جدل وصخب لا ينتهيان أثارهما مقطع ترويجي قصير عرضته نيتفليكس عن سلسلة الدراما الوثائقيّة “الملكة كليوبترا” وذلك بعدما ظهرت أديل جيمس (ذات الأصل الأفريقي المختلط) في صورة آخر بطالمة مصر، مثيرة متاعب الشوفينيين معتنقي أفكار الأعراق المثالية الخالصة. على أن التاريخ لم يحسم موقفه من لون بشرة السيدة التي أغوت قيصر روما العظيم رومانسياً وسياسياً، وترك الباب موارباً لتمثيلا عديدة ممكنة. السلسلة عند إطلاقها بعد كل هذا الجدل، كانت على مستوى تعقيد هذه الشخصية التاريخيّة وقدمّت سرداً مدعماً بآراء ثلة من المتخصصين، ودراما مقنعة حملتها أساساً أديل جيمس إلى نجاح لا بأس به.
سعيد محمّد – لندن
لم تثر حفيظة النظام المصري ولا الطبقة البرجوازية التي يدير مصالحها أو شريحة مثقفيه المصروخليجيين لدى اختيار غال غادوت، الممثلة العبريّة والمجندة بالجيش الإسرائيلي، للعب دور كليوبترا في فيلم قادم. لكن قيام أديل جيمس، الممثلة البريطانية المختلطة العرق بلعب الدّور في السلسلة الوثائقيّة “الملكة كليوبترا” على منصة نيتفليكس (من 4 حلقات اعتباراً من 10 مايو / أيّار 2023) أدى إلى انفجار غضب رسميّ وبرجوازي وصل في بعض الأحيان إلى حد الإسفاف في الإساءة للممثلة، وذهبت وزارة الآثار المصرية إلى مستوى إصدار بيان مفتقد للمهنية أثار سخرية الخبراء جزمت فيه إن كليوباترا “كانت ذات بشرة فاتحة وملامح هلنستية (يونانية)”. وسارع متحذلق الآثار المصري الشهير زاهي حواس، المتفرّغ منذ بعد الوقت للترويج للآثار السعوديّة، إلى القفز في قلب الجدل عبر التصريح – من خلال جريدة سعوديّة – بأن كليوباترا “كانت أشياء كثيرة ، وتستحق أن تروى قصتها للجمهور المعاصر ، لكن الشيء الوحيد الذي لم تكنه بالتأكيد هو الأسود”، وأعلن عن عزم القناة الوثائقيّة المصريّة – التي لم يسمع بها أحد – لإنجاز فيلم مضاد، يعيد لمصر هيبتها التي مسها لون بشرة الممثلة جيمس.
واللّطيف أن هذا الانفجار كلّه أتى حتى قبل عرض السلسلة، ودون الاطلاع على محتواها، وحصراً بناء لمقاطع ترويجيّة مجتزأة نشرتها نيتفليكس، وشارك في إذكاء ناره مثقفون – ناهيك عن جمهور – أغلبيتهم الساحقة غير ملمة بموقع شخصيّة كليوبترا من تاريخ المنطقة في العصور الكلاسيكيّة، وتُسقط مفاهيم هوياتيّة عرقيّة وقوميّة متخيلة معاصرة على حضارات قديمة. لا بل وتنطع أحدهم على صفحات جريدة لبنانية لاستغلال المناسبة في لوم جمهوريّة عبد الناصر بوصفها تآمرت لخلق هوية مصريّة جديدة (؟) بدافع من مطلق سياسة الإقصاء و”جنون العظمة” (!) – يا للهراء -.
