نشرة “كنعان”، 22 ابريل 2023

السنة الثالثة والعشرون – العدد 6526

في هذا العدد:

تطورات الكيان الصهيوني حلقة (9): الكيان إلى دولة دينية/إمكانية أم انتحار، عادل سماره

السودان:

  • السودان: لماذا تدعم الإمارات قائد مليشيا؟
  • دول الخليج في السودان.. رعاة «التقسيم الجديد»

✺ ✺ ✺

تطورات الكيان الصهيوني حلقة (9)

الكيان إلى دولة دينية/إمكانية أم انتحار

عادل سماره

لعل أشد ما يتأثر بالمتغيرات الدولية هي الأنظمة التابعة سواء التابعة بهشاشة أو التابعة من موقع ووضع قوي وإمكانات حالة الكيان الصهيوني. لذا أتقن الكيان التنقل من حضن الإمبرياليات الأوروبية إلى الأمريكية وحاول لاحقاً كسب الحضن الصيني الصاعد وتمكن من إقامة علاقات اقتصادية وطيدة مع الصين منذ 1991 اي بعد أن تكرّس هناك نظام ما بعد الماوية لكن هذا الانتقال أو المرحلة الانتقالية لانتقال الكيان وهي بين حضنّيْ امريكا والصين تتعرض منذ الحرب في أوكرانيا إلى حالة من الشلل النسبي كما يبدو. وفي مختلف مراحل التنقل بين الأحضان كان الاتحاد السوفييتي ومن ثم روسيا حاضن ثانوي للكيان بغض النظر عن سخونة الحضن أو برودته طبقاً للعلاقات العربية السوفييتية وتطوراتها.

هناك متغيران في الأشهر الأخيرة اثرا على وضع الكيان هذا وهما:

·       حكومة أقصى اليمين

·       والعلاقات السعودية الإيرانية بوساطة الصين.

بعد ما نشرناه من حلقات “تطورات الكيان” نتناول هنا الحكومة الصهيونية الجديدة والتي يمكن تحديد ما قامت به في امرين متلازمين:

·       الصراع الداخلي مع منافسها أي التيار الصهيوني العلماني الديني أيضاً

·       والحرب الإيديولوجية بل المتنوعة ضد الفلسطينيين والعرب.

يمكن للمتتبع الحاذق وحتى للمرء السطحي أن يلاحظ بأن هذه المرحلة في المجتمع البشري تتسم بتناقضات عديدة لكنها تنفرد بإثنتين خطيرتين وغريبتين:

الأولى: تطور تكنولوجي هائل

والثانية: تردي أخلاقي هائل ايضا وهو اتساع ظاهرة الدين السياسي والتعصب الدموي على صعيد الكوكب وتحولها في نظر البشرية إلى أمر عادي.

حيث المفترض تناقض المسألتين أو التطورين! فلا يجمع بينهما سوى عالم في لحظة فارقة تضعه على حافة البربرية.

ولأن الكيان الصهيوني هو أول دولة دينية في العصر الحديث  رغم أن هذه الدولة وشَّحت نفسها بوشاح علماني شكلاني إلا أنها أقيمت على:

أولا: عامل قوة ومصالح العرب من مرحلة الميركنتيلية/التجارية للاستعمار للإمبريالية  وليس لا على مبادرة ولا قوة اليهود و الصهيونية (كما أوضح بدقة الكاتب الموريتاني محمد وِلد إلمي الياسيني في الحلقتين 1 و2 من سلسلة تطورات الكيان)

ثانياً: عامل اوهام توراتية كرواية لا اساس علمي ولا أركيولوجي لها.

ولذا، ليس غريباً هذا التوحش والغرور بالذات من قبل حكومة نتنياهو وشركاه وهو غرور يستثني حقيقتين هما اساس وجود الكيان واستمراره وهما:

·        التخليق والدعم والرعاية من قبل الإمبريالية التي تصدر للكيان كافة أخطر الأسلحة على البشرية وتعلن ان واجبها أن تبقى “اسرائيل” اقوى من جميع دول المنطقة. بمعنى أنها تقاتل نيابة عنها. وبالتالي لم يقاتل الكيان بقوته وحدها يوماً. وهذا يزيد غرور اليمين ولكنه يحاول اللحظة هذه أن يكمل احتلاله للأرض العربية من النيل إلى الفرات ويخص في ذلك دمشق لأنه يرى أن الإمبريالية تتزعزع وبالتالي يجب إعتصار الفرصة واللحظة.هذا رغم أنمشكلة أوكرانيا قلبت كثير من المعايير.

·       ووجود أنظمة عربية رسمية هي صهيونية جوهريا وهذا ما ثبتت صحته على مدار قرن من الزمان أي منذ توليدها وتصنيعها في اتفاق سايكس-بيكو (1916) ووعد بلفور للكيان (1917) مما يؤكد وجود حبل سُرِّي يربط هذه الأنظمة والكيان مصيرياً.

وهنا لا أود الانتقال إلى الهدنة الإيرانية السعودية، ولكن احتوائها على بند  القبول بالمبادرة العربية يؤكد تهافت الأنظمة العربية وحتى إيران بقبولها إدراج هذا البند وهذا ما يستغله الكيان بسلطته الحالية

وعليه، فإن جنون العظمة من أقصى اليمين لا يختلف عن ما قبله ولكن حظَّه نَكِد حيث أتى دوره في لحظة فارقة في التاريخ تؤكد انتقال العالم من سيطرة القطبية الرأسمالية الإمبريالية (ثلاثي امريكا، الاتحاد الأوروبي واليابان/سمير أمين)  وعليه ليس أمامه سوى هذه المغامرة الانتحارية لاهتبال الفرصة.

من هنا، علينا أن نفهم جيداً ماذا يعني تغير العالم لمستوطن توقع أن يكون في الجنة فإذا به أمام بطولة فردية اسسها مهند الحلبي، ومثقف مشتبك باسل الأعرج ومسدس قدري علقم وماسورة بندقية الفدائيين الجدد . وحين يصل الأمر هذا الحد لا يعود الدين رغم سهولة استخدامه للتزوير والكذب مثابة رُقية نافعة. هذه التشكيلة القيادية في الكيان ليست مجموعة مجانين بل هم يحلمون بتخليص الكيان والنجاة بما اغتصب بما أن وقت السطوة الإمبريالية ينتهي أو أزف بالتأكيد. ليسوا مجانين بل إستثمروا اللحظة حتى الثمالة./المناخ المناسب قبل فقدانه.

