نشرة “كنعان”، 8 مايو 2023

السنة الثالثة والعشرون – العدد 6539

في هذا العدد:

إضرابات الأسرى والعبرة: من 1968 حتى الشهيد خضر عدنان، عادل سماره

حول المشروع العالميّ لجورج سوروس: ذراع الإمبراطوريّة، أسعد أبو خليل

✺ ✺ ✺

إضرابات الأسرى والعبرة

من 1968 حتى الشهيد خضر عدنان

عادل سماره

ملاحظة: ليس ما يلي تأريخ مسحي لتجربة الإضراب بل تركيز على محطات البداية وأخذ العبرة.

ليس سهلاً وضع تعريف محدد للإضراب وذلك لاختلاف طبيعة السلطات ومن ثم الأهداف وراء إضراب أو آخر. لكن الإضرابات عموماً هي درجة من ممارسة الاحتجاج تقوم على ثقافة الاحتجاج وفي هذه الحالة يمارس المضربون حقهم ديمقراطياً وخاصة حين تكون الإضرابات في دولة المضربين من رعاياها مثلا: إضرابات قطاعية أو طبقية، أما حين تصبح الإضرابات عامة فقد تصل أو تكون مقدمة للصراع السياسي على السلطة في بلد محدد بين قوى محلية وسلطة بلادها.

أما في الأرض المحتلة فالإضراب عن الطعام تحديداً محكوم بالصراع والتناقض التناحري بين الأسرى والعدو. ومن هنا يصعب وضع الإضراب في خانة المطلب الديمقراطي أو التوهم بديمقراطية العدو سواء كان إضراباً عن الطعام أو عن العمل.

فمع أن العمل هو فرصة للخروج من غرفة/بركس السجن إلا أن الأسرى الفلسطينيين اضربوا كثيرا وخاصة في سنوات الاحتلال الأولى عن العمل في اشغال إستراتيجية مثل شباك تغطية دبابات الاحتلال حتى أُلغيت.

الإضراب في سجون العدو سلاح حساس للمعتقلين أثبتت الخبرة ضرورة فن استخدامه وخاصة لأن فرص تحرير الأسرى محدودة نظراً لاختلال ميزان القوى بين النضال الوطني والعدو وبين الأنظمة غير العروبية والعدو.

والإضراب من التجربة الفلسطينية في سجون الكيان له مستويان:

الإضراب الإداري الحقوقي

ويشمل المعاملة، وتوفر العلاج، وطبيعة الأكل، وتوفير الكتب والمراسلات مع الأهل والخروج للفورة ومعاملة الشرطة للأسرى…الخ وهو موجه ضد قيادة السجن، نعم قيادة لأن السجن يعتبر موقع عسكري حربي. وفي العادة تحاول قيادة السجن تجنب الإضراب لأن حصول الإضراب يعني من حيث الإدارة العسكرية أو الشرطية عجز قائد وضباط السجن عن إدارة السجن وبالتالي لومهم من قبل إدارة السجون ولهذا تاثير على تقدم قيادة السجن مراتبياً. ولذا، حين تحصل مفاوضات ومساومات مع الأسرى فليس ذلك ديمقراطية من جانب الكيان. كما أصبح مع الزمن دور للصليب الأحمر في مراقبة السجون. وقد كتبت عن أول زيارة من الصليب الأحمر لسجن رام الله ربما في شباط 1968 مع السيد عبد الجواد صالح رئيس بلدية مدينة البيرة حينها.

والإضراب السياسي الوطني ضد سلطة الاحتلال

ويتركز هذا الإضراب في رفض مبدأ الاعتقال وخاصة حالات الاعتقال الإداري.

ولكن ليس سهلاً الفصل بين الإضراب الإداري والسياسي، ولا بين الإضراب الفردي والإضراب العام.

لذا، فالإضراب سلاح حساس يجب استخدامه بدقة وحذق.

عوني الشيخ

كان أول إضراب عن الطعام مع بداية الاحتلال عام 1967 إضراب شخصي من خارج الفصائل في أيلول 1967 هو إضراب عوني الشيخ لمدة خمسة اشهر. عوني الشيخ من قرية الولجة المحتلة عام 1948 كان معتقلا معنا في حركة القوميين العرب نحن وحزب البعث عام 1965 في الأردن، وكان موظفا حينها في وكالة الغوث في عمان ودرس الماجستير في دمشق. وحينما حصل الاحتلال ترك وظيفته وعاد لفلسطين. رفض حمل بطاقة هوية من الاحتلال فاعتقل وأضرب خمسة أشهر إلى أن أُفرج عنه بحيث يعيش حاملا للجواز الأردني. يعيش حتى اليوم في قرية الخضر قرب بيت لحم ويقارب الثمانين من العمر لديه قطيع صغير من الأغنام يعيش منه عيشاً متقشفا وبالطبع لم يتزوج لكنه لم يحظى بحق بسيط أن يُعمل عنه فيلم قصير!

الإضراب الفصائلي الأول

كانت أول محاولة إضراب سياسي جماعي هي في سجن رام الله في آذار 1968 ليوم واحد حينما خرجنا للإفطار في ساحة السجن وإذا بها رجل تلفه بطانية لونها زهري تقريبا ، لا زالت في ذاكرتي، وتظهر عليها بقعاً من الدم ويئن الرجل من التعذيب (كتبت عن هذا سابقاً). كنا مجموعة من الجبهة الشعبية حينها فقلت للرفيق تيسير قبعة:

قلت: شو رأيك نضرب عن الأكل؟

قال: وهل يقبل السجناء؟

قلت: لنجرب.

