قراءات في الراهن العربي من النظري إلى التطبيقي (حلقة4)، عادل سماره

القومية الحاكمة والقومية الكامنة

واختلافهما بين المركز والمحيط

يُقر مختلف، بل العديد من، المفكرين والساسة بالمرحلة القومية كمرحلة تعبرها مختلف الأمم في فترات زمنية متفاوتة من حيث فترة دخولها أو امتدادها أو كونها أممًا قديمة (الصين، الهند، العرب، الأحباش) أو مُحدَثة (الولايات المتحدة، كندا). لذا، ليس من السهولة بمكان توفر إجماع على تعريف القومية ولا، بشكل خاص، على الموقف منها. لكنها تبقى مرحلة في تطور المجتمعات والفكر السياسي. 

ومع أن العالم لا يزال اليوم في مرحلة الدولة القومية، إلا أن الكثير من القوى والإيديولوجيات تقف من القومية، بمختلف توجهات المدارس والنضالات القومية، موقف العداء المطلق كما تفعل الحركة التروتسكية هادفة من وراء هذا الموقف، الذي يبدو فكريًا نظريًا، لخدمة الكيان الصهيوني الأشكنازي. فهي تعلم أن تحرير فلسطين هو عروبي في التحليل الأخير، ولذا تناصب المسألة القومية عمومًا العداء من أجل تشويه المسألة القومية العربية، وتغطي ذلك بقراءات مشوشة ومشبوهة لموقف ماركس من القومية وهو الموقف المحكوم بالظرف الأوروبي في حينه، وخاصة دور القوميات الأوروبية في موجة القومية الأولى كموجة استعمارية. وفي هذا تلتقي التروتسكية مع الإمبريالية في عدائها للقومية العربية ودعمها للكيان الصهيوني.

كما يقع الكثير من الساسة والمثقفين أيضًا في مغطس الخلط بين القومية والشوفينية، حيث يُعمِّمون الشوفينية على أي نضال قومي. وهذا اتضح في التقارير والتعليقات والتحليلات الإخبارية والإعلامية عموما عن الحرب الدفاعية الروسية ضد أوكرانيا، حيث جرى الخلط بين خبث وجهل ووعي من جهة وبين إيديولوجيا النازيين/الجدد القوميين الشوفينيين الأوكران من جهة ثانية وبين القومية عمومًا وإطلاق وصف  القوميين وفقط على الأوكران بقصد تعميم هذا النمط القومي العنصري على المسألة القومية في العالم عموماً! مما ساهم في الخلط النظري/السياسي. 

فالقومية، وخاصة في بلدان المحيط المستعمرات والمستقلة حديثًا، هي إيديولوجيا تحرر وطني تضم معظم الطبقات الاجتماعية غير ذات المصلحة مع المركز الرأسمالي الإمبريالي. وفي هذه الحالة من الخبل نعت القومية بأنها شوفينية أو رجعية أو خلطها/دمجها بالشعبوية. 

قد يقول البعض إن التحرر الحقيقي طبقي، أي على يد الطبقات الشعبية ولصالحها، وهذا صحيح. ولكن، في مرحلة التحرر الوطني والتحرير يمكن إنشاء تحالف واسع على مستوى قومي وخلال النضال يفتح الشعب الطريق للأكثر صدقا وفاعلية وجذرية.

تكمن أهمية المسألة القومية في أنها تخص الأمة بأجمعها، وفي مرحلة تاريخية محددة في تطور كل أمة، وبالتالي هي مختلفة من حيث علاقتها بالمجتمع المحدد عن الكثير من النظريات التي يمكن أن تبقى في المجرد وبالتالي ليس شرطًا أن يتعاطى المواطن معها أو يمسه كثيرًا تعاطي مواطنين آخرين معها.

نقطة نقاشنا هنا في اتجاه آخر، في ممارسة الانتماء القومي على أساسه الطبقي، وتحديدًا ما أزعمه بأن أساس الموقف القومي هو طبقي. ومعروف بالطبع أن مجرد مناقشة المسألة القومية من مدخل طبقي هو أمر جدلي جدًا، يُثير نقاشًا ويثير زعمًا بالتباس فكري وحتى تُهمًا بالخلط. 

