نشرة “كنعان”، 8 يوليو 2023

السنة الثالثة والعشرون – العدد 6583

في هذا العدد:

رغم هشاشة وضع الأنجزة إلا أنها في مجتمعنا تتغوّل! د. عادل سماره

راس المال والمثليون، عادل سماره

عن جيش فقد انتصاراته في مخيم جنين، محمد العبد الله

عن غسان كنفاني: بعض الذكريات عنه بعد 51 عاما على تفجير جسده، رشاد أبوشاور

✺ ✺ ✺

رغم هشاشة وضع الأنجزة

 إلا أنها في مجتمعنا تتغوّل!

د. عادل سماره

في بدايات اختراق الأنجزة للمجتمع الفلسطيني في المحتل 1967 والتي بدأت تقريبا عام 1975 إثر العلاقة بين منظمة صهيونية هولندية NOVIB والملتقى الثقافي العربي في القدس الشريف المحتلة وليست فقط “القدس الشريف” كما يسمونها من يعشقون الاحتلال، كان مبعوثو منظمات الأنجزة يتوسلون اي شخص ذي وضع  كي يتحدث إليهم أو يعمل معهم.

ومع تتالي الأيام وهبوط السقف الوطني وتوفر التمويل المغدَق والمغدِق في شبكة الأنجزة ووجود اشخاص من الهشاشة النضالية بمكان بدأت الأنجزة في استقطاب البعض كي يتحول إلى داعية لها وخاصة تحت شعار أشبه بالحالة التراثية “الشاطر حسن” بقولهم: نحن نستغلهم كما نريد”.

وهو غطاء متهالك لا معنى للثرثرة عنه أمام مؤسسات لها ارتباطاتها السياسية وتثقيفها الإيديولوجي مع البلدان المسماة مانحة وهي ذات تاريخ استعماري ولديها “جماعات/خلايا تفكير Think Tank” تدرس مجتمعات العالم الثالث المقصود اختراقها نفسيا واقتصاديا وإيديولوجيا وحتى جندريا. وهذا ما اتضح مع الزمن حيث اصبحت هذه المنظمات من القوة بمكان بحيث تمارس التطبيع وتصبغه بالنضال المحلي وحتى “الأممي” وقد وصل الأمر مؤخرا حصول مفاوضات ومساومات بين بعضها ومؤسسات نسوية إعلامية محلية لتمرير هذه الثقافة، والله أعلم كيف سيتم تمرير ذلك!

قاد تغلغل الأنجزة في القوى السياسية الفلسطينية إلى “أنجزة القوى اليسارية خاصة” سواء بالتقاط نشطاء منها وتسليمهم إدارة مؤسسات انجزة ممولة من الغرب مما تجلى أثره في اوضاعهم المعيشية فأصبحوا ضمن شريحة تلقي عائدات غير منظورة وغدوا يُنظرون للأنجزة ويشاركون في مؤتمرات ولقاءات مع صهاينة أي تحولوا إلى أدوات تطبيع.

لقد كتبت عن هذا بعنوان “أنجزة اليسار الفلسطيني” كتابي بالإنجليزية وعنوانه “أفكار حبيسة” الصادر عام 1998. والمقال عن أنجزة اليسار من ص 131-136.

قد رددت هذا التدهور الى عدة اسباب:

·       هبوط المستوى الفكري

·       تبعية اليسار إيديولوجيا

·       الفشل في التقاط البعد القومي العروبي

·       تمويل اليسار

·       غياب الاستراتيجية

لذا، لم يعد الحزب حزبا ولا حتى منظمة جماهيرية بل منظمة انجزة حيث أصبح جزء من قيادات اليسار مدراء أنجزة أو متعيشين بشكل ما منها، وهذا مخالف لما حصل في جنوب إفريقيا قيب سقوط نظام الفصل العنصري الأبيض حيث بقيت مؤسسات الأنجزة تابعة لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي وليس العكس. ولكن انتشار الفساد في نظام هذا الحزب يكشف أن هناك اختراق كبير!

لقد أفادت التجربة الفلسطينية أن الفصيل اليساري الوحيد في الضفة الغربية المحتلة تحديداً الذي لم تفتك به الأنجزة كليا هو الجبهة الشعبية حيث واصلت مجموعات منها الكفاح المسلح بينما كانت منظمات الأنجزة القريبة منها (حسب ادعاء الكيان) مفتوحة على احتمالات عديدة منها استقبال صهاينة يزعمون التضامن مع شعبنا في وسط مدينة رام الله!

