تسليم أسانج أصبح وشيكاً: ستكون نهاية الصحافة، سعيد محمّد

اُستنفذت الخيارات القانونيّة تقريباً أمام جوليان أسانج لوقف تسليمه إلى الجلاد الأمريكيّ، وقد تُقدم الحكومة البريطانيّة على تنفيذ مذكرة الاسترداد في أيّ لحظة هذا الأسبوع ليواجه الصحافيّ الطريد والأسير منذ أكثر من 13 عاماً قائمة طويلة من التهم تصل عقوبتها حال إدانته إلى السجن ل175 عامّاً. ومع تخلي العالم عن هذا الرجل الذي نشر على موقعه وثائق سريّة حكوميّة أمريكيّة كشفت طرائق عمل الإمبراطوريّة وإجرامها سيكون أيّ عمل صحافي حقيقيّ بمثابة جريمة تعاقب عليها قوانين الغرب الهزليّة.

سعيد محمّد – لندن

رفض قاضي محكمة ملكيّة بريطانيّة عليا الأسبوع الماضي طلبين من فريق الدّفاع القانونيّ عن الصحافي الأسترالي الجنسيّة جوليان أسانج لوقف تسليمه إلى الولايات المتحدة وفق مذكرة استرداد تقدم بها ممثلون قانونيون عن الدّولة العظمى. ويزيل هذا الرّفض الذي أعلنه جوناثان سويفت، وهو قاض معروف بعلاقاته الوثيقة بوكالات الأمن والاستخبارات البريطانية، آخر خيارات التقاضي القانوني لوقف أمر تسليم أسانج إلى جلاده الأمريكيّ والذي كانت وقعت بتنفيذه بريتي باتيل وزيرة داخليّة حكومة بوريس جونسون في يونيو/ حزيران العام الماضي. 

وقد تقدّم محامو أسانج بطلب نهائيّ لاستئناف هذا القرار الأخير وهو الفرصة النهائيّة المتاحة أمامه الآن وفق النظام القضائي البريطاني لتجنب التسليم. وفي حال قُبل الاستئناف، يتعيّن أن تنتقل القضيّة إلى جلسة علنيّة أمام قاضيين جديدين لدى المحكمة الملكيّة العليا، أما إذا رُفض فيمكن أن يجد أسانج نفسه في أيدي سجانين أمريكيين خلال أقل من 24 ساعة حيث سينقل مخفوراً إلى الولايات المتحدة ليواجه ثمانية عشر تهمة بانتهاك قانون التجسس تصل عقوبتها، حال إدانته، إلى السجن لمدة 175 عاماً. ويقول متابعون لإجراءات اعتقال مؤسس موقع ويكيليكس الشهير بأن السلطات البريطانيّة حريصة على إتمام عمليّة التسليم فور إزالة العقبات القانونيّة لتجنّب الإحراج الذي قد تتعرض له لندن إذا أصدرت المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان قراراً بمنع التسليم. ويحق لأسانج حال رفض المحكمة البريطانية العليا التماسه لاستئناف قرار القاضي سويفت التقدّم بطلب عاجل لمنع التسليم لدى المحكمة الأوروبيّة – التي يعارض المجلس المنبثقة عنه بشدة “احتجاز جوليان وتسليمه ومحاكمته” لأنه يمثل “سابقة خطيرة بحق الصحافة والصحفيين” -. والحكومة البريطانية، وفق الاتفاقيات ذات العلاقة، ملزمة قانونياً بالخضوع لقرارات المحكمة الأوروبيّة، ولذلك فإن  الحكومة البريطانيّة حريصة على تسليم أسانج قبل تمكّن المحكمة الأوروبيّة من الاستماع لاستئنافه وإصدار قرارها بشأنه.

