قراءات في الراهن العربي من النظري إلى التطبيقي (حلقة 2)، عادل سماره

  • الموجتان القوميتان الأولى والثانية

ملاحظة: عولجت هذه المسألة في كتابنا: هزائم منتصرة وانتصارات مهزومة (2020).

ليست المصطلحات في السياسة بلا معنى طالما هي وصف أحداث وحالات وأوضاع، طالما هي تأريخ للأحداث في أُطر لغوية تشرحها وتعبِّر عنها بهذا المستوى البلاغي الحار أو ذاك. وفي غالب، إن لم نقل مطلق، الحالات، يجري التأريخ على لسان وبخطوط ايدي المنتصرين، لحظة الانتصار وما بعده أي خلال استقرار نظامهم. ويتلو ذلك بالطبع ترسيخ لغته ناقلاً العلاقة بين المنتصر والمهزوم من السيطرة إلى الهيمنة التي في الغالب تؤذي وتُخضِع أكثر مما فعلت السيطرة حين انتصار طرف وهزيمة آخر. لكن السياق الزمني اللاحق لا بد أن يبين إن كان الحدث في صالح البشرية أم ضدها وذلك عبر قوانين الديالكتيك التي هي في التحليل الأخير تؤكد الصعود البشري. فتاريخ البشرية يؤكد غَلَبة المنحى التطوري.

في هذا السياق تبلورت لغة الغرب المركزاني الأوروبي ولاحقا الأورو-أمريكي، فأُعطت أسماء وتوصيفات لمختلف الأحداث، حتى السابق منها على عصر راس المال، أسماء وتوصيفات كما رآها وقرَّر الغرب أن تُصبح مؤكدة لكينونته ونافية لكينونة بقية العالم بكل تعددها وخواصها. وليس الاستشراق سوى أحد تجليات تصنيع تاريخ للتاريخ.

الموجات القومية

أحد هذه المصطلحات ما كرسه خطاب الغرب بتسمية القرن التاسع عشر ب “عصر القوميات” في توصيف للثورات التي حصلت في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر مترافقة مع الثورة الصناعية حيث تبلورت أكثر ورسمياً حدود وسيادات الدول القومية في أوروبا الغربية خاصة.

ليس موضوعنا طبيعة تلك الثورات القائمة على الثورة الصناعية التي أنجزتها أوروبا الغربية بشكل متناسب/متوازٍ تقريباً، وإنما يرتكز نقدنا على تعميم تلك التسمية المحدودة جغرافياً على سائر العالم. واي عالم؟ بقية العالم أو معظمه الذي كان كلما تقدمت أوروبا الغربية خاصة كلما تم اقتحامه واستعماره ونهبه بمطلق الوحشية. ومع ذلك يتم تعميم التسمية على الضحايا ويتم تدريس هذه التسمية المعممة في كثير من بلدان المحيط مما يخلق حالة من التعمية التثقيفية لتواريخ هذه الأمم بطيها لصالح تأريخ تم تصنيعه غربياً، فترى الأجيال الجديدة أنها في عصر القوميات الأوروبي! بينما هي تحت سقف الاستغلال والتخلف والتبعية. وهذا نمط من الاستعمار الثقافي وهو شديد الخطر، فاستيراد السلع حتى المعمرة التي لا تعيش أكثر من عشر سنوات أقل خطراً من استيراد ثقافة لأن الثقافة تعيش قرونا أو يزيد. فليس أقدم ولا أطول عمراً من الثقافة/الفكر/النظريات سوى العمل فالإنتاج.

كانت موجة القومية الأولى، أو الأوروبية إذن نتاج الثورة الصناعية وتجاوز أوروبا مرحلة التراكم البدائي/الأولي الذي نهب وكرَّس آليات نهب المحيط. وبالتطور الصناعي تجاوز الإنتاج في هذه البلدان حدود السوق القومية التي حرصت الدول السيادية الجديدة على تثبيتها والصراع كل من أجل حدوده، أو ما يفترض أنها حدوده.