لقد أشار ماركس إلى هذه المسألة فيما يخص التجربة الأوروبية الغربية، أو ما أُسمي عصر القوميات، نسميها موجة القومية الأولى. حينها أصرّ على أن القومية سلاح بيد البرجوازية. وكان هذا الاستنتاج طبيعيًا لسببين على الأقل:

■ الأول: لأن للطبقة البرجوازية مصلحة في السيطرة على السوق القومي من أجل تسويق بضائعها في سوق محمية لها. وهذا بالطبع رغم تبني الأنظمة الرأسمالية هناك الشعار اللبرالي المزيف حرية التجارة (تحرير التجارة الدولية Liberalization of International Trade.

خبيث وتضليلي هذا الموقف المستمر حتى اليوم، أي التغني بحرية التجارة إلى جانب التمسك العملي بالحماية! وهذه واحدة من أكاذيب رأس المال الكبرى ولكن المحاطة بهالة من خطاب بليغ مزيف.

■ والثاني: لأن الثورة الصناعية، وفي سياق تطورها التقني دفعت بالبرجوازية للبحث عن أسواق خارج السوق المحلي، سواء للتصدير أو للبحث عن المواد الخام وتصدير رأس المال، واليوم تصدير رأس المال العامل الإنتاجي والاستثمار الأجنبي المباشر…الخ؛ الأمر الذي أدى إلى حروب بينْ-أوروبية في منتهى الوحشية على المستعمرات، وبالطبع ضد شعوب المستعمرات أيضاَ، لتكون مرحلة الاستعمار الرأسمالي الغربي الأكثر دموية في التاريخ، وقد يكون لنا الزعم بأن الإنسانية لن تسمح لاحقًا بمثلها. من أجل هذا كان لا بد للبرجوازية أن تستخدم الشعور القومي لدى الطبقات الشعبية وكأنها تدافع عن الأمة، وهو استخدام خبيث لا يسمح ببساطة بأن يرفضه أحدٌ حيث يبدو كمن يتولى يوم الزحف! في حين هو مجند للحفاظ على نهب البرجوازية للأمم الأخرى.

ومع أن ماركس لم يُطوِّر نظرية ناجزة في القومية، وليس مطالباً كإنسان بإنتاج كل شيى، إلا أنه وباكراً كان قد وضع اسساً في المسألة القومية توضح موقفه وترد على الذين يُصرُّون على تناقض الماركسية مع القومية بالمطلق فيقول:

“إن صراع البروليتاريا مع البرجوازية، وإن لم يكن في الجوهر، ولكن في الشكل، هو في البداية نضال قومي. يجب على البروليتاريا في كل بلد، بطبيعة الحال، أن تحسم الأمور أولاً مع برجوازية بلدها “.

 أي ان النضال القومي للبروليتاريا حق وواجب لهزيمة البرجوازية والتي يراها ماركس هنا لا وطنية أو لا تخدم أكثرية الأمة، وإن لم يوضح ذلك.

ثم يواصل:

” ويؤخذ على الشيوعيين كذلك رغبتهم في إلغاء البلدان والجنسية. العمال ليس لديهم بلد. لا يمكننا أن نأخذ منهم ما لم يحصلوا عليه. بما أنه يجب على البروليتاريا قبل كل شيء أن تكتسب التفوق/السيادة السياسية، يجب أن تنهض لتكون الطبقة القائدة للأمة، ويجب أن تشكل هي بنفسها الأمة، فهي، حتى الآن بهذا المعنى قومية وإن لم تكن بالمعنى البرجوازي للكلمة”

وتعليقًا على ثورة كوميونة باريس، كتب إنجلز:

 “إن وحدة الأمة لم تتعرض أبدًا لأي تهديد، ولكنها كانت ستنظم على يد دستور الكوميونة. ففي جميع دعواتها إلى سكان مختلف المقاطعات الفرنسية دعت الكميونة جميع الكميونات الأخرى لاتحاد فدرالي مع كوميونة باريس من أجل ترتيب قومي تخلقه الامة الفرنسية لنفسها للمرة الاولى في تاريخها” ماركس إنجلز، البيان الشيوعي.

Marx and Engels, The Communist Manifesto. Ed. By Samuel J. Beer Appleton-Century-Crofts, Inc. New York. 1955. P. 21. 145Ibid, P. 29.