ويمكن في هذا السيناريو أن يتم تسليم أسانج مع بداية الأسبوع الحالي ليَمثل من فوره أمام محكمة ابتدائية أمريكية في فرجينيا، حيث يفوز المدّعي العام الأمريكي عادة بمعظم قضايا التجسس. وقد تعهدت السلطات الأمريكيّة لبريطانيا بعدم تعريض أسانج لسوء المعاملة الذي تشتهر به سجونها، وذلك بعدما رفضت محكمة ويسمنستر الابتدائية طلب التسليم الأمريكيّ “بسبب قسوة ظروف الاعتقال في السجون الأمريكيّة والتي لن تمنع السيّد أسانج من إيجاد طريقة للانتحار” وأمرت بإطلاق سراحه، قبل أن يعمد محامو الجانب الأمريكيّ لتقديم استئناف قبلته المحكمة البريطانية تضمّن “تأكيدات” بعدم احتجازه في سجن (إي دي إكس) في فلورنسا بولاية كولورادو – الذي يخضع لإجراءات أمنية مشددة قصوى -، وأن يتاح له حال إدانته أن يقضي عقوبته في أستراليا إذا طلبت حكومة كانبيرا ذلك.

ولا تستحق هذه التأكيدات حتى قيمة الورق الذي كتبت عليه، إذ أن المحاكم في الولايات المتحدة تقبل ما يعرف بالأدلّة السريّة – أي تقارير المخابرات الأمريكيّة وتعتد بها قانونياً -، وتتوفر البلاد على العديد من السجون ذات الإجراءات المشددة سوى سجن كولورادو والتي تدار بذات الصيغة المعتمدة في معتقل غوانتنامو ذي السمعة السيئة، وليس في تلك “التأكيدات” المزعومة ما هو ملزم قانونياً، ويمكن دائماً لسلطات السجن الأمريكيّة تطبيق أيّة إجراءات تراها مناسبة إن لم يلتزم أسانج بتعليماتها في أي وقت بعد اعتقاله، فيما قد تستغرق أي طلبات للاستئناف أمام المحاكم الأمريكيّة عقداً أو عقدين من الزمن قبل البتّ بها بشكل حاسم ما سيكون كافياً لدفع أسانج إلى الانتحار، أو تدبير حادث عرضي ينهي حياته.

ولم يتسن التّيقن بعد من أنباء تحدثت عن أن الولايات المتحدة جهّزت بالفعل طائرة خاصة لنقل الصحافي الأسير من لندن إلى الجانب الآخر من الأطلسي معدّة للإقلاع في أي وقت. وتكون طائرات المخابرات المركزيّة الأمريكيّة التي تتولى عمليّات النقل الاستثنائي للمعتقلين والأسرى مجهزة بفريق من السجانين والأطباء المدربين على كسر إرادة البشر والمسلحين بالمسدسات وعصابات العينين والمهدئات والأغلال والحقن الشرجية والحفاضات إضافة إلى الأزياء المخصصة للسجناء.

عمليّة تسليم جوليان أسانج – إذا تمّت – ستكون تتويجاً لمطاردة قاسية قادتها وكالة الاستخبارات الأمريكيّة وتواطأت بها إلى جانب أعلى المستويات في النظام الأمريكيّ حكومات بريطانيا والسويد وأستراليا وإسبانيا والأكوادور ، واستمرت منذ 2010 بعدما نشر موقع ويكيليكس عشرات الآلاف من الوثائق الرسميّة الأمريكيّة التي مثلّت أكبر إدانة موثقة للأساليب الإجراميّة التي تتبعها نخبة واشنطن في فرض هيمنتها على العالم بما في ذلك السيطرة التامّة للمخابرات الأمريكيّة على أجهزة تتبع السيارات والتلفزيونات الذكية ومتصفحات الانترنت وأنظمة تشغيل معظم الهواتف الذكية، أنظمة تشغيل الكمبيوترات (مايكروسوفت ويندوز وماك ولينكس)، وسجلات جرائم الجيش الأمريكيّ في العراق وتعذيب المعتقلين في غوانتنامو، وتفاصيل تجسس الدبلوماسيين الأمريكيين على كبار موظفي الأمم المتحدة وممثلي الدول فيها، والتنصت المنهجيّ على هواتف المسؤولين في عدد من الدّول، ودعم الانقلابات العسكريّة، وتنفيذ عمليات قتل في حروب غير معلنة، وتلقي هيلاري كلينتون وغيرها رشاوى من المصارف الكبرى وأصحاب رؤوس الأموال.  