كانت لدي تجربة إضراب في سجون النظام الأردني حيث كنا القوميين والعرب والبعثيين في معتقل المحطة في عمان. وبمناسبة قيام العدو بالأكل أمام الشهيد خضر عدنان للتلاعب بغريزة الحاجة للأكل كانت مخابرات النظام الأردني تتعمد أثناء خروجنا لساحة المعتقل تضع طناجر اللحم المطبوخ وجاطات الأرز في وسط الساحة. بالمناسبة تدريب المخابرات الأردنية كان في المانيا وأمريكا، ولا أعتقد مخابرات الاحتلال ليست كذلك.

وقفت: وقلت يا شباب انظروا هذا الفلسطيني محطم ويريدون أن نأكل وهو أمامنا وهذه إهانة وطنية ونفسية، لذلك يجب أن نُضرب عن الطعام، ومشيت إلى الغرف فتبعني الجميع. طبعاً توقعنا أنني سأُحاسَب من قائد السجن.

بعد قليل جاء شاويش السجن اسمه ابوطبول/مغربي وأخذني مع جندي لمدير السجن اسمه مار/سيد مانوس، ويبدو أنه تفهَّم الموقف ولا يريد إشكالات كونه المدير.

قال: لماذا تحرض السجناء على الإضراب؟

قلت: هكذا تريدون، حيث تضعون شخصا يقارب الموت أمامنا وتريدوننا أن نأكل. هذا يجب أن يكون في المشفى أو على الأقل ان لا يكون أمامنا، كلنا نعرف أنكم تعذبون اي معتقل.

لم يجادل طويلا، واشار للشاويش بإعادتي للسجن.

طبعا كان الرفاق يعتقدون أنني سأعود محطماً.

وكانت المحاولة الثانية في سجن بيت ليد تموز 1968 حيث أضربنا طلبا للكتب. اتفقنا أن يُضرب واحد من كل قسم من الأقسام الثلاثة أ،ب،ج. على أن يلحق بهم الأسرى جميعا وعدد الأسرى كان 363 اسيراً.

اتفقنا أن ابدأ أنا عن قسم (أ) ثم صلاح البخاري عن (ب) وصادق طوباسي عن (ج).

فُتح باب الغرفة لنخرج للفطور. خرج الجميع وبقيت وحدي. جاء الضابط:

قال: ليش ما تخرج توكل

قلت: انا مُضرب؟

قال: ليش

قلت: لأنكم تمنعون عنا الكتب.

أخذوني لزنزانة منفردة ولكن لم يـُضرب الزميلان وبالتالي لم يُضرب المعتقل. قررت مواصلة الإضراب وحدي، بقيت ثلاثة ايام مضرباً وفي اليوم الرابع رفضت الماء. فحضرت مجموعة جنود أجلسوني على كرسي وجلس واحد على فخذي اليمنى وواحد على الشمال وقبض واحد على يدي اليمنى وواحد على اليُسرى وأدخلوا بربيش الحليب وضخوه في معدتي. وبعد ان انتهوا ضغطت علي بطني وأفرغته. وحينها أخذوني إلى سجن الرملة حيث قضيت ليلة في بركس النظارة/ المعبار بالعبرية.

كان بها قرابة ثلاثين سجين يهودي مدنيين. وقلت في نفسي الليلة سيذبحوني. طبعاً جلست على البرش ولم أتحدث مع أحد. جاء شاب أشقر يتحدث الإنجليزية وقال انا هربت من تركيا إلى سوريا ومن هناك إلى هنا فاعتقلوني. لم اناقشه في ذلك.

وفي الليل أُحضر ثلاثة سجناء مدنيون عرب من القدس التقيتهم قبل ذلك في سجن رام الله فشعرت بنوع من الاطمئنان حيث سلموا علي. وفي الليل جلس العرب واليهود يغنون لأم كلثوم وأغاني شعبية فلسطينية فإذا بهم فريق لصوص مشترك جرى جلبهم للمحاكمة!

وفي اليوم التالي أُخذت إلى زنزانة منفردة تابعة لمشفى سجن الرملة المركزي بها فرشة من القش.وهناك واصلت الإضراب عن الأكل وفي اليوم السابع جاء ضابط وأعطاني كتاب كان أهلي قد احضروه لي مع كتب اخرى واحتجزتها إدارة سجن بيت ليد/كفار يونا بالعبرية وهو كتاب :الأحزاب السياسية للفرنسي موريس دوفرجيه The Political Parties كنا ندرسه في الجامعة اللبنانية السنة الثانية قبيل 1967. وحينها انهيت الإضراب والكتاب معي ولاحقاً سُمح بالكتب وأحضر أهلي من مكتبتي 75 كتابا. (وثَّق هذا الإضراب د. اسعد عبد الرحمن في كتابه: أوراق سجين.)

بعدها خضنا عديد الإضرابات الجماعية وأصبح الإضراب سلاحا هاماً في المعتقلات سواء كل معتقل لوحده أو بتنسيق بين المعتقلات.

كان العدو في السنوات الأولى يُبدي اهتماما شديدا لمنع الإضراب وطبعاً ندخل في مفاوضات…الخ.

