تتعدد خلفيات التحليل في اي مجال بتعدد قدرة وطبيعة رؤية الكاتب. يُحلل البعض عاطفياً، ويحلل البعض انبهارا بمن يعمل لأنه هو لا يناضل ولا يعمل، ويحلل البعض بالبحث عن من يحميه فيقدس من يعتقد أنه سيحميه أو يقاتل عنه ويحلل البعض بنوع من الدقة ولكن بمدى جغرافي ضيِّق فيحجب الرؤية عن نفسه وغيره. ويحلل البعض كموظف أو أجير فيحصر “نصائحه” في تعليمات سيده ويحلل البعض من منظور أن لا ينقده أحد فيتلطى هنا وهناك…الخ
في عالم مفتوح على بعضه سواء بالقوة أو الرغبة، لا بد من منظور على اتساع النظام العالمي وموقفه من الحالة قيد التحليل وموقعها فيه كحالة محددة المقصود تحليلها وإعطاء راي فيها.
هو عالم متسع بما يفوق قدراتك الشخصية، لذا مثلاً، وأسوقها هنا فكاهةً، ذهبوا إلى الذكاء الاصطناعي أو صنعوه ليُحيط بشكل إلهي بالعالم وربما يفتك بالعالم مما يجعل ما يسمى عودة المخلِّصين لدى كل الأديان طريق الخلاص (لدى الأباضية: يموت الإمام لألف سنة، ولدى السيخ مات حتف أنفه، ويرى مسلمون أن الله أماته وسيوقظه في آخر الزمان، أم أنه خرج وغاب وسيعود ولو لهُنيهة، ولدى النصارى المسيح المخلص …الخ) فقد يكون الذكاء هذا مخلصا لهم أو قاتلا!!!
الجزائر في النظام العالمي:
دون عودة لتفصيل تاريخي، هيمن وسيطر الغرب الراسمالي على العالم ربما من الحقبة التجارية أي قبل أربعة قرون على الأقل وبالتالي ساد الغرب واغتصب وقتل ونهب وحتى قشّط وفي أفضل الأحوال سيطر بالتبادل اللامتكافىء.
هذا إلى أن كانت الثورة البلشفية 1917 والتي خلقت مَن واجه وقاتل الغرب وهزمه إلى أن هُزم هو على يد الراسمالية الإمبريالية الاحتكارية في مرحلة “تطورها/تغولها أي اللبرالية الجديدة” . أي أن صعود السوفييت غيَّر نظام العالم كما غّيَّره سقوطه ايضاً. ويبدو ان اللبرالية الجديدة كذكر النحل دوره مضاجعة واحدة ويموت.
بلى، فاللبرالية الجديدة وصلت حدها وها هم مفكروها وأيديولوجيوها يبحثون ويعرضون بدائل لها لإنقاذها كي تبقى أنيابها مُنشبة في عنق العالم. وهي في حرب مع أو ضد الصين التي تقدم نموذجا هجينا ينسجم مع النظام العالمي ويختلف معه في نفس الوقت (لهذا حديث لاحق).
في تطورات العالم هذا كانت تجربة الجزائر أو مرت بما يلي:
· الخضوع لوحشية الاستعمار الفرنسي لمئة وثلاثين عاماً. والسمة الأساسية لهذه الفترة هي النهب والقتل.
· ثم انتصار الثورة من 1954-1962 ولعب الجزائر دورا هاما في كتلة عدم الانحياز وهي كتلة رخوة ذابت كغيمة في الصيف وتم اغتنام خراجها من المركز الغربي الراسمالي. ولعبت الجزائر دوراً مميزاً في حرب تشرين ضد الكيان كما لعبت دورا جيدا بين الأنظمة العربية لكنه لم يكن خارج الإجماع الهزيل للجامعة العربية حيث كان اعتراض الجزائر على كثير من كوارث مواقف جامعة هذه الدول اعتراضاً خجولا وحتى هزيلاً. وأعتقد أن ضبابية موقف الجزائر كان نتيجة إسقاط بو مدين لنظام بن بللا وهو انقلاب لم يكن له معنى ولا ضرورة لكنه قطع طريق أن تصبح الجزائر مثل كوبا وأفضل.
