ماكرون ووهم “الاستقلال” الأوروبيّ، سعيد محمّد

رحلة الرئيس الفرنسي إلى الصين وإن فشلت في تحقيق هدفها المعلن في تفكيك تحالف بكين-موسكو، فإنّها على الأقل وفرت مظلّة حماية للمصالح التجاريّة الفرنسيّة من انعكاسات سلبيّة لحرب المحاور الدّوليّة. لكّنه بتصريحاته حول ضرورة تمايز المواقف الأوروبيّة عن السيّد الأمريكيّ وتعزيز ما أسماه ب”الاستقلال الاستراتيجي الأوروبيّ” أثار موجة غضب واسعة ضدّه في القارة العجوز بوصفه تاجر وهم لم يعد أحد في النّخب الأوروبية مستعد حتى للتظاهر بقبوله. 

سعيد محمّد – لندن

عندما توجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الصين مؤخراً كان في رفقته على متن الطائرة الرئاسية جهتين تحمل كلّ منهما أجندة مختلفة عن الأخرى. الأولى أجندة واشنطن / بروكسيل التي حملتها أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضيّة الأوروبيّة (الجهاز التنفيذي للاتحاد الأوروبيّ) وتقضي بمحاولة دفع القيادة الصينيّة – بمزيج من التّهديد والوعيد – للتخليّ عن تحالفها الإستراتيجي مع موسكو الذي يزداد توثقاً مع مرور الوقت ويكسح كل جهد أمريكي لحصار الدبّ الروسيّ. أما الثانيّة فكانت أجندة باريس. مصالح الأعمال الفرنسيّة وراعية الماكرونيّة السياسيّة التي حملها وفد كبير من رؤساء الشركات الكبرى في مختلف القطاعات، وتريد حماية تجارتها الضخمة مع الصين من عصف حرب المحاور الدّولية. شكلاً، لم يكن ثمّة من تعارض بين الأجندتين، لا سيّما إن نجحت الزيارة في تحقيق أهدافها. لكن رأس المال الفرنسيّ، وفي الحقيقة أي عاقل في فرنسا، كان ليستشعر الخطر المتزايد للإستراتيجيات الأمريكيّة العدوانيّة ضد روسيا، وضد الصين، وضد محور روسيا/ الصين معاً. ففرنسا بحكم ثقل السوق الصينيّة في ميزان تجارتها العالميّة ستتضرر أكثر من بقية الفرقاء الأوروبيين إن وصلت الأمور إلى حد القطيعة مع القيادة الصينية. الألمان مثلاً مصالحهم أكثر توزعاً عبر العالم، والبريطانيون قلصوا بمرور الوقت من تشابكهم مع السوق الصينية إلى الحد الأدنى.

مضيفو ماكرون، الحكماء والمتأنون، تعاملوا مع الأجندتين بتفاوت حاسم. في بكين تعرضت دير لاين إلى ما يقترب من الإهانة والإذلال. إذ لم تدع للمشاركة في معظم الأنشطة الرسميّة للزيارة، وتعرضت إلى ما يشبه التقريع من القيادة الصينية – إن لم يكن مباشرة فمن خلال تصريحات وزارة الخارجيّة اليوميّة – ، وتركت بلا تغطية من بروتوكول كبار الضيوف الرسميين أثناء تنقلاتها بما في ذلك إنهاء إجراءات المغادرة في المطار كأي مسافر عاديّ. في المقابل، وباستثناء البرود تجاه الدعوة الأمريكيّة التي حملها ماكرون للقيادة الصينيّة ب”لعب دور محوريّ في إحلال (السلام) في أوكرانيا” – أي من خلال الضغط على (الزعيم الروسيّ فلاديمير) بوتين، والانخراط بفاعلية “المسؤولية المشتركة عن السلام والاستقرار الدوليين” – بمعنى نظام الهيمنة الأمريكيّة القائم -، فإن الصينيين استقصدوا أن يرحبوا بضيفهم بحفاوة بالغة، ودفء خاص يليق بإمبراطور. بل إن الزعيم الصيني، شي جين بينغ التقى به لست ساعات كاملة، واستضافه خارج العاصمة لبعض الوقت – وهو أمر استثنائيّ – حيث تناول معه الشايّ في مدينة جونجانج – حيث عمل والد ماكرون في وقت سابق -، وأوتي كل سؤله لناحية تأمين المصالح الفرنسيّة في السوق الصينية، بما في ذلك عقوداً لشراء طائرات إير باص، واتفاقات للتعاون في مجال الطاقة والكهرباء، وتعظيم لفرص التبادل التجاري بين البلدين، وإعادة تنشيط للعلاقات الثقافيّة والسياحيّة. وكان ملحوظاً في الخطابات المتبادلة بين الجانبين الإشادة بالعلاقات التاريخيّة بين فرنسا والصين في عهد الزعيمين الراحلين ديغول وماو، وتقاربهما على أرضيّة “الاستقلال الإستراتيجي” لبلديهما – في مواجهة الهيمنة الأمريكيّة الشاملة -.  