بعدها إتبع العدو سياسة إهمالنا وعدم مفاوضتنا ليكسر الإضرابات مما قاد إلى إهلاك صحي لبعض الرفاق واضطررنا أحيانا لوقف أحد الإضرابات وخاصة حين أُستشهد في أحدهاوهو مضرب المناضل عبد القادر ابو الفحم من قوات التحرير الشعبية حيث كان مصاباً ب 28 طلقة، فتوصلنا إلى صيغة:

“أن نحدد نحن بداية ونهاية الإضراب”. كي لا يتحكم بنا العدو. وأعتقد أن هذا أفضل تكتيك حتى حينه.

بعد أن قضيت حكم السجنة الأولى لخمس سنوات خرجت مع بداية 1973، وبالطبع واصل الأسرى سلسة نضالات من الإضرابات هائلة جدا وخاصة إضرابات المعتقلين الإداريين. وتشكلت قيادات للمعتقلات للتفاوض مع العدو وتراكم تراثا عظيما من التضحيات حتى اليوم.

وكان آخرها، ولن يكون الأخير صراع الشهيد خضر عدنان ضد العدو الذي قتله علانية وعمداً وكرر ما قام به ضدنا ليشل الإضرابات حينما أُستشهد عبد القادر ابو الفحم. أي لم يكتفي الكيان بعدم الإفراج عن الأسرى المضربين عن الطعام لعشرات الأيام حيث يهلكون صحياً بل قرر القتل المباشر.

لقد ذكرتني بطولة خضر عدنان ومناخها بمناخ استشهاد عبد القادر الحسيني بعد أن خُذل إذ لم يحصل على السلاح المطلوب حين زار دمشق باحثاً عن السلاح عام 1948 وعاد وقاد معركة تحرير قلعة القسطل وهو يعرف أن ميزان القوى هائل لصالح العدو ولكن الخذلان لم يثنه عن قراره بالنضال، وانتصر المجاهدون حينها واستشُهد يومها.

يبقى للأسرى قرارهم جماعيا و /أو فرديا كيف يديرون المعارك طالما نعجز عن تحريرهم. وأود هنا أن أكرر ما كتبته قبل سنوات في هذا الأمر في نشرة “كنعان” الإلكترونية، السنة الحادية والعشرون – العدد 5994 بتاريخ 17 نيسان (ابريل) 2021

■ ■ ■

الذكرى 64 للنكبة

الاستعمار الصهيوني لفلسطين

عادل سمارة

هناك أربع جبهات أو مجالات للنضال لدعم وتقوية وتحرير أسرى الحرب الفلسطينيين ضد نظام يشبه ويتجاوز الفاشية والنازية. في الواقع، الصهيونية أقدم من هذه الحركات، مع الأخذ في الاعتبار أن “الإصلاحي” مارتن لوثر كان أول من اقترح احتلالًا يهوديًا لفلسطين.

الركيزة الأولى هي الكفاح العسكري لأسر جنود صهاينة ومبادلتهم بأسرى فلسطينيين. نادرًا ما يحدث هذا، لكنه الطريقة الأكثر فعالية والأقصر.

والثاني هو مقاطعة المنتجات الصهيونية وإنهاء التطبيع مع النظام/الكيان الصهيوني الأشكنازي (ZAR). يجب أن يتم تنفيذ ذلك من قبل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة (WBG) ، أي لاستعادة المقاطعة الشعبية لمنتجات ZAR خلال الانتفاضة الأولى التي ألغتها للأسف منظمة التحرير الفلسطينية بعد توقيعها على اتفاقيات أوسلو مع ZAR.

مورست جهود المقاطعة ومناهضة التطبيع من قبل الطبقات الشعبية في اختلاف واضح عن البرجوازية العلمانية والقومية والدينية لقوى الدين السياسي التي تواصل علاقتها الاقتصادية مع ZAR على الرغم من الخطاب البلاغي للبرجوازية وقوى الدين السياسي.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الحجة تستند إلى حقائق طبقية اجتماعية وليس على الخطاب القومي البرجوازي أو منظمات الدين السياسي التي تستخدم المسجد كمكان لتنظيف نفسها من جريمة التطبيع. المقاطعة الحقيقية ومناهضة التطبيع هي عامل تحريك وتحشيد إذا تم تجديده واستمراره فسوف يجبر التطبيعيين، من أي طبقة أو شريحة اجتماعية، على محاربة الطبقات الشعبية لأن النضال الحقيقي ضد التطبيع والمقاطعة يمثل تحديًا ويضر ويقلل من هدف المطبعين/ات في جشعهم للتراكم. في حين أن إنهاء السلطة الفلسطينية للمقاطعة كان سياسة تقوِّض القطاعات الإنتاجية المحلية، فإن أي تردد في ممارسة المقاطعة ومناهضة التطبيع هو في الواقع إنهاء نضال الأسرى. إن مقاطعة المرأة للإنتاج الصهيوني هي حالة من حالات عدم الاستهلاك، أو هي الاستهلاك الواعي الذي قد يكون أفضل وأكثر فاعلية من أي خطاب ديماغوجي من قبل العديد من الأحزاب السياسية المساومة.

المقاطعة ومناهضة التطبيع واجب وأخلاقي على العرب أيضا. وهذا يؤكد أن القوى السياسية العربية يجب أن تمارس الضغط على أنظمتها لوقف التطبيع مع النظام الصهيوني، ومن يتبادل معه لوقف ذلك. هذه المعركة فرصة عظيمة للكشف عن السياسيين والمنظمات التي لا تزال تناور لإخفاء ممارساتها أو ميلها للتطبيع مع ZAR.