كيان يتقاطع ويختلف مع المستوطنات البيضاء:

تختلف التجمعات الاستيطانية عن الأمم المتكونة بشكل تاريخي وبالتالي طبيعي. صحيح أن ما يوحد هذه التجمعات هو منبتها وباعثها الرأسمالي الأوروبي تحديدا فهو وراء المستوطنات الاستعمارية الرأسمالية البيضاء كما أسماها ووصفها إرجيري إيمانويل(1911-2001)،

  (Arghiri Emmanuel, “White Settler Colonialism and the Myth of Investment Imperialism, New Left Review,no 73, 1972.(

 وهي أمريكا، كندا ، استراليا، نيوزيلندا وجنوب إفريقيا سابقا والكيان.وصحيح أنها جميعاً ارتكزت على  ما يسمى تفوق العنصرية البيضاء وعلى تخليق تبريرات دينية ايضاً من طراز ان الله وعدهم ووهبهم الأراضي التي اغتصبوها وابادوا شعوبها الأصلانية قرابين لربٍ ما!

ويبدو أن إيمانويل تاثراً بدعايةالصهيونية وتواطؤ الأنظمة العربية تورط ليكتب (في المصدر اعلاه):

” وفيما يخص اسرائيل يُنسى غالبا انه اذا كان هذا البلد يمثل راس حربه للامبريالية  في الوضع الخاص  والمحدد لسياق التناحر ما بين هاتين القوتين العظميين فان هذا نظرا  لظروف خاصة . إن طبيعتها  الحقيقية هي ان تكون كتلة صغيرة من المستوطنين “البيض ”  تتمدد اكثر فاكثر لاستعمار منطقة متخلفة “.

ولكن للحقيقة، فإن الرجل أدرك طبيعة الكيان لاحقاً واصبح من أنصار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وضمن نشاط سرِّي بالطبع كما ورد في دراسة في مجلة  Monthly Review اليسارية.

لكن الكيان الصهيوني والذي يشارك من حيث أصله مختلف المستوطنات البيضاء هذه كتخليق رأسمالي كما أوضحنا في سابق الحلقات لكنه يتفرد عنها في أمور اساسية هي التي تقود إلى اقتلاعه، هذا دون أن نذكر حملات الغزاة الفرنجة واقتلاعهم من المشرق العربي على يد صلاح الدين الأيوبي ولاحقا قادة المماليك.

وحيث تحظى كل مستوطنة بيضاء بدولة  متروبول/أم، مثلا امريكا غالبا أمها بريطانيا، وكذلك نيوزيلندا واستراليا، بينما كندا تحظى بفرنسا وبريطانيا…الخ  فإن الكيان الصهيوني  يحظى بمتروبول عام هو النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي وهذا يعني أن وجود الكيان وبقائه مرهون بقوة الإمبريالية وبقائها في الوطن العربي وليس مرهون الأمر بقوة الكيان نفسه أو في أساطير التوراة  وهذا ما عبر عنه كارل كاوتسكي منذ ثلاثينات القرن العشرين وكرره بريجنسكي بعد حرب عام 2006 بعد انتصار ح/ز/ب ا/ل/ل/ه/ على الكيان.

قد يجادل البعض بأن الإمبريالية تخلت عن جنوب إفريقيا للسود . وهذا أمر فيه نقاش كثير أقلُّه أن أهمية جنوب إفريقيا ليست بقدر أهمية الكيان للغرب لأن الكيان يعني السيطرة على الوطن من المحيط إلى الخليج، كما أن ما حصل في حنوب إفريقيا كان نصف لعبة تقريبا، بمعنى أن البيض بقوا هناك وبقي بيدهم الاقتصاد وهم امتداد للغرب الراسمالي وتسلَّم السود السلطة السياسية وتم رفع شريحة سوداء برجوازيةلحماية النظام ناهيك عن ما يعانية من فساد. لذا حين زرت جنوب إفريقيا 1995 كتبت مقالا في كنعان”دولة بيضاء بوشاح اسود”. ويختلف الكيان عن جنوب إفريقيا بأن الحالة هناك لم ينتج عنها ظاهرة الطرد أو اللجوء أي الاقتلاع الشامل ولو على مراحل.

وتختلف الحالتان في وجود محيط عربي للكيان هو نفسه مُستهدَف تمت وتتم في الوقت نفسه  محاولات اجتثاث دوره ضد الكيان عبر أنظمة متصهينة ولكن ذلك أمر يتجذر ضد الكيان مع الوقت.

صحيح أن مختلف المستوطنات البيضاء استخدمت  “وعد” الله، أو إله ما  لتبرير فتكها بالشعوب الأصلانية، لكن ما من واحد منها أقام دولته على دين محدد أو على الدين تحديداً، سوى الكيان الذي جمع بين السكان والدين حصريا بمعنى دولة لدين محدد. وهنا نحن أمام لعبتين:

الأولى: غياب اساس قومي للكيان لأنه تجميع من مئة قومية ولذا يكون أو تكون التسمية الدينية او تشكل مخرجاً أفضل لتسمية الدولة كدولة دينية وهذا يختصر ويقمع الثقافات المختلفة والأصول القومية في الكيان.

والثانية: حصر وجود واستجلاب وبقاء سكانها في اليهود حصراً. وهذه الأمور لم تتبناها مختلف المستوطنات البيضاء بينما الأخريات علمانيات.

لا مجال هنا للرد على من يزعمون بأن الصراع مع الكيان بسبب وصفهم له بأنه نظام ابرثايد/فصل/مَيْز عنصري (أنظر هذا في كتاب عادل سماره Debatable Ideas: Polemic Critique, 2020 . أو مزاعم إيلان بابيه بأن المشكلة هي فقط تظهير عرقي، وقد رددناعليه كثيرا في كنعان الإلكترونية ومنها العددين 4819  4820- آب (أغسطس) 2018) بأن الصراع وجودي وتناحري.

: بداية علينا ان نتذكر بأن هناك أدبيات اساسية أُقيمت عليها الدعاية الصهيونية لاجتذاب يهود من العالم، ولكن ليس كل يهود العالم. صحيح أن من مصلحة الكيان تجميع أكبر عدد ممكن من يهود العالم كي يواجه الديمغرافيا الفلسطينية والعربية بالطبع.  ولكن لم يأت للكيان قرابة نصف يهود العالم. وذلك لعدة أسباب منها:

·       رفض بعض اليهود الهجرة من أوطانهم رغم تأييدهم للكيان.

·       رفض بعض اليهود مغادرة او جلب مشاريعهم المعولمة إلى الكيان ولا سيما شراكتهم في الشبكة المالية الدولية بمعنى أنهم يرون انفسهم، بل مصالحهم،  أكبر من الكيان ويغدقون عليه المال أي يعملون بموجب تقسيم عمل.

