ميلوني في لندن لتنذر أوروبا من الهجرة وتراجع الخصوبة، سعيد محمد

تشن رئيسة الوزراء الإيطاليّة، جورجيا ميلوني، حملة علاقات عامّة لتثبيت صورتها عند الأوروبيين كسياسيّة محافظة معتدلة لا فاشيّة متطرفة، وفي هذا الإطار التقت نظيرها البريطاني ريشي سوناك ضمن زيارة رسميّة إلى لندن استمرت يومين، طرحت فيها، إلى جانب وسائل تطوير العلاقات الاقتصاديّة بين البلدين، ملفات تتعلق بتهديدات (وجوديّة) تتعرّض لها القارة العجوز، بما فيها الحرب في أوكرانيا، وتدفق المهاجرين من الجنوب، وأيضاً انخفاض معدلات الخصوبة.

التقت رئيسة الوزراء الإيطالية، جيورجيا ميلوني، نظيرها البريطاني ريشي سوناك مع نهاية الأسبوع الماضي (الخميس والجمعة) في زيارة رسمية أولى لها إلى لندن استمرت يومين يقول الخبراء بأنها تأتي ضمن حملة تسويق لإقناع أوروبا بأنها محافظة معتدلة سياسياً، لا فاشية متطرفة كما يصورها الإعلام. ويقود سوناك حكومة تمثل حزب المحافظين البريطاني اليميني الذي يهيمن على السلطة في المملكة منذ أكثر من عقد.

وأشادت ميلوني في تصريحاتها على هامش الزيارة “بالعلاقات القوية جدا” بين بريطانيا وإيطاليا، وقدّمت دعماً معنوياً لسوناك الذي يتعرّض لانتقادات من بروكسيل (مقر الاتحاد الأوروبيّ) بشأن سياسة حكومته احتجاز طالبي اللجوء الذين يعبرون القنال الإنجليزي من البرّ الأوروبيّ وترحيلهم إلى رواندا.

وقالت ميلوني مخاطبة سوناك: “إن التصدي للمهربين والهجرة غير الشرعية أمر تقوم به حكومتكم بشكل جيد للغاية، وأنا أتفق تماماً مع سياستك بهذا الشأن، وأعتقد أن هنالك العديد من الأشياء التي يمكننا القيام بها معاً”، هذا مع أن نص البيان المشترك حول الزيارة اكتفى بالإشارة إلى فرص التعاون بين البلدين بشأن الهجرة، تجنباً فيما يبدو لإثارة جدل مع بروكسيل بهذا الخصوص.

وبحسب مطلعين على تفاصيل الزيارة، فإن الملفات التي حملتها ميلوني معها تتعلّق بعدد من التهديدات (الوجوديّة) التي تواجهها القارة الأوروبيّة، وعلى رأسها تنسيق تدفق المساعدات العسكرية للنظام الأوكراني في مواجهته مع روسيا، إضافة إلى القضيتين المتشابكتين: تدفق المهاجرين من دول الجنوب على متن القوارب، وانخفاض معدلات خصوبة النساء في أوروبا.

والتزمت ميلوني، التي تقود – منذ أكتوبر / تشرين أوّل الماضي – ائتلافاً حكومياً من أحزاب يمينيّة، بسياسة سلفها الليبراليّ ماريو دراجي دعم نظام كييف وإمداده بالأسلحة على الرّغم من أن بعض مكونات حكومتها تتحفظ على ذلك، وانتقلت بذلك من مربّع مواقف اليمين الإيطالي المتطرّف التي انتخبت عليها إلى مواقف أقرب إلى الوسط، متماهية مع رغبات السادة الأمريكيين وبيروقراطية بروكسيل، والتيار الغالب على برجوازيّة روما.