وهكذا، عاد ماكرون من بكين بخفي حنين فيما يتعلّق بأجندة واشنطن – بروكسيل، إذ بدا أن الصينيين واثقون تماماً من صواب تقاربهم مع جارهم الروسيّ، وغير مستعدين في أي وقت قريب لمقايضة تموضعهم الاستراتيجيّ على محور موسكو-بكين مقابل مصالح تجاريّة، لا مع الأوربيين، ولا مع غيرهم، لكنّ هذا الفرنسي الحذق عاد وفق الأجندة الأخرى، أجندة باريس، بجيوبه متخمة بالذّهب -، ما سيرضي بالضرورة رعاته المحليين أصحاب رؤوس الأموال، ويقويّ موقفه في مواجهة العاصفة الداخليّة التي يتعرّض لها بسبب فرضه قانون زيادة سن التقاعد بمرسوم رئاسيّ دون المرور بالبرلمان.

واشنطن، غير المعنيّة كثيراً بأجندة باريس ومصالح شركات طبقتها البرجوازيّة، بل والتي كانت تآمرت مع لندن في وقت سابق لدفع أستراليا إلى التخلي عن عقد ضخم مع فرنسا بشأن تزويد البحريّة الاستراليّة بغواصات قتاليّة واستبداله بعقد أمريكي-بريطانيّ، اعتبرت أن ماكرون لم يكتف بالفشل في إقناع شي بالحد من دعمه لروسيا فحسب، بل وتجرأ على عزف لحن نشاز عندما دعا أوروبا – في ثنايا مقابلة صحفيّة له على متن رحلة العودة إلى الوطن – إلى تطوير موقفها الخاص بشكل مستقل عن الولايات المتحدة للتعامل مع التوترات بين بكين وفرموزا (أي تايوان وفق التسميّة الأمريكيّة)، وإشارته إلى إنّ “الخطر الكبير” بالنسبة لأوروبا هو أنها “تتورط في أزمات ليست لها، ما يمنعها من بناء استقلالها الاستراتيجي”، محذراً من أن تصبح القارة في المحصلّة “تابعة” إمّا للولايات المتحدة أو للصين.

تردد صدى هذه التصريحات عالياً في واشنطن وبروكسيل ولندن وعواصم أخرى، ووصفها سياسيون ودبلوماسيون على جانبي المحيط الأطلسي بأنها تتعامى عن واقع أن الولايات المتحدة تقود الدّفاع عن أوروبا في مواجهة أطماع روسيّة مزعومة، وشنت الصحف الغربيّة هجومات سافرة على الرئيس الفرنسيّ “الموهوم” و”المعزول عالميّاً ومحليّاً” ووصفته بالتخليّ عن مهمته الديبلوماسيّة والتحوّل إلى “مندوب مبيعات لشركات الأزياء الفرنسيّة”. ولخّص الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب شعور الأمريكيين ب(خيانة) ما كرون لهم بقوله: “ماكرون، صديقي، انتهى مع الصين إلى تقبيل مؤخرة (الرئيس الصيني) شي جين بينغ.”.

ورغم أن ماكرون لم يردّ مباشرة على ترامب خلال مؤتمره الصحفي في أمستردام – حيث كان في زيارة رسميّة إلى هولندا -، إلا أنّه حاول التوضيح بأن فرنسا تؤيد الوضع الراهن في تايوان، ولا تزال حليفا قوياً للولايات المتحدة، وتريد من أوروبا أن تكون جبهة موحدة فيما يرتبط بالتعامل مع الصين. لكنه أصر على التأكيد على مبدأ “أن تكون حليفاً، لا يعني أن تكون تابعاً”.