إن فكرة أن تأدية دور كليوبترا يجب أن يقتصر على ممثلات بيضاوات هي فكرة ساذجة ومريضة تماماً، لا سيّما وإن طرحت من قبل مصريّ في وقتنا الرّاهن. فسلالة البطالمة التي حكمت مصر واتخذت دور نخبتها الحاكمة على حساب المصريين أهل البلاد الأصليين وكانت كليوباترا آخر حكامها بعد ثمانية أجيال، تنحدر بالفعل من اليونان، لكن أصول جدة كيلوبترا ووالدتها غير معروفة بدقة ما يفتح الباب عملياً على كل الاحتمالات. هناك مثلاً إعلان الأكاديمية النمساوية للعلوم في 2009 عن العثور (في إفسوس شرقي تركيا الحالية) على الهيكل العظمي لأختها أرسينوي، الذي بدا وكأنه لفتاة ذات أم افريقيّة، فيما لا يستبعد بعض الخبراء أن تكون والدتها مصريّة بحكم أنّها كانت اول أعضاء أسرتها يتحدث المصرية – بصيغتها آنذاك – كلغة ثانية إلى جانب لغتها الأم اليونانيّة، ما يقود في المحصلّة – في غياب دلائل حاسمة – للقبول بفرضيّة أن كليوبترا كانت مختلطة العرق، أقرب ما تكون إلى لون بشرة المصريات اليوم (السمراء)، وهو أمر كان طبيعياً جداً ومقبولاً تماماً في العصر الذي عاشت فيه الملكة المقدونيّة – كان هناك أباطرة وأعضاء في مجلس الشيوخ الروماني من السود -، إذ أن نزع الإنسانيّة عن السود والملونين ظاهرة أوروبيّة محض رافقت استعمار الأمريكيتين وتجارة العبيد الأفارقة المخطوفين ونشوء الرأسمالية، أي بعد سقوط الأندلس ورحلة كولومبوس المشؤومة مع نهاية القرن الخامس عشر الميلادي.
ولا تساعد الملامح الإغريقية التي تظهر على النّقود التي سُكت في عهد كليوبترا أو النقوش والتماثيل على الجزم بلون بشرتها، إذ لا بدّ أنها أخذت بعض الجينات من خط والدها المنحدر من أحد قادة الإسكندر المقدوني – شمال اليونان -. علماً بأن معظم المصادر والوثائق التاريخية التي نستسقي منها معلوماتنا عن تلك الفترة كتبت بعد الوقائع نفسها بعدة عقود أو حتى مئات السنوات، وعادة ما تلونت بالمواقف الأيديولوجيّة لأصحابها.
ومن المعروف أن البطالمة في إطار سعيهم لكسب قبول السكان المحليين تظاهروا بالفرعنة – بمعنى الإيمان بالمعتقدات المصرية وتقاليد تعاقب السلطة لديهم -، ومن المعتقد أن كليوبترا، في إطار تعطشها للسلطة، وعلاقتها الخاصة بمصر عملت بشكل خاص على خطب ودّهم، ولذلك فإن بعض المدارس التاريخيّة تجعلها آخر الفراعنة، لكن ذلك غير دقيق. ونذكّر هنا بما فعله نابليون بونابرت عندما احتل مصر عام 1798 وتظاهر باعتناق الإسلام، وكذلك الجنرال مينو – خليفة كليبر نائب نابليون – الذي أعلن اسلامه وتزوج من امرأة مصرية، واتخذ اسم عبد الله. وعلى أيّ حال فإن الملكة كليوبترا ليست أهم من حكم مصر في تاريخهاتلك البلاد العظيم والطويل، إلا أنّ الاهتمام بها غربيّاً متأت من حقيقة ترابط تاريخها بتاريخ روما، الذي يعده الأوروبيون إحدى مرجعياتهم الكلاسيكية إلى جانب اليونان القديمة والتراث اليهودي-المسيحي.
وبالطبع، فإن هوليوود ليست أفضل من يقدّم صورة صحيحة تاريخيّة لكليوبترا، الحاكمة البطلميّة الغامضة التي جعلها دهاؤها السياسي – وتشابكاتها الرومانسية – مصدرا لا نهاية له للافتتان العالميّ. ومن الكسل الفكري والعجز الحضاري معاَ أن ننتظر منها تقديم مادة عادلة حول أبطال أيّ أمّة، لا سيما تلك التي تصنّف في جهة الأعداء (هل جربتم مشاهدة مسلسل فوضى على نيتفليكس، أو طهران على أبل بلس؟).