الثالث هو ما أسميته ذات مرة “القطر العربي الثالث والعشرون”، العرب والفلسطينيون المنتشرون في جميع أنحاء العالم. إنها من حيث الأعداد أكبر من العديد من الدول العربية، ومصادرها، وقدرتها على الاستهلاك، وفرصة حرية التعبير خاصة من حيث الحريات في البلدان الرأسمالية البرجوازية على الرغم من عيوبها … إلخ ، أفضل من كثير من العرب في الوطن العربي. البلد الام. إذا كرس هؤلاء العرب أنشطة متواصلة لدعم الأسرى وقضايا عربية أخرى، فإنهم سيكونون فعالين للغاية.

رابعاً، تحدي الأمم المتحدة للتعامل مع قضية الأسرى الفلسطينيين كحالة عادلة.

تم استخدام الأمم المتحدة، عبر تاريخها، من قبل القوى الإمبريالية. علاوة على ذلك، في العقود الثلاثة الماضية، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانهيار القوى الثورية العالمية، أصبحت الأمم المتحدة أداة سهلة لتحقيق الأهداف الإمبريالية. في هذه الحالة، لماذا لا يضغط العرب على هذه المنظمة لفعل شيء إنساني حق مرة واحدة في حياتها الطويلة، أي أن تكون مسؤولة عن قضية الأسرى الفلسطينيين؟

“كنعان”، النشرة الإلكترونية، المجلد الثاني عشر – العدد 2890   May 2012

وأخيراً: إن جميع الأصوات التي تنادي بقيام الأسرى بإضرابات مطلوب منها أن تتوقف عن ذلك وأن تترك للأسرى تحديد متى يُضربون ومتى لا. ولو كان بوسعهم تحرير أنفسهم لما أُسروا. وهذا مشابه ايضا لثرثرة كثير من العرب بأن على الفلسطينيين في الأرض المحتلة أن يُشعلوا انتفاضة جديدة، بينما هم لا يطلبون من أل 450 مليون عربي أي شيء!

✺ ✺ ✺

حول المشروع العالميّ لجورج سوروس: ذراع الإمبراطوريّة

أسعد أبو خليل

الثري العالمي العابر للقارات هو حاكم ذو سيادة، في استثماراته وفي أدواره وفي نفوذه العالمي. لكنه حاكم غير خاضع للمساءلة أو المحاسبة أو الاستجواب. هو مثل الحاكم في أوروبا قبل الديموقراطيّات. وبروز ظاهرات انخراط أصحاب المليارات في السياسة ظاهرة عالميّة، وتمتدّ من العالم الثري إلى العالم النامي: من برلسكوني إلى رفيق الحريري وأثرياء طرابلس أو ترامب هنا. يخال للناس أن الثري في الحكم قادر على نشر الثروة وبعثرتها في النظام الاقتصادي لتصيبه هو في منزله. وكل هؤلاء الأثرياء يعدون الناس بربيع مقبل من البحبوحة، وما على المواطن المسكين إلا الانتظار (هذا ما أطلق عليه اقتصاديّو رونالد ريغان «القطر من فوق» أي أن مال الأثرياء ينزل بالقطارة إلى الفقراء). ترامب يعتبر أنه وفى بوعده مع أن سياساته الاقتصاديّة كانت معينة للأثرياء من أمثاله. جورج سوروس ظاهرة مختلفة لأنه يطمح للتأثير والنفوذ السياسي من دون طلب تأييد الشعب. هو لن يستطيع أن ينال تأييد الشعب لأنه عالم بمعضلة الليبراليّة في الغرب والشرق.

لم يعد جورج سوروس ظاهرة غربيّة. هو ظاهرة عالميّة تتعدّى نطاق الحدود. الثروة تفتح الأبواب في مجتمع ودولة ما، كما أنها تفتح الحدود والسدود في تدليل على صواب النظريّة الماركسيّة عن الطبيعية الطبقيّة للحكم. لم نكن لنتحدّث عن جورج سوروس وأفكاره لو كان فقيراً معدماً. الثري يستطيع أن يؤثّر ليس فقط بفضل أمواله وشرائه للإعلام بل بفضل حصوله على التغطية الإعلاميّة المجانيّة. لم يكن دونالد ترامب يحتاج أن ينفق من ماله الخاص عندما خاض غمار الانتخابات للمرّة الأولى لأن شهرة ثروته جلبت له شهرة تكلّف أموالاً طائلة للشخص العادي.