وإذا كان الامتعاض الأمريكيّ من تصريحات ماكرون مفهوماً – ومتوقعاً – بحكم أنّها انتقاد صريح نادر للهيمنة الأمريكيّة على مصائر الأوربيين من زعيم أهم دولة أوروبيّة في الكتلة الغربيّة، فإن اللّافت كان حجم الغضب الذي تسببت فيه للنخب الليبراليّة اليمينيّة الحاكمة عبر القارة.

وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، وصقر واشنطن في التحالف الحاكم في برلين، أوفدت على عجل إلى بكين بعد زيارة ماكرون، وتنكرت من تصريحات الزعيم الفرنسي، لتحذّر الصين من استخدام القوة العسكرية ضد تايوان.

الحكومات في أوروبا الشرقية بشكل خاص – الأكثر تأمركاً من نظيرتها الغربيّة – أزعجها الحديث عن “التبعيّة” للأمريكي، واتهمت الرئيس الفرنسيّ بالفشل في تعلم ما أسمته ب”دروس غزو بوتين لأوكرانيا”. إذ بدون الجهود الأمريكية لكان النظام الأوكرانيّ انهار في الأسابيع الأولى (للغزو الروسيّ). ونقل عن رئيس الوزراء البولندي ماتيوس مورافيتسكي في معرض تعليقه على تصريحات ماكرون، قوله إن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى بناء وتعميق “الشراكة الاستراتيجية” مع الولايات المتحدة بدلا من تلك “المفاهيم التي صاغها آخرون لنا، والأفكار التي تفتح الباب للمزيد من التهديدات، والمزيد من علامات الاستفهام، والمزيد من المجهول”.

لكن بصرف النظر عن ردود أفعال هؤلاء “الأتباع”، فإن الرئيس الفرنسي لم يقم سوى بتقديم تشخيص دقيق حول حاجة أوروبا إلى أن تصبح أقوى وأكثر استقلالية، وأقدر قدرة على المناورة في بناء علاقاتها مع دول العالم المؤثرة الأخرى – وعلى رأسها الصين وروسيا – دون الخضوع الكليّ للنزعات العدوانيّة المنهجيّة في العقيدة الأمريكيّة. وبدون ذلك، فتظل مصالح الشعوب القارة مرهونة برغبات واشنطن، بل وقد تنتهي – كما الشعب الأوكراني – ضحايا على مذبح سياسات الهيمنة الغاشمة.

لكن هذا التشخيص الماكرونيّ يصطدم مباشرة بحقيقة أن النخب الأوروبيّة في مجمل القارة مرتبطة عضوياً بالسيّد الأمريكيّ، ووجودها ذاته، ومصالحها الاقتصادية، وحتى ثقافتها مشتقة منه. ولذلك فإن البلهوانيات الفرنسيّة مصيرها أن تصطدم بهذا الدّرع السميك من “أتباع” واشنطن، قبل أن تحتاج الولايات المتحدة إلى التدّخل بنفسها لإعادة لتصحيح (النغمة الشاذة).

بالطبع ماكرون يعلم ذلك تماماً، ويقدّر أن تعليقه للجرس سيجلب عليه غضب شركائه في الاتحاد الأوروبيّ، وهو قبل غيره يدرك كم كان الثمن الذي دفعه الجنرال تشارلز ديغول باهظاً عندما حاول اللّعب خارج ملعب الهيمنة الأمريكيّة، ويتذكر جيداً تردد الأوروبيين في تبني الفكرة الفرنسيّة لتأسيس جيش أوروبيّ، والهجوم الذي تعرّض له عندما دعا إلى ترك الباب مفتوحاً لتسوية مع روسيا. فما سرّ إقدامه المستجد اليوم في الخروج عن النصّ الأمريكيّ في هذه المرحلة تحديداً؟

ينبغي أن نتذكر أن ماكرون الآن في ولايته الثانية ولم يعد له ممكناً البقاء رئيساً لفرنسا، ولذلك فهو من زاوية الزّمان خارج دائرة القلق على مستقبله الشخصيّ. وإذا كان ثمّة من وقت لشجاعة زعماء الغرب – بمن فيهم الرؤساء الأمريكيّون – على الإدلاء بتصريحات صادمة فهو دائماً خلال ولايتهم الثانية، وقبل خروجهم من التاريخ.

