الصرامة الأكاديمية، أو لسبب آخر لديه.
لكن الكاتب عالج بدقة وتفصيل المكانة الاجتماعية للمرأة المقدسية في مجتمع هذه المدينة كمدينة ممعنة في القدم في أي أسبق بألفيات على إمبراطورية العثمانيين، ومركز ديني وسياسي إلى حد ما. وهذا يغري بالقول إنها كانت مدينة عالمية الطابع يدل على ذلك تعدد الإثنيات واللغات والعملات والأديان وتنوع الملابس …الخ.
المسالة الاقتصادية/الطبقية:
التراتب الطبقي:
تناولت الدراسة التراتب الطبقي في مجتمع مدينة القدس بهدف محدد هو الوصول إلى موقع المرأة المقدسية فيه. ولكن يمكن للمرء ملاحظة أن الطابع المميز للبنية الطبقية في مجتمع التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية العثمانية الحربية عامة تميز بوجود:
فئة اثرياء المدن من الأفندية والأشراف وهؤلاء كانوا ذوي حظوة لدى السلطنة
ووجود كبار القادة العسكريين الذين كانوا ذوي حظوة ايضاً.
ويبدو أن وضع المرأة كان يُحدد بناء على موقعها في هذه التراتبية.
يبقى الخيط الناظم للبحث هو مكانة المرأة المقدسية في الفترة المبحوثة سواء اجتماعيا، دينيا، مالياً، شغلاً…الخ. ولكن يمكن للقارئ الاستدلال على الوضع العام من خلال المكان المبحوث.
يعكس تناول الجانب الاقتصادي عالمية المدينة، وإن بشكل نسبي لكن مهم في حينه، من خلال استخدام أو تداول عدة عملات، الذهب العصملي، والقرش، ثم الزلطة والليرة الفرنسية.
مما يلفت النظر في البحث اللغة المستخدمة في فترة الدراسة سواء وجود مفردات من اللغة التركية خانم وخاتون …الخ، والتي تغيرت لاحقاً في نهايات الفترة المبحوثة، كما يلحظ القارىء كذلك اللغة الطبقية المستخدمة عن النساء المبحوثات حيث التفخيم للواتي من العائلات التي يسميها الكاتب “المتنفذة” إلى أن تهبط الأوصاف طبقاً للوضع الطبقي/الاقتصادي الأقل او الأدنى.
وبموجب التفارق الطبقي تتبين محدودية التداخل الطبقي بين العليا والوسطى والدنيا اجتماعياً إلى درجة تكاد تكون هناك “طائفية طبقية”، وأعتقد ان هذا نتيجة عدم التحول مما قبل الرأسمالية إلى الرأسمالية.
في المستوى الاجتماعي الفلسطيني عامة، يتبين بأن علاقات القرى والمدن تتحدد بناء على الوضع الاقتصادي وتتقلص فيما يخص الأنساب مما يؤشر على ثقافة طبقية واضحة بين الريف والمدينة.
تمسك المرأة بحقها الشرعي:
يركز البحث كثيراً على اهتمام المرأة بحقوقها الشرعية اهتماماً حادا وجاداً، إلى درجة لم نلمس مثلاً أن للحب دور في تحديد، توقف أو استمرار الزواج، وهذا يفتح على أن المرأة تمترست وراء حقوقها الشرعية كحماية اجتماعية لها. أو ربما الحماية الوحيدة وخاصة في مجتمع لم يترسمل صناعيا مما يفتح مجالات أخرى للمرأة كالعمل ليكون مصدر قوة لها، وإن ليس كبيرا أو تاماً.
هل كان سبب تمسك المرأة بحقها الشرعي نظراً لأنها وضعت الدين قبل كي شيء، أم أمانها المعيشي الذي وجد في الحق الشرعي مظلة حماية له. طبعا تشترط الإجابة على هذا إجراء بحث ميداني في مجتمع قائم وليس على مجتمع قبل قرنين حيث لا حضور للمبحوثين.