مؤسّسات سوروس عاملة في أكثر من 120 دولة في العالم، والعدد في ازدياد. هو بارز في الشرق الأوسط وهو يمعن في شراء وتأسيس إعلام باللغة العربيّة («إعلام مستقل» طبعاً لأن الإعلام الذي يحظى بتمويل حكومات حلف شمال الأطلسي أو سوروس يكون مستقلاً). ما فعله سوروس في أوروبا الشرقيّة (وبالتوافق التام مع مشاريع الحكومة الأميركيّة وأجهزتها الأمنيّة والعسكريّة) يفعله في عالمنا العربي. يريد، حسب فلسفته، أن «يفتح مجتمعنا» لأنه لا يحب الانغلاق. هكذا تعلّم من الفيلسوف الرجعي، كارل بوبر، مُلهمه في دراسة الفلسفة في بريطانيا.
لكن لا يمكن لنا الحديث عن سوروس من دون التوضيح. يحقّ لنا الكلام عن سوروس، ويحقّ لنا توجيه النقد إليه وإلى أعماله، من دون تلقّي الاتهام بمعاداة السامية. اسمحوا لنا، رجاءً. والأمر يحتاج إلى شرح. صحيح، هناك جهات يمينيّة في الغرب تكيل الاتهامات لسوروس من منظور معاداة السامية (هي معاداة اليهوديّة لكنها معروفة في الغرب بمعاداة السامية). في المجر، البلد الذي يتحدّر منه سوروس، هناك جهات تتحدّث عنه من المنظور الكلاسيكي لمعاداة السامية وهي (أي معاداة السامية) عريقة في أوروبا الشرقيّة والغربيّة على حد سواء. لكن ليس كل نقد لسوروس هو من منظور معاداة السامية. وللأمانة، هناك جهات يمينيّة في الغرب تكيل الاتهامات لسوروس من منظور معاداة معاداة السامية، وليس من منظور معاداة السامية. هناك من يذكِّر أن سوروس نفسه معادٍ لليهودية أو أنه معادٍ لذاته بحجّة أنه لجأ مع عائلته إلى تغيير هويّته في الحرب العالمية الثانية وعاش في المجر مستفيداً من هويّة أخرى مسيحيّة اقتناها بالمال من شخص مسيحي. كان صبياً عندما عمل لصالح موظّف متعامل مع النازيّة لكن لا يمكن تصديق روايات يمينيّة أنه كان مسانداً للحكم النازي في عمره المُبكِّر. يعترف سوروس أن علاقته مع الدين لم تكن سويّة وهو ملحد مع أنه لا يستفيض في الحديث عن ذلك. الخلاصة أن هناك فئات رجعيّة في الغرب تفضّل أن تعيّر سوروس بيهوديّته كما أن هناك فئات رجعيّة تعيّر سوروس بكراهيته لليهوديّة، حسب زعمهم.
هل أن سوروس يصبح منزّهاً عن النقد لأنه يهودي؟ يكون ذلك معاداة للسامية بحد ذاتها لأنه يعطي اليهود حقاً أو أفضليّة غير متوفّرة لسواهم. الملياردير الأميركي شلدون أدلسون كان من أبرز مموّلي الحزب الجمهوري واليمين في أميركا، ولا تزال أرملته ناشطة في التمويل السياسي. والليبراليّون في أميركا، هؤلاء الذين يساوون بين نقد سوروس من أي جهة ومعاداة السامية، لا يتورّعون عن التعريض بأدلسون واتهامه بتخريب الحياة السياسيّة الأميركيّة. يمكن نقد الرجليْن لكن من دون التعريض بدينهما. وسوروس في المقابل بات من أبرز مموّلي الحزب الديموقراطي والقضايا الليبرالية في أميركا، فلماذا يُحرّم نقده فيما يُحلّل نقد الملياردير اليميني إدلسون؟ هنا نرى أن السياسة دخلت في إصدار أحكام معاداة السامية من قبل أطراف ليبرالية مستفيدة من تمويل سوروس نفسه، ومن مصلحتها المالية تحريم نقد سوروس. ونجد هذه النزعة في الإعلام «المستقل» (أي إعلام محلّي مُمَوَّل من حكومات دول حلف شمال الأطلسي ومن جورج سوروس، وهذا الإعلام ينتشر مثل النار في الهشيم في العالم العربي وغالباً ما يتلقّى التنويه والمديح من أجهزة الحكومة الأميركيّة التي باتت تطلق عليه صفة «الإعلام البديل»). وهذا الإعلام (المستفيد من تمويل سوروس مع منظمات مدنيّة «مستقلّة»، بالتعريف نفسه الوارد في أدبيّات وزارة الخارجيّة الأميركية، أي الإعلام المتوائم مع أجندتها) بات يدافع عن سوروس من منظوريْن اثنيْن: 1) المنظور الأوّل، أنه ممنوع نقد سوروس لأن نقده يعني معاداة السامية. 2) المنظور الثاني، أن سوروس يتعرّض للنقد من قبل «إسرائيل». لا، غير صحيح أن سوروس يتعرّض للنقد من قبل «إسرائيل». سوروس حليف للجناح الوسطي والليبرالي في إسرائيل، وهو معادٍ لنتنياهو بحدود معيّنة، لأنه كان من أشدّ المعجبين بـ«إصلاحات» نتنياهو المالية التي قضت على الجوانب الاشتراكيّة (المُبالغ في تصنيفها) في الاقتصاد الإسرائيلي. إن أسباب تمنع سوروس عن الاستثمار في إسرائيل قبل الثمانينيات والتسعينيّات تعود لمعارضته التوجّه الاقتصادي للحكومة. هذا رجل تعني له الحريّة حريّة رأس المال، وليس أكثر. ومفهومه عن «المجتمع المفتوح» يحتاج هو الآخر إلى مناقشة. إن نقد إسرائيل لسوروس ليس من باب أنه معارض لإسرائيل بالضرورة بل من باب تفضيله جناحاً صهيونياً على آخر. إنّ نقد نتنياهو له لا يجعله وطنيّاً فلسطينيّاً، كما أن نقد نتنياهو لباراك أوباما لا يجعله مناصراً للحق الفلسطيني. بهذا، نستطيع أن ندخل في الموضوع المطروح. ماذا يريد سوروس من العالم؟