لكن الاختراق الأشد للمجتمع الفلسطيني من قبل الأنجزة فهو في أنجزة الكثير من المنظمات النسوية وأجهزة الإعلام سواء التابعة لفصائل أو لشخوص من البرجوازية الصغيرة واللواتي بالطبع ايضاً مفتوحة على عديد الاحتمالات.

أختم بملاحظة هامة هي أن مؤسسات الأنجزة التي تغولت في التنظيمات قد تغولت في المجتمع وخاصة حين تمت خصخصة ميزانيات هذه المؤسسات مما وضع المدير/رة في حالة مالك للمؤسسة الأنجوزية فصار يتصرف كمن يتصرف برأسماله الخاص فيفصل هذه أو تلك ولا شك أن منحها هذا الدور ناتج أنه أنها متخارجة تماما.

واللافت أن الظاهرة السلبية اجتماعيا تخلق لها أو تتمفصل عنها ظواهر سلبية اخرى تعيش طفيلياً عليها، لذا وُجدت مجموعة من المحامين المتخصصين في فبركة أسباب فصل أعضاء مجالس إدارة أو موظفين في هذه المؤسسات فصلا تعسفيا والمرافعة في المحاكم لحرمانهم من حقوقهم.

وهكذا، قال لينين: “المحامون لصوص مرخصين” ربما ليسوا جميعا، ولكن هناك في حالتنا السؤال: هل من يتآمر على حقوق العمال هو شخص خلوق؟

ملاحظة: وحيث أكتب نقداً للأنجزة فإنني أتوجه للوطنيين الجذريين واليساريين والرفضيين بتشكيل مؤسسة لهذا العمل الوطني.

✺ ✺ ✺

راس المال والمثليون

عادل سماره

يرتبط هذا الهجوم المفجوع للمثلية بتحولات النظام العالمي حيث حرك المثلية كخط دفاع عن هيمنة راس المال الاحتكار ي ممثلا بالغرب. فتخريب القيم ونشر الشذوذ هو أحد عوامل تنفيس الاحتمالات الثورية وأشغال المجتمعات ب مع وضد بعيدا عن الصراع الطبقي وتجاوز النظام الرأسمالي..

أحد أمثلة هجو م راس المال لصالح المثليين هو وقف حسابات ر أفضي المثلية. البنوك غالبا بأيدي عائلات بعينها وهذه تتحكم او وتتحالف مع السلطات السياسية في الغرب الذي يسمونه المليار الذهبي. نحن اذن أمام تحالف احتكار ي لراس المال والشذوذ الذي يخدم الثورة المضادة.

لا بد أن نتذكر ان أزمة كورونا راكمت بأيدي المصارف اي مالكيها ترليونات من خلال شركات الأدوية. اي ان تراجع الاستهلاك البشري في السلع المدنية إثر أزمة ٢٠٠٨ تم تحويل ثروات الناس من السلع المدنية للصحة اي ان راس المال لم يخسر ولم يقل تراكمه.

المثلية تخدم راس المال بتحويل الناس إلى عبث الشذوذ وتفكك المجتمعات تحت مزاعم التحرر والحرية.

وهذه الهجمة تطال العالم الثالث حيث تقوم الانجزة بتمويل برامج بزعم ثقافة المثلية.

ان دكتاتورية راس المال ستواصل هجوَمها وكما يبدو الانظمة السياسية تتساوق.

وبالمناسبة الكيان مبكر ومبادر في هذا المجال التخريبي بشريا.

والسؤال هل التكتل العالمي الجديد بريكس وإصدار عملته الجديدة يمكن أن تقرر المواجهة لا سيما ان الانظمة الغربية ستخلق ذرائع ضد دول العالم الثالث خدمة للشذوذ لتفرض عليها تمرير هذه الآفات والتسليم بها بتصويرها حقوق انسان.

إن الشذوذ مضاد للثورة والحضارة فهل هناك من تنبه اممي لبلور ة أممية اشتراكية تصد هذا.

✺ ✺ ✺

عن جيش فقد انتصاراته في مخيم جنين

محمد العبد الله

– ” إن دور جنين في معادلة الضفة الغربية يتجاوز تنفيذ عملية أو قتل جنود فقط، هذا المخيم الصغير هو مؤشّر حياة المقاومة في المدن كافة، هو الحافز والحياة والباعث ليعمل الجميع “.