في هذا القرن اي التاسع عشر، تقاطع في أوروبا راس المال إدماج الجشع بالتقنية بتوظيف التطور الصناعي من اجل النهب الخارجي والاستغلال المحلي فكان لتوظيف الثورة الصناعية نتائج تحقيق:

·       التفوق التسليحي

·       التفوق الإنتاجي بما يزيد عن حاجة الدولة القومية

·       التوسع الاستعماري عبر الغزو العسكري لبيع المنتجات ونهب الخامات ولاحقا تصدير راس المال وصولا إلى تصدير راس المال العامل الإنتاجي الذي حوَّل الصين إلى ورشة أمريكية وتركيا إلى ورشة أوروبية…الخ وأبقى تقريباً على كامل العالم سوقاً مفتوحة أو ما ارى انه قطاع عام راسمالي معولم (نوقش مصطلح قطاع رأسمالي عام معولم في موضع سابق. ) تحكمه الشركات ويتم فيه طغيان نهب الريع وتوجه رأس المال من الإنتاج إلى المضاربات، ويحكمه اليوم ديكتاتور تدعمه قطاعت شعبية عنصرية وراس المال بتسمية الأبيض مستخدماً اللون والعرق والدين وكل ما فاض به خياله ليصبح النهب والفتك والعسف مبررا حتى من الله.

الموجة الأولى تخلق نقيضها الموجة الثانية

لو كان لنا تسمية قرن بقرن الاستعمار لكانت الفترة بين 1850-1950 هي عصر الاستعمار بجدارة. وهذا لا يعني أن الاستعمار بدأ مع هذا القرن حصراً كما لم ينته به ابداً. فعلى الأقل بدأ الاستعمار الرأسمالي الأوروبي تحديداً مع مرحلة الراسمالية الميركنتيلية سواء في فترة سيطرة الاستعمارين الإسباني والبرتغالي الممتد على مدار القرون الثلاثة للمرحلة المركانتيلية (1500 ــ 1800) أو إثر هزيمته على يد القوى الاستعمارية الطالعة آنذاك وخاصة بريطانيا، ولا نبالغ إن قلنا لم يتوقف، وإن تعثر أحيانا وهُزم أحياناً أخرى ولكن الروح الشريرة للغرب الاستعماري القائمة على النهب والاستغلال/المصالح المادية، لم تُقتل بعد. ويكفي أن نُشير إلى إرسال فرنسا وبريطانيا (أما والاستعماران الفرنسي والبريطاني وقد هرما كشعوب ايضاً، لكن العدوانية والجشع للنهب والعيش على ريع من الغير لم يتوقف، لذا أشبه دورهما الآن في محاولات تجديد دورهما ولو كاستعمار تابع بما كتبه أمير الشعراء العرب أحمد شوقي: رأيت على صخرة عقرباً…وقد جعلت ضربها ديدنا. فقلت لها إنها صخرة…وطبعك من طبعها ألينا. فقالت صدقت ولكنني…أريدُ أعرِّفها من أنا.

)اليوم 2018 قوات ضد سوريا في ذيل قوات العدو الأمريكي في محاولة لاستعادة ماضٍ استعماري دموي ولكن بعد ن تهالكت أنياب هذه الإمبرياليات المتهالكة، وإن تدريجيا.

كان القرن السابع عشر حاسماً في صعود الراسمالية وما رافقه من صعود ل لندن ومن ثم نيويورك. بينما رافق ذلك إهلاك إسبانيا وهولندا لبعضهما البعض مما فسح المجال لبريطانيا حيث بدأت حقبة سيطرتها الإمبراطورية. لكن هذا لم يلغِ ابداً حصة لمختلف بلدان أوروبا الغربية في استعمار امريكا الجنوبية وإفريقيا وآسيا. أي حمل القرن السابع عشر المشروع الاستعماري الأوروبي الغربي المعولم وخاصة بريطانيا وهولندا وفرنسا وإيطاليا والمانيا.

وبالطبع ترافقت مع هذا الاستعمار تنظيرات عنصرية تضفي عليه دورا تقدميا لإخراج المستعمرات “من الظلمات إلى النور”!. وهي تنظيرات قامت على عنصرية طاغية إلى حد إصابة ماركس نفسه بلوثتها رغم إنجازه العظيم ضد راس المال من حينة وإلى عصور مقبلة. أخذت الحماسة الرجل إلى حد تخيُّل أن الاستعمار البريطاني سينقل الهند إلى “الحضارة”، حتى ولو بقسوة ضد الإنسان، ناهيك عن ما كتبه هو وإنجلز عن الجزائر.