يطرح سوروس مشروعه من خلال تنظيمات «المجتمع المفتوح» التي ينشرها حول العالم. وفي بداية انطلاق مشروعه في الشرق الأوسط قبل سنوات عديدة، اتصل بي مدير له وطلب منّي كتابة مقالة أو أكثر لهم. استفسرت منه عن فريق العمل وعلمتُ أن مستشارهم الأساسي في منطقة الشرق الأوسط ليس إلا معلّقاً لبنانيّاً في صحف أمراء آل سعود. أدركت حدود المشروع الليبرالي. وأخذ سوروس عن كارل بوبر التصنيف البليد الذي يفصل بالقاطع بين «مجتمع مغلق» الذي يعني الدول الشيوعية والحكم النازي، وبين الدول الغربيّة المتمتّعة بـ«المجتمع المفتوح». وهذا الفصل يتوافق مع الاتجاه العام للسياسة الأميركيّة الخارجيّة والذي يسمح بضم نظم استبداديّة إلى معسكر «الحريّة» فقط لأن التحالف مع أميركا ضد الشيوعية يُضفي لمسات من الحريّة على المُستبدّ. لكنّ سوروس ينظّر في ضرورة دعم «المجتمع المفتوح» المفترض ويقول إن الشك والتشكيك هما من سمات المجتمع المفتوح، بينما ينعدم الشك والسؤال في المجتمعات المغلقة. لكن عمل سوروس في الدول الاشتراكية في الحرب الباردة دليل على بطلان نظريّته. يمكن عكس معادلة سوروس: التشكيك مُرجَّح أكثر في الأنظمة التي يُسمّيها مغلقة، وهو أقلّ بروزاً في الأنظمة التي يسمّيها مفتوحة. الخطر الحقيقي يكمن أن الترويج لفكرة «المجتمع المفتوح» يزرع الأوهام حول سيادة الحريّة في المجتمع، ما يقضي على الحاجة للتشكيك. وكيف تكون المجتمعات مفتوحة في ظل 17 جهازاً استخبارياً في أميركا وحدها، وبوجود شبكة من التجسّس الإلكتروني والبشري حول العالم من قبل الحكومة الأميركيّة؟ العالم أصبح مغلقاً بسبب العولمة الأميركيّة التوجُّه. وكيف نمت حركات الانشقاق والمعارضة في أوروبا الشرقيّة إذا كانت تلك المجتمعات مغلقة؟ على العكس، نحن نعلم اليوم الكثير عن حركات معارضة في داخل المنظومة الاشتراكيّة لكن حجم تلك الحركات تضخّم ونما بفعل تدخل أجهزة المخابرات الغربيّة والكنيسة وأمثال جورج سوروس نفسه. ثم معلّم سوروس، كارل بوبر، يحذِّر في كتابه الشهير (المجتمع المفتوح وأعداؤه) من «التسامح اللامحدود» ويقول إن هذا النوع من التسامح يؤدّي إلى زوال التسامح. ويلجأ بوبر إلى أساليب الأنظمة القمعيّة نفسها التي يزعم أنه ينبذها عندما يقول إنه من حق «المجتمع المتسامح» (أي «المفتوح») أن يدافع عن نفسه (بالقوة المسلّحة؟) ضد غير المتسامحين. لكن مَن يعرّف عدم التسامح ومن يقوم بمهمّة محاربة عدم التسامح؟ الدولة؟ أي دولة؟ سوروس مثلاً كان يعتبر أن نظام بورس يلستن الفاسد والقمعي هو مفتوح، لكن بمجرّد أن بدأت الحكومة الروسية في معارضة التوجّهات الأميركيّة حتى انغلق المجتمع الروسي، بنظر سوروس. معايير سوروس (مثل معلّمه) هي سياسيّة غير علميّة ويمكن أن تلين إذا كان ذلك في صالح الحكومة الأميركيّة. في كل ما جرى في أميركا بعد 11 أيلول، وبعد ظهور حالات لاضطهاد مسلمين أبرياء في كل العالم من قبل الحكومة الأميركية، لم يجد سوروس ما يعارضه غير عبارة بوش الشهيرة: «إذا لم تكن أنتَ معنا فأنتَ مع الإرهابيّين». اعتقال المئات من المسلمين الأبرياء في أميركا (بمن فيهم الكوميدي اللبناني، السابق، سلام زعتري) لم يعكّر صفو حرص سوروس على المجتمع المفتوح.

في بداية انطلاق مشروعه في الشرق الأوسط قبل سنوات عديدة، اتصل بي مدير له وطلب منّي كتابة مقالة أو أكثر لهم. استفسرت منه عن فريق العمل وعلمتُ أن مستشارهم الأساسي في منطقة الشرق الأوسط ليس إلا معلّقاً لبنانيّاً في صحف أمراء آل سعود. أدركت حدود المشروع الليبرالي