الشهيد القائد طارق عز الدين

– ” كل ما تدفعُه في المقاومة إذا لم تحصده في حياتك، فستحصل عليه لاحقاً، المقاومة جدوى مستمرّة “.

الشهيد باسل الأعرج

مدخل

إن ” قيامة ” مخيم جنين باقية طالما بقي الشعب الفلسطيني في مخيمات اللجوء، خاصة، أن بيوت المخيم وجدرانه تحكي سردية سكانه الذين اقتلعتهم من مدنهم وقراهم الأصلية عصابات النازيين الغزاة عام 1948. وقد تعرض هذا المخيم، النموذج في قدرته على البقاء والصمود، إلى محاولات عديدة لتحجيمه، وحتى مسحه عن الوجود، كما توهم جيش المحتلين بعد المعارك الطاحنة التي شهدها المخيم بين الفدائيين والسكان من جهة، وآلاف الجنود ومئات الآليات والمدرعات في العدوان الهمجي الذي سماه ” السور الواقي ” في شهر نيسان / إبريل 2002 ، ليعلن ” شاؤول موفاز” رئيس هيئة أركان جيش الغزاة بعد انتهاء العدوان  ” إن جنين لن تقوم لها قائمة أبداً”.

المخيم في مواجهة كاسر الأمواج

   جاء العدوان الوحشي الذي نفذه جيش الغزاة المحتلين حاملا تسمية ” البيت والحديقة ” ضد مخيم جنين فجر يوم الإثنين 3 تموز / يوليو وانتهى بعد حوالي 48 ساعة، كجزء من خطة العمليات العسكرية التي انطلقت في 31 آذار / مارس 2022 وحملت أسم ” كاسر الأمواج ” لتضيف فشلا  جديدا لأسطورة ” الجيش الذي لا يُقهر”، الذي كان الرئيس السابق لهيئة أركانه ” أفيف كوخافي ” قد أعلن قبل انطلاق تلك الحملة العسكرية ببضعة أشهر ” عن اضطرار قواته لتنفيذ عملية السور الواقي 2 في جنين ” على إثر تصاعد عمليات إطلاق النار تجاه قوات الجيش عند كل محاولة اقتحام للمخيم.

 عشرون غارة جوية نفذتها ثلاثون طائرة مسيرة وخمس طائرات أباتشي افتتح بها جيش الاحتلال عدوانه على ” المخيم / الحديقة “، استهدفت عدة بيوت ومساجد، كتمهيد لاقتحام 2000 عسكري من الوحدات الخاصة “ميغلان، دوفدوفان، وايغوز التابعة للواء غولاني”، والعشرات من عناصر”الشاباك ” المدعومين بعشرات العربات و ناقلات الجند المدرعة، والدبابات مع جرافات D9 المصفحة، من أجل ” تصفية ” 300 فدائي – الأرقام من الصحافة و وكالات الأنباء – . التقارير الميدانية التي تابعت مراحل الهجوم العسكري الصهيوني في المخيم تحدثت عن تكتيك جديد استخدمه الفدائيون في الاختفاء من المواجهات المباشرة مع بدء الاقتحام، باستثناء بعض النقاط التي تقرر بقاءها لمشاغلة العدو، لكن بعد ساعات قليلة تم احتواء الهجوم وبدأ التعامل مع عساكره وآلياته المدرعة التي اعتقد قادة الوحدات المهاجمة ان الجرافات ، لم تحرث الأرض وتهدم البيوت وتدفع السكان لمغادرة بيوتهم والمخيم، فقط، بل اقتلعت الفدائيين من مخابئهم، الذين فاجأوا القوات الغازية من الخنادق التي جهزوها للتنقل، ولتفجير الألغام واسطوانات الغاز  ، وللمواجهة بالنيران، و بالاشتباك أحيانا من مسافة صفر.

  استبسل المدافعون عن المخيم، أسقطوا خمس طائرات مسيرة، وأردوا أحد ضباط وحدة  ” ايغوز “، قتيلا، كما أصابوا عددا من العسكريين بجراح، شوهدت على اثرها المروحيات العسكرية وهي تنقلهم للمشافي القريبة. وكعادته في كل المعارك العسكرية، يتحفظ جيش الغزاة على نشر أرقام خسائره البشرية. في المقابل، ارتقى 12 شهيدا من الفدائيين والمدنيين في تلك الساعات من القصف والمواجهات، وتم اعتقال العشرات من أبناء المخيم – تم الإفراج عن بعضهم بوقت لاحق – وتهجير مئات العائلات من بيوتهم التي أصابها التدمير – عادت غالبية العائلات مع اكتمال انسحاب جيش العدو من المخيم -.