موثق في كتاب عادل سماره:

“Imprisoned Ideas: A Discussion of Palestinian, Arab, Israeli and International Issues”.  Part 5, The Communist Manifesto, Nationalism and Arab Nationalism, 1998, p.p.  128-130.

بدوره، فقد طوَّر لينين المسألة بشكل أكثر ميدانيا في قيامه بالفصل بين مستوين طبقيين من القومية:

“…وهذا يتطلب أيضًا أن نميز بين القوميات “من فوق” و “من أسفل”، علاوة على القوميات الإمبريالية والقوميات المناهضة للإمبريالية. لقد أدرك أحد المحللين الأوائل للقومية هذه الفروق بوضوح شديد (لينين 1964)، في إدانته لشوفينية الأممية الثانية المتدهورة ودعم حق الأمم المضطهدة في فصل الدولة”

.

)Reclaiming the Nation The Return of the National Question in Africa, Asia and Latin America Edited by Sam Moyo and Paris Yeros First published 2011 by Pluto Press 345 Archway Road, London N6 5AA and 175 Fifth Avenue, New York, NY 10010 (.

نلاحظ هنا الفارق فيما يتعلق بالقومية الحاكمة والكامنة بين المركز والمحيط. ففي حين تطابق موقف القومية الحاكمة والقومية الكامنة في أوروبا خلال الحرب الإمبريالية الأولى وحتى القوى الشيوعية خنعت للبرجوازية، فإن التناقض بين القومية الكامنة والقومية الحاكمة في الوطن العربي واسع وحداً.

ففي أوروبا في الحين المذكور، سقط اليسار وحتى الشيوعي في خدمة الدور الاستعماري والإمبريالي لبلدانهم مأخوذين طبعاً بأن هذا الدور هو سبب اساس في رفاه بلدانهم بما فيها اليسار نفسه أي أن نهب الأمم الأخرى في المحيط هو “إنجاز” لبرجوازيات الغرب أساساً مع حصة أقل، ولكن حصة، للطبقات الشعبية! بينما في الوطن العربي، فإن البرجوازية الحاكمة كمبرادورية طفيلية متخارجة المصالح، ولذا فإن موقفها ليس جاذباً للطبقات الشعبية، هذا وإن كان احتجاج هذه الطبقات ما زال شبه مكتوم.

من اللافت أن ما سعَّر الحروب الأوروبية/الأوروبية كحروب أوروبية/أوروبية وحروب في المستعمرات على هذه المستعمرات هو أن مستوى التطور الاقتصادي، وتحديدًا الصناعي، في أوروبا الغربية كان متقاربًا ولا يزال وهو ما خلق دافعًا للتصارع على الأسواق.

 وهذا يفتح على مسألة هامة لدى الاقتصاديين في مدرسة التبعية التي ذَوَت وانتقل معظم رموزها إلى مدرسة النظام العالمي اللتين تتقاربان في قراءتهما لأسباب لُحاق اليابان بأوروبا ومن ثم استنتاج مقولة “لا يابان بعد اليابان”؛ بمعنى أن أوروبا لن تسمح بتطور مناطق أخرى رأسماليًا، أي سوف تحتجز تطورها، وأن اليابان أفلتت في ظرف خاص، ولذا يمكننا تغيير هذا الاستنتاج، على ضوء التطور المتوازي لأوروبا الغربية، بأن قرار أوروبا هو: “لا أوروبا بعد أوروبا”.

          يلعب الاستعمار والتخلف والتبعية دورًا بارزًا، بل حاسمًا، في تطور المسألة القومية في المستعمرات. فإذا كانت أوروبا الغربية قد تطورت اقتصاديا ومن ثم اجتماعيا بدرجة كبيرة من التمحور على الذات والتحكم بالفائض وتحقيق معدلات تشغيل عالية، وتوفير أجور مقبولة حياتيًا وليست بالضرورة مقبولة من حيث كونها أجورًا، أي نتاج استغلال، فهذه أمور لم تتواكب مع المد القومي في المحيط الذي تواصل نزيف فائضه للمركز مما أضعف التراكم لديه لصالح المركز. 

          فالاستقلال القومي للمحيط كان بشكل أساسي استنهاض الثقافة القومية والهوية القومية لمواجهة التحدي الذي يتخذ شكلا قوميا، وربما دينيا ثقافيا، بينما هو أساسًا اقتصادي بأدوات عسكرية وثقافية وهدفه التراكم، أي نهب فوائض بلدان المحيط وحتى ثرواتها الطبيعية. 