· في حقبة النيولبرالية تلبرلت الجزائر، مثل مختلف الجمهوريات العربية في ذيل اللبرالية الغربية وقد ثبت أن هذا اللون من العلاقة هو مقتلها اي علاقتها الحميمة بالغرب من جانبها والعدوانية من جانبه، وتراجع النهج التنموي لعهد بو مدين لصالح التبعية وهيمنة نظام اقرب إلى الدين السياسي أي الرئيس الأمين زروال، إلى أن كانت العشرية السوداء التي كادت تطيح بتراث الثورة الجزائرية بشقيها الشعبي والسياسي.
· كما قام الشعب الجزائري جميعه، وهذا مهم، باقتلاع الاستعمار الفرنسي بشقيه الاستيطاني والاقتصادي/العسكري/الثقافي إقتلع ايضا نظام النيولبرالية في الجزائر وأطاح بالفساد وبالرئيس بو تفليقه وذلك عبر حراك من كل الجزائريين ومن ثم بالانتخابات.
وفي حدود ما يصلنا، فإن الجزائر تبني قوتها العسكرية بشكل حثيث. هل هذا لأنها تتوقع عدوان النظام الصهيوني الحاكم في المغرب مع الكيان الصهيوني؟ أم لأنها تجهز نفسها لتكون الثقل الشمالي لأفريقيا مقابل جنوب إفريقيا مما يأخذ كثيرا من إفريقيا نحو بريكس.
تفيد تقارير جزائرية بأن قيمة الصفقة العسكرية التي ستوقع عليها كل من الجزائر و روسيا ستتجاوز 17+ مليار دولار، من بينها 28 مقاتلة Su-57E , و 28 مقنبلة Su-34E , و إضافة سرب جديد من Su-30SM2 , و نظام الصواريخ التكتيكية Iskander-K , و 4 غواصات جديدة مع 2 أخرى تعمل بالطاقة النووية و S-500 .
كما تشمل الصفقة كذلك : •الدرون لانسيت + (إنتاج محلي) •أنظمة دفاع ساحلي •أنظمة تشويش •100 ألف كلاشنيكوف Ak-12 + رخصة إنتاج 100 ألف قطعة أخرى محلياً على مدار السنوات القادمة •معدات و تجهيزات جديدة لمختلف القوات إلخ .
كما تسلمت الجزائر 20 طائرة من نوع سوخوي57s من أصل 35طائرة.
وقد تم التوقيع على وثيقة الشراكة الاستراتيجية “المعدّلة” خلال زيارة الرئيس تبون إلى موسكو وتتحدث المؤشرات عن صفقات وشراكات ضخمة في عدة مجالات تم إعدادها والتفاوض عليها لأكثر من سنة.
لكن السؤال الآخر، هل تقرن الجزائر البناء العسكري بالبناء الاقتصادي؟ هل هناك خطة لاستعادة البنية التي اسستها حقبة بومدين؟ مثلاً جنوب إفريقيا في فترة الفصل العنصري أسست لبنية مدنية وعسكرية، وإيران الشاه رغم عمالة النظام كان قد اسس بنية مدنية وعسكرية، وكوبا أرست البنيتين رغم أنها ورثت عن باتيستا بلدا بالياً.
ليس بوسعنا لإجابة على هذا الأسئلة ونذكرها لأهميتها في كل من مستوى بناء البلد وبناء دور للجزائر خارج حدودها الجغرافية.
الجزائر في النظام العربي:
لا شك أن الجزائر هي مع القضايا العربية الرئيسية فلم تسجل على نفسها وضاعة الكثير من مواقف وقرارات الأنظمة العربية الأخرى سواء في استدعاء الغرب لاحتلال العراق ولا ليبيا ولا سوريا ولا الاحتلال السعودي الإمارات لليمن والبحرين…الخ. ولا وقوف قوى سياسية عربية مشبوهة وقوى دين سياسي مشبوهة لصالح تدمير ليبيا وسوريا وقبلهما العراق.
لكن موقف الجزائر الرسمي تجاه فلسطين كما هو تجاه سوريا بقي موقفاً خجولاً هشاً وهذا لا يليق بتاريخ الشعب مما يعني أن موقف النظام لم يكن موقف الشعب وهذا أمر هام. ويبدو أن الشعب لم يلجم النظام تماماً.