  فوجىء كيان الغزاة بكل أجهزته العسكرية والأمنية وميليشيات المستعمرين بلباسها المدني، الذي يعيش أقصى درجات استنفاره، بالفدائي ” عبد الوهاب عيسى حسين خلايلة ” من إحدى بلدات محافظة الخليل بوصوله إلى يافا  “مستعمرة تل أبيب” ويقوم بتنفيذ عملية مزدوجة ما بين الدهس والطعن، أصاب خلالها عددا من المحتلين، ليرتقي شهيدا بعد أن أصابته رصاصات أحد عناصر الميليشيات المسلحة، وبالتزامن مع العدوان على المخيم الصامد والمقاتل، قامت عدة كتائب فدائية تزامنا مع معركة جنين بإطلاق النار على عدة حواجز لجيش الاحتلال في محافظة نابلس والبيرة وبيت لحم والخليل والقدس، في تجسيد ميداني لوحدة ساحة الاشتباك في الضفة الغربية المحتلة.

 دور الحاضنة الشعبية في الصمود

  لم يكن مستغربا أو جديدا هذا الالتفاف الشعبي حول المقاومة المسلحة في المخيم وفي كل مواقع الاشتباك مع العدو على امتداد الوطن الفلسطيني المحتل، لكن تظهير الحالة الجماهيرية داخل المخيم على شبكات التواصل الاجتماعي وفي الفضائيات، جاء ردا على بعض المحاولات التي أعطت انطباعا يقود لليأس ويغذي بذات الوقت مشاعر العداء للفدائيين وللانتفاضة _ في الصفحة 122 من كتاب ” وجدت أجوبتي: هكذا تكلم الشهيد باسل الأعرج” إضاءة على ما يُثار من لغو، وثرثرة مشبوهة حول المقاومة . يكتب باسل تحت عنوان “الانتفاضة دمرتنا ” (المطلوب لكي يكون النقد، موضوعياً ووطنياً وثورياً، أن يقوم على مراجعة التطبيق وليس النظرية أو الأيديولوجيا التي تقف وراء التجربة) _ من خلال البكائيات من نكبة جديدة، ترافقت مع صور لتهجير مئات العائلات تحت قوة السلاح وسحق الجرافات للبيوت والمحلات، وإعطاء انطباع سياسي / سيكولوجي بأن شعبنا قد عبر إلى ” تغريبة فلسطينية جديدة “!.

 مع الدقائق الأولى لانسحاب آخر جندي وآلية لجيش الغزاة القتلة، خرج الناس من بيوتهم التي تعرض جزء كبير منها للدمار، وترافق ذلك مع بدء عودة المهجرين قسرا – الذين فُتحت لهم البيوت والكنائس والمساجد في كل البلدات المجاورة -، وتمكن مراسلو ومراسلات الفضائيات بالدخول للمخيم ونقلوا / ن بالصوت والصورة، نبض قلوب الرجال والنساء وهم يتحدثون. وقفت امرأة خمسينية أمام كاميرات المصورين الصحافيين والفضائيات، متسائلة بسخرية: “كل هاي القوات جاية من شان شباب من مواليد 2004، دولة بقواتها وطائراتها بتواجه شبان بعمر 19 سنة؟”. رجل آخر التقته كاميرا أحد المراسلين، قال” البيوت مخلعة، المصاري بتتعوض، السيارات بتتعوض، الشوارع مجرفة، ولا إشي بهمنا، المهم سلامة الشباب “.

 كما انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، رسالة تركها أحد المواطنين للفدائيين إذا اضطروا لدخول منزله، يخبرهم فيها بأن بيته «فداهم»، ويقول: ” الأكل والمونة في الدار وفي البراد. في باب خلفي بطلع على حوش جيرانا لو بدكم تنسحبوا، وفداكم الدار طوبة طوبة، المهم تظلّكم بخير. في 700 شيكل في الفريزر لو لزمكم مصاري، الله يحميكم وياخذ بيدكم “.