·       وربما تقسيم عمل سري بين رؤوس الصهيو/دية بمعنى أن تكو هناك :”إسرائيل الدولة”و  “إسرائيل المال” وخاصة في امريكا والغرب عامة وذلك لأجل قوة المال والتاثير وخاصة بعد أن إنتهت أو اضمحلت  تقريبا “إسرائيل” الثالثة اي الوجود اليهودي في روسيا واستيطان مليون منهم في فلسطين المحتلة ولا سيما  بعد انهيارالاتحادالسوفييتي.

وهنا علينا التنبه إلى أنه :

في بداية الاستيطان في فلسطين كانت تركز الحركة الصهيونية على جلب اليهود الأكثر غنىً لحاجتها للمال في مرحلة التأسيس (The Other Israel, edited  by Arie Bobber, 1972.p.41   ). ولكن من اللافت أنها لم تستجلب كبار أو عُتاة المال اليهود مثل روكفبر وروتشيلد…الخ الذين تم الاكتفاء منهم بالدعم المالي.

·       ونظراً لحاجتها لقوة العمل ولكي لا تستخدم الفلسطينيين قامة بحملة استجلاب مختلف أنواع اليهود الفقراء طبعاً وخاصة اليهود العرب من العراق والمغرب.

ولإغراء اليهود الفقراء ومتوسطي الحال، أو يهود البلدان المأزومة اقتصاديا كما حصل في فترة تفكك الاتحادالسوفييتي فقد ركزت الدعاية الصهيونية على امرين بشكل “مميز” عن غيرها:

الأول: بأن هذه الدولة هي دولة المساواة بين كل يهودها وذلك في تمويه لجوهرها الطبقي الراسمالي. وفي الحقيقة أتقنت ذلك الى حد بعيد ولفترة تقريبا لم تنته حيث تقدم الخدمات والرعاية بشكل ملموس ولو بالحد الأدنى، وهذا مثلا يفسر قلة عدد الجواسيس اليهود لصالحنا وكثرة عدد العملاء العرب لها بالمقابل .وبكلام آخر، لم تتواجد في الوطن العربي دولة تشكل نموذجا جذابا لليهود  كي يكفروا بالصهيونية ولا حركة فلسطينية تشكل نموذجاً جذابا لهم ايضاً!

لكن تطورات الكيان الداخلية في الكيان تشي بأن الدولة لم تعد حقا للجميع، هذا إذا كانت حقاً كذلك،  سواء فيما يخص السلطة السياسية والقوة الاقتصادية والمساواة بالمعنى الثقافي وهذا ما تصرح به المجموعة الحاكمة وجمهورها اليوم. وللفوارق الطبقية والتناقض الثقافي والتمييز بين الأصول العرقية والقومية والألوان  بين اليهود والذي  أسس لحركات اليهود العرب والفهود السود وغيرها أنظر كتاب: (سامي شالوم شطريت:النضال الشرقي في إسرائيل بين القمع والتحرر، بين التماثل والبديل1948-2003 ترجمة سعيد عياس،منشورات  مدار 2005) فهو يشرح المناخ الذي انتهى إلى اصطفاف اليهود العرب والشرقيين عموما وراء الليكود وهو ما يحصل اليوم.

كما لم يحقق الكيان وعده الآخر لليهود بأن الكيان هو المكان الأكثر أمناً لليهود. فلا يخفى على هذا التجمع الاستيطاني بأنه يعيش دوماً حالة حرب بغض النظر عن أنه كسب في الكثير منها لأن هذا الكسب لا ينفي الحلم بحالة من الأمن والأمان لمغادرة العقلية المنفوية التي تعشش في ثقافة اليهودي اينما كان. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن انتقال الكيان من انتصار 1948 و 1967 إلى نصف هزيمة في حرب 1973، إلى هزيمة عام 2000 و 2006 و2014 …الخ. وصولاً إلى خسارة الكيان الكثير على ايدي الفدائيين الجدد كونهم داخل الأرض المحتلة نفسها. وهذا أوصل الكيان  إلى فقدان دور الهجوم باريحية إلى وضعية الحسابات الدقيقة حتى في الرد، وخسارته بفقدان الردع، كما يزعم البعض،  بل في دوره في العدوان. والافتقار لعنصر الأمن هو كعب أخيل لكيان هو مثابة مستوطنة لا تمتلىء.

هل يجد طرفا التنافس ما يدعمه في بنية الكيان؟

من اللافت أن قيادة طرفي التنافس/الصراع في الكيان هما من شريحة إشكنازية مقابل أخرى وهو انقسام عامودي فعلاً حيث يضم كل طرف شريحة  من الرأسمالية المالية النيولبرالية الإشكنازية بالطبع  وصولا إلى تجمعات اليهود السود في القاع للطرفين. ولكن كتلة اليمين الأشد تطرفاً وتوراتياً كانت الأنجح في اكتساب اليهودالشرقيين وهم الأكثر فقرا منذ 1977 وحتى اليوم.

ومن جهة ثانية نجح الليكود في رفع بعض قادة اليهود الشرقيين ليصبحوا جزءاً من المؤسسة الحاكمة وهذا ما سمح له ولهم أن يُظهروا لقواعدهم بأن الشرقيين شركاء في السلطة وسمح لقيادة الليكود البيضاء بأن تحرك هؤلاء بما يتوافق مع بقاء قيادة الكيان إشكنازية بيضاء أي صار شرطاً لرفع اي قيادي شرقي أن يكون انتهازيا بمهارة، وهذا شبيه برفع شريحة من السود للتبرجز واستلام السلطة السياسية في جنوب إفريقيا

إن قراءة تركيبة الأحزاب في الكيان تشي باختلاف  جوهري بينه وبين المستوطنات البيضاء الأخرى. صحيح أن البُنى الاستيطانية مضادة  أو على الأقل مجافية لتوليد يسار حتى وهي راسمالية متقدمة، وربما لأنها رأسمالية متقدمة بمعنى إذا تأزمت إقتصاديا قد يُرز مناخ توليد يسار جذري،  ولكن حالة الكيان اتسمت إلى حد بعيد بتغييب اللوحة الطبقية مما جعل الآحزاب هناك خليطا طبقياً وهذا خلق فرصة لسيطرة الدين السياسي في مختلف الأحزاب حيث يخدم  بدوره بشكل أكبر في تمييع أو تمويه الفرز الطبقي، ناهيك عن استخدام موقف الفلسطينيين والعرب ضد الكيان كونه تهديد وجودي.