أما من ناحية المكان، فالرئيس الفرنسي جاء ممثلاً منذ انتخابه لأول مرّة (2017) لمصالح الأعمال الكبرى الفرنسيّة، وهو ينفّذ برامجها بأمانة وإخلاص بما في ذلك استمراريّة مشروع تفكيك دولة الرّفاه لمصلحة نموذج الدّولة الرشيقة النيوليبرالي، وعندما فرض قانون إصلاح التّقاعد الأخير على الفرنسيين إنما كان يستكمل أحد المواد الأساسيّة في هذا المشروع. وفي مواجهته الحاليّة مع الشارع، فإنّه بحاجة ماسة لدعم هذه المصالح الكبرى، التي إن تخلّت عنه في هذه المرحلة، فلا شيء سيمنع سقوطه في ربيع فرنسيّ ملّون، أدواته متوفرة بالفعل.

بغير تقاطع الزمان/مكان هذا، فإن ماكرون يقرأ (أو يراهن) على توسع دائرة السخط داخل الاتحاد الأوروبيّ تجاه انعكاسات الحرب الأمريكيّة الروسيّة على الأرض الأوكرانيّة – وهو أمر لم يعد سراً على الرّغم من كل محاولات الإعلام الغربيّ التغطية عليه -. ولربما يكون تقييم الدوائر العسكريّة الفرنسيّة السريّ لمسار الحرب في أوكرانيا يميل نحو توقع انتصار روسيّ، وإن بالنقاط.

وفوق ذلك كلّه، فإن ماكرون يدرك أن زمان الإمبراطوريّة الفرنسيّة قد ولى، وأن ميزة بلاده الوحيدة التي قد تُبقي الجمهوريّة ذات صلة بما يجري في العالم هي في قدرتها على لعب دور وسيط مع الشرق، وبوابة لأوروبا – حتى بالنسبة للأمريكيين –. لقد شكل الاتحاد الأوروبي أكثر من ثلث الناتج الإجمالي العالمي في عام 1960، لكن بحلول عام 2100 ستنخفض تلك المساهمة إلى أقل من 10% وفق التقديرات. إن فرنسا بحاجة للصين لأجل أن تبقى واقفة على قدميها.

إذن ماكرون ليس مهرطقاً كما يتم تصويره في أروقة بروكسيل، وليس متوهماً أو رومانسيّاً في ممارسته للسياسة الخارجيّة كما يتردد عنه في كواليس واشنطن، بل ربّما يكون أكثر الزعماء الأوروبيين ذكاء، ومصداقيّة مع نفسه، ومع ما يمثّل في قمة هرم السلطة في بلاده.

ولكن هل سيرتدع بسبب ردود الأفعال الناقدة؟ من معرفتنا بسلوك الرجل خلال سنواته في الإليزيه فإنّه عنيد، ويتبنى المواقف عن اقتناع نظريّ، ولا يغيّر رأيه بسهولة. وهو مؤخراً اختار المضي قدماً في إصلاح نظام المعاشات التقاعديّة رغم معارضة ثلثي الفرنسيين، ومرر القانون بمرسوم رئاسي لما استعصى على رئيسة وزراءه جمع أصوات كافية لإقراره في البرلمان.

وعلى الأغلب فإنّه مستعد أيضاً للتمسك بموقفه في السياسة الخارجية. وفي خطابه في هولندا هذا الأسبوع كانت الثيمة الأساسيّة التي طرحها الدّعوة لبناء الاستقلال الاقتصادي والقدرة التنافسية، وجعل أوروبا أكثر “سياديّة”، مشيراً إلى أن هذا كان دائماً “مسألة محوريّة في مشروعي السياسي”.

سيخوض الرئيس الفرنسي إذن معركة قاسية خارجيّاً وداخليّاً، بلا آمال كبار، وبدون أوهام، وهو حتماً لن يهزم الولايات المتحدة في ملعبها الأوروبيّ، ولن يغيّر ولاءات النخب الأوروبيّة الذليلة، لكنّ ظهره مستند إلى جدار رأس المال البرجوازي الفرنسيّ الذي لن يجد أفضل من ماكرون ليذود عن مصالحه خارجيّاً وداخليّاً، وبالتأكيد سيمنحه رأس المال السياسيّ الذي يحتاج لقضاء ما تبقى من سنوات ولايته في تكريس إرثه السياسي والاقتصادي.

:::::

“الأخبار”، 19 نيسان 2023

________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….