   أما مسيرات تشييع شهداء المخيم فقد أضافت صورة جديدة للاحتضان الجماهيري للفدائيين، كانت استفتاء ديمقراطيا حاشدا، بعيدا عن صناديق الاقتراع والمراقبين الدوليين لضمان ” نزاهة الانتخابات ؟!” التي مازال ” البعض ” _ في أتون المواجهات والاشتباكات مع المحتلين _ مُصرا على ضرورتها و” شفافيتها “. كانت تلك الحشود التي تحمل النعوش وتحيط بها، تهتف بحناجرٍ ملؤها الفخر بالشهداء وبالمقاومة المسلحة والبندقية المقاتلة، وبالغضب الشديد على سلطة أوسلو وعناصر التنسيق الأمني المسلحة التي بقيت في مبنى المقاطعة / المحافظة طوال ساعات الهجوم الإجرامي على المخيم، وبعد انسحاب الغزاة، خرجت تلك العناصر بآلياتها العسكرية لتمارس دورها الوظيفي المعادي لأهل المخيم الذين صبوا غضبهم عليهم، بالحجارة والزجاجات الفارغة، وبكل ما ملكت أيديهم.

 خاتمة

   يحصد العدو في عدوانه الجديد على المخيم، فشلا جديدا على الرغم من آلته العسكرية التدميرية، وعناصر استخباراته، وتكنولوجيا التجسس التي يمتلكها مع “جواسيس محليين”، لأن كل ذلك لم يستطع تصفية الفدائيين وإخضاع المخيم. مع بدء ساعات الهجوم على المخيم، أعلن ” دانيال هاغاري ” العميد في جيش العدو (نعمل على تقويض التصور بأن جنين أصبحت مدينة ملجأ، إن الهدف ليس احتلال جنين، وإنما إضعاف ” الإرهابيين”).

–  جنين ومخيمها، لم ولن يكونا ملجأ، لأنهما نبع وخزان لأجيال من الفدائيين، ولأن بأسهما لاحدود له.

–  جنين ومخيمها، تحولا منذ عقود، لفكرة لا تموت، لأن الأفكار الوطنية والثورية التي ترويها دماء الفدائيين، وكل المناضلين / المقاتلين بالكلمة الحرة الشجاعة، أيقونتها ” نزار بنات “، تتجذر وتتمدد.

  * كاتب وسياسي فلسطيني

✺ ✺ ✺

عن غسان كنفاني

(بعض الذكريات عنه بعد 51عاما على تفجير جسده)

رشاد أبوشاور

 انتقلت إلى مدرسة معهد فلسطين في حي الأمين لأدرس الصف التاسع. تأملت رسومات على الخشب معلقة على مداخل الصفوف، صغيرة بحجم الكف. أحد الزملاء في صفي أخبرني: هذه رسومات لأستاذ كان هنا في مدرستنا ولكنه سافر إلى الكويت ليعمل هناك..اسمه غسان كنفاني.

حديث عابر لم أتوقف عنده مطولاً، ولكنني استعدته في ذاكرتي مراراً في ما بعد.

قرأت (رجال في الشمس) ثمّ ( ما تبقى لكم)، وكنت قد أدمنت القراءة، والتهمت الروايات والقصص التهاما.

وصلت إلى دمشق قبل سنتين تقريبا للالتحاق بأبي اللاجئ السياسي في سورية منذ عام 1957، وفي سنتين قرأت الكثير، وقررت أنني سأكون كاتبا، وأن حياتي المستقبلية قد تحددت بهذا الخيار.

قرأت قصصا للقاصة سميرة عزام، وانبهرت بقصتها(فلسطيني)، وحكيت عنها لكثيرين، ونسختها وعممتها.

انتقلت إلى مدرسة (دار الفكر) لأن مدارس الوكالة كانت تعلّم حتى الصف التاسع، وفي الصف العاشر تعرّفت على أصدقاء جددا، وسررت لأن بعضهم كانت لديهم ميول أدبيّة، عرضوا محاولاتهم القصصية عليّ، وأنا فعلت نفس الأمر، ولكننا لم نحاول أن ننشر شيئا من محاولاتنا.

دخل غسان كنفاني في حياتنا، وبات المثل والقدوة، وقرأنا قصصه القصيرة، ورواياته، ومع الوقت بتنا أمام التحدي لأننا نريد أن نكتب مثله، وأن تكون قصصنا رفيعة المستوى، وجديده بتقنياتها.

إنها سنوات دمشق التي امتدت من عام 1957حتى 1965، وبعدها عدت مع والدي إلى الضفة الفلسطينية، تحديدا إلى مخيم النويعمة جار أريحا.

