إضرابات الأسرى والعبرة: من 1968 حتى الشهيد خضر عدنان، عادل سماره

ملاحظة: ليس ما يلي تأريخ مسحي لتجربة الإضراب بل تركيز على محطات البداية وأخذ العبرة.

ليس سهلاً وضع تعريف محدد للإضراب وذلك لاختلاف طبيعة السلطات ومن ثم الأهداف وراء إضراب أو آخر . لكن الإضرابات عموماً هي درجة من ممارسة الاحتجاج تقوم على ثقافة الاحتجاج وفي هذه الحالة يمارس المضربون حقهم ديمقراطياً وخاصة حين تكون الإضرابات في دولة المضربين من رعاياها مثلا: إضرابات قطاعية أو طبقية، أما حين تصبح الإضرابات عامة فقد تصل أو تكون مقدمة للصراع السياسي على السلطة في بلد محدد بين قوى محلية وسلطة بلادها.

أما في الأرض المحتلة فالإضراب عن الطعام تحديداً محكوم بالصراع والتناقض التناحري بين الأسرى والعدو. ومن هنا يصعب وضع الإضراب في خانة المطلب الديمقراطي أو التوهم بديمقراطية العدو سواء كان إضراباً عن الطعام أو عن العمل.

فمع أن العمل هو فرصة للخروج من غرفة/بركس السجن إلا أن الأسرى الفلسطينيين اضربوا كثيرا وخاصة في سنوات الاحتلال الأولى عن العمل في اشغال إستراتيجية مثل شباك تغطية دبابات الاحتلال حتى أُلغيت.

الإضراب في سجون العدو سلاح حساس للمعتقلين أثبتت الخبرة ضرورة فن استخدامه وخاصة لأن فرص تحرير الأسرى محدودة نظراً لاختلال ميزان القوى بين النضال الوطني والعدو وبين الأنظمة غير العروبية والعدو.

والإضراب من التجربة الفلسطينية في سجون الكيان له مستويان:

الإضراب الإداري الحقوقي

ويشمل المعاملة، وتوفر العلاج، وطبيعة الأكل، وتوفير الكتب والمراسلات مع الأهل والخروج للفورة ومعاملة الشرطة للأسرى…الخ وهو موجه ضد قيادة السجن، نعم قيادة لأن السجن يعتبر موقع عسكري حربي. وفي العادة تحاول قيادة السجن تجنب الإضراب لأن حصول الإضراب يعني من حيث الإدارة العسكرية أو الشرطية عجز قائد وضباط السجن عن إدارة السجن وبالتالي لومهم من قبل إدارة السجون ولهذا تاثير على تقدم قيادة السجن مراتبياً. ولذا، حين تحصل مفاوضات ومساومات مع الأسرى فليس ذلك ديمقراطية من جانب الكيان. كما أصبح مع الزمن دور للصليب الأحمر في مراقبة السجون. وقد كتبت عن أول زيارة من الصليب الأحمر لسجن رام الله ربما في شباط 1968 مع السيد عبد الجواد صالح رئيس بلدية مدينة البيرة حينها.

والإضراب السياسي الوطني ضد سلطة الاحتلال

ويتركز هذا الإضراب في رفض مبدأ الاعتقال وخاصة حالات الاعتقال الإداري.

ولكن ليس سهلاً الفصل بين الإضراب الإداري والسياسي، ولا بين الإضراب الفردي والإضراب العام.

لذا، فالإضراب سلاح حساس يجب استخدامه بدقة وحذق.

عوني الشيخ

كان أول إضراب عن الطعام مع بداية الاحتلال عام 1967 إضراب شخصي من خارج الفصائل في أيلول 1967 هو إضراب عوني الشيخ لمدة خمسة اشهر. عوني الشيخ من قرية الولجة المحتلة عام 1948 كان معتقلا معنا في حركة القوميين العرب نحن وحزب البعث عام 1965 في الأردن، وكان موظفا حينها في وكالة الغوث في عمان ودرس الماجستير في دمشق. وحينما حصل الاحتلال ترك وظيفته وعاد لفلسطين. رفض حمل بطاقة هوية من الاحتلال فاعتقل وأضرب خمسة أشهر إلى أن أُفرج عنه بحيث يعيش حاملا للجواز الأردني. يعيش حتى اليوم في قرية الخضر قرب بيت لحم ويقارب الثمانين من العمر لديه قطيع صغير من الأغنام يعيش منه عيشاً متقشفا وبالطبع لم يتزوج لكنه لم يحظى بحق بسيط أن يُعمل عنه فيلم قصير!