لا يوجد منطق لمن قد يقول بأن الجزائريين أقل عروبة من غيرهم أو لا يعتبرون أنفسهم عربا. وليس شرطا أن كل الجزائريين عربا، أو أن البربر عرباً أو ليسوا عرباً فعالم اليوم يشترط على من يكافح لأخذ موضع محترم فيه أن يكون أوسع من الإثنيات والطائفيات والجهويات والقبائليات والعشائريات وحتى من القومية المغلقة والشعبوية والعرقية. فالجزائر كما كل قطر في هذا الوطن الكبير هي ضمن العروبة. والعروبة هي الانتماء الوطني لضرورة تكوين كتلة كبيرة قادرة على التنمية والوحدة او الاتحاد لتصمد أمام كتل كبرى متغوِّلة بمعنى أن المصلحة المعيشية/المادية للطبقات الشعبية في كل هذا الوطن هي التي يجب أن تدفع لتجاوز القُطرية التي هي بغيضة في التحليل الأخير وتصنيع إمبريالي وحالة من تخليد التبعية، نحو كتلة عروبية كبيرة للوصول إلى حماية الذات والموارد أو تحريرها وتحرير الإنسان ومن ثم التطور مع الكرامة. وهذا لا ينفي اللغة والتاريخ والدين كإيمان وثقافة وليس كمرض طائفي بغيض ولكنه يركز أكثر على الجغرافيا لأنها موجود موضوعي تفكيكه قاتل وتوحيده عامل تطور وصمود.
هذا المنظور هو الذي يُفترض أن يحكم موقف الجزائر من العروبة.
قد تكون جرعة كبيرة للنظام الحالي في الجزائر بأن يدعو للخروج من كارثة الجامعة العربية الحالية، لجامعة عربية عروبية. لكن عدم الذهاب بهذا الاتجاه أبقي الجزائر ملجومة رغم قدراتها ورغم عدم حاجتها للخضوع للسيطرة المتجددة للنظام السعودي على الجامعة، هذا النظام الذي قام بحروب ضد اقطار عربية لصالح الإمبريالية والصهيونية ومع ذلك تتجدد سيطرته!
قد يكون كافياً رفض الجزائر للعدوان الخليجي على سوريا واليمن والبحرين والسودان والعدوان الخليجي بل ومعظم الرسمي العربي وقوى دين سياسي عربية وإسلامية والغربي على ليبيا…الخ، ولكن، ليس كافياً ابداً إلتزام الجزائر بمقررات الجامعة العربية تجاه فلسطين ولا بمواقف الدول الكبرى سواء في الغرب أو الشرق من فلسطين بمعنى أن الجزائر خاصة وبناء على تجربتها وتاريخها يجب أن تكون مع تحرير فلسطين وأن ترفض مواقف الجامعة العربية ومواقف الفصائل الفلسطينية الداعية لحل الدولتين أو دُعاة الدولة الواحدة مع المستوطنين القدامى والجدد والمستجلبين لاحقاً…الخ.
وليس المطلوب من الجزائر عبر هذا الموقف أن تعلن الحرب على الكيان، بل فقط الموقف المبدئي وخاصة لأن إمكانيات وبنية الجزائر الاقتصادية والثقافية تسمح لها بتحمُّل ضغوطات وردود كل هؤلاء. فهي دولة غنية وليست مدينة ولديها ما يحتاج الآخرين وبوسعها إنتاج واستيراد ما تحتاجه. وخاصة لأن نظامها نظام “وطني” سياسياً وإن كانت الطبقة الحاكمة برجوازية محلية أي ليس النظام ذا بعد تنموي يتبنى ثلاثي:
· التنمية بالحماية الشعبية
· التوجه نحو فك الارتباط بالسوق العالمية الرأسمالية الغربية
· وصولاً إلى التوجه الاشتراكي.
كما أن فك الارتباط بالسوق الرأسمالية الغربية يجب أن لا يعني تبعية ل بريكس بل مشاركة مستقلة في بريكس وحبذا لو بوسع الجزائر دخول بريكس مشتركة مع أكثر من بلد عربي آخر! لكن كما يقول الفلاح الفلسطيني …يا حيف!
مرة أخرى عن فلسطين، فليست مثلا كوريا الديمقراطية اغنى من الجزائر، لكن موقفها مبدئياً.
إن الموقف المبدئي تجاه فلسطين هو موقف الشعب في كل الوطن الكبير، وهو الموقف العروبي.
والحقيقة أن الأمرين مترابطان: أليس واضحاً أن ضعف وتراجع وتقريباً اختفاء الموقف والفكرة العروبية هي التي تسمح بالتجاوز على التحرير والعودة؟ بل التجاوز والتخلي عن كل الأراضي العربية المحتلة من المحيط إلى الخليج من هذا القطر أو ذاك. إن ضعف العروبة هو الذي جعل التطبيع عادياً! ولذا نسميه استدخال الهزيمة.