والسؤال: رغم أن المرأة اصرت وحصلت على حقها الشرعي كضمان وأمان لها، فهل تحول ذلك إلى مشروع اقتصادي بالمعنى التشغيلي الإنتاجي لها؟
لم أعثر في الشرح المفصل لحياة المرأة على هذا التطور. وهذا يدفع للاستنتاج بأن ما حصلت عليه المرأة من حقوق وما ورثته وأورثته كان نقوداً، سواء فضية أو ذهبية، وكان ملكية عقارية غير منقولة. وهذا بالمفهوم الاقتصادي اكتنازاً. والإكتناز ليس تراكماً بالمفهوم الرأسمالي بالطبع بل هو معيق للرسملة.
وهذا يعيدنا إلى دراسات عن التحول الرأسمالي للإمبراطورية العثمانية التي كانت كسلطة مانعة للتحول إلى الرأسمالية كما كتب بشكل مشترك (كيدر وأسلامجلو ان نمط الانتاج المسيطر كان نمط الانتاج الاسيوي
Islamoglu H & Keyder .C The Ottoman Social Formation, in the Asiatic Social Formation, ed, Anne M, Baily & Joseph Lioberam London Routledge and Kegan Paul 1981)
بينما رأها سمير أمين كتشكيلات خراجية، وهيرشلاغ كمزيج إقطاع شرقي وغربي، ومكسيم رودنسون ان بها ملامح رأسمالية اولية علقت بها مع الاسلام وتامار غوغانسكي التي راتها تقليدية، هذا وإن كنت أميل إلى ان العثمانية كانت خليط تشكيلات اي لا تشكيلة مركزية ولكن كان الجامع لها أنها تشكيلة حربية احتجزت الرسملة فعلا، (أنظر كتابنا “الرأسمالية الفلسطينية من النشوء التابع إلى مأزق الاستقلال”، منشورات الزهراء/القدس المحتلة 1991 ص ص 58-96).
وبأن الرسملة تسربت من خلال تجارة التهريب والبعثات التبشيرية الغربية التي يمكننا اعتبارها منظمات الأنجزة لذلك العصر. بينما اعتبرها سمير امين خراجي وهرشلاغ اقطاع غربي شرقي ورودنسون راسمالية اولية علقت بها مع الاسلام لكن لم تترسمل.
المهم أن مكتنزات المرأة وإن حفظت لها استقلالا أم منعة اقتصادية، فإنها ساهمت في إعاقت رسملة المجتمع، هذا إذا اعتبرنا القدس عيِّنة معبرة عن العثمانية في حينه.
تبين الدراسة أن الحقوق الشرعية كانت مثابة تمكين للمرأة حتى الثيِّب التي كانت تجد فرصة للزواج لأن لديها مالاً، بمعنى ان ليس الحب هو العامل وراء زواج آخر ولكن كان للأصل العائلي دور في هذا بمعنى أن مصاهرة عائلة ثرية هو أمر جذاب. في حين تطبيق الأسرة للشرع كان أقل عوامل الجذب للمصاهرة.
من القضايا الهامة في البحث أن نساء من العائلات المتنفذة كانت تشترط على زوجها أن لا يتزوج امرأة أخرى أثناء زواجها منه وأن لا يتسرى بغيرها. وهذا، في حدود ما أعرف رسخته السيدة فاطمة الزهراء كشرط لزواجها من الإمام علي بن ابي طالب، ولكن قلما تكرر في شروط الزواج لاحقاً. وهذا يبين أن العصمة لكلا الزوجين ممكنة منذ القدم.
صحيح أن قوة العائلة لعبت دوراً في تحصيل الحقوق الشرعية للمرأة، ولكن الواضح أن المرأة كانت تعي تماماً أهمية هذه الحقوق وتتمسك بها حتى لو لم تكن مستندة على العائلة. وهذا أمر طبيعي. وقد يعزز هذا الاستنتاج أن المهور كانت تذهب للنساء أنفسهن وليس لأسرهن، كما يبدو من البحث، حيث ورد ان كثيرا من النساء كنَّ قد أعطين آبائهن ديوناً من مهورهن، أو حتى ديوناً على أزواجهنَّ، وهذه موثقة في المحاكم الشرعية كي تتمكن المرأة من استعادتها في حال الاضطرار وتنكر الرجل لردها.