أنظر عادل سمارة

Terrorist Orientalism in a State Form.  Using Marxism, Christianity and Islam to Dismantle Arab Homeland. Adel Samar, Kana’an – The e-Bulletin Volume XV – Issues 3781- 3782. 24 march 2015

ولكن، لم تكن هذه قناعة شعوب المستعمرات التي قاومت قدر جهدها وواصلت المقاومة لتحقق انتصارات على امتداد الأرض وخاصة منذ اربعينات وخمسينات وصولا لسبعينات القرن العشرين وهذا ما اسميناه الموجة القومية الثانية والتي امتدت تقديراً من اربعينات وحتى نهاية سبعينات القرن العشرين.

الموجة الثانية سياسية وطنية دون تبلور طبقي وإنتاجي (لذلك انكفأت). لقد ترافق مع نجاحها وجود القطبية الاشتراكية مما حماها من الغزو الاستعماري مجددا، لكن أنظمتها ذهبت لتثبيت نفسها/مصالحها إلى تحويل الدولة إلى دولة أمنية. وعليه، قاد تفكك الكتلة الاشتراكية إلى وقوف هذه البلدان عارية أمام عدوان لا يتردد في اقتحامها.

هي إذن ثورة الموجة القومية الثانية/المستعرات ضد الموجة القومية الأولى/ الاستعمار على يد حركات التحرر الوطني وخاصة في آسيا وإفريقيا حيث كانت ثورات امريكا الجنوبية سابقة على ثورات آسيا وإفريقيا.

قادت هذه الموجة قوى محلية في بلدان المحيط وهي خليط شعبوي في معظم الحالات قادته غالبا شرائح من البرجوازية الصغيرة وقاعدته الطبقات الشعبية وخاصة الفلاحين الفقراء. كانت هذه الثورات محفوزة بالانتماء والإيديولوجيا القومية كحافز ضد الاستعمار. وقد ركزت بالطبع على الثقافة واللغة والتاريخ المحلي في كل بلد. واعتمدت الكفاح المسلح في معظم الحالات وهو كلما كان اشد كلما واجهه الاستعمار بوحشية أعلى، ولعل أوضح الأمثلة وحشية الاستعمار الفرنسي في فيتنام والجزائر ثم أمريكا في فيتنام لاحقاً.

لا ننسى في هذا السياق أن انفلات اليابان من الاحتجاز الاوروبي الغربي للتطور لم يمنعها من التحول إلى استعمار لا يقل وحشية عن الأخريات، وهذا الأمر الذي امتد في دور اليابان حتى اليوم لتحجز لنفسها المقعد الثالث في الثلاثي الإمبريالي إلى جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

ليس هناك من اتفاق بعد، إن كان سبب ما آلت إليه هذه البلدان بعد الاستقلال السياسي أو بعد الاستعمار، إن حصل حقاً، هو:

·       الانحراف المصلحي الطبقي للأنظمة الحاكمة في هذه البلدان بعيدا عن التنمية المحلية وفك الارتباط راجعة إلى أو مجددة لعلاقات التبعية للاستعمار بتحولها إلى كمبرادور بدل التنمية بالاعتماد على الذات وصولاً إلى فك الارتباط (سمير أمين) منخرطة بشكل تابع في السوق الدولية نفسها.

·       أو أن هذه الأنظمة ورثت بلادا مرهقة هالكة اقتصادياً لم يكن بوسعها إلا الارتباط مجدداً بعدوها الذي أعاد صياغة تحكُّمه بها بطرق جديدة طالما أن القيادات الجديدة ليست ذات منظور تنموي لإنجاز الاستقلال الاقتصادي مكتفية بالاستقلال السياسي الشكلي والمظهري والذي أهم جوانبه الخطيرة تركيز الإنفاق على بنية وأمن وجيش السلطة وليس على إنتاج الحاجات الأساسية للمجتمع. اي لم تخلق لنفسها إطار الدعم الشعبي بل استبدلته بحزام أمني!

·       أو أن كلاً من الكتلة الشرقية وقيادات كتلة عدم الانحياز، التي ضمت معظم بلدان الموجة القومية الثانية، لم تتمكنا من خلق ترابط بينهما في مواجهة الغرب الرأسمالي، سواء لضعف الكتلة الشرقية اقتصاديا، ووصول التحريفية الخروتشيفية إلى السلطة في الاتحاد السوفييتي، أو لأن قيادات دول عدم الانحياز هذه، ونقصد ذات التوجه القومي التحرري وبعضها الاشتراكي( شو إن لاي، نهرو ، ناصر، تيتو، سوكارنو…الخ)  لم تكن قادرة على القطع مع الاستعمار ولم تكن ناضجة التوجه الفكري الاشتراكي، وصاحبها فساد قاد إلى تحولها من برجوازية إنتاجية مفترضة إلى استسهال دور الكمبرادور مسلحا بأجهزة قمع هي الأجهزة الدولانية الأكثر ارتباطاً بالإمبريالية.