لذا، نجد في طرفي التناقض  أو المعسكرين كأحزاب أو كمعسكرين يتبلوران تدريجيا ، تجد من اليهود المليارديرات إلى اليهود سكان أحزمة الصفيح، رغم الفرزالطبقي في قمة الهرم وقاعدته والذي بدأ يظهر منذ 1977 حيث وصلت قيادة الليكود للسلطة وهي برجوازية مالية من توابع المدرسة النقودية  Monetarismل ملتون فريدمان   (1912-2006)حيث مثله فيها سيمحا إيرليخ وزير المالية وتبنت هذه المدرسة حكومة الديكتاتور الفاشي حينها في تشيلي  بينوشيت. وحدهما الكيان وتشيلي بينوشيت تبنيا رسميا هذه المدرسة، ومع ذلك لم يتم استغلال هذا ضد الكيان دعاوياً على الأقل.

هذه البنية من فوق إلى اسفل، اشبه بالبنية الطائفية عموما وفي لبنان خاصة حيث لكل طائفة بنية دولانيتها التي  تضم البيك ومعه الشيخ في القمة والفقير والقبضاي في القاع.

وبالطبع تتقاسم الكتلتان في الكيان الموقف الديني التوراتي.

ففيما يخص الصهيونية المسماة علمانية /يسارية فهي هي نفسها التي اسست لدولة دينية مغطاة بقشرة علمانية وحتى “إشتراكية” الأمر الذي يحتمل عديد التفسيرات. فالصباغ الإشتراكي كان ضروريا في المراحل الأولى لغزو واغتصاب فلسطين كي يستقطب الكتلة الشرقية التي أكدت دعمها لكيان استيطاني جوهره راسمالي أسسته الراسمالية  الأمبريالية. وبهذه اللعبة تمكنت الحركة الصهيونية من تحقيق إجماع دعم عالمي لم تحظى به اي قضية في العالم حيث ضم”المعسكر الراسمالي الإمبريالي، والمعسكر الشيوعي ، ويا للبؤس الفكري النظري، والاشتراكية الدولية الوسطية! وليس هنا مجال توصيف الكيبوتسات والموشاف والتي يشرح جوهرها تلاشيها.

وللتدليل على تغوُّل التحريف اليهودي الصهيوني لليسار وللآشتراكية فإن بير بوروشوف(Borochov Ber, Nationalism, and the Class Struggle: a Marxian Approach to the Jewish Problem (New York, 1937). )كتب بوضوح أنه من أجل أن يتمكن اليهود من إقامة دولتهم الإشتراكية فإن من حقهم اغتصاب ارض شعب آخر. هذا وكأن مصير الاشتراكية في العالم مرهون بوجود دولة يهودية تتحول الى الاشتراكية أي المسيح الإشتراكي المخلص والمنتظر! وماذا لو لم تحصل مثلاً لا سمح الله!!!. وبالطبع حصلت الدولة ولكنها تمخضت عن حالة عنصرية راسمالية بالمطلق.

ولعل هذا الاستكبار إنما دليل في حينه على الأقل على خنوع معولم للصهيونية.

يقوم الفريق الإشكنازي ، أيضاً الإشكنازي، الحاكم اليوم مجسدا في قيادته الثلاثية ،نتنياهو، بن جفير وسومريتش يإعلان الانقلاب على الشكل الوسطي من الدولة الدينية إلى دولة دينية بموجب الشريعة على النمط الإيراني كما بيننا في حلقة (3).

وفيما يخص سيطرة الإشكناز على قيادة الطرفين، قال بروفيسور شرقي متهكماً :

“… إن الشرقيين مثابة كيس التدريب على الملاكمة  الذي يتدرب عليه الاشكناز من الطرفين ويدعي ان في الحكومة الحالية اغلبية اشكنازية تستند على الشرقيين مثلما كان حزب العمل يعمل بهم وهو في السلطة !       الليكود يُعرِّف نفسه كيمين ليبيرالي اقتصادي وهو اقرب للحزب الجمهوري بامريكا ، جنوده ومصوتيه من الشرقيين بشكل اساسي . الطبقة المسيطرة هي اشكنازية ورأسمالية ، قسم منها انضم الى المتظاهرين وهو يريد تغيير حكم الاشكناز ُبناة الدولة  عبر المحكمة العليا . اليهود الروس اشكناز ، يدعمون اليمين سياسياً ، وهم من الطبقات الفقيرة اقتصادياً ، وتتمتع باعلى مستوى ثقافي بين تشكيلات الطوائف اليهودية المختلفة ، وهم علمانيون بالكامل ويرفضون اليهودية الرسمية والمحافظة ، ليبرمن يمثل هذه المصالح . ما يسمى احزاب اليسار انتهت ولم تعد تمثل طبقياً الطبقة العاملة ، اذا جاز توصيفها هكذا . الاحزاب الاخرى الوسط _ يمين او يسار ، يعرفون انفسهم ليبيراليين ومع الاقتصاد الحر . والاحزاب الدينية برمتها لا اساس طبقي لها ، معظمهم فقراء ويعيشون على حساب الدولة ولا يخدمون بالجيش وهم لا يعترفون بالصهيونية .

وكما يرى الرفيق رجا إغبارية بأن ” الصراع الدائر هو بين دولة الاشكناز الاولى وخليط الاشكناز والشرقيين والمتدينين  اليمينيين لدرجة الفاشية”

إن الخلفية التوراتية والفلسفية  هي التي تثقف عليها فريق السلطة الحالية في الكيان لأن هذا الفريق تتلمذ على الاباء الإيديولوجيين وخاصة الجدد للديانة اليهودية والذين يريدون  تحويل “إسرائيل”  إلى دولة شريعة على النمط الإيراني كما يقولون وكما أوضحنا في الحلقة الثالثة.

لكن اللافت، أن هذا التيار شديد الأصولية من جهة، ولجأ إلى “التُقية” حيث لم يعلن مخططه قبيل الانتخابات إذ انتظر لما بعد فوزه  ليقدم ويحاول تطبيق برنامجاً يأخذ الكيان إلى أقصى التطرف الديني والسياسي والعرقي. فهو غيَّر في الدرجة وليس في النوع لأن التيار الجديد ليس نقيضاً للسابق كما يزعم بل هو تصعيد لجوهر الحركة الاستيطانية الصهيونية الدينية التوراتية مأخوذ بالطبع بهدف السيطرة على السلطة من دوافع طبقية قيادية داخل الطبقة الواحدة نفسها أو القشرة الراسمالية العليا. وقد اصبح معروفاً بأنه داخل الطبقة الواحدة في اي مكان هناك شرائح  في الطبقة الواحدة  كما جادل بولنتزاس ويمكن أن تتناقض مصالحها فالطبقة في علم اليوم لم تعد تُقرأ على أنها كتلة واحدة وخاصة حين تنتقل من:”طبقة في ذاتها إلى طبقة لذاتها/ماركس”

وعليه، فقد نجح هذا التيار الأكثر أصولية يهودية في توظيف الصهيونية العلمانية/الدين سياسية في توفير أو توفر المناخ لمشروعه التوراتيّ جداً ، ثم الانقلاب عليه بعد أن اعتقد بأن الكيان قد تمأسس وتمترس وكأن كافة الظروف الإقليمية والعولمية حُسمت لصالحه وإلى الأبد! ولكن، مؤاتاة الظروف الإقليمية والدولية لم تعد قائمة كما كانت سابقاً بل تشي تطورات العالم بأنه مجافٍ ومجافٍ أكثر.