وفي حين لم تكن تلك الديون من النساء للرجال بهدف الربا، أو بربا غير مباشر، إلا أن هذه الديون، بل الأموال عموماً لم تكن ديوناً للاستثمار الإنتاجي حيث كانت غالباً للمتاجرة في الأبنية والأراضي.
الميراث والوقف:
ركز البحث على الميراث في حياة المرأة باعتباره مصدر أمانٍ لها كأهم جوانب الحقوق الشرعية.
والميراث هو مثابة ريعٍ لكل من الرجل والمرأة لم يأت من شغل ايهما، ولكنه كان ضماناً هاماً للمرأة في حياتها ولمن بعدها من الورثة. وهنا نعود إلى مسألة الرسملة، فالميراث سواء عينا او نقداً هو كالنقود التي اكتنزتها النساء أي لم يتم استثمارها في نشاط إنتاجي قائم على العمل المأجور كمقدمات للرسملة.
صحيح أن المرأة استخدمت الميراث النقدي في تجارة العقارات ولكن ليس بهدف المساهمة في تحول رأسمالي في المجتمع بل من باب الضمان الأكثر للمستقبل من جهة ولتوريثه لمن بعدها وخاصة على اساس الوقف من جهة ثانية.
بالمقابل لم يذكر الباحث وجود ظاهرة الوراثة في حياة النساء اليهوديات، بل كان هناك شراء نساء يهوديات لعقارات وبأسعار عالية. فهل هذا يعني ان راس المال ليس منهن وأن هذا ضمن مخطط صهيوني مبكر للاستيلاء على الأرض ومما يؤكد هذا أن النساء اليهوديات لم يرثن ولم يورثن! بعكس العربيات مسلمات ومسيحيات.
فيما يخص الوقف توضح الدراسة بأن الوقف كان مجال الملكية الأكبر في حياة نساء القدس. وعليه، فبين الميراث والحقوق الشرعية والوقف يتضح لنا بأن نشاط ودور المرأة المقدسية كان يتغير طبقاً لما يسمح لها به النظام السياسي الاجتماعي وهو البطريركي والذكوري بالطبع وربما لأنه كذلك كان وعي المرأة لحقوقها واضح بشكل كبير.
الثروة:
يبين البحث أن النساء المقدسيات وخاصة من العائلات المتنفذة قد راكمت مبالغ ضخمة من العملات بأنواعها، هذا إضافة إلى الأموال غير المنقولة.
لكن ما يهمنا هنا هو التالي:
هل مراكمة أو تجميع هذا الفائض النقدي لعب دوراً في احتجاز الانتقال إلى التحول الرأسمالي؟ أم أن الاحتجاز كان اساساً من طبيعة النظام السياسي للإمبراطورية الذي لو انتقل إلى التحول الرأسمالي فإن المرأة لن تتخلف عن ذلك ولن تعيقه. إن مقادير التركات والتوريثات تدل على أن مقادير الاكتناز كانت كبيرة. كما يشير البحث فإن المقادير الكبيرة للتركات اصحبت مقادير اكتناز كبيرة، كما أن كثيرا من العقارات التي كانت تؤول لنساء كانت تباع ومن ثم تتحول إلى نقود مكنتزة. ومن اللافت أن النساء اللاتي تزوجن أكثر من مرة كات تركاتهن أضخم وذلك كما يقول الكاتب ربما تزوجن مجددا لجمالهن او ثرواتهن أو عائلتهن…الخ.