أما قضيّة المهاجرين من دول الجنوب، والتي كانت الحكومات الإيطالية المتعاقبة قد لجمتها إلى حد بعيد من خلال التعاون الوثيق مع قادة الميلشيات الليبية المتنازعة لمنع الساعين إلى الهجرة شمالاً من ركوب القوارب، فإنها عادت لتسبب الصداع مجدداً لروما، لا سيّما وأنّ عدد المهاجرين الذي تمكّن من الوصول إلى الأراضي الإيطالية عبر البحر خلال الشهور الثلاثة الاولى من هذا العام زاد عن العدد الذي نجح بالوصول إلى بريطانيا وفرنسا معاً طوال العام الماضي (2022).

وكانت ميلوني قد أعلنت حالة طوارىء وطنيّة لمواجهة أزمة المهاجرين إلى إيطاليا. وهناك خشية عبّرت عنها عدة أطراف في روما من وصول ما قد يصل إلى مليون مهاجر من تونس إذا اهتز استقرار السلطة فيها، إضافة إلى حوالي 700 ألف آخرين موجودون بالفعل في ليبيا ويقنصون الفرص للهجرة شمالاً، و300 ألف قد يلتحقون بهم بسبب النزاع المسلح الأحدث في السودان. وستكون هذه الأرقام، إن تحققت، بمثابة كارثة ليس لإيطاليا وحدها، وإنما أيضاً لأوروبا وبريطانيا، حيث يكمل كثيرون رحلة الهجرة عبر إيطاليا نحو قلب أوروبا وشمالها الأكثر ثراء، إضافة إلى إصرار الكثيرين على الوصول في النهاية إلى الجزيرة البريطانية.

وتشكل مسألة هجرة بالقوارب من فرنسا عبر القنال الإنجليزي إلى بريطانياً همّاً لليمين البريطانيّ – على رغم محدوديتها بالمقارنة مع الأعداد التي تصل إلى مختلف دول الاتحاد الأوروبيّ كألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا واليونان -. وبينما رحّب اليمين الحاكم في لندن بحرارة بالمهاجرين الأوكران، وقدّم لهم تسهيلات غير مسبوقة، فإن ما يقلق السلطات هو القادمين من دول الجنوب – الذين لا يشبهوننا -. وعقدت لندن اتفاقاً مثيراً للجدل مع رواندا تعيد بموجبه، مقابل دعم ماليّ، تصدير المهاجرين (غير الشرعيين، على حد وصف الحكومة البريطانية لهم) إلى ذلك البلد الأفريقيّ، الذي لا يتمتع نظامه الحاكم بسمعة طيبة فيما يرتبط بحقوق الإنسان بعد حرب أهلية هناك ذبح فيها الملايين من الأبرياء.

وتأمل ميلوني بأن يكون التعاون الأوروبيّ في مسألة الهجرة بوابتها الشخصيّة لتحسن صورتها أمام الفرقاء الأوروبيين، إضافة بالطبع إلى محاولة حشد التأييد داخل أروقة الاتحاد لسياسات موحدة أكثر صرامة في التعامل مع المهاجرين غير الأوروبيين.

ويرتبط بملف الهجرة بما تسميه ميلوني “بالانتحار البطيء لأوروبا”، حيث تتراجع نسب الولادات في القارة العجوز إلى مستويات مقلقة، فيما تستمر معدلات الأعمار بالارتفاع بسبب تحسن مستوى الخدمات الصحية بشكل مضطرد.

وبينما كانت إيطاليا تاريخياً واحدة من أكثر المجتمعات الأوروبيّة خصوبة، فإن لديها الآن واحداً من أدنى معدلات الخصوبة في العالم عند 1.2 ولادة لكل امرأة. وانخفض عدد المواليد في العام الماضي (2022) إلى أقل من 393 ألف ولادة بتراجع عدة آلاف عن عددهم في العام 2021، وهو التراجع السنوي الرابع عشر على التوالي.

وانخفض عدد سكان إيطاليا منذ العام 2014 بنحو 1.4 مليون نسمة، ومن المتوقع الآن أن العدد سينهار من 59 مليون حالياً إلى أقل من 48 مليوناً خلال خمسين عام.