على أن ما حصل هو ذوبان نتائج هذه الموجة القومية مما ابقى معظم بلدانها ملحقاً بالسوق العالمية وبالتالي، ونظراً لعدم إنجاز تنمية حقيقية زراعية وصناعية، بقيت سوقا للغرب الراسمالي، ومصدرا للمواد الخام المطلوبة للغرب والتي يتزايد تذبذب سوقها وتغير مبدأ الطلب عليها طبقاً لحاجة الغرب المتبدلة أو بناء على سياساته التدميرية لهذا النظام او ذاك، بل تحول معظمها إلى مستورد للمنتجات الغربية الصناعية وحتى الزراعية. اي بكلام آخر، عادت لتقوية الرأسمالية العالمية والخضوع لنفس ظروف فترة كونها مستعمرات لكن هذه المرَّة بقبول إن لم نقل توسلات الطبقات الكمبرادورية الحاكمة في تلك البلدان.

وعليه، فإذا كانت هذه الكتلة وسطية، فإن تراجع الاتحاد السوفييتي نفسه إلى الوسطية قد ساعد كثيرين من هذه الكتلة ، والتي كان العديد من دولها مثابة المحيط الخارجي للاتحاد السوفييتي، إلى تجديد ارتباطها التابع للمركز الراسمالي الأمر الذي همَّش القمة السياسية لصالح طبقة رأس المال الكمبرادوري، والطفيلي والذي انتهى أخيراً إلى تبعية للمركز باسم الوطنية والقومية اي بدون السيطرة أو العصا الاستعمارية السابقة حيث تحولت القيادات “المناضلة” إلى عصىً على شعبها وخدمة للعدو، وصولاً إلى تحالفها المبلور في القطاع العام الراسمالي المعولم. لقد وجد الغرب الرأسمالي الاستعماري نفسه أمام تبعية “وطنية” لأنها ممهورة بخاتم حكام هذه البلدان نفسها تماماً كما وجد الغرب نفسه، لاحقاً،  أمام تبعية قوى وأنظمة الدين السياسي العربية والإسلامية ممهورة بطابع القداسة الدينية بل حتى الربانية.

وقد تكون ظاهرة الخليج العربي، مجلس التعاون الخليجي، حالة خاصة جداً في هذا السياق بمعنى أنها لم “تستقل” بنضال قومي، بل لم يكن هذا التوجه مطروحاً لدى حكامها قطعا بما هي انظمة تنصيب إمبريالي. فقد حصلت على أكثر اشكال الاستقلال شكلانية، ولكنها أخضعت نفسها لأكثر اشكال التخادم غير المتوازن مع المركز الإمبريالي. فهي بعكس غيرها من الدول “المستقلة” حديثاً ذات الأمكانيات الشحيحة. وعليه، لم تكن الفوائض المالية النفطية سوى ريعاً تم تكريسه لأدوار تابعة وخطيرة وعدوانية من هذه الكيانات ضد الوطن العربي بأكمله بل على صعيد عالمي.

لم تكن هذه الكيانات بحاجة للعب هذا الدور إذا ما قرأنا وضعها على ضوء إمكانياتها، ولكن إذا قرأناه على ضوء كون انظمتها تنصيب إمبريالي، وكونها ترى في القومية العربية الوحدوية خطراً على عروشها، وعلى ضوء تشرُّبها لقناعة أنه لولا الاستعمار لما كانت ولا كان النفط، لفهمنا لماذا اصطفت أنظمة هذه الكيانات سرا سابقا وعلانية لاحقا اصطفافاً مضاداً للقومية العربية ولعبت دور أداة تمول كافة قوى الإرهاب على صعيد عالمي. هي انظمة تقاتل الإنسانية نيابةعن الإمبريالية وخدمة لها. وتكون من نتائج ذلك الكراهية العالمية للعرب والمسلمين، فأي دور لهؤلاء!

