- الموجة القومية الثالثة: تصنيع إمبريالي
إذا كانت الموجة القومية الأولى هي التعبير عن الصعود البرجوازي في أوروبا الغربية مرتكزا على محرك الثورة الصناعية وفيض الإنتاج الذي يدفع بالضرورة إلى البحث عن اسواق نظراً لعجز السوق المحلي لكل بلد عن استيعاب منتجاته وهو ما اسماه ماركس Under Consumptionism ، وحاجته للمواد الخام غير المتوفرة لديه، وتنافس كل بلد مع الأخريات على الأسواق ومواقع الثروة ولاحقا تصدير راس المال…الخ ،وكانت الموجة الثانية هي بزخم الوعي القومي في المحيط وعسف الاستعمار طبعاً، فإن الموجة الثالثة مختلفة المنبت بشكل خاص. فالموجتان الأولى والثانية هما من دينامية ذاتية لهذا البلد أو ذاك، نبت محلي بغض النظر عن المآلات بينما الموجة الثالثة هي تصنيع خارجي ووليد سفاح للامتداد الطبقي للموجة الأولى الراسمالية في حقبة العولمة. لذا اتخذت شكلا تآمريا رجعيا وخطيراً. بقول آخر، كانت الموجة القومية الأولى ثورة رأس المال محليا، والاندفاع النهبوي والاستغلالي عالميا، وكانت الموجة الثانية ثورة الشعوب ومن ثم تواطؤ/خيانة البرجوازية المحلية التي تحولت إلى كمبرادور وطفيلية، فإن الثالثة هي صناعة الثورة المضادة، اي هي أدنى وأحط اشكال التحالف بين شرائح برجوازية كمبرادورية وطفيلية في المحيط وبين راسمالية المركز. وهي التعبير التطبيقي لإحدى أهم سمات العولمة أي إلغاء السيادة القومية لبلدان المحيط لصالح سيادات شكلية وتابعة بالمطلق والمفتوح لحراك رأس المال الشركاتي خاصة وبالطبع مع حصر السيادة القومية في المركز الإمبريالي وصولاً إلى أعلى درجة من تطبيق السياسات الحمائية. وكل هذا قائم على انتقال الإمبريالية إلى حقبة العولمة بأسسها: التصحيح الهيكلي، الخصخصة، النيولبرالية، عدم التضبيط، تحرير التجارة الدولية…الخ.
والنيولبرالية كتنظير فلسفي اقتصادي للعولمة رافقها خطاب وشغل على تغيير الدور الطبقي للعمل في مواجهة راس المال. وهذه أخطر فرق الهجوم ضد الثورة. نتحدث عن ما يسمى مجتمع ما بعد الصناعي والهدف منه الوصول إلى ما بعد الثورة أي إلى تأبيد الراسمالية/السوق. وهنا كان التركيز على انتهاء دور الطبقة العاملة في الثورة، طرح قريب أو نسخة أخرى من أطروحة هربرت ماركوزة حيث رأى الثورية في البروليتاريا الرثة.
يركز هذا التنظير على أن مجتمع الصناعة والاقتصاد الجديد بما هو مجتمع الأوتوميشنن وتكنولوجيا المعلومات قد خلق، أو خُلقت على هامشة طبقة عمال الخدمات التي لا ينطبق عليها كلُ من تعريف الطبقة العاملة من حيث شروط تعريف البروليتاريا كطبقة عاملة صناعية خاصة، ولا كطبقة صاحبة مصلحة مباشرة /مُلحَّة في الثورة، مما يُبهِّت دور هذه الطبقة في الثورة . ذلك لأن عمال الخدمات، أو “طبقة”عمال الخدمات هي مؤقتة، تشغيل جزئي تحت الطلب/ عند الطلب، غير رسمية، بلا عقود عمل رسمية، بلا تأمين وضمانات كافية…الخ. هذه الطبقة تعمل في خدمة طبقة متماسكة تراتبية مهيمنة هي البرجوازية وخاصة في نخبة الشركات الكبرى العابرة للقوميات. بكلام آخر، جموع هائلة العدد تحت الاستغلال، شديدة التفكك (حتى حينه على الأقل) يتم تشغيلها من بنية متحكمة منظمة ومبلورة تقريباً في طبقة معولمة.
أمام الإجهاز البرجوازي في المركز على نضال ومكاسب الطبقات الشعبية، أو إلى جانب ذلك تم التوجه، ولا سيما بعد تفكك الكتلة الاشتراكية إلى إعادة استعمار المحيط الذي غادر إيجابيات الموجة القومية الثانية متهافتاً إلى مرحلة البيدق/ للرُخ. وهنا كانت وصفة اللاسيادة على صعيد عالمي لتجريد هذه البلدان من بقايا محاولات الاستقلال ولتبقى مختلف بلدان المحيط فاتحة أسواقها للريح.