مشروع سوروس هو دعم حركات سياسيّة لا تحظى بشعبية والتأثير على المجتمع بالمال من أجل أن يؤيّدها. هو يعطي أفضليّة لحركات تتوافق مع توجّهات الإمبرياليّة والصهيونيّة أو المناصرة لإسرائيل لأنه لا يعرّف عن نفسه أنه صهيوني، وسنعود لذلك. الليبرالية العربيّة مثلاً لا يمكن أن تفوز بانتخابات وكان ذلك من خيبات وولفوويتز وفؤاد عجمي وكنعان مكيّة. كان افتراض هؤلاء أن الانتخابات الحرّة ستأتي بأمثال الرجعيّ الصهيوني، مكيّة ومثال الآلوسي في العراق. وهذا سبب معارضة أميركا للانتخابات الحرة للعراق قبل أن تخضع لإصرار السيستاني. سوروس بات أكبر داعمي الحزب الديموقراطي. هو يستخدم المال لترجيح كفّة جهة سياسيّة على أخرى، وهذا تماماً ما يفعله الصهيوني الآخر، شلدون أدلسون أو الأخوان كوك في المقلب السياسي الآخر. مال الأثرياء ليس ديموقراطياً لأنه يفضح الأحجام المختلفة بين مواطن وآخر بناءً على حجم الثروة. لكنّ قدرة الأثرياء على اختراق الحدود للتأثير على الانتخابات في كل دول العالم هي جانب جديد من الحياة السياسية في الدول النامية. كانت الدول الغربية تتدخّل بالمال والسلاح في كل انتخابات دول العالم الثالث (لبنان أكبر مثال حيث تدخّلت أميركا بقوّة في انتخابات 1957 و1968 و1970، الرئاسيّة، و1972). اليوم يتدخّل أثرياء مثل سوروس وجمعيّات مموَّلة من حكومات حلف شمال الأطلسي للتأثير في الانتخابات ولصنع ثقافة سياسيّة جديدة في البلاد. الانتخابات النيابيّة الأخيرة في لبنان هي نتاج لهذه التأثيرات. وسائل الإعلام «المستقلّة» التي يفرّخها سوروس وحكومات الأطلسي ما كان يمكن أن تحظى بفرصة التمويل الذاتي لأن برنامجها يتناقض مع المزاج العام. لا يمكن مثلاً أن تكون وسيلة إعلام تفترض أن لا نظام استبدادياً في كل العالم العربي إلا واحد لأنه ليس على وئام مع إسرائيل. وقضيّة رجل يهودي واحد في مصر تشغل إعلام سوروس أكثر مما يشغله إلقاء القبض على مواطنين في المغرب وغيره بتهم نشر التشيّع. والمصري اليهودي الذي كُتب عنه مقالات في الأسابيع الماضية حظي بتغطية في هذا الإعلام أكثر مما حظي منه خضر عدنان. نسبة تغطية احتجاجات إيران تفوق بنسب 1 إلى 10، أو أكثر بكثير، في وسائل إعلام سوروس. للرجل أجندة وهو يعرف ما يفعل.