تجلت رِدَّة بلدان الموجة القومية الثانية في تبلور “تحالف” معولم بين راسمالية المركز وكمبرادور المحيط متخذا:

·       سياسياً: تكوين طبقة رسمية معولمة رأسها البرجوازية الغربية تقودها الشركات الكبرى وذيلها كمبرادور المحيط

·        اقتصادياً: تحويل اقتصاد العالم إلى قطاع عام رأسمالي معولم لصالح رأس المال تكون حصة برجوازية المحيط منه هي اقتصاد التساقط. والمفارقة أن تفكك الكتلة الاشتراكية جعلت هذا القطاع معولما تماماً قد يكون أفضل شاهد على هذا ما تقوم به إدارة الولايات المتحدة منذ ترامب إلى بايدن من فرض عقوبات تجارية تقريبا على كل العالم وخاصة شركاء أمريكا بما هي راس سيطرة هذا القطاع العام الراسمالي المعولم. 

وبالتالي سياسيا واقتصاديا وثقافيا يمكن الحديث عن طبقة راسمالية معولمة.

·       وتحكمت بهذا التحالف المؤسسات المالية والإدارية الثلاث الكبرى المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. لكن هذا الثلاثي هو في الحقيقة في خدمة سلطة معولمة شكلية وأخرى فعلية. والشكلية هي السلطات السياسية/الطبقة المعولمة المزدوجة، بينما الفعلية هي قاعدتها او بنيتها التحتية ماليا وإداريا اي الشركات الكبرى. وللمفارقة يرأس هذه الشركات الكبرى رأس افتراضي واحد هو دونالد ترامب والذي أصبح بعد عام على رئاسته مثابة المدير العام لشركة عالمية، يعاقب هنا وهناك ويقاطع هنا وهناك…الخ بل ويدير حربا تجارية على صعيد عالمي.

على أن تفسير هذا العسف الأمريكي بقيادة ترامب ومرده اساساً السر العسكري التسليحي الذي عززه في بداية الخمسينات الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، الجنرال سابقاً، (  ربما بنى أيزنهاور عقيدته في التفوق التسليحي المطلق على حقيقتين، قيام أوروبا المسلحة جيدا بتدمير الدول التي كانت سابقة لها في التطور الاقتصادي الصين والهند، اي اعتماد القوة دخولا إلى الاقتصاد، ثم خروج امريكا الأقوى بعد الحرب الإمبريالية العالمية الثانية.

لعل الاستثناء فيما يخص قدرة دول أوروبا الغربية على شن عدوان هنا وهناك هو من جهة الأمر الأمريكي لها، ومن جهة ثانية اختيار حالات معينة بشن عدوان محدود وباشتراك مع دول أخرى. هذا ما حصل مؤخراً بمشاركة فرنسية للعدوان ضد اليمن إلى جانب العدوان السعودي الإماراتي حيث   تشارك فرنسا في نزع ألغام إعاقة العدوان، كما ارسلت فرنسا قوات رمزية ضد سوريا مساعدة للكرد الصهاينة، هذا ناهيك عن مشاركة مختلف دول الناتو تحت مظلة أمريكا في تدمير ليبيا وإسقاط نظام الرئيس القذافي) الذي تنبه إلى إمكانية بروز دول تنافس الولايات المتحدة اقتصاديا بالإنتاج المدني فاتجه لإقامة المجمع الصناعي الحربي الأمريكي لتبقى أمريكا متفوقة عسكريا مما يضمن ويحمي ويفرض مصالحها الاقتصادية، اي استعمارها للعالم. لذا، فالحرب الاقتصادية التي تشنها إدارة ترامب/وحتى على حلفائها الأوروبيين ترتكز على كون امريكا هي القوة والقيادة لحلف شمال الأطلسي الذي هو حلف غزو مختلف بقاع العالم، ويرتكز على أن تمويل هذا الحلف يعتمد بنسبة 90 بالمئة على امريكا. وهنا تبرز حاجة أوروبا واليابان لأمريكا على صعيد خارجي مما يمنعهما من مشاكسة قرارات ترامب العدوانية. فالرجل مدير شركة هي القطاع الرأسمالي المعولم، ويعرف عن ماذا يتحدث.