زرت القدس، والخليل، وعشت أوقاتا صعبة، ولكنني حوّلت الصعوبة إلى تجربة تعرّفني أكثر بواقع شعبنا الفلسطيني في الضفة، وبدأت أهجس بكتابة روايةتُجسّد حياة البؤس والشقاء والغربة في الوطن!.

قبل عودتي من دمشق بسنوات، تحديدا عام 1962 انتظمت في صفوف فصيل فلسطيني، وخضعت لعدة دورات تدريبيّة، وتفتح وعيي الوطني ، وبتُّ أفكر طيلة الوقت بقضيتي الفلسطينيّة، ولم تخطر ببالي الكتابة إلاّ عن قضيتي الفلسطينيّة والصراع مع العدو الصهيوني.

قرأت (ما تبقّى لكم) وكتبت عنها مقالة أرسلتها إلى مجلة ( الآداب) التي كانت قبل سنوات قد نشرت لي مقالة عن مجموعة صديقي الشاعر فواز عيد ( في شمسي دوار) و..لكن المقالة لم تنشر.

ربما لم تصل، ووضعت جهات أمنيّة اليد عليها، ولكنني حزنت لعدم وصول المقالة ونشرها.

كنّا نكتب باليد، ولم تكن لدي نسخة ثانية.

عام 67 توظفت في بنك( الأردن)، وبعد مرور شهرين وقعت الهزيمة، واضطررنا للرحيل، وبدأت مرحلة جديدة في حياة شعبنا، وأمتنا.

في حزيران 67 غادرنا أريحا بعد النكبة الثانية لفلسطين وشعبها، و..لم يطل عملي البنكي، فاستقلت.

التقينا في العاصمة الأردنية عمان، عند (بسطة) حسن أبوعلي بائع الصحف والمجلات في شارع فيصل، وبتنا من زبائنه اليوميين، نجلس على كراسي القش القصيرة، ونتصفح الجرائد والمجلات، و..بيننا نشأت صداقة: الشاعر محمد القيسي، الشاعر أحمد دحبور، الشاعر خالد أبوخالد،الشاعر موسى صرداوي، وغيرهم ممن وفدوا من أقطار عربية عاشوا فيها ولم يكن متاحا لهم من قبل أن يلتقوا في عمان، على مقربة من فلسطين، ولكن انطلاقة المقاومة يسّرت لهم الأمر.

بدأت مجلّة ( الهدف) تصل إلى عمّان، وتحمسنا لها، وأُجريت معنا حوارات وندوات لها، ويوم وصول نسخها إلى عمان، وهو يوم السبت مساء كما أتذكر، بتنا نلتقي لنتلقف نسخها التي كان يحضرها حسن أبوعلي من شركة التوزيع.

 لقد كانت الهدف تجمعنا، وكان غسان كنفاني حاضرا معنا، ونتصرف كأنه صديقنا ورفيقنا، رغم أننا من فصائل مختلفة، ولم نكن قد التقينا به بعد.

كانت الثقافة تُقرّب بيننا، ورواياته وقصصه القصيرة، وكتاباته الصحفية محور حديثنا..وكانت تلهمنا.

تلك أيّام هبّت فيها رياح المقاومة على الوطن العربي، وبدأت مذلة ومهانة هزيمة حزيران تتبدد، وكبرت الآمال بحرب التحرير الشعبية، وتسيّد الزمن الفدائي والمقاومة، وباتت فلسطين في مرمى فوهة البندقيّة وخطوات الفدائي الفلسطيني بخاصة، والعربي بعامة.

آنذاك بدأنا نكتب قصصا وقصائد مشتركة. محمد القيسي وموسى صرداوي كتبا عدّة قصائد، وأنا شاركت في الترويج، وما زلت أتذكر مقطعا من قصيدة للقيسي وصرداوي:

أيتها الرصاصة القناصة

أيتها الخلاصة

يا والدتي

وقد نشرتها في مجلة ( الجبهة) التي كانت تصدر في دمشق وقدّمت لها.

ذات يوم توجهت إلى بيروت، وضعت حقيبتي في مقّر مجلة ( إلى الأمام) وكان صاحبها، نسيب نمر، قد تنازل عن إصدارها وترأس تحريرها المرحوم فضل شرورو عضو قيادة الجبهة القيادة العامة، وكنت أنا ضمن صفوف الجبهة التي هي جبهة التحرير ولكنها خرجت من الوحدة التي جمعتها مع (شباب الثأر) و( أبطال العودة)، وحملت اسم (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين).. وتوجهت فورا إلى مقر الهدف الواقع قبالة البناية التي تضم مكتب منظمة التحرير الفلسطينية وكان يترأسه الصحفي الكبير والمناضل المعروف الأستاذ شفيق الحوت.

