في “روح الشرائع – 1748″، نقد البارون الفرنسي مونتسكيو النّظام الفرنسي القائم في زمانه، ودعا لتخليصه مما أسماه ملامح “الاستبداد الشرقي” الذي اعتبره شكلاً شرقيّاً حصرياً لنظام ثقافيّ/سياسيّ منحط ينطوي على عبوديّة مجتمع ذليل ومصاب بالجمود لحاكم فرد متعسّف وشرير، يدير حكومة متخلفة وفاسدة، تقوم على أساس أوامر شفهيّة أو رسائل تمليها المرجعيات الأعلى.
ما لبث هذا المفهوم أن أصبح عند مثقفي التنوير الأوروبيّ بمثابة حكم تاريخيّ نهائيّ على طبيعة المجتمعات (الشرقيّة) تبعتهم فيه أجيال من المؤلفين والرحالة والجواسيس الذين كتبوا عن بلادنا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، ولم يعد من المستهجن للغربيين اللاحقين – وأتباعهم من منظري الربيع العربي – تمرير جميع تجاربهم وملاحظاتهم وأفكارهم عن الشرق من خلال مصفاة النظريات والتجريدات المستوحاة من مونتسكيو، فيما أُهملت أو أُدينت كل محاولة لتقديم صورة أكثر واقعيّة أو تفهماً.
إلى أن جاءت جانيت أبو لغد (1928 – 2013).
عالمة الاجتماع الحضري الأمريكيّة (تزوجت من الأكاديمي الأمريكي الفلسطيني إبراهيم أبولغد) أخذتها الأقدار إلى القاهرة بمصر حيث وضعت دراستها المفصليّة “القاهرة: 1001 عام على المدينة المنصورة – 1971″، وخلصت فيها إلى أن “النظرة الأورو-مركزية للعصور الوسطى المظلمة غير مدروسة، فإن كانت الأنوار قد انطفأت وقتها في أوروبا، فمن المؤكد أنها كانت لا تزال مضيئة في الشرق الأوسط”، مشيرة إلى أن العاصمة المصريّة لم تكن سوى “عقدة واحدة فقط في شبكة نظام حضريّ متطور للغاية ضم عدة مدن عبر عالم الإسلام”.
تجربتها القاهريّة، منحتها البصيرة لإعادة النّظر في التاريخ الحضريّ لمدن العصور الوسطى برمته، ورفض طروحات هنري بيرين، وماكس ويبر وغيرهم من سيسيولوجيي الأكاديميا الغربيّة القائمة على أساس مفاضلة مدن الغرب (الأعلى، الأرقى) مقابل مدن الشرق (الأدنى، المتخلف). لم ترتح أيضاً لمعالجة كارل ماركس لأصول الرأسماليّة، وخرجت بانطباع سلبيّ من قراءة دراسة والرشتاين عن “نظام العالم الحديث – بجزئيه 1974، 1979)”، لأنه ينحو إلى التعامل مع النظام العالمي في عصر الحداثة – الذي تشكل في القرن السادس عشر (المديد) – كما لو كان بدأ في الغرب، ومن صفحة بيضاء.
تكاملت نظريّة أبو لغد في كتابها الأشهر “قبل الهيمنة الأوروبيّة: النظام العالمي بين (1250-1350) – 1989” الذي جادلت فيه بأن نظام ما قبل الحداثة كان يقوم على روابط بين ثلاثة أنظمة فرعيّة: الصين (الأكثر تقدماً)، وعالم الإسلام (مصر والشّرق الأدنى) الذي لعب دور صلة الوصل بين الصين والنظام الفرعيّ الثالث في أوروبا الغربيّة، وأن ظروفاً موضوعيّة، لا ضرورة ثقافيّة تاريخيّة متأصلة، حوّلت النّظام العالمي تالياً لصالح الغرب دون الشرق. وعلى الرّغم من أن تحليلها لم يستفد من الطرح الماركسيّ المتقدّم في تفسير العلاقات الطبقيّة التي أنتجت جذور الرأسماليّة الحديثة، إلا أنّه كان كافياً لنقض التّفسيرات الإقطاعيّة التقليديّة لتاريخ اقتصاد العصور الوسطى في الشرق.