✺ ✺ ✺

السودان:

  • السودان: لماذا تدعم الإمارات قائد مليشيا؟
  • دول الخليج في السودان.. رعاة «التقسيم الجديد»

  ✺ ✺ ✺

كنعان:

الخليج أداة الإمبريالية ويقوم بدور الكيان: لن يتخلى حكام الخليج المعيّنون عن دورهم في تفكيك الوطن العربي فهم يُدينون للإمبريالية في توليهم على رقاب الشعب ولذا يقدمون خدماتهم للصهيونية كما لو كان الخليج هو هرتسليا، فهي تُسلِّح أعداء العروبة من حاكم إثيوبيا إلى حميدتي في السودان وحتى ميليشيات ليبا فهل تنجو سوريا!

■ ■ ■

السودان: لماذا تدعم الإمارات قائد مليشيا؟

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان

يتعدى التحالف بين الإمارات العربية المتحدة و”حميدتي”، قائد “قوات الدعم السريع” السودانية، تجنيد المقاتلين إلى “تجنيد” الموارد: الذهب والنحاس ومؤخراً اليورانيوم، وعلى ذلك النفط! ويسيطر “الدعم السريع” بشكل شبه كامل على قطاع المعادن الذي يدر أموالاً هائلة، يذهب القليل منها إلى خزينة الدولة فيما يُهرّب الجزء الأكبر إلى الخارج.

كانت زيارة قائد “قوات الدعم السريع” السودانية إلى القاهرة في تموز/ يوليو الفائت، فاصلة في مشروعه السياسي الكبير الذي تخطط له الإمارات العربية المتحدة وتسانده فيه. فالنتائج لم تأتِ كما أراد لها القائد القبلي (محمد حمدان )”حميدتي” صاحب الطموح الجامح، والذي تسيّد المشهد بعد سقوط البشير في نيسان/أبريل 2019. فقد أبلغته مصر رسمياً أنها لن تسمح بتمدد ميليشيا قبلية مسلحة خصماً ل”قوات الشعب” المسلحة السودانية (الجيش السوداني). ولم تتوقف مصر عند هذا الحد، بل أبلغت القيادة الإماراتية بأنها غير راضية عن مشروع الإمارات القاضي في محصلته بتفكيك الجيش الرسمي وإبداله بميليشيا، وهي حاولت إيقاف عمليات التسليح الثقيل التي تنوي الإمارات تزويده بها.. قبل أن تعاود الإمارات الدعم مجدداً.

و”الدعم السريع” هي ميليشيا قبلية عربية أسسها البشير لمجابهة الحركات الأفريقية المتمردة في دارفور، قبل أن يصنع منها إمبراطورية عسكرية موازية للجيش السوداني، تحولت إلى قوة نظامية بعد إجازة قانون خاص بها في البرلمان السوداني في كانون الثاني/ يناير 2017.

بعد إزاحة البشير، سارعت الإمارات لتأييد ودعم “المجلس العسكري السوداني” الذي يتزعمه قائد الدعم السريع “حميدتي” مع بعض جنرالات الجيش الموالين للخليج، وأرسلت وفداً مشتركاً مع السعودية يتقدمه الفريق طه الحسين، المدير الأسبق لمكتب الرئيس المخلوع، والذي يشغل حالياً منصب مستشار لولي العهد السعودي محمد بن سلمان بعد حصوله على الجنسية السعودية. وحصل السودان على دعم مشترك إماراتي – سعودي بقيمة 3 مليار دولار، وأرسلت الإمارات أكثر من 2000 سيارة من طراز “تويوتا بوكس” لقوات الدعم السريع، انتشرت في شوارع الخرطوم واستخدمت في مجزرة فض الاعتصام في محيط القيادة، عطفاً على دعم القوات بالمدرعات الصغيرة وناقلات الجنود.

الدعم الإماراتي للعسكر بدأ منذ عهد الرئيس المخلوع

المساندة الإماراتية السعودية للعسكريين بعد إزاحة البشير لم تكن مفاجِئة. فخلال السنوات الأخيرة لحكم البشير، اختارت حكومته الانخراط في معسكر السعودية – الإمارات، بعد إعلان الانضمام إلى “التحالف العربي” في اليمن الذي تقوده السعودية تحت مسمى عملية “عاصفة الحزم” منذ 2015. ثم توالت مواقف البشير وتصريحاته ضد تنظيم جماعة الإخوان المسلمين. وفعلياً هو كان قرر في كانون الأول/ ديسمبر 2013 إزاحة كبار الإسلاميين من مناصبهم في الدولة، وعلى رأسهم نافع علي نافع وعلي عثمان طه. ثم شرع في تفكيك بعض الأجسام ذات الصبغة “الإخوانية”، وهي كانت موازية لأجهزة الدولة، وانخفضت حدة الخطاب الإيدولوجي الإسلاموي الرسمي وفقاً لشرط أمريكي، مقابل التطبيع الذي كانت بوابته الإمارات والسعودية. مقابل ذلك انتزعت حكومة البشير قراراً أمريكياً مدعوم خليجياً برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة منذ التسعينيات الفائتة. وتوالى بعد ذلك الدعم الخليجي للبشير الذي كانت تحاصره أزمة اقتصادية طاحنة نتيجة فقدان مورد النفط بعد انفصال جنوب السودان. واستمرت دول الخليج في الدعم قبل أن يتوقف كلياً بعد فقدان الثقة في البشير، الذي أدمن سياسة اللعب على الحبال. فمخاوفه المتصاعدة من حلفائه الإسلاميين، المدنيين والعسكريين، اضطرته للاحتفاظ بشعرة معاوية بينه والتنظيم.

ربما اضطراراً، لجأ البشير إلى إضعاف مؤسسة الجيش، الذي ظل متوجساً من انقلابه عليه في أية لحظة، على الرغم من الأدلجة التي طالته وحوّلته خلال عهد البشير إلى مؤسسة تنظيمية حزبية. وهكذا لجأ البشير إلى تأسيس ميليشيا موالية له وفقاً لتقديراته، فهي غير حاملة لإيدولوجيا كما أنها قادرة على القتال لمن يدفع المال، وكثيراً ما تباهى البشير بإمبراطورية “الدعم السريع” العسكرية وقدراتها القتالية، وكان يقول على الدوام ” أنا عندي رجال”.