المتاجرة والبيوعات:
تبين الدراسة أن المتاجرة بالأرض والعقارات في القدس كانت منسجمة مع البنية الاجتماعية العائلية وليست على اسس رأسمالية، لذا كانت غالباً كالميراث محصورة في العائلة حرصاً على تماسكها ومكانتها. وهذا ينطبق أكثر على المرأة التي كانت متاجرتها في العقار من أجل حاجتها للمال والسكن والأمان ولأن البيوعات كانت عائلية فإن هذا لم يقد إلى تتجير الأرض وهو الهدف الذي ركز عليه اليهود في بدايات القرن العشرين.
المهم أن انحصار التجارة في العائلات كان حائلاً، سواء بوعي أم لا دون تسريب الأراضي لليهود.
المهن:
لعل المهنة الأساسية للمرأة المقدسية كانت الاحتفاظ بما لها من ميراث وحقوق خلال الزواج والوقف ولكن هذه ضمن وضعها المنزلي أو العائلي. وهو مختلف عن ممارستها لمهنٍ معينة في المدينة كأن تدير حماماً، أو مطحنة …الخ ولكن كانت هذه بالطبع ضمن الخدمات. أما مهن المرأة في الريف فكانت الزراعة.
الثقافة الدينية:
في مختلف زوايا البحث تمت قراءة وضع المرأة طبقاً لتصنيف تابعيتها الدينة أكثر من التابعية القومية. وربما يعود هذا إلى أن وضع المرأة المقدسية الاقتصادي والمعيشي عامة متداخل ويجد قوته في الحقوق الشرعية التي يضمنها الدين أكثر، مثلاً، من حالة تشكيلة متطورة صناعيا حيث توفر للمرأة فرص دخل منفصل ومستقل مقارنة مع مجتمعات ما قبل رأسمالية.
كان واضحاً استخدام الوثائق لمفاهيم دينية أكثر ما هي قومية: الموسوي، النصراني/المسيحي/ المسلم. وهذا يمكن ردَّه إلى طبيعة التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية العثمانية حينها حيث لم تترسمل العلاقات الاقتصادية الاجتماعية من جهة، ولأن العثمانية كانت إمبراطورية وبالتالي كان يجب تذويب و/أو قمع التوجهات القومية لتناقضها مع الإمبراطورية، هذا إلى أن بدأت تتحلل مع نهايات القرن التاسع عشر ودخول الرأسمالية الأوروبية مرحلة الإمبريالية.
تبين أن تقسيم مجتمع المدينة كان في الأساس جغرافيا قائم على الدين أكثر منه على الحِرف. لذا كانت حارة النصارى، حارة اليهود، ثم التقسيم حسب الأساس الإثني، أي حارة المغاربة، الأفغان…الخ. وبالمقابل، فإن العمل الاقتصادي كان منقسماً على اساس الحرفة اي سوق العطارين على سبيل المثال.
التقسيم الديني كان مُرشد الاستعمار البريطاني ليتناول فلسطين لاحقاً على اساس ديني وليس قومي وذلك بهدف تفكيك المجتمع العربي بين مسلمين مسيحيين ودروز، وهو الذي ورثه الكيان الصهيوني وأصر عليه واضاف عليه البدو.
التعليم:
لم تعتني العثمانية بالتعليم، بغض النظر إن كان هذا بقصد وتمييز بمعنى هل كانت نفس السياسة في تركيا نفسها، ولكن لا شك أن كون الدولة مجتمع حربي فإن الاهتمام بالتعليم يعتبر شيئاً من الرفاه وخاصة تعليم النساء. وكما يذكر الكاتب أن هذا الأمر تدهور أكثر بعد سليمان القانوني حيث اصبحت السلطة عموما بيد قادة الجيوش الإنكشارية. واستمر هذا التدهور إلى بداية الصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث كانت الإرساليات الأوروبية تحدٍ مباشر للمجتمع. هذا مع استثناء واحد هو السنوات العشر التي حكم فيهاإبراهيم باشا ابن محمد علي حيث كانت نقلة هامة في التعليم لكنه تراجع بعد ذلك.