ووقفت صحافة العالم في أغلبيتها الساحقة موقف المتفرّج من هذه المطاردة لأحد أهم الصحافيين في تاريخ العالم المعاصر، بل وشاركت ذي غارديان البريطانية في تقديم معلومات ساعدت على توجيه الاتهام لأسانج بعد أن سربت للمخابرات الأمريكيّة الأكواد السريّة التي شاركتها بها ويكيليكس لنشر بعض تلك الوثائق، فيما بدت ادعاءات الغرب بتبنى الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان وحريّة التعبير وحكم القانون عارية تماماً من أيّ مضمون.

ومن شأن إدانة أسانج بالتهم التي فصّلتها حكومة الولايات المتحدة تحت عنوان مكافحة التجسس أن تصبح بمثابة سوابق قانونيّة تجاه أي محاولة لفضح ممارسات اجراميّة ترتكبها نخبتها الحاكمة حتى وإن قام بها مواطنون غير أمريكيّون وفي أيّ مكان في العالم. إنها فعلياً نهاية الصحافة.

ويتوازى هذا التواطؤ الذليل من قبل السلطات التنفيذيّة والقضائيّة والإعلاميّة في الغرب ضد أسانج مع تجاهل شعبي مخجل، وغياب كليّ ونهائيّ لليسار. ولم تنجح محاولات حشد محتجين ضد أسره من قبل السلطات البريطانية – دون توجيه تهم ومن ثمّ احتجازه والتضييق عليه منذ إبريل / نيسان 2019 في سجن بلمارش اللندني المخصص للمدانين بجرائم خطيرة – في جلب أكثر من عدّة عشرات في أحسن الأحوال. وانتهت نداءات زوجته البريطانية الجنسية وأولادهما القصّر بلم شمل العائلة إلى أذن صمّاء في أعلى مراتب السلطة البريطانية المتخصصة بإرسال قواتها لنشر وباء “الديمقراطيّة” فيما وراء البحار: في العراق وأفغانستان، وسوريا، واليمن، وليبيا. وظهرت الحكومات الاستراليّة المتعاقبة بين اليمين واليسار على حقيقتها كمجرد تشكيل عصابي خاضع بالكليّة لرغبات السيّد الأمريكي وغير قادر على تقديم أدنى مستويات الحماية لحامل جواز السفر الأسترالي في مواجهة تغوّل غير قانوني لأنظمة شموليّة ضد صحافيّ فرد، لم يرتكب جرماً بقدر ما أدى واجباً نبيلاً ينبغي للبشرية أن تظل مدينة له به على مر الأجيال. وارتكبت السلطات الأكوادوريّة في عهد الرئيس السابق لينين مورينو انتهاكات فظيعة بمقاييس القانون الدّولي عندما أسقطت الجنسية الأكوادورية التي حصل عليها أسانج بصفة قانونيّة، وسمحت للشرطة البريطانيّة بدخول حرم السفارة الإكوادورية في لندن – حيث كان أسانج يقيم كلاجىء سياسيّ منذ عدة سنوات – وسهلت عمليّة أسره على وجه غير قانونيّ. وقد حصلت حكومة مورينو على رضى واشنطن وقتها، وساعدها الرئيس دونالد ترامب في الحصول على قرض كبير من صندوق النقد الدولي رغم ضعف ملاءتها الاقتصادية.  

إن جوليان أسانج ليس مستهدفاً لذاته من قبل النخبة الأمريكية ومنظومة الهيمنة الغربيّة بقدر ما يراد له أن يكون درساً تاريخياً قاسياً لكل من تسوّل له نفسه بأن يقوم بما قام به أسانج مستقبلاً تجاه فضح جرائم الأنظمة المتلفعة ب”الديمقراطيّة”: حيث يمتلك المواطنون كل الحقوق في تناول الطعام ما داموا خاضعين، مطأطئين رؤوسهم، وينفذون رغبات السادة دون اعتراض.

:::::

“الأخبار”

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….