و..التقيت بغسان كنفاني وجها لوجه.

كان مكتبه يقع في غرفة واسعة مفتوحة الباب، وهكذا اعتدت أن أجده ، حييته وعرّفته بنفسي: أنا رشاد أبوشاور فوقف وسلّم بحراره. أشّر لي أن أجلس وخرج ، وعاد بعد قليل وهو يحمل غلاية قهوة وفنجانين صب فيهما، وقدم لي أحدهما، ثم أخذ يمرر سيكارة تحت أنفه احترت لأنه لم يشعلها.( فيما بعد عرفت أنه مصاب بمرض السكري).

لفت انتباهي أن لون بشرة وجهه ليس أبيضا بل أميل للصفرة، وكان هذا مظهر من مظاهر السكري.

تحدثنا كثيرا حديثا عاما، ثم أخبرته انني درست في معهد فلسطين( الإليانس) فسألني بانتباه:

-هل علمتك؟

ابتسمت وأجبته:

-في المدرسة..لا.

فابتسم.

في لقاء آخر أخبرته أنني كتبت عن رواية( ما تبقى لكم) فسألني باهتمام:

-أين ما كتبته؟

_كتبته وأنا في أريحا، قبل الهزيمة بأيام، وأرسلته للآداب..ولم ينشر. ولا أدري إذا كان قد وصل للدكتور سهيل..أم وُضعت عليه (اليّد) في بريد أريحا!.

قال:

-أنا لم أصدر الرواية عن الآداب، ألا توجد عندك نسخة من المقالة؟

أبدى اهتماما بالاطلاع على رأيي في (ما تبقى لكم)، وأسف لعدم توفر المقالة.

تيقنت أنه متواضع، وأنه لا يستعلي، وأنه معني بسماع آراء الكتاب حتى لو كانوا في بداياتهم وهو في أوج شهرته.

ذات يوم طلب فضل شرورو مسؤول الإعلام في الجبهة القيادة العامة أن نتوجه معا، أنا والشاعر مؤيد الراوي –عراقي التزم بالجبهة وإعلامها- لزيارة غسان كنفاني لوضع أسس للتنسيق الإعلامي، فتوجهنا إلى مجلة الهدف، فابتسم غسان وهو يخبرنا : لندع التنسيق للسياسيين، أنا ساقرأ لكما الجزء الذي أنجزته من روايتي الجديدة.

بدأ يقرأ الفصول التي أنجزها من( برقوق نيسان) إلى أن فرغ فاعتدل وسألنا، ما رأيكما؟.

كان يبتدع أسلوبا جديدا غير مسبوق في القص، وأراد أن يسمع انطباعاتنا، هكذا بتواضع!.

أذكر أننا تحمسنا للتقنية الجديدة في روايته، وأنه وعدنا بعد أن شرح توجهه في العمل الجديد، بأنه سيقرأ لنا ما سينجزه حين يكمل الرواية.

كان غسان كاتبا متواضعا، وهذا يعود لأصالته، وإيمانه بدوره ككاتب ومثقف ثوري، ومنتم لقضيته وشعبه وأمته.

ذات يوم دخل عليه في الهدف صديقنا الشاعر موسى صرداوي، وهو قصير القامة، ونحيل الجسد، وعيناه جاحظتان، ووجنتاه بارزتان، ويحكي دائما بالفصحى، وبأسلوب مسرحي خاطبه فاردا ذراعيه:

_أبا فائز..أنقذني!

رد غسان( أبوفايز):

-ماذا هناك يا أستاذ موسى؟

_أريد أن أسافر إلى السويد هربا من الشرق الأوسط.. و..هناك فنّانة وعدتني بتذكرة سفر إذا ما كتبت عن معرضها الفني الحالي في بيروت، وأنا وعدتها عندما زرت معرضها..وهاهي المقالة معي.

نادى غسان على مدير التحرير، وطلب منه أن ينشر المقالة في العدد القادم دون أن يقرأها، وأن لا يريه عدد الهدف إلاّ بعد صدوره!.

عرف غسان أن المقال مكتوب مجاملة، وهو بنشره عزم على مساعدة موسى للسفر رغم أن هذا مخالف لقناعاته!.