ولكن بعد عام 1859 قررت السلطنة ان تقيم كل قرية مدرسة ابتدائية على حسابها. وبغض النظر عن إمكانيات القرية، لم أجد في الكتاب مقارنة بمعنى هل هكذا كان القرار في تركيا بل حتى في سياسة التعليم عموماً؟ وكما اتضح فإن الإرساليات الأجنبية لعبت دوراً في التعليم في أوساط العرب المسيحيين ولاحقاً اتسع التعليم مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وهي الفترة الحرجة في الدراسة بمعنى أنها لم تعتبرها جزءاً من الفترة الزمنية المغطاة ولكنها كانت مختلفة بشكل ملموس عن القرنين قيد الدراسة.
المستوى الجنسي:
أشارت الدراسة إلى المستوى الجنسي والأخلاقي في غير موضع وإن لم يكن في باب خاص ومنفصل.
لست أدري ماذا قُصد بعبارة “عشيقته” هل المقصود علاقة جنسية خارج الزواج، وهل كان هذا دارجاً في تلك المرحلة؟ ومقبولا في مجتمع طابعه متدين سواء إسلامي أو مسيحي وفي مرحلة حتى ما قبل رأسمالية؟
لقد قارب الباحث الإجابة على هذا الأمر حين وجد أن انتشار التسول والبغاء وحتى الدعارة ناجم عن تردي الأوضاع الاقتصادية نظراً للحروب.
كانت العثمانية عموماً إمبراطورية حربية، وهذا لعب دوراً في تأخر رسملتها. من هنا كان اثر الحروب شديد الوضوح على المجتمع المقدسي حيث يُساق الرجال إلى الجندية بعيدا عن مدنهم وأوطانهم الأمر الذي قاد إلى الاضطراب المعيشي وهذا أحد اسباب حرص المرأة على حقها الشرعي، وقاد طبعا إلى الفقر حيث تولدت عنه ظواهر الاستجداء، وحتى البغاء، لتدبير المعيشة واتخاذ رجال السلطنة عشيقات لهم بشكل علني وحتى إقامة حفلات الغناء والرقص…الخ.
وكما ورد في البحث أن بريطانيا وكل الحلفاء شجعوا البغاء والدعارة والتجسس والمومسات وذلك ضمن مشروعهم لتفكيك العثمانية ووراثتها، ولم يكن لهذه الظواهر أن تحصل لولا الفقر والحرب والجوع.
والمهم، في حالة القدس، والتي هي حالة كل الوطن العربي أن هذه الحروب كانت حروب الآخرين، اي العثمانيين. وبالطبع كانت تسوق الرجال إلى الجندية والحروب التي يتم تمويلها من الضرائب المجبية بكل العنف من الشعب.
اليهود:
تبين الدراسة أن اليهود حتى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر كان عددهم في المدينة 110 فردا فقط. ولكن بدأ التغير بعد ذلك وهذا مرتبط بسياسة القنصليات الأوروبية التي كانت تعمل على إقامة دولة مسيحية في فلسطين، وهو الأمر الذي تغير إلى اقامة الكيان الصهيوني لاحقاً. وقد اقترن تدفق الأوروبيين على القدس بحصولهم على الامتيازات والتي تضمنت حق التملك. ويمكننا قراءة ذلك على اساس أو بناء على الطبيعة الإمبراطورية للعثمانية وهذا جعل من الطبيعي أو السهل بيع أراض وعقارات للأجانب بمن فيهم اليهود وخاصة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وما بعد.
وهذا يفتح على وجوب المقارنة بين هذا الوضع المزرى للعرب في المدينة وبين ثراء اليهود الذين بدأت هجراتهم لفلسطين منذ ستينات القرن التاسع عشر.
إن الحفر في التاريخ أمر شديد الأهمية رغم أنه شديد الصعوبة لكن البحث الجاد يساهم في إبراز الشخصية العربية كيف كانت وكيف آلت.