لذا، فأي بلد صديق أو عدو لا يقف مع تحرير فلسطين هو ضد تحرير اية بقعة عربية محتلة ويتمترس وراء الحلول الخطيرة في فلسطين لأنه لا يريد وصول الأمر إلى تحرير ما أغتصب من غيره وما أُعتُصب من أرضه وتنازل عنه.
تجاهل وتقصير الجزائر:
يبقى أخيراً سؤال يجدر طرحه وإ ن كان مفهوما سببه وهو: لماذا يتجاهل الإعلام العربي المقاوم والمساوم أخبار الجزائر! فالجزائر تقف في وجه العدوان الصهيوني من نظام المغرب، وتقف بقوة مع الجمهورية الصحراوية، وتنتسب بشرف لتجمع بريكس، وهي انتقلت لانتخابات ديمقراطية، مع أن رأينا ليس عشقا ببساطة للديمقراطية، لكنها بمعايير المرحلة حققت ذلك.
من يشاهد الرقص على الهواء للمحللين العرب ومديحهم للنظام السعودي والأمير الشاب …الخ يشعر بالصدمة. فهل يستحق هذا النظام كل هذا فقط لأنه استقبل الرئيس السوري؟ هل يُعقل أن هؤلاء لا يعرفون ان هذا النظام يطمح لقيادة الوطن العربي بما يعزز القطرية والرجعية السياسية والعلاقة القديمة التطبيعية بالكيان واضطهاد المرأة والبذخ والإرهاب بدل التنمية…الخ. أي أن هذا النظام عدو العروبة وهذا النظام يتقاسم السودان مع أمريكا ودم اليمنيين يسيل من فمه؟
صحيح أن هؤلاء المحللين ومحطات تطييرهم على الهواء فيطيرون لأنهم شكلا بل كتلة، وهي ليست عروبية، ولكن أما من حد أدنى إنساني؟ هل أحد الأسباب أن الجزائر لا تشتري بشراً في نخاسة إعلامية؟ إن كان هذا هو الموقف فلها الشكر. ! أليس هذا الاحتواء الأفعواني لسوريا كي لا تتجرَّأ أو تتمكن من لعب دور مع الجزائر لبلورة نظام عربي رسمي تقدمي! هذا مع عدم إغفال أمرين:
الأول: إن بنية النظام في سوريا غير مرشحة طبقياً لما هو ابعد من نظام السوق الاجتماعي.
والثاني: لا يمكن المراهنة على الأنظمة البرجوازية أن تتجه نحو نحو ثلاثي:
التنمية بالحماية الشعبية، فك الارتباط والتوجة الاشتراكي، فهذه الأنظمة أقل من ذلك قرار وثقافة وعزيمة. هذا المشروع هو مشروع حركة التحرر العروبية. ضعيفة لا باس ولكن قوتها الكامنة في الطبقات الشعبية هائلة. فمن يُفعَّلها!
وهذا يفتح على تقصير الجزائر والذي قد يكون مقصوداً! فلا تعرف العرب عن الجزائر سوى عنوانين عظيمين:
“الثورة الجزائرية هزمت فرنسا”.
“وجميع الشعب العربي وقف مع الجزائر ودعمها”
هذا لا يكفي، فلماذا لا توجد دراسات وابحاث وأرشيف ومواقف وخطط نضال وممارسات الثورة الجزائرية في كتب وأفلام وفيديوهات ومساقات أكاديمية…الخ. فالثورة الجزائرية ليست أقل إبداعاً وبطولة من الثورة الصينية والكوبية والفيتنامية ليس لأنها طردت الاستعمار بل لأنها اقتلعت استعمار استيطاني كان بحجم شعب! فكما غُمطت ثورة الخطابي تُغمط ثورة الجزائر.
في عالم الإعلام اليوم تقوم الدول ذات الطمع الهيمني بتصنيع ابطال أقل بكثير من العربي المهيدي، وبن بيلا ورفاقهما.
هل تخشى سلطات الجزائر من تخليد هذه البطولات لأن قامتها أقل من أن تفعل وبالتالي هذا يُحرجها كي تفعل؟ أم لغياب كتاب ومفكرين من الجزائريين والعرب ذوي جرأة على تحدي المرحلة ورفع السقف؟
_________
ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….