إن ضجة اليوم إذن منبعها – فيما أرى – ليس وثائقيّاً آخر على نيتفليكس سينضم لعشرات غيره من الأفلام والوثائقيّات عن كليوبترا في المكتبة البصريّة العالميّة، بقدر ما هي أزمة تعاني منها نخبة مصر المعاصرة في دولة كامب ديفيد وكان لا بدّ وتنفجر في وقت ما. أزمة في الكيفية التي ترى بها هذه النخبة نفسها: دولة تخلّت عن دورها القوميّ العربيّ وخضعت للهيمنة الأمريكية/ العبرية، وفقدت التأييد الشعبيّ بعدما هدمت المشروع الاشتراكي الناصريّ، وأهملت الروابط الإسلاميّة التي يمكن أن تذكر بالإخوان المسلمين – لا سيما إثر خفوت موضة الأسلمة من مصدرها السعوديّ -، واستمرأت الذلّ العسكريّ في سيناء والمحيط، وفقدت المكانة التي كانت لها في القارة الأفريقية أيّام ناصر. ولا عجب وهذا الحال أن تستنفر الدّولة بكل طاقتها لتنفيذ استعراض موكب نقل المومياءات من المتحف المصري إلى متحف آخر بالقاهرة، باعتبار التراث الفرعوني القديم بديلاً آمناً لشوفينية مصريّة جديدة..
لم ينتفض المصريّون عندما قررت الولايات المتحدة مدّ يد المساعدة لإنقاذ آثار النوبة التي كانت ستغرق في بحيرة السد العالي بحكم أن “هذه الآثار هي جذور تاريخية عظيمة لكل الحضارة الغربية. نحن نقدم معروفا لأجيالنا المستقبلية في هذا البلد ، بقدر ما نساعد في الحفاظ على جذورهم التاريخية” وفق مسؤول أمريكي، ولم نر عراضات ضد ألف من الوثائقيات والأفلام التي تجعل من مصر هبة إسرائيل القديمة. ولم نسمع قرقعة عندما تولت ممثلات غربيات بيضاوات تقديم شخصيّة كليوبترا – بمن فيهن إليزابيث تايلور في النسخة الأشهر – 1963 -، أو المرشحات للأفلام الأحدث أنجيلينا جولي أو غال غادوت. لكنّهم عندما ظهرت صورة ممثلة سمراء مختلطة العرق ملأوا الدنيا وشغلوا الناس بحجة ادعاءات المهووسين من أتباع مدرسة المركزيّة الإفريقيّة – تنسب الحضارة المصرية القديمة إلى عرق أسود -، وكأن الأساطير العبرية والاستشراق الغربيّ لا غبار عليها.
إن مصر دولة عربيّة في محيط أفريقيّ، وهويتها بحكم التاريخ والجغرافيا نتاج تقاطع الهويات العربيّة والإفريقيّة على أرض الحضارة المصريّة القديمة، وأي طرف – عربيّ أو مصريّ أو قبطيّ أو أفريقاني – يحاول انتاج مصر مثاليّة على هواه إنما يتاجر بالوهم، وهو ما فهمه جمال عبد الناصر جيداً، فأقام تناغماً بين هذي الهويات جميعها، فكانت مصر في عهده زعيمة الأمّة العربيّة، وقائدة عدم الانحياز العالمي، وقاعدة لكل ثوري ومناضل أفريقيّ أو أسود (في الغرب)، ومشروعاً اشتراكيّاً لكل المصريين. ثقافة (الأسود) الذي يشكل تهديداً للهوية المصريّة اختراع غربيّ لا مكان له على الأرض، وألعاب ذهنية نتاج الثقافة الأمريكيّة العنصرية البغيضة (أسود / أبيض، كابوي هندي / أحمر، خيّر محض / شرير محض).
ولكن ماذا بشأن السلسلة الوثائقيّة ذاتها؟
أُطلقت “الملكة كليوباترا”، التي أنتجتها لمنصة نيتفليكس جادا بينكيت سميث، يوم الأربعاء الماضي كجزء ثان من مجموعة “الملكات الأفريقيات” بصيغة دراما-وثائقيّة. وتتبع السلسلة حكاية هذه السيّدة من الأعوام 51 إلى 30 قبل الميلاد بداية من لحظة وفاة والدها بطليموس الثاني عشر وصعودها إلى العرش، وعلاقاتها السياسية والغراميّة مع يوليوس قيصر ومارك أنتوني، ولاحقاً سقوط مملكتها في يد الرومان، وانتهاء بموتها انتحاراً.