وبينما معدل الخصوبة في بريطانيا أفضل نسبياً من إيطاليا – عند مستوى 1.6 ولادة لكل امرأة – فهو لا يزال أقل بكثير من معدل الولادات اللازم للحفاظ على عدد السكان – أي 2.1 ولادة -.

وتنعكس هذه المسألة الديموغرافيّة سلباً على الاقتصادات، واضطرت عدة دول أوروبيّة إلى زيادة عمر التقاعد إلى ما معدله في الاتحاد الأوروبي 66 عاماً (68 عاماً في بريطانيا، وفرضت فرنسا مؤخراً زيادة من 62 إلى 64 عاماً) كي يكون بمقدور صناديق التقاعد الوفاء بالتزاماتها في ظل نقص المواليد وزيادة معدلات الأعمار.

ويجادل اليسار الليبرالي الأوروبي بأنّه ينبغي الترحيب بالمهاجرين إلى القارة إن ليس بسبب أخلاقيّ فعلى الأقل بسبب الحاجة لأيد عاملة جديدة تدفع اشتراكات صناديق التقاعد التي تموّل شيخوخة الأوروبيين. لكن اليمين الإيطالي تحديداً يعتبر ذلك هراء محضاً مع وجود ثلث الإيطاليين في سن العمل خارج التوظيف، وارتفاع نسبة البطالة بين الشبان الإيطاليين إلى نحو 25 بالمائة، ما يجعل فرص كسب الرزق أمام المهاجرين محدودة للغاية، أو هم ينتهون إلى قطاعات الجريمة، حيث أكثر من نصف جرائم السرقة والسطو في إيطاليا مثلاً يرتكبها مهاجرون.

خطّة ميلوني البديلة تقول بأنّه بدلاً من استيراد كتل سكانيّة ذات خصائص ثقافية وعرقية مختلفة عن المجتمعات الأوروبيّة فإنّه ينبغي تشجيع النساء الأوروبيّات على إنجاب مزيد من الأطفال – الذين يشبهوننا -، وتعتزم لذلك تبني عدة إجراءات تتضمن اعفاءات ضريبيّة بقيمة 10 آلاف يورو سنوياً لكل طفل حتى وصوله إلى الثامنة عشرة، وتسهيلات وحوافز إضافيّة للأمهات العاملات، وكذلك الحد من تسجيل الأزواج المثليين كآباء. لكّن، هذه الخطّة لا تحظى بتأييد اليسار الليبرالي الأوروبيّ، ويقود الحزب الديمقراطي الإيطالي – وريث الحزب الشيوعي الإيطالي وأكبر أحزاب المعارضة الآن – حرباً ضروساً ضدّها. ويبدو أن ميلوني تأمل بتعاون الأحزاب المحافظة الأوروبيّة – بمن فيهم محافظو بريطانيا – للدفع معها باتجاه بناء توجه استراتيجي لإنقاذ القارة من الهاوية التي يجرها إليها اليسار الليبرالي.

وإذا كانت مسألة هجرة القوارب حرجة وهامّة بالنسبة لحكومة سوناك بحكم الموقف الشعبوي العنصري للحزب الحاكم تجاه المهاجرين، فإن موضوع تحدي تراجع الخصوبة لا يبدو أولوية على الأقل في المدى القريب، حيث تواجه لندن تحديات اقتصاديّة عاجلة، وتراجعاً حاداً في التأييد الشعبي لليمين ما قد يتسبب بخروج المحافظين من السلطة في الانتخابات العامة المقبل بعد أقل من سنتين. ومع ذلك، فإن تحذيرات ميلوني قد تثير جدلاً مؤجلاً بين أجنحة الحزب الحاكم حيث يمين ليبرالي يريد تخفيض الإنفاق الحكومي على الطبقات الفقيرة، ويمين تقليديّ لا يمانع باجتراح طرق لزيادة انجاب البريطانيين البيضاوات حصراً كوسيلة لمحاربة الهجرة.

:::::

الأخبار “، اللبنانيّة، بتاريخ 1 مايو 2023

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….