على قاعدة اللاسيادة، تم استيلاد/استعادة وإحياء نزعات إثنية وطائفية ومذهبية أكثر مما هي قومية ترفع شعاراتها شرائح من الكمبرادور من جهة، ومثقفو الطابور السادس الثقافي للتنظير لها من جهة ثانية، وتوكيل أجهزة/منظمات الأنجزة للتسويق التنفيذي. وكل هذا بمقادير تافهة من التمويل.
أما تنفيذياً، فهي بهدف تفتيت مختلف الدول التي لم تنضوِ تحت عباءة الإمبريالية الأمريكية والثلاثي الغربي عامة حيث أن الدويلات او الكيانات الصغيرة تابعة وضعيفة ومعتمدة على حماية الغرب ولكن الأهم انها تفتح أسواقها بالمطلق. هذا إضافة إلى أن كل كيان جديد في بلد كان واحداً يصبح في حالة حرب مع جاره مما يجعل الجميع في حاجة ملحة للغرب من جهة وأداة تسهيل دور القطاع العام الراسمالي المعولم من جهة ثانية والذي في نهاية النهايات يخدم الدور المعولم للشركات الكبرى التي وإن بدأ دورها في الظهور في بداية سبعينات القرن العشرين كما كتب عنها ستيفن هايمر، فإنها وصلت قمة سيطرتها مع حقبة العولمة التي يمكن التأريخ لها بنهايات القرن العشرين. وهي سيطرة محاطة بخطاب وإطراء إيديولوجي بليغ يلخص دور هذه الشركات.
“… ان الرجال الذين يديرون الشركات المعولمة هم الأولون في التاريخ الكفؤين من حيث التنظيم، وحيازة التكنولوجيا، النقود، وايديولوجيا تمكنهم بجدارة من العمل على ادارة العالم كوحدة اقتصادية متكاملة … ان ما يطلبونه جوهريا هو حق تجاوز الدولة القومية وعملية تحويلها ([1] Richard J. Barnet and Ronald E. Muller,Global Reach: The Power of the Multi-national Corporations (New York: Simon and Schuster, 1974), pp. 13, 15-16, as cited in Howard M. Wachtel, The money Mandarins: The Making of Supra-national Economic Order (Armonk, N.Y.: M.E. Sharpe, 1990), p.6.).
بهذا المعنى فإن الشركات هي التي التهمت سيادة الدول. ولكن هل كل الدول؟ بالطبع لا، رغم أكاذيب أنظمة المركز وخاصة الولايات المتحدة.
وهذا يؤكد طبيعة أو جوهر الموجة “القومية” الثالثة حيث تدير ذلك السياسة الأمريكية سياسات هذه الكيانات الجديدة الخالية من السيادة مما يسمح للشركات بالحركة الحرة فيها نافية اي دور حقيقي للسيادة ما خلا سطوة القمع المحلي.
“… إن الحدود السياسية للدول القومية هي ضيقة جدا وقاصرة عن تعريف افق وانشطة الأعمال العصرية…وعلى العموم فإن هذه الشركات التي انجزت رؤية معولمة لعملياتها تميل الى التعامل مع عالم ليس فقط السلع بل كل عوامل الانتاج بحيث يمكن ان تحول وتتنقل بمنتهى الحرية. “( “ Cosmocorp: The Importance of Being Stayeless,” Columbia ournal of Worlf Business 2, no. 6 (November-Decemberc1967), as quoted in Jeff Frieden, “The Trilateral Commission: Economics and Politics in the 1970s, in Holy Sklar (ed), Trilateralism: The Trilateral Commission and Elite Planning for World Managemant (Boston: South End Press, 1980), pp. 63-64.
)
لا مكان للولاء لا للمكان ولا للجماعة (اي/بل للشركة)
لم يكن القطاع العام الرأسمالي المعولم وليد حقبة العولمة وهزيمة العمل لصالح راس المال، بل هو من صلب الجشع والسيطرة الراسمالية.
في المذكرة رقم E-B34 الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة موجهة إلى رئيس، الإدارة الأمريكية في 24 تموز 1941 تم تلخيص أو إجمال فكرة “The Grand Area” بأن الحد الأدنى لها هو معظم ما ليس ضمن سيطرة المانيا، اي نصف الكرة الغربي المملكة المتحدة وبقايا الكومنولث وشرق الانديز الهولندي والصين واليابان”.
ماذا نسمي هذا غير أنه تحويل العالم إلى قطاع عام، للشركات طبعاً. من هنا نفهم لماذا تم استهداف الدول التي لم تكن مستسلمة تماما للانخراط في السوق العالمية أي سوق سيطرة الشركات، الاتحاد السوفييتي السابق، يوغسلافيا، العراق، سوريا، ليبيا، اليمن…الخ.