✺ ✺ ✺
اختراق الإسرائيليات لتاريخ الشرق
موفق محادين
باستثناء بعض المقاربات الاستشراقية، الألمانية والروسية، فإن خطاب الاستشراق في معظم مقارباته شديد الصلة بالسردية التوراتية المزعومة حول الشرق وتاريخه وحضاراته القديمة، والأخطر تسلل الإسرائيليات إلى تأويلات إسلاموية ومسيحيوية معروفة.
لو دققنا في هذه السردية لوجدناها تطيح بأهم الصفحات الحضارية الشرقية عن طريق الخلط بين حوادث واختلاقات محددة وبين مجمل هذه الصفحات.
لقد تحولت قصة فرعون وموسى إلى موقف عام ضد الحضارة الفرعونية برمتها، وكذلك ما يقال عن (السبي المزعوم) الذي حول بابل إلى حضارة ملعونة، وأصبح الشرقيون يقاربون حضاراتهم القديمة بعيون يهودية، فصلت بين الدعوة الإسلامية وبين الحضارات العظيمة التي سبقتها وشكلت البيئة المناسبة لها.
ومن المظاهر الأخرى، الموقف من الحضارة الحجرية، فقد ميزت اليهودية بين الحجارة غير المشذبة (المقدسة) حيث تسري فيها الروح اليهودية، وبين الحجارة المنحوتة التي تمثل الوثنية والوثنيين، وبالمثل موقفها من الشعر والشعراء وكذلك من الزراع، فاليهودية حالة من القبائل الرعوية القمرية الجوابة.
ويلاحظ المتمعن في الروايات اليهودية العداء المستحكم للحضارات الحجرية مثل حضارة الفراعنة وحضارة أهل بابل ونينوى في العراق القديم، فمن تأويلهم لرحلة ابراهيم وخروجه من العراق إلى تأويلهم لخروج (بني إسرائيل) من مصر على يد أحد الفراعنة، إلى تعييرهم لبعض قادتهم الذين تزوجوا من أهل الحجر (الحضارات الحجرية) إلى ربطهم بين روايتهم عن السبي، وبين بابل الحجرية.
والمهم من كل ما سبق أن القراءات اليهودية المذكورة تنسف الرواية الصهيونية عن هيكل سليمان المزعوم باعتبار فكرة الهيكل بحد ذاتها تتناقض مع (المقدسات) اليهودية.
إلى ذلك، وتحت تأثير (الإسرائيليات) في التراث العربي، ثمة تأويلات وشطط في قراءة بعض النصوص المقدسة عربيا، لا تنسجم مع الروح الإسلامية والمسيحية الحقيقية ومن الشطط في تفسير النص (والشعراء يتبعهم الغاوون) إلى الشطط في تفسير قول منسوب إلى الخليفة عمر: “لا تستنبطوا” أي لا تصبحوا مثل الفلاحين (الأنباط) بل إن باحثا مثل محمد شحرور في شطط معاكس، حاول أن يربط بين الكفر والفلاحة مستعينا بأسماء بعض القرى والبلدات في بلاد الشام ومصر (كفر كذا..).
أما الشطط الذي يقترب من الأراجيف بحق النصوص المقدسة هو مقارنة ما حدث لبابل ومصر الفرعونية (الحضارات الحجرية) بسبب الموقف من اليهود، مع ما حدث مع قوم عاد (قد يكونون أسلاف الانباط) وإقحام تأويلات معينة لآيات أُخِذت خارج سياقها ووردت في سورتي الحجر والشعراء.
(وكانوا ينحتون الجبال بيوتا)، (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين).
والأغرب من كل ذلك الحضور الكبير لحاخامات متعصبين في قلب التاريخين الإسلامي والمسيحي، لم يتورعوا عن إطلاق المزاعم بل الأراجيف السوداء بحق النبي محمد والنبي عيسى، ومن هؤلاء موسى بن ميمون الذي يعده اليهود المؤسس الثاني لتوراتهم الملفقة، وقد وصلت به الوقاحة درجة وصف بها النبي محمد بالنبي الكذاب، ووصف عيسى بالنبي الدجال..