لذا، ما إنْ طُرد المستعمِر سياسيًا حتى واجهت البلدان المستقلة حديثًا معضلة أن الاستقلال سياسيٌّ فقط. حينها عادت كل طبقة للبحث عن مكانتها الاقتصادية فكان لهذا تأثيره الطبقي الحاسم على المسألة القومية وخاصة في الوطن العربي.

حتى اليوم على الأقل، لم يُعلن نظام حكم عربي أنه ضد القومية العربية، ولكن معظم هذه الأنظمة مارست مواقف عملية ضد الوجود الجسدي للشعب العربي، ودخلت حروبًا في ذيل المستعمِر لتدمير قُطريات عربية واستخدمت جامعة الدول العربية لتبرير هذه الحروب ولاستدعاء الناتو لتدمير قطريات عربية كما حصل ضد العراق 1991 و2003

 (شاهد الفيديو: https://youtu.be/FOFY5oTgwkw)، وضد لبنان حينما طلبت ثلاث أنظمة عربية من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني الإشكنازي مواصلة العدوان على لبنان لتدمير وتصفية حزب الله، واستدعاء الناتو لتدمير ليبيا كما حصل، والاستماتة (خلال عامي 2011 و2012) لتدمير سوريا. 

ملخص القول إن هذه الأنظمة، بما هي تمثل البرجوازية الكمبرادورية العربية التابعة، تمثل القومية الحاكمة التي هي قُطرية جوهريًا ومعادية للأمة العربية والوحدة والتطور والتكامل الاقتصادي العربي، بل وتحولت إلى إمبريالية ذاتية ضد الأمة ولصالح الإمبريالية الأم ومع ذلك تزعم أنها قومية. ومن هنا كان طبيعيًا وصفها بالقومية الحاكمة التي هي جوهريًا قُطرية.

وفي الجانب الآخر، فإن الانتماء القومي للطبقات الشعبية هو الانتماء الحقيقي، ولكنه كامن، بمعنى أنه ممنوع من التعبير عن نفسه ديمقراطيًا، بمعنى أنه لو كان له حق الاختيار لاختار الوحدة العربية. فما هو المانع الذاتي الذي يمنع عامل بلا عمل في مصر من العمل في الخليج؟! إن توسيع شبكة تشغيل عربية يخلق طبقة عمالية موحدة ويشكل قاعدة طبقية للمشروع الاشتراكي العربي، وهذه قوة القومية الكامنة ومصدر الرعب للقومية الحاكمة. ولذا يتم استبدال العمالة المصرية في الخليج بعمالة من جنوب شرق آسيا، لأن هؤلاء مؤهلون لتقبُّل القمع أكثر من العمال العرب الذين يمكن أن يطالبوا بشروط أفضل بحكم الرابط القومي.

تشكل المصلحة المادية الحياتية والمستقبلية للطبقات الشعبية العربية، والتي مآلها إلى الاشتراكية والوحدة، عاملًا (بل هو الأساس) للتطوير العصري والطبيعي لمختلف أسس تكوين الأمم، بما هو العامل الأكثر دينامية اليوم أي المصلحة المادية للطبقات الشعبية في الوحدة أو الاتحاد العربي، لأنه يُعيد إليها حقها في الثروة العربية التي تتقاسمها أنظمة القومية الكامنة، وإن كان تقاسمًا لا متكافئًا. فما تحصل عليه أنظمة العجز العربي لا يساوي شيئًا مقارنة بما تحصل عليه دول الريع النفطي، ولكن الطرفين ينهبان حقوق الأمة وخاصة حقوق الطبقات الشعبية، كل طرف حسب فرصته. وبالطبع، فإن ما يحصل عليه حكام النفط من ريع هو الأقل مقارنةً بما تحصل عليه الشركات النفطية الغربية.

بقي أن نشير إلى أن أكثر طبعات القومية وضاعة هي ما نسميه الموجة القومية الثالثة، والتي هي تصنيع من أنظمة المركز الرأسمالي مستخدمة كمبرادور المذاهب والإثنيات والطوائف (كما أشرنا في الحلقة رقم 3).

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….https://kanaanonline.org/2022/10/27/%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7%d9%86-3/