الإضراب الفصائلي الأول

كانت أول محاولة إضراب سياسي جماعي هي في سجن رام الله في آذار 1968 ليوم واحد حينما خرجنا للإفطار في ساحة السجن وإذا بها رجل تلفه بطانية لونها زهري تقريبا ، لا زالت في ذاكرتي، وتظهر عليها بقعاً من الدم ويئن الرجل من التعذيب (كتبت عن هذا سابقاً). كنا مجموعة من الجبهة الشعبية حينها فقلت للرفيق تيسير قبعة:

قلت: شو رأيك نضرب عن الأكل؟

قال: وهل يقبل السجناء؟

قلت: لنجرب.

كانت لدي تجربة إضراب في سجون النظام الأردني حيث كنا القوميين والعرب والبعثيين في معتقل المحطة في عمان. وبمناسبة قيام العدو بالأكل أمام الشهيد خضر عدنان للتلاعب بغريزة الحاجة للأكل كانت مخابرات النظام الأردني تتعمد أثناء خروجنا لساحة المعتقل تضع طناجر اللحم المطبوخ وجاطات الأرز في وسط الساحة. بالمناسبة تدريب المخابرات الأردنية كان في المانيا وأمريكا، ولا أعتقد مخابرات الاحتلال ليست كذلك.

وقفت: وقلت يا شباب انظروا هذا الفلسطيني محطم ويريدون أن نأكل وهو أمامنا وهذه إهانة وطنية ونفسية، لذلك يجب أن نُضرب عن الطعام، ومشيت إلى الغرف فتبعني الجميع. طبعاً توقعنا أنني سأُحاسَب من قائد السجن.

بعد قليل جاء شاويش السجن اسمه ابوطبول/مغربي وأخذني مع جندي لمدير السجن اسمه مار/سيد مانوس، ويبدو أنه تفهَّم الموقف ولا يريد إشكالات كونه المدير.

قال: لماذا تحرض السجناء على الإضراب؟

قلت: هكذا تريدون، حيث تضعون شخصا يقارب الموت أمامنا وتريدوننا أن نأكل. هذا يجب أن يكون في المشفى أو على الأقل ان لا يكون أمامنا، كلنا نعرف أنكم تعذبون اي معتقل.

لم يجادل طويلا، واشار للشاويش بإعادتي للسجن.

طبعا كان الرفاق يعتقدون أنني سأعود محطماً.

وكانت المحاولة الثانية في سجن بيت ليد تموز 1968 حيث أضربنا طلبا للكتب. اتفقنا أن يُضرب واحد من كل قسم من الأقسام الثلاثة أ،ب،ج. على أن يلحق بهم الأسرى جميعا وعدد الأسرى كان 363 اسيراً.

اتفقنا أن ابدأ أنا عن قسم (أ) ثم صلاح البخاري عن (ب) وصادق طوباسي عن (ج).

فُتح باب الغرفة لنخرج للفطور. خرج الجميع وبقيت وحدي. جاء الضابط:

قال: ليش ما تخرج توكل

قلت: انا مُضرب؟

قال: ليش

قلت: لأنكم تمنعون عنا الكتب.

أخذوني لزنزانة منفردة ولكن لم يـُضرب الزميلان وبالتالي لم يُضرب المعتقل. قررت مواصلة الإضراب وحدي، بقيت ثلاثة ايام مضرباً وفي اليوم الرابع رفضت الماء. فحضرت مجموعة جنود أجلسوني على كرسي وجلس واحد على فخذي اليمنى وواحد على الشمال وقبض واحد على يدي اليمنى وواحد على اليُسرى وأدخلوا بربيش الحليب وضخوه في معدتي. وبعد ان انتهوا ضغطت علي بطني وأفرغته. وحينها أخذوني إلى سجن الرملة حيث قضيت ليلة في بركس النظارة/ المعبار بالعبرية.

كان بها قرابة ثلاثين سجين يهودي مدنيين. وقلت في نفسي الليلة سيذبحوني. طبعاً جلست على البرش ولم أتحدث مع أحد. جاء شاب أشقر يتحدث الإنجليزية وقال انا هربت من تركيا إلى سوريا ومن هناك إلى هنا فاعتقلوني. لم اناقشه في ذلك.

وفي الليل أُحضر ثلاثة سجناء مدنيون عرب من القدس التقيتهم قبل ذلك في سجن رام الله فشعرت بنوع من الاطمئنان حيث سلموا علي. وفي الليل جلس العرب واليهود يغنون لأم كلثوم وأغاني شعبية فلسطينية فإذا بهم فريق لصوص مشترك جرى جلبهم للمحاكمة!