ووجه المفارقة هنا أن ابن ميمون هذا كان مستشارا لأحد أهم قادة التاريخ الإسلامي وهو صلاح الدين الأيوبي الذي حرر القدس من غزو الفرنجة لكنه سمح بتأثير ابن ميمون لليهود بدخول القدس بعد معركة حطين في تناقض واضح للعهدة العمرية مع بطرك القدس (إيليا آنذاك).
ومن الأمثلة الأخرى على الاختراقات التوراتية التأويلات التي تناولت قتل قابيل لهابيل وتصوير البشر كأبناء للقاتل، وحكاية لوط وابنتيه وتصويرنا كأبناء سفاح، وتأويل حكاية ابراهيم وولديه على نحو مخالف للروح الإسلامية وتصوير العرب كعبيد وغوييم من أبناء هاجر في خدمة اليهود كأحرار مزعومين، وكذلك السور التي دعت (بني إسرائيل) لدخول فلسطين مثل سور الإسراء (104)، وسورة المائدة (19- 23).
ولم يكن المسلمون وحدهم ضحية الرواية التوراتية، فقد كان اختراقها الأكبر في الوسط المسيحي، حين جرى ضم التوراة والإنجيل في كتاب واحد باسم الكتاب المقدس، وذلك رغم أن اليهودية لا تعترف حتى اليوم بمجيء المسيح وتعتبر المسيح الذي يوقره مسيحيو ومؤمنو العالم، مسيحا دجالا.
وقد جرى التحول المذكور على دفعتين: الأولى خلال فترة قسطنطين واتساع الامبراطورية الرومانية في مرحلة الرق وتبنيها المسيحية واكتشافها أنها فكرة خلاصية دون شريعة، فأكملتها بالشريعة اليهودية الصحراوية التي تتناقض كل التناقض مع جوهر المسيحية الزراعية.
الثانية، خلال تحول أوروبا من الإقطاع إلى الثورة الصناعية البرجوازية وحاجتها إلى صفقات مالية بعد أن انتقل المرابون اليهود من دعم الإقطاعيات المنهارة في أوروبا، إلى دعم البرجوازيات الصناعية والدول الملكية الصاعدة، فتوقفت حملات الملوك والكنائس ضدهم وفتحت أبواب الأندية البرجوازية (الأندية البرجوازية) أمامهم وأعلن الفاتيكان براءة اليهود من دم عيسى، وتبنى الرواية العبرانية وخاصة الواردة في (إنجيل متى) التي ردت المسيح إلى سلالة داود وزعمت أنه اختتن في القدس، وخالفت أقوال بولس حول (مسيحية الأمم) التي لا تشترط الإيمان بالعهد القديم.
إلى ذلك، يعلن هيغل ثم تلاميذه (الشباب) أن اليهودية في أحسن أحوالها (وعي شقي) ويعلن انجلز (رفيق ماركس) أن يهود الشرق لم يعرفوا الحضارة قط وأنهم كانوا قبائل همجية متخلفة يؤجرون خدماتهم بين البلاط الفرعوني والبلاط الفارسي، ولم يكتفوا بسرقة الأغنام بل سطوا على تراث الشرق ونسبوه مشوها لهم..
أما ماركس في سجاله مع اليهودي العلماني برونو باور فيقول إن تحرر اليهود في أوروبا ليس مسألة دينية، بل مسألة اجتماعية اقتصادية، فعلى اليهودي أن يتحرر أولا من يهوديته بل وعلى العالم نفسه إذا أراد التحرر من الرأسمالية أن يتحرر من الربوية اليهودية، وفي قراءات أخرى تدحض أية علاقة بين اليهودية والمسيحية وتؤكد أن هذه العلاقة، علاقة حديثة ناجمة عن تحول الثورة الرأسمالية الصناعية الأوروبية إلى رأسمالية ربوية يهودية، فإن البيئة التي ولدت فيها اليهودية مناقضة تماما للبيئة المسيحية.