يتحدّث سوروس كثيراً عن المجتمع المفتوح. حسناً، لنأخذ موقفه من إسرائيل. هو كان يعترف أنه ليس صهيونيّاً لكن لا ضرورة لأن يكون المرء صهيونيّاً لخدمة مصالح إسرائيل. معظم الرؤساء الأميركيّين لم يعرّفوا عن أنفسهم أنهم صهاينة (قد يكون جو بايدن أول رئيس أميركي يعرِّف عن نفسه بأنّه صهيوني). لكن سوروس يعترف في مقالته في «نيويورك ريفيو أوف بوكس» أنه تمنّع عن نقد إسرائيل على مرّ السنوات والعقود كي لا يفيد أعداء إسرائيل. يقول بالحرف: «لقد امتنعتُ في الماضي عن نقد إسرائيل. أنا لستُ صهيونيّاً، ولست ممارساً في اليهوديّة، ولكنْ لديَّ تعاطف كبير مع إخوتي اليهود ولديّ اهتمام عميق بقدرة إسرائيل على الحياة. لم أكن أريد أن أمدّ أعداء إسرائيل بمواد (تفيدهم)» (راجع مقالته «عن إسرائيل وأميركا وإيباك»، في عدد 12 نيسان 2007 من «نيويورك ريفيو اوف بوكس»). لكن عندما انخرط ابنه ألكس في اكتشاف يهوديّته والتعمّق فيها نصحه أبوه بالهجرة إلى إسرائيل. وقد أعطى سوروس (الأب) ضرورة الهجرة إلى إسرائيل كواحد من شروطه لنيل حق نقد إسرائيل. وهو يختلف مع إسرائيل في الموضوع الاقتصادي (قبل «إصلاحات» نتنياهو الرأسمالية) وفي موضوع السلطة الفلسطينيّة. من شروط مجتمع سوروس المفتوح في فلسطين أن تتفاهم حكومة إسرائيل مع سلطة محمود عبّاس التي يرى فيها تحقيقاً لكل شروط الانفتاح والليبراليّة التي ينشرها بيننا. ومفهومه في نشر الليبراليّة لا يختلف عن أسباب احتضان الإعلام والحكم السعودي والإماراتي لليبرالية العربيّة لأنهم يريدون سداً بوجه حركات المقاومة ضد إسرائيل وضد الإسلاميّين الذين يشكّلون معارضة قويّة في البلدين. مشروع «المجتمع المفتوح» واضح في الإعلام والمنظمات التي يموّلها سوروس في العالم العربي: نبذ مقاومة إسرائيل وتأييد «معسكر السلام» (غير الموجود) في إسرائيل ونقد فقط المنحى اليميني في حكومات إسرائيل، أي تأييد الوسط. سوروس مثلاً لم يعارض حكومة إسرائيل قبل أرييل شارون. شارون حادَ عن مسار سياسي كان سوروس لا ينتقده، على الأقل في العلن.
لكنّ أسلوب عمل سوروس يتخطى الشرق الأوسط. إنّ بداية عمل سوروس (راجع كتاب روبرت سليتر عن جورج سوروس) بدأ في أوروبا الشرقيّة ومن خلال سياسات حلف شمال الأطلسي في محاربة الأنظمة الشيوعيّة. هذا كان أوّل انخراط علني لسوروس في الشأن السياسي. وكان سوروس يقفز عبر الحدود للعمل السري، بالتنسيق مع الفاتيكان والحكومة الأميركيّة، لتهريب الأموال والمعدّات الإلكترونيّة وأجهزة التواصل للتخريب على الحكومات الشيوعيّة. هذا تماماً ما يقوم سوروس وغيره بعمله اليوم في التحريض على الأنظمة المعارضة لأميركا وإسرائيل. وليس صدفة أن وسائل الإعلام والجمعيّات المُمَوَّلة من سوروس تتجاهل أنظمة الخليج بالكامل، لا بل إن لهجتها لطيفة معها بسبب التطبيع مع إسرائيل ولأن حكام الخليج حلفاء أميركا وإسرائيل. وقد جنّد سوروس شبكة من المعارضين والمنشقّين ضد الشيوعية (والكثير منهم صهاينة) ووظّفهم في جمعيّته «المجتمع المفتوح». وأجندة حلف شمال الأطلسي ضد روسيا هي مشروع عبّر عنه سوروس مبكراً في مقالة كتبها في عام 2015 في مجلّة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» (عدد 8 أكتوبر 2015، بعنوان «أوكرانيا وأوروبا: ماذا يجب عمله»). ومشروعه يشدّد على انخراط أوكرانيا في المجموعة الأوروبية وعلى نجدة الحكم الأوكراني الموالي للغرب بحزمة منح ومساعدات لتحصينها في الحرب ضد روسيا. ويُنوِّه سوروس مبكراً في تلك المقالة بعمله في البلاد خلال الانقلاب إذ يقول: «أنا في موقع قوي في المحاججة (عن أوكرانيا) بسبب معرفتي الحميمة بأوكرانيا الجديدة (أي الخاضعة لحكم حلف شمال الأطلسي) من خلال عمل مؤسّستي الأوكرانيّة وتدخلي أو تورطي في البلاد». وليس صدفة أيضاً أن سوروس من أبرز المحرّضين على الصين في هذه الأيام بالتزامن مع إجماع أجهزة الأمن والعسكرتاريا في أميركا على تنامي الخطر الصيني، ليس على البشرية أو السلام العالمي وحسب بل على السيطرة الأميركيّة الكليّة على العالم. هو لجأ إلى الأسلوب الرخيص في عام 2022 عندما قارن بين استضافة الصين للألعاب الأولمبية واستضافة برلين للألعاب في عام 1936. وبابتذال بات معروفاً عنه، يقول سوروس مهتدياً بمعلّمه بوبر: «في المجتمع المفتوح، يكون دور الدولة هو حماية حرية الفرد، بينما في المجتمع المغلق، يكون دور الفرد خدمة حكام الدولة». وهذا التعريف يتجاهل خروق حريّات الفرد من قبل المجتمعات المفتوحة وخدمة الفرد الفقير وصحته وتعليمه من قبل «المجتمع المغلق»، كما جرى في عصر عبد الناصر وفيديل كاسترو. حريّة الفرد عند سوروس تكمن في حريّة حركة رأس المال الغربي للتأثير السياسي والربح الاقتصادي. لهذا السبب، تخشى منظمة سوروس وحكومات حلف شمال الأطلسي من صعود حركات المطالبة بسنّ قوانين لمنع التمويل الخارجي للإعلام والمنظمات المدنية حول العالم لأن ذلك نسق من أنساق الهيمنة الإمبرياليّة.

لم نعد نتحدّث عن مؤامرة خافية للعيان وعن صعوبة انتظارنا لنشر الوثائق الدبلوماسيّة بعد ثلاثين سنة أو أكثر. المؤامرة كشفت عن وجهها وهي تعلن مقاصدها بصريح العبارة. يكفي أن نتابع تغريدات السفير الألماني في بيروت أو أن نصنّف القيم السياسيّة التي تبثّها وسائل الإعلام المُمَوَّلة من سوروس كي نتبيّن معالم المؤامرة الواضحة وطبيعة المعركة المحمومة من قبل حلفاء إسرائيل في الغرب. تسنّى لأطراف المؤامرة أنفسهم تقويض الحكم الشيوعي في أوروبا الشرقيّة وهم لا يسعون لقلب أنظمة حكم في بلادنا. لا، أنظمة الاستبداد «المغلقة» (بتعريفهم) لا تزعجهم بل تزعجهم فقط حركات مقاومة إسرائيل. وإذا كان الانفتاح يعني التحالف مع الصهيونيّة، فيا مرحباً بالانغلاق ولو أزعج سوروس وصحبه.

* كاتب عربي – حسابه على تويتر
asadabukhalil@

:::::

“الأخبار”، 6 أيار 2023

________

تابعونا على:

  • على موقعنا:

https://kanaanonline.org/

  • توتير:
  • فيس بوك:

https://www.facebook.com/kanaanonline/

  • ملاحظة من “كنعان”:

“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.

ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.

  • عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
  • يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org