كان غسان كنفاني صاحب مشروع ينجزه وهو يعيش حياة الخطر، ولذا كان يكتب ليل نهار رواياته، وقصصه، ويدير مجلة الهدف، ويشتبك في مواجهات فكرية، ويرسم، ويبدع خطوطا جميلة، و..كان يسابق الزمن.

إن حياته القصيرة قد أعطت الأدب العربي روائع أدبية روائية، وقصصية، ومسرحية، ونقدية، لأنه لم يكن يضيّع وقته، فحياته جديّة، ممتلئة، وهو يسابق الزمن مدركا أن أخطارا تحدق به، ليس أخطرها مضاعفات مرض السكر، ولكن ما يتوقعه من العدو الذي يستهدفه في كل لحظة.

مرارا التقيته، وتحدثت معه، وأصغيت إليه، وفي بعض المرات وقفت في مدخل غرفته المحتشدة بالصحفيين والمراسلين، وتابعته وهو يجيب على أسئلة بعضهم باللغة الإنقليزية، وفي نهاية اللقاء كان يسأل الحاضرين، وأنا منهم: ها..ما رأيكم؟

كنت أشعر وكأنه مع نهاية كل لقاء صحفي، أو مؤتمر صحفي، أنه يبدو وكأنه يخرج من معركة ويجلس ليتنفس بعمق، و..يستعد لاشتباك آخر!.

هل كنت صديقه؟ من جهتي نعم، ومن جهته كنت أراه صديقا لكل من يلتقي بهم ..فكرا، وانتماء..وكتابةً..وأنا منهم!.

لم يحدث أن دعاني للانضمام للجبهة الشعبية، حتى بعد أن غادرت موقعي التنظيمي وبتُّ (مستقلاً)…

وأنا أسير في جنازته كنت أحاول تجفيف دموعي لأرى نعشه بوضوح غير مصدّق، في جنازته الممتدة من (الهدف) في حي المزرعة حتى مقبرة الشهداء، في جنازته المهيبة الحاشدة..وأنا أردّد: يا للخسارة..يا للخسارة..يا للخسارة..يا غسان المعلّم الحبيب!.

أنا لم أنس غسان كنفاني المعلّم، ودائما أعود لقراءة رواياته وقصصه القصيرة، ومقالاته النقدية الساخرة والجادة(فارس فارس) في مجلة الصيّاد، والتي جُمعت بعد رحيله وصدرت في كتاب من منشورات( الآداب)، ومسرحياته..وأجد فيها جديدا، ورؤية جديرة بالتأمّل..والتعلّم.

رحل غسان كنفاني إثر تفجير سيارته صبيحة 8تموز 1972، ومعه رحلت ابنة أخته الشابة لميس، و..حتى اليوم تكتب الدراسات عن فنّه الروائي والقصصي، وعن حضوره الفكري، وعن حياته القصيرة الغنيّة المُلهمة لأجيال من المبدعين والمقاومين.

في تأبينه للقاصة والمترجمة والإعلامية والمناضلة سميرة عزام، اختتم كلمته: كانت معلمتي…

اليوم أخاطبه: غسّان كنفاني..أنت معلم على طريق فلسطين الواحدة الكاملة.أنت معلمنا نحن المؤمنين بتحريرها كاملة وإلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني.

عمرا مديدا يا مُعلّم.. وحياة تتجدد بمقاومة شعبك العربي الفلسطيني البطل، وبأعمالك الروائية والقصصية والفكرية والفنيّة التي تُلهم وتنير درب فلسطين.

نحن لا نتذكّر غسان كنفاني في يوم اغتياله،لا، نحن نتذكره، وكل قارئ عربي يتذكره ونحن نقرأ قصصه ورواياته، ونتأمّل لوحاته، ونعود لكتاباته الصحفيّة والفكريّة التي تصدى بها مبكرّا لدعاة( التسوية)، وللمنحرفين فكريّا…

غسّان حي بإبداعاته، بحياته الجدية التي مكنته من كل إنجازاته رُغم عمره القصير، وهذا ما يجب أن يتعلمه الكتّاب والمثقفون والمقاومون الجادون الصادقون..فتعلّموا..وتعلّموا…

________

تابعونا على:

  • على موقعنا:
  • توتير:
  • فيس بوك:

https://www.facebook.com/kanaanonline/

  • ملاحظة من “كنعان”:

“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.

ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.

  • عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
  • يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org