السنة الثالثة والعشرون – العدد 6584
■ قراءات في الراهن العربي من النظري إلى التطبيق (حلقة 10): ليست فقط الأنظمة الحاكمة خادمة للإمبريالية، عادل سماره
■ ساعة الرمل الرأسمالية: جدول الأعمال البربري بين مورزا وغرامشي، د. محمد المعوش
✺ ✺ ✺
قراءات في الراهن العربي من النظري إلى التطبيق
حلقة 10
ليست فقط الأنظمة الحاكمة خادمة للإمبريالية
عادل سماره
علمت تجربة الحياة أنه يجب على أي مقاتل أو حتى مواطن عادي ليكون محصنًا أن يبدأ حياته / حياته كوطني قبل أن يصبح قوميًا ،شيوعيًا ، اشتراكيًا…الخ ، وخاصة سياسيًا. من خلال هذه البداية الصحيحة ، لن تتمكن أي أيديولوجية أبدًا من تزويغه ليغدو ضد حقوق الناس أو الطبقات الشعبية. باتباع هذا الاقتراح أو المسار أو النهج ، سيعيد المقاتلون إنتاج النظريات والممارسات لتكون مناسبة للبيئة المحلية أو الوطنية وليس ضد أي دولة أخرى.
كثير من الناس الذين يتبنون الأيديولوجيات الثورية يفشلون في تكريسها بشكل صحيح وبسبب ذلك يقعون في معضلة ضد أمتهم ويستمرون في التظاهر بأنهم النخبة وبأنهم أفضل من يفهم مصالح ومصير الأمة أو الطبقات الشعبية.
يفتح هذا لنقد العديد من العوامل الداخلية التي تخدم هيمنة الثورة المضادة ، وإن كان ذلك عن قصد أو بغير قصد:
أولاً: في حين أن جميع الأحزاب الشيوعية ، ربما في جميع أنحاء العالم ، وطنية و/أو قومية ، فإن معظم الأحزاب الشيوعية العربية كانت ولا تزال نسبيًا تتجاهل الأمة العربية وتقف ضد القومية العربية. ومنهم من يعتقد أن كل دولة عربية هي أمة منفصلة ، مما يضعف الثورة العربية ويدعم الأنظمة العميلة والتابعة ، وفي النهاية يدعم الدعاية الغربية الإمبريالية وحتى الأكاديمية بعدم وجود أمة عربية. المفارقة هنا أن أخطاء هؤلاء الشيوعيين تخدم بشكل غير مباشر وغير مقصود في الهدف الصهيوني الإمبريالي.
) This led us to refer to the fact that the USSR failed to understand the nature of the Zionist settler state in Palestine. In fact, its’ position fits into Eurocentricism as long as accepts an eviction of a people for the sake of settlers on the one hand and expects that an entity created by imperialism will be developed into a socialist system! See also, Adel Samara Kana’an – The e-Bulletin Volume XXII – Issue 6256 10 April 2022, Communist Boys of NATO are
Building the “Wailing Wall” in Defense of Ukrainian Fascism! (
ثانياً: إن موقف الأنظمة والأحزاب ومنظمات الدين الإسلامي السياسي وخاصة الحزب الأكبر – الإخوان المسلمون – تقف جميعاً ضد القومية العربية داعية لشعار وهمي يسمونه :”أمة الإسلام” متجنبين حقيقة أن الدين لا يجمع كل الأمم في أمة واحدة. المفارقة هي أن