وفي اليوم التالي أُخذت إلى زنزانة منفردة تابعة لمشفى سجن الرملة المركزي بها فرشة من القش.وهناك واصلت الإضراب عن الأكل وفي اليوم السابع جاء ضابط وأعطاني كتاب كان أهلي قد احضروه لي مع كتب اخرى واحتجزتها إدارة سجن بيت ليد/كفار يونا بالعبرية وهو كتاب :الأحزاب السياسية للفرنسي موريس دوفرجيه The Political Parties كنا ندرسه في الجامعة اللبنانية السنة الثانية قبيل 1967. وحينها انهيت الإضراب والكتاب معي ولاحقاً سُمح بالكتب وأحضر أهلي من مكتبتي 75 كتابا. (وثَّق هذا الإضراب د. اسعد عبد الرحمن في كتابه: أوراق سجين.)

بعدها خضنا عديد الإضرابات الجماعية وأصبح الإضراب سلاحا هاماً في المعتقلات سواء كل معتقل لوحده أو بتنسيق بين المعتقلات.

كان العدو في السنوات الأولى يُبدي اهتماما شديدا لمنع الإضراب وطبعاً ندخل في مفاوضات…الخ.

بعدها إتبع العدو سياسة إهمالنا وعدم مفاوضتنا ليكسر الإضرابات مما قاد إلى إهلاك صحي لبعض الرفاق واضطررنا أحيانا لوقف أحد الإضرابات وخاصة حين أُستشهد في أحدهاوهو مضرب المناضل عبد القادر ابو الفحم من قوات التحرير الشعبية حيث كان مصاباً ب 28 طلقة، فتوصلنا إلى صيغة:

“أن نحدد نحن بداية ونهاية الإضراب”. كي لا يتحكم بنا العدو. وأعتقد أن هذا أفضل تكتيك حتى حينه.

بعد أن قضيت حكم السجنة الأولى لخمس سنوات خرجت مع بداية 1973، وبالطبع واصل الأسرى سلسة نضالات من الإضرابات هائلة جدا وخاصة إضرابات المعتقلين الإداريين. وتشكلت قيادات للمعتقلات للتفاوض مع العدو وتراكم تراثا عظيما من التضحيات حتى اليوم.

وكان آخرها، ولن يكون الأخير صراع الشهيد خضر عدنان ضد العدو الذي قتله علانية وعمداً وكرر ما قام به ضدنا ليشل الإضرابات حينما أُستشهد عبد القادر ابو الفحم. أي لم يكتفي الكيان بعدم الإفراج عن الأسرى المضربين عن الطعام لعشرات الأيام حيث يهلكون صحياً بل قرر القتل المباشر.

لقد ذكرتني بطولة خضر عدنان ومناخها بمناخ استشهاد عبد القادر الحسيني بعد أن خُذل إذ لم يحصل على السلاح المطلوب حين زار دمشق باحثاً عن السلاح عام 1948 وعاد وقاد معركة تحرير قلعة القسطل وهو يعرف أن ميزان القوى هائل لصالح العدو ولكن الخذلان لم يثنه عن قراره بالنضال، وانتصر المجاهدون حينها واستشُهد يومها.

يبقى للأسرى قرارهم جماعيا و /أو فرديا كيف يديرون المعارك طالما نعجز عن تحريرهم. وأود هنا أن أكرر ما كتبته قبل سنوات في هذا الأمر في نشرة “كنعان” الإلكترونية، السنة الحادية والعشرون – العدد 5994 بتاريخ 17 نيسان (ابريل) 2021

■ ■ ■

الذكرى 64 للنكبة

الاستعمار الصهيوني لفلسطين

عادل سمارة

هناك أربع جبهات أو مجالات للنضال لدعم وتقوية وتحرير أسرى الحرب الفلسطينيين ضد نظام يشبه ويتجاوز الفاشية والنازية. في الواقع، الصهيونية أقدم من هذه الحركات، مع الأخذ في الاعتبار أن “الإصلاحي” مارتن لوثر كان أول من اقترح احتلالًا يهوديًا لفلسطين.

الركيزة الأولى هي الكفاح العسكري لأسر جنود صهاينة ومبادلتهم بأسرى فلسطينيين. نادرًا ما يحدث هذا، لكنه الطريقة الأكثر فعالية والأقصر.