تتخلل المشاهد تعليقات من خبراء متخصصين ومؤلفي كتب وأبحاث عن كليوبترا مثل شيلي هالي ، الأستاذة المتقاعدة في الدراسات الكلاسيكية والأفريقية ومستشارة المسلسل ، وديبورا هيرد ، الباحثة في علم آثار النوبة، وسالي آن أشتون المتخصصة بالدراسات عن كليوبترا وإسلام عيسى (من أصل مصري ومؤلف كتاب التأثير الدائم للإسكندريّة القديمة)، وغيرهم. وتعطي هذي التعليقات المحترفة قيمة ممتازة للعمل ككل، سواء فيما يتعلّق بالحقائق التي لا جدال فيها، بما في ذلك النسب المقدوني اليوناني لسلالة والدها وأن اليونانية كانت لغتها الأولى، أو في الملتبسات بما في ذلك هوية والدتها – ولون بشرتها – وما إذا كانت علاقاتها مع قيصر – والد ابنها البكر – كانت رومانسية، أو استراتيجية نفعيّة أو مزيجاً متفجّراً منهما.
ويبدو هؤلاء الخبراء متفقين على أن شخصية كليوبترا ثريّة وغامضة في آن، وسيرتها أشبه ب”لعبة عروش” مشوقة، وأنّها لذلك تسمح لكل منا بتصورها على صيغة مختلفة بحسب انحيازاتنا الثقافية والعرقية والجغرافية. على أن أقوى رسالة تصل للمشاهد هي امتلاك هذه الشخصيّة النخبوية (الشرقيّة) القدرة على التعبير عن ذاتها وحضورها كإنسان شريك كامل في أهم ألعاب القوّة والاستراتيجيا العالمية، على نحو لم تعرفه الإناث في مجتمع روما الذكوريّ الطابع. وهي كزعيمة لمصر البطلميّة، ربما لم تستطع هزيمة روما لكن عبقريتها المفترضة كانت في إدراكها الاستراتيجي العميق بأن مصر أكثر قيمة كحليف لروما من كونها عدواً. ومع كونها موضع شغف جسديّ لإثنين من أهم رجالات روما التاريخيين، فلم تكن عاهرة رخيصة كما تصورها بعض المصادر التاريخية الرومانية، بل قائدة قوية وذكية وحازمة، تعرف ما تريده لنفسها، ولسلالتها الحاكمة، وللبلد التي تحكمها، وتتصرف في إطار ثقافة سلالتها وطبقتها وزمنها.
وجهة نظري أن المنتج النهائي الذي قدمته نيتفليكس، أخذاً بعين الاعتبار كل الاعتبارات السياسية والعرقية التي أحاطت بالإعلان عنه، يقدم عملاً نجح في تحقيق التوازن الصعب بين الترفيه (الدراما) والتثقيف (التوثيق). فهناك حكاية تتراقص بين الجانبين بتبسيط كاف وغير مخل بالسردية التاريخية، وتتقدم نحو تأزيم يُبقي المشاهد – غير المتخصص على الأقل – مشدوداً لمتابعة التالي. وللحقيقة فإن أديل جيمس التي حملت الثقل الأساسيّ للسلسلة قدمت أداء ممتازاً، وظهر الممثلون الآخرون بشكل متفاوت الخبرة لكنهم ساعدوا بشكل عام على استكمال الصورة التفصيليّة للحكاية، فيما بدت المناظر الطبيعيّة من مصر خلابة، وخيارات السينوغرافيا من الإضاءة والأزياء والإكسسوارات والموسيقى والأثاث مقنعة للغاية (رغم عدم دقة تاريخيّة أحياناً لا يفسد شيئاً).
نصيحتي لمشاهدة هذه سلسلة الدراما الوثائقيّة هي وضع الاعتبارات السياسية والعرقية المسبقة جانباً، والاستمتاع بالمادة كما هي: منتج غربيّ، عن ملكة شرقيّة تقاطعت أقدارها مع روما، في أجواء تاريخيّة وبصرية تغني العين، مع العلم بأن الإنتاج يشير إلى بعض التصرف في التفاصيل لأغراض دراميّة مما يعفينا من البحث عن الأخطاء. أما إن أتينا مدججين بصيغة الأبيض / أسود فإن كليوبترا شخصياً ربما لن تكون كافية لترضي متطلبات الهوياتية المختلقة التي تقض مضاجع كثير من الموهومين بيننا.
نشر هذا المقال في صفحة الثقافة بجريدة الأخبار اللبنانيّة عدد الثلاثاء 16 مايو 2023
_________
ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….