· يمكننا الاستنتاج بان حلف شمال الأطلسي كأنه بشكل ما امتداداً لمشروع مارشال لإعادة إيقاف اقتصاد أوروبا الغربية على قدميه كي لا تتجه شرقاً، وبأن تحمُّل الولايات المتحدة للعبء المالي لهذا الحلف هو مثابة مساعدات عسكرية على نمط مارشال الاقتصادي لصالح اوروبا الغربية التي لم تعد قادرة على القتال العدواني بمفردها على صعيد معولم). لعل الاستثناء فيما يخص قدرة دول أوروبا الغربية على شن عدوان هنا وهناك هو من جهة الأمر الأمريكي لها، ومن جهة ثانية اختيار حالات معينة بشن عدوان محدود وباشتراك مع دول أخرى. هذا ما حصل مؤخراً بمشاركة فرنسية للعدوان ضد اليمن إلى جانب العدوان السعودي الإماراتي حيث   تشارك فرنسا في نزع ألغام إعاقة العدوان، كما ارسلت فرنسا قوات رمزية ضد سوريا مساعدة للكرد الصهاينة، هذا ناهيك عن مشاركة مختلف دول الناتو تحت مظلة أمريكا في تدمير ليبيا وإسقاط نظام الرئيس القذافي.)

بقي أن نشير هنا، إذا كانت أوروبا الغربية لم تحتجز التبادل التكنولوجي فيما بينها مما قاد إلى تطور متكافىء نسبياً، كما نفترض، لكنها وقد وصلت كل واحدة منها تقريباً إلى إنتاج ما يفوق طاقة السوق المحلية ، أو كما قال ماركس “تدني القدرة الاستهلاكية Under-Consumptionism” الناجمة، اساساً وليس فقط، عن تصاعد القدرة الإنتاجية وتجاوزها لطاقة السوق القومي على الاستيعاب، فقد  واصلت حروبها  المصلحية البينية سواء داخل جغرافيتها أو خارجها حتى نهاية الحرب الإمبريالية العالمية الثانية كي تسلم القيادة بعدها للولايات المتحدة وتنحني لتلك القيادة حتى حينه ذاهبة إلى “سلام” اقتصادي فيما بينها أي الاتحاد الأوروبي.

لعل إشكالية الاتحاد الأوروبي اليوم ثلاثية:

الأولى: التهديد الداخلي بتفكك هذا الاتحاد بعد خروج بريطانيا شبه المؤكد من هذا الاتحاد، وزيادة سيطرة ألمانيا عليه وهو ما اتضح في قمع اليونان بشروط مجحفة، وزيادة الضغط الشعبي في كثير من أعضائه للخروج من هذا الاتحاد،

والثانية: الصعود الواضح للفاشية أو الشعبوية لتخفيف الوقع إلى السلطة كما في إيطاليا خاصة وتقوية هذه التيارات في العديد من دول هذا الاتحاد.

والثالثة: الهجمة العقوباتية الأمريكية التي بدأت في فترة ترامب والتي يُفترض ربما أن تؤدي إلى تماسك هذا الاتحاد أو بعضه، اي الرأسماليات الأوروبية.

لقد اختتمت موجة القومية الثانية مرحلتها بأزمة مزدوجة في المركز والمحيط مما نقلها إلى وضعية الانتصارات المهزومة.

 فيما يخص المركز الإمبريالي لدينا مشكلة قوى التفجير الداخلي التي تدفع للتفكك، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأزمة اليونان وإسبانيا والبرتغال، وذهاب إيطاليا باتجاه شعبوي. هذا من جهة، والحرب الاقتصادية الأمريكية كونها امتدادا للأزمة الاقتصادية الممولنة منذ عام 2008، مما يوجب التماسك الأوروبي الداخلي من جهة ثانية، وحاجة البرجوازيات الغربية لحلف الأطلسي العدواني سواء على صعيد عالمي او ضد روسيا خاصة من جهة أخرى. وهذا يبين تناقض طبقي على الصعيد الأوروبي حيث الراسماليات رغم العقوبات الأمريكية هي لصالح بقاء الاتحاد الأوروبي والعلاقة مع امريكا، مقابل الضغط الشعبي الذي لا تمثله الشركات ولا تمثله، إلى حد ما، مصالح أوروبا المحمية بحلف الأطلسي على صعيد عالمي!

أما على صعيد المحيط، فأزمته أكثر شدة كامتداد لأزمة المركز إلى جانب التزام هذه البلدان بعدم اعتماد سياسات حمائية بأوامر من الثلاثي المزدوج: الثلاثي السياسي الطبقي الرأسمالي ” الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان”، والثلاثي الاقتصادي المالي التجاري اي المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. في هذا المناخ ذهب المركز لتخليق الموجة القومية الثالثة.

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….