هذا إلى جانب حفاظ الثورة المضادة في حقبة العولمة على الكيانات الشبيهة بالتي يتم تصنيعها في الموجة القومية الثالثة مثل قطر، والإمارات العربية المتحدة والبحرين، وأريتريا…الخ ولا سيما دورها حيث تستخدم كرأس حربة ضد أي نظام تقدمي.
وطبقاً لدور وممارسات دويلات هذه الموجة، يمكننا الاستنتاج بأن الكيان الصهيوني هو مثلها الأعلى، وقد يكون محرك مواقفها السياسية وبالطبع عبر دوره في استراتيجية الثورة المضادة.
تخليق هذه الموجة “القومية” يفرض التساؤل: ترى هل وجود قطب او قطبيات أخرى يمكن أن يلجم هذا التخليق ودوره؟
بالمعنى العام الإجابة نعم حتى رغم أن القطبيات الأخريات رأسمالية أو على الطريق تدريجياً إلى الرسملة. فتخليق هذه الموجة ترافق مع انتقال الراسمالية من الإمبريالية إلى العولمة، وتفكك الكتلة الاشتراكية مما أعطى رأس المال فرصة الإجهاز على بقية السوق العالمية. وهذا يفتح على تساؤلات حول مدى تمكُّن القطبيات الصاعدة أي روسيا والصين، ومدى جديتها في مواجهة الغرب الراسمالي، وحدود تلاقي مصالح الطرفين، واين يمكن أن يتخاصما…الخ، مما يقود بلا مواربة إلى وجوب أن تعتمد كل أمة على نفسها أولاً دون أن تركن كثيراً لأي دعم خارجي في عالم راس المال حيث التحالفات بينما محور الثورة المضادة هو أكثر انسجاما بضغط مصالحه وتوازن علاقاته التي مضى عليها الزمن الكافي للتبلور.
إن الحري بالانسجام الداخلي والتماسك هي الأمم والشعوب التي تتعرض للاستغلال والتفتيت وحتى للاحتلال المباشر أو بالإنابة من قبل الثورة المضادة لأنها تقاتل أو تقاوم من اجل البقاء ودفاعاً عن حقوق جلية.
إن ما يبعث الأمل بإمكانية لجم الثورة المضادة وأدواتها من طراز الموجة القومية الثالثة هو الصعود السريع للعولمة ووصولها سريعا أيضاً إلى مأزقها ولا سيما الانهيار الاقتصادي المالي منذ عام 2008 والذي لم يتم تجاوزه بعد.
ويكون السؤال: هل حقبة العولمة هي الأخيرة للراسمالية؟ أم أن العمل او الثورة ليسا مهيئين بعد! وخاصة على ضوء ضعف القوى التقدمية في المركز، وانتهازية ما يسمى المجتمع المدني في تواطئه مع استغلال راس المال للمحيط سواء بالتبادل اللامتكافىء أو حتى شن حروب استعمارية عسكرية مباشرة أو بالإنابة ضد المحيط الذي فعلت فيه حقبة العولمة عبر أداتها الموجة القومية الثالثة فعلها حيث حلت الطائفية والمذهب بقيادة قوى الدين السياسي محل الطبقة والهويات المتصاغرة محل الهويات الكبرى ومحل السرديات الكبرى. أي حلول من يستدعي الاستعمار محل من يجب أن يقاومه.
انتهى عصر الأحكام القطعية وتحويل التنبؤ العلمي إلى تأكيدات ستأخذ مجراها على الأرض. ولكن بالمقابل، فإن القيمة في مواصلة المقاومة المعولمة، وهي السيرورة التي تتحول إلى حدث وطوبى لمن يكن جاهزاً لالتقاط مفاتيح الحدث والمرحلة التي يأخذ مجراه فيها، وحينها يكون التحول والتغيير تاريخيا إلى الأمام.
بقي أن نشير إلى أن الشكل النموذجي لما تسمى “القومية” الثالثة كتصنيع إمبريالي هي حكومة كردسستان العراق، ومحاولات الانفصال من قبل كرد سوريا وكليهما كر-صهاينة، والأمازيغ في المغرب العربي الكبير، وجنوب السودان، والانفصال المحتمل في بعض أجزاء السودان، والحديث عن اختلاف النوبه عن مصر. على أن أخطر ما حصل هو احتلال الغرب مع قوى الدين السياسي الإرهابي ليبيا وما آلت إليه من أمراء حرب توابع، وهذا كان ولا يزال مخطط امريكا ضد سوريا.
يرتكز ويهدف مختلف هذه التصنيعات في الوطن العربي على وفي خدمة الكيان الصهيوني لأن مزيداً من تفكيك الوطن العربي هو إطالة عمر الكيان لأن التحرير لن يكون إلا عروبياً.
_________
ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….