في هذا المناخ الهش، بدأ “حميدتي”، قائد الدعم السريع، يتمدد شيئاً فشيئاً. فجنوده الذين يقاتلون في اليمن منحوه قوة عسكرية وسياسية داخل مؤسسات الدولة السودانية، ليتحول إلى لاعب أساسي في منظومة الحكم والسلطة فرضته قوته العسكرية الهائلة.

تنشط عمليات التجنيد لصالح الدعم السريع في دارفور وعلى الشريط الحدودي ذي الوجود القبلي المتداخل، قبل أن توسّع مشروعها بفتح باب التجنيد في كل السودان، وأظهرت مقاطع مصورة انتشرت مؤخراً على وسائل التواصل الاجتماعي بعض قيادات القبائل في شرق السودان، يحثون الشباب على الاستجابة للتجنيد وسط صفوف الدعم السريع الذي يوفر رواتب مجزية جداً لمجنديه في ظل بطالة متفشية في السودان، وبالفعل فإن الاستجابة للتجنيد في صفوف الدعم السريع مثيرة للاهتمام.

تجنيد لتعزيز نفوذ الإمارات مقابله تسليح ثقيل

حينما توسعت تدريجياً عمليات الإمارات عسكرياً في اليمن، كانت بحاجة إلى جنود يقاتلون ويسندون الوجود العسكري للدولة النفطية الصغيرة، والتي تتطلع إلى دور رئيسي في الإقليم. فلم يكن هناك من خيار أفضل من الجنود السودانيين. في 2017 طلبت الإمارات من حليفها “حميدتي” تجنيد عناصر عربية من قواته يتميزون بسحنات تطابق إلى حد ما السحنة الإماراتية. أُنجزت المهمة بتجنيد الآلاف، وهم الآن يرتدون زي الجيش الإماراتي ويقاتلون في اليمن! ولما كانت الحاجة مستمرة لمقاتلين سودانيين، استطاعت الإمارات إنشاء جسر جوي لنقل الجنود من معسكرات التجنيد في دارفور إلى اليمن مباشرة. ثم انتقل الأمر إلى ليبيا التي تبحث الإمارات عن نفوذ فيها، فأرسل “حميدتي” ما يقرب من 2000 جندي كدفعة أولى تقاتل بجانب المشير خليفة حفتر، الذي تدعمه الإمارات ضد الجماعات الإسلامية، ويُورّخ لبداية التعامل المباشر بين الإمارات و”حميدتي” بأواخر 2017 وبداية 2018.

مع التمدد العسكري لهذه القوات، أسست نحو 3 معسكرات رئيسية في أطراف الخرطوم، و7 معاهد عسكرية لتأهيل وتدريب عناصرها. وفي وقت سابق استطاع قائد القوات (“حميدتي”) بمعاونة بعض جنرالات الجيش السوداني الاستحواذ على منحة روسية لتدريب قوات خاصة قوامها 5000 رجل، كان من المفترض أن تكون لصالح الجيش السوداني علاوة على صفقة أسلحة ثقيلة تكفلت بها الإمارات، تقرر لها أن تكتمل بعد سقوط البشير، إلا أنها أُرجئت مع تصاعد موقف الرأي العام ضدها، سواء داخل الجيش أو في الشارع. وتشمل الصفقة دبابات وطائرات، وهي الأسلحة التي يتفوق بها الجيش السوداني على تلك الميليشيا إذا ما أجرينا مقارنة بينهما على مستوى التسليح.

لم يتوقف التمدد عند هذا الحد، فاتجهت قوات الدعم السريع إلى تأسيس مطارين حربيين في إقليم دارفور غربي السودان (الزُرُق والمثلث) ونشّطت في هذه المناطق المنهكة بالحروب مشروعات خدمية وتنموية واسعة تنفذها بنفسها ما يكشف عن مشروعها السياسي الكبير.

الموارد” هي سرّ التحالف

ربما تعتقد الإمارات أن الجيش السوداني هو مجرد تنظيم إخواني بواجهة وطنية شاملة. لكن هذا الاعتقاد ليس السبب الرئيس في دعم ميليشيا قبلية وفي محاولة إحلالها محل الجيش. فملف التجنيد المستمر للمقاتلين له أهمية كبيرة للإمارات التي توسعت عسكرياً في اليمن وفي ليبيا. غير أنه وبالنسبة لـ “حميدتي”، فهو لا يمثل – كما يتصور كثيرون – مصدراً مالياً رئيسياً لإمبراطوريته الاقتصادية. فالتحالف بينه والإمارات يتعدى تجنيد المقاتلين إلى “تجنيد” الموارد.

الدعم السريع الذي يسعى إلى وراثة إمبراطورية النظام البائد الاقتصادية، يسيطر بشكل شبه كامل على قطاع المعادن الذي يدر أموالاً هائلة، يذهب القليل منها إلى خزينة الدولة، فيما تحصد القوات الأمنية والعسكرية هذه الموارد عبر التهريب إلى الخارج. وعلى سبيل المثال، فإن منطقة جبل عامر غربي السودان، الغنية بالذهب والمعادن، تقع تحت سيطرة قوات الدعم السريع وبعض مليشيات حرس الحدود، التي تنشط أيضاً في التنقيب بمناطق جنوب كردفان، وفي مناطق نهر النيل شمال الخرطوم. الذهب يتم تهريبه بشكل مستمر إلى خارج السودان، ويُباع في الإمارات، حيث أعلنت وزارة المعادن السودانية في وقت سابق أن الفاقد من الذهب تجاوز 48 طناً خلال النصف الأول من 2018، وقُدرت نسبة الفاقد بـ 77 في المئة من الإنتاج الكلي.

ولا يمكن الدخول الى منطقة مثل “حفرة النحاس” الغنية بالمعدن إلا بموافقة قائد “قوات الدعم السريع” وفقاً لما أعلنه مسؤول في وزارة المعادن. كما لا توجد إحصائيات رسمية دقيقة حول احتياطي المعادن ولا الشركات العاملة في المجال، فالقطاع برمته تحت سيطرة تلك القوات، ويتداول بعض العسكريين النظاميين معلومات حول بداية نشاط في تهريب اليورانيوم، وسبق أن أعلنت الحكومة السودانية في آذار/ مارس 2018 فتح الباب للاستثمار في معدن اليورانيوم في دارفور.