ومع ذلك، ورغم جهود عديدين آخرين بمن فيهم إدوارد سعيد (الاستشراق – 1976)، فإن هذه الرؤية الغرب-مركزيّة المتخيّلة عن الشّرق، والتي وظّفت بصفاقة لإضفاء الشرعية بشكل أو آخر على التّوسع الإمبريالي الغربيّ وتبرير جرائمه من حملة نابليون على مصر (1799) إلى إسقاط ليبيا (2011) وما بينهما، بقيت سائدة ومتداولة بزعم أن دول الشرق الأوسط في العصور الوسطى لم تترك ورائها أيّ وثائق يعتد بها نظراً لطبيعة الحكم الشرقيّ المستبدّ القائم على الأحكام الفرديّة اللحظيّة التعسفيّة وسريعة الزّوال، مقارنة بديمومة النتاج البيروقراطيّ لمؤسسات الحكم في الدّول الأوروبيّة الناشئة.
انتصار أبو لغد النهائي والحاسم على تجار مفهوم “الاستبداد الشرقي” تحقق بعد عقد تقريباً على غيابها، عندما قدّمت البروفيسورة مارينا راستو في كتابها “الأرشيف المفقود: آثار دولة الخلافة في كنيس القاهرة2019 – ” أدلّة ماديّة ملموسة على امتلاك دولة الخلافة الفاطمية في مصر – كنموذج، وإن كان أقل تقدماً من نظيره العبّاسيّ في بغداد – نظاماً حكوميّاً بيروقراطيّ الطابع، وسجلات مؤسسيّة مفصلة، وأرشيفات مُحكمة، تنفي كل التّصور الأوروبيّ المسبق حول غياب التوثيق في عالم الإسلام قبل العام 1500 بسبب ثقافة “استبداد” مزعومة.
إننا مدينون اليوم لجانيت أبو لغد بتحرّرنا من توهمات مونتسكيو، وفذلكات العهر الأكاديميّ الذي يسمى “الاستبداد الشرقيّ”، وبفهم أكثر عقلانيّة للنّظام العالمي – الذي يقترب للعودة إلى عالم متعدد الأقطاب، تماماً كما كان الحال قبل صعود الغرب المؤقت، والمغمس بالدماء، في آخر خمسمائة عام.
✺ ✺ ✺
تعليق الدكتور عادل سماره
شكرا للرفيق سعيد محمد على تذكيرنا بمساهمة الراحلة جانيت أبو لغد. فإضافة لكون ذلك إنجازاً، كان العمل مثابة عمل فدائي في مواجهةالحرب التزييفية المركزاية الغربية المحتواة صهيونيا والموجهة ضد العرب والإسلام بما هو عربي أساساً. ولعل أخطر كتاب في ما حمل نفس عنوان “الطغيان الشرقي Oriental Despotism” هو كتاب كارل ويتفوجل من 700 صفحة. وفيما يتعلق بماركس فقد كتب كثيرون عن موقفه من الشرق، فمنهم من قيَّمه كمركزاني أوروبي أبيض، ومنهم من حاول نفي تاثره بسيل تشويه الشرق وتجريده من اية مساهمة معرفية وحضارية، ومنهم من وقف موقفاً وسطياً بأن ذكر ما كتبه ماركس عن الهند والجزائر وحتى إيرلنده متأثرا بهيجل فيما يخص شعوب بلا تاريخ ناسباً ذلك إلى مرحلة من حياة ماركس جرى تعديل ذلك على يد ماركس لاحقاً مثلاً الكاتب Marx at the Margins O n N a t i o n a l i s m , E t h n i c i t y , a n d N o n – W e s t e r n S o c i e t i e s Kevin B. Anderson, 2010
في نهاية كتابه هذا وضع رأيه، في فصل أخير من كتابه بنوع من التعاطف وليس النقد العلمي. لقد عالجت هذه المسألة في كتابي بالإنجليزية الذي صدر قبل ايام وخاصة فصل “الاستشراق الإرهابي/الفصل الثالث” كنقد لموقف ماركس من جهة، وتوضيح بأن موقفه نجم عن تاثر بأعداء الشرق وقلة المصادر لديه وحماسته لرسملة المستعمرات لتسريع التحول العالمي إلى الإشتراكية. إن تنزيه ماركس عن أي خطىء، هو أسوأ من مطالبته بأن يعرف كل تاريخ البشرية وحتى زمنها القادم.
_________
ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….
✺ ✺ ✺