والثاني هو مقاطعة المنتجات الصهيونية وإنهاء التطبيع مع النظام/الكيان الصهيوني الأشكنازي (ZAR). يجب أن يتم تنفيذ ذلك من قبل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة (WBG) ، أي لاستعادة المقاطعة الشعبية لمنتجات ZAR خلال الانتفاضة الأولى التي ألغتها للأسف منظمة التحرير الفلسطينية بعد توقيعها على اتفاقيات أوسلو مع ZAR.

مورست جهود المقاطعة ومناهضة التطبيع من قبل الطبقات الشعبية في اختلاف واضح عن البرجوازية العلمانية والقومية والدينية لقوى الدين السياسي التي تواصل علاقتها الاقتصادية مع ZAR على الرغم من الخطاب البلاغي للبرجوازية وقوى الدين السياسي.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الحجة تستند إلى حقائق طبقية اجتماعية وليس على الخطاب القومي البرجوازي أو منظمات الدين السياسي التي تستخدم المسجد كمكان لتنظيف نفسها من جريمة التطبيع. المقاطعة الحقيقية ومناهضة التطبيع هي عامل تحريك وتحشيد إذا تم تجديده واستمراره فسوف يجبر التطبيعيين، من أي طبقة أو شريحة اجتماعية، على محاربة الطبقات الشعبية لأن النضال الحقيقي ضد التطبيع والمقاطعة يمثل تحديًا ويضر ويقلل من هدف المطبعين/ات في جشعهم للتراكم. في حين أن إنهاء السلطة الفلسطينية للمقاطعة كان سياسة تقوِّض القطاعات الإنتاجية المحلية، فإن أي تردد في ممارسة المقاطعة ومناهضة التطبيع هو في الواقع إنهاء نضال الأسرى. إن مقاطعة المرأة للإنتاج الصهيوني هي حالة من حالات عدم الاستهلاك، أو هي الاستهلاك الواعي الذي قد يكون أفضل وأكثر فاعلية من أي خطاب ديماغوجي من قبل العديد من الأحزاب السياسية المساومة.

المقاطعة ومناهضة التطبيع واجب وأخلاقي على العرب أيضا. وهذا يؤكد أن القوى السياسية العربية يجب أن تمارس الضغط على أنظمتها لوقف التطبيع مع النظام الصهيوني، ومن يتبادل معه لوقف ذلك. هذه المعركة فرصة عظيمة للكشف عن السياسيين والمنظمات التي لا تزال تناور لإخفاء ممارساتها أو ميلها للتطبيع مع ZAR.

الثالث هو ما أسميته ذات مرة “القطر العربي الثالث والعشرون”، العرب والفلسطينيون المنتشرون في جميع أنحاء العالم. إنها من حيث الأعداد أكبر من العديد من الدول العربية، ومصادرها، وقدرتها على الاستهلاك، وفرصة حرية التعبير خاصة من حيث الحريات في البلدان الرأسمالية البرجوازية على الرغم من عيوبها … إلخ ، أفضل من كثير من العرب في الوطن العربي. البلد الام. إذا كرس هؤلاء العرب أنشطة متواصلة لدعم الأسرى وقضايا عربية أخرى، فإنهم سيكونون فعالين للغاية.

رابعاً، تحدي الأمم المتحدة للتعامل مع قضية الأسرى الفلسطينيين كحالة عادلة.

تم استخدام الأمم المتحدة، عبر تاريخها، من قبل القوى الإمبريالية. علاوة على ذلك، في العقود الثلاثة الماضية، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانهيار القوى الثورية العالمية، أصبحت الأمم المتحدة أداة سهلة لتحقيق الأهداف الإمبريالية. في هذه الحالة، لماذا لا يضغط العرب على هذه المنظمة لفعل شيء إنساني حق مرة واحدة في حياتها الطويلة، أي أن تكون مسؤولة عن قضية الأسرى الفلسطينيين؟

“كنعان”، النشرة الإلكترونية، المجلد الثاني عشر – العدد 2890   May 2012

وأخيراً: إن جميع الأصوات التي تنادي بقيام الأسرى بإضرابات مطلوب منها أن تتوقف عن ذلك وأن تترك للأسرى تحديد متى يُضربون ومتى لا. ولو كان بوسعهم تحرير أنفسهم لما أُسروا. وهذا مشابه ايضا لثرثرة كثير من العرب بأن على الفلسطينيين في الأرض المحتلة أن يُشعلوا انتفاضة جديدة، بينما هم لا يطلبون من أل 450 مليون عربي أي شيء!

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….