تهرّب المعادن لتباع في الإمارات وسط معلومات بوجود شراكة بين “حميدتي” وأمراء بارزين. وتتطلع الإمارات إلى استثمار زراعي طويل الأجل شرعت في ترتيب معطياته، وهو يخص مساحات شاسعة في غرب السودان، وتحديداً في “دار زغاوة”. ومناطق قبيلة الزغاوة منحدرة من أصول أفريقية (غير عربية) وقد تعرضت لحملات إبادة جماعية مهولة على يد الميليشيات “العربية”، مما يخيف الإمارات.

… المشروع الذي يبدو في ظاهره زراعياً ينطوي على موارد هائلة. فأرض المشروع تقع على الحدود مع ليبيا، كان سبق أن استكشف فيها النفط بواسطة شركة شيفرون الأمريكية. وتشير المعلومات إلى وجود احتياطي هائل من النفط، علاوة على مناجم الذهب واليورانيوم في وادي العطرون الواقع داخل نطاق المشروع.

:::::

“السفير العربي”

■ ■ ■

دول الخليج في السودان.. رعاة «التقسيم الجديد»

 الدكتور معمر نصار  محمود عبدالحكيم

18/04/2023

(عن دار مصر)

منذ عام 2003 كرّست الرعاية الخليجية للتفاهمات السودانية، بين الدولة المركزية والحركات المسلّحة، وضعاً خطيراً أسهم بدوره في بلوغ المشهد الحالي، حيث تحاول الدولة استيعاب انشقاق قوات الدعم السريع عن إدارة الجيش وإعلان التمرّد، الذي يواجهه السودان بالفعل، جنوباً وغرباً، منذ عقود. 

اللافت أن نفس الدولة، بناء على التفاهمات التي رعتها دول الخليج، تدفع لحركات دارفور المسلحة، منذ سنوات، مبلغاً شهرياً يبلغ حوالي مليون دولار لرواتب عناصرها، وتدفع تلك الدول باقي المبلغ حال عجز خزينة السودان عن السداد الكامل. هذا دون اشتراط تسليم سلاحها، مثلاً، أو الضغط عليها للتوحّد في كيان سياسي يخوض الحياة السياسية والانتخابات بصفة مدنية. 

قطر والحركات المسلحة في السودان

في الأساس اقتصر عدد الحركات المسلحة في دارفور على اثنتين، حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة، ليرتفع بعد بضعة أعوام من انطلاق “المبادرة” القطرية، عام 2003 إلى 8 حركات رئيسية عام 2007، وصولاً إلى اتفاق حسن النوايا بالدوحة مع حركة العدل والمساواة عام 2009 وأخيراً وثيقة الدوحة للسلام عام 2011، وبلغ أكثر من 80 حركة عام 2020. 

خلال المفاوضات المنفردة في تلك الأعوام، دأب المسئولون القطريون على استقطاب قيادات دارفور، وإجراء تفاهمات جانبية مع أعضاء وفود الحركات المشاركة المكوّنة عادة من قائد ونائبه وأمين سر وعدّة قيادات، وشجّعوا بعضهم على الانفصال عن الحركة وتشكيل أخرى بدعوى تعزيز الموقف التفاوضي مع الدولة السودانية.

واقترن ذلك بجسامة التمويل المتاح وسهولة تشكيل مجموعات و”الإعلان عن” الانشقاق حدّ أن تحرير السودان وحدها يُنسب إليها حوالي 50 كيان، يحملون نفس الاسم مع إضافة اسم القيادي المنشقّ، وأحياناً صفة سياسية أو جهوية (القيادة العامة – القيادة الميدانية – وحدة جوبا). 

ولعلّ هذا التشظّي، الذي لم تبدُ له نهاية في عقد الألفين، كان أحد بواعث القذافي، الوسيط بدوره بموازاة الدور القطري، إلى الدفع بفكرة توحيد الحركات في كيان واحد تيسيراً لإجراء اتفاق نهائي، وطرح عدم تمركز قواتها في المدن والمناطق المأهولة بالسكان، وهو ما تحقق وقتها، جزئياً، تنفيذاً لطلبه. 

انفصال غرب السودان

من ناحية أخرى لا يبدو سيناريو انفصال غرب السودان قابلاً للتحقق، إذ يوالي الجناح الأكبر في حركة تحرير السودان، جناح مِني أركو مِناوي حاكم إقليم دارفور، العاصمة القومية ويشكّل عاملاً للاستقرار توازن القوى في الإقليم، ويجد مصلحة أكبر في الارتباط بالدولة المركزية في ظل وجود الحركات والأجنحة الأصغر وغياب التوافق معها، خاصة حركة تحرير السودان جناح عبد الواحد النور المقيم بفرنسا، التي لا يثق بها مناوي ولا يأمنها. عدا عن نقل أغلب الحركات الأصغر معدّاتها وأسلحتها الأثقل إلى ليبيا، بالتنسيق مع خليفة حفتر، بداية من عام 2014 حتى 2018 حين سقط البشير، تحسّباً لرفع العقوبات الدولية عن السودان وبالتالي ازدياد قوة وتسليح الجيش، ما يسمح له بكرّة أخرى من المواجهة لبسط سيطرة الدولة على كامل دارفور. 

وكانت عناصر جناح النور تلقّت تدريباً مهنياً إماراتياً على الأعمال الإدارية للدولة، مثل استخراج الهويات وتسجيل المواليد، والأعمال الشرطية، ما جعل رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان يستعلم الإمارات بهذا الشأن، محتّجاً بأن الجناح لم يوقّع اتفاق السلام وغير مدرج به ولا يعترف بالحكومة، مع كون العنوان المعلن للبرنامج التدريبي “الاندماج في جهاز الدولة”؛ وانتهى الأمر بتنفيذ فريق من جنوب أفريقيا التدريب على نفقة الحركة نفسها.

وقف إطلاق النار

غير بعيد عن ذلك، تطالب دول الخليج الآن – بالتنسيق مع الغرب وإسرائيل – بوقف إطلاق نار وتهدئة تصب في صالح الدعم السريع، ولن تعني سوى توسعة انتشاره، الأسرع – تقنياً – بالفعل من قدرة الجيش التقليدية على الانتشار والملاحقة، ما سيجلب المزيد من الفوضى وسيجعل احتواء القوة العسكرية لحميدتي مستحيلاً، في تكرار لمسعى إضعاف المركز ودعم قوى دون الدولة في الأطراف. 