فاليهودية ظاهرة رعوية لجماعات غازية أو جوابة جوالة تقدم خدماتها التجارية والعسكرية للغزاة وتجار القوافل، وتنسجم بالتالي مع الثقافة الليلية التي تناسب الصحاري، وتتخذ من القمر تأويلات ايديولوجية بطركية لها، أما المسيحية فظاهرة زراعية نهارية شمسية تشبه طقوس وثقافة تموز وادونيس واوزيريس التي تحتفي بالأم والابن والتثليث عموما وليس للتقسيم السابق أية علاقة ببعض التأويلات التي تجد قواسم مشتركة داخل الإسلام نفسه بين اليهودية وتأويلات حول أهل السنة والجماعة، وبين المسيحية وبعض التأويلات الشيعية.
ويشار كذلك إلى أن الأناجيل المعروفة والثانوية، لم تذكر الاله اليهودي، يهوه، أبدا.
إلى ذلك، رغم أن الإسلام ونصوصه المقدسة يحفلان بآيات ومأثورات تميز بين قبيلة (إسرائيل) وبين اليهود وتحذر منهم ومن مكائدهم، راح مشايخ النفط والغاز والعثمانية الجديدة والدوائر البريطانية، الأمريكية، يحرفون الكلام عن مواضعه و(يجتهدون) بتأويل أكثر من آية قرآنية تبريرا للتطبيع والغزو الصهيوني واحتلاله لفلسطين العربية، ومن ذلك ما جاء في سورتي الإسراء والمائدة.
ففي الأولى ما نصه بعد آية غرق فرعون، (وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض، فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا) الآية 104، وفي الثانية الآيات من 19-22 (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وأتاكم ما لم تؤت أحدا من العالمين، يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين).
أيضا، فإن عدم ورود كلمة فلسطين في القرآن، وورود اسم المسجد الأقصى مرة واحدة في سورة الإسراء، يوظف على نحو مريب مما يستدعي باستمرار الفصل بين تاريخ اليهود وقبيلة (إسرائيل العربية) المتهودة باعتبار ذلك جزءا من التاريخ العربي المتنوع، وبين إسرائيل الحالية باعتبارها امتدادا امبرياليا للاستعمار الأوروبي ثم الأمريكي، ولا علاقة لها بقبيلة بني إسرائيل العربية القديمة.
وبالمثل إذا كانت هذه القبيلة جماعة بدوية صحراوية جوّابة، فإن فلسطين عنوان لحضارات عريقة ولأرض تاريخية لا تنفيها الأسماء المتعددة لها بل تؤكدها كجزء من سوريا الطبيعية.
في ضوء ما سبق، ومنعا لاختلاط الحابل بالنابل، وحتى لا توفر التأويلات المشبوهة لفتاوى ومشايخ النفط والغاز والعثمنة والأطلسي، أي غطاء للعدو الصهيوني وصفقة القرن فلابد من فصل واضح قاطع بين اليهود العرب القدامى وايديولوجيتهم التوراتية الرعوية العنصرية، باعتبارها أحد مظاهر الوجه السلبي من تاريخنا، وبين اليهود الأشكنازيم وأصولهم الخزرية التركية والمشروع الصهيوني الذي انخرطوا فيه خدمة للدوائر الاستعمارية، فهم ليسوا عربا ولا يحق لهم الادعاء بوطن موعود وبأي شبر عربي، وبإمكانهم الحديث أو الحنين إلى موطن أصلي في بلاد الخزر لا في بلادنا.
والجدير ذكره أن الاتحاد السوفييتي السابق سبق واقترح في العقد الثالث من القرن العشرين إقامة حكم ذاتي لليهود في منطقة الخزر المذكورة بدلا عن فلسطين (وثائق الكومنترن).
:::::
موقع “صباح الخير، 27 فبراير 2023
________
تابعونا على:
- على موقعنا:
- توتير:
- فيس بوك:
https://www.facebook.com/kanaanonline/
- ملاحظة من “كنعان”:
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.
- عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
- يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org