وهو ما تجلّي كذلك آخر عامين في شرق السودان، بتصاعد فاعلية ونفوذ الإمارات والسعودية هناك، مع تكرار قطع  طرق الشرق، حيث ميناء ومدينة بورت سودان الحيوية، التي تربطه بالخرطوم وباقي البلد، بفاعليات احتجاجية أقامتها أحياناً قوى لوّحت بالمطالبة بالانفصال بالفعل، ما جذّر شكلاً من الانفصال الجغرافي للشرق في الشهور الماضية، ومثّل غطاء لتمرير السلاح إلى الدعم السريع الذي لم يرتكز قبل ذلك في بورت سودان وكسلا، لكنّه يمتلك الآن نقطتيّ ارتكاز هناك هي ذاتها نقاط استقبال العتاد والسلاح القادمين من إثيوبيا بحراً وسددت ثمنهما الإمارات والسعودية، ما راكم قوة عسكرية أكبر من ذي قبل، موضوعياً، وربما أعلى نوعياً، وذات ولاء للمموّل الخليجي الذي أعطى له رحيل البشير هامش حركة أعلى، مثل إثيوبيا، وجمعته بالدعم السريع أرضية تنسيق مشتركة في حرب اليمن وتجارة الذهب لسنوات، وصولاً إلى الهبة الإماراتية التي سبقت اندلاع المواجهة مباشرة وكانت عدداً كبيراً من سيارات الدفع الرباعي فئة لاندكروزر، بلغ 200 سيارة.

الخليج ودعم قوات الدعم السريع

من ناحية إعلامية، علَت أصوات الخليج، أول يومين من الاشتباكات، لإعلان سيطرة الدعم السريع على المرافق الحيوية للدولة، في تلقّف لما أعلنته الميليشيا نفسها مبكّراً جداً ولم يكن صحيحاً بحال. والحقيقة أن الدعم تولّى لسنوات تأمين المنشآت والمرافق الاستراتيجية وليس الجيش، وأُدخل الخرطوم بعديد كبير لأول مرة، بناء على تكليف البشير بالأساس مع بداية الانتفاضة في 2018.

لاحقاً كُلف الجيش بالانتشار بعد عجز الشرطة وعجزها عن فضّ اعتصام أبريل ــ القيادة العامة، ليجد طوقاً من تواجد الدعم حول تلك النقاط بالفعل، ومنها مطار الخرطوم ومقرّ التلفزيون الرسمي، وأماكن حيوية لم يقتحمها وينتزعها من الجيش في 15 أبريل، بل أحاطها وكان منوطاً به حمايتها فاقتحمها عندما اتُخذ قرار الانشقاق عن الدولة، ثم جاءت استجابة الجيش بتضييق الطوق الأوسع، الذي ضربه خلال أيام قبل بداية الاشتباك، والهجوم عليها لاستردادها.

الإعلام الخليجي ومليشيا الدعم

رغم ذلك ردد الإعلام الخليجي أخبار سيطرة الدعم على أهم منشآت الخرطوم، مع تضخيم قوته والتهويل بمدى تكافئها وقوة الجيش، بموازاة الدعوة إلى وقف إطلاق النار، في إطار أجندة سياسية لم تعد خافية، وتعكسها المواقف والسياسات، مؤدّاها التمكين للميليشيا في العاصمة تمهيداً لإنهاء دور الدولة المركزية عملياً. نموذج رأيناه في الصومال سابقاً في سياق الإطاحة بمحمد سياد بري، حين تمركزت الميليشيات القبلية والقوات غير النظامية بالعاصمة المركزية فأجهزت على الدولة.

بعد التفكك سمح لها بالسيطرة على مساحات في الأطراف والعلاقات الدولية المنفردة وبناء المطارات، واستخراج النفط لصالحها بمعزل عن الدولة المركزية، وصولاً إلى الواقع الحالي وانقسام البلد إلى 4 أقسام لا يحظى 3 منهم بالاعتراف الدولي لكنهم واقع قائم. 

من هنا كشف الخطاب الإعلامي الخليجي تكاملاً سياسياً مع مواجهة حميدتي للجيش، مثل احتواء الإمارات والسعودية له نفسه وتغذية قواه الصلبة، بصفته مقدّم خدمات عسكرية وسياسية، ومتعهّد مرتزقة، وبطموحه الشخصي لمقعد الرئاسة وتقلّباته الانتهازية في الداخل، التي جعلته الآن حليفاً، تحت مظلّة الإمارات، لـ”مكوّنات مدنية” تطالب بالديموقراطية وبادل بعضها العداء سابقاً، أحدها ياسر عرمان المُعادي لمصر، المنشقّ عن الحركة الشعبية لتحرير السودان ــ الشمال مشكّلاً ما سُمّي (التيار الثوري الديموقراطي) لها، الذي شجّعه على الاتجاه شمالاً حيث مطار مروي ويطمح بدوره للسلطة والترشّح للرئاسة. 

مصر في خطر

يؤدّي المشهد إلى تهديد خطير لمصر، من زاوية قطع اتّصالها الجغرافي بمنابع النيل وإثيوبيا وسد النهضة، ما يحجّم الخيارات الشحيحة أصلاً، مع الضغط الدولي على الدولة السودانية ذاتها، الذي عكسه تمديد مجلس الأمن العقوبات قبل شهر فقط من المواجهة، وهرولة المبعوث الأوروبي إلى الخرطوم لطرح وقف إطلاق النار بالوضع الحالي، أي إخلاء الطريق للدعم السريع وعرقلة مواجهته، بعد إخفاقه خلال يوم الاشتباك الأول في تثبيت نقاط سيطرة منيعة في العاصمة أو تحقيق هدفه بأخذ منشأة حيوية رئيسية. لا يبدو أفق مصر وفق تلك المعطيات، والواقع المحلّي المصري وانكماش بنيته الإنتاجية بالبيع لنفس الطرف الداعم لحميدتي، سوى نسخة أفريقية من باكستان، حيث الشحّ المائي وتدنّي الإنتاج الزراعي، والاعتماد على العمالة منخفضة المهارة والقيمة المنتَجة، مع تصدير الأعلى تعليماً إلى الغرب.

 نقطة التقاء مثالية بين مصالح الغرب والخليج وإسرائيل، التي استهدفت تاريخياً العلماء العراقيين ونرى استهدافها المنشآت البحثية العلمية السورية، حين يصبح كامل المحيط القريب للنفط استهلاكياً، ويخلو من أي بؤر صناعية أو علمية، ويحدَد تأثير مصر وتُستغل إمكاناتها بالمزيد من التحجيم، في سياق فقد تحكّمها بمقدراتها الاستراتيجية لصالح القوى الأخرى. 

________

تابعونا على:

  • على موقعنا:

https://kanaanonline.org/

  • توتير:
  • فيس بوك:

https://www.facebook.com/kanaanonline/

  • ملاحظة من “كنعان”:

“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.

ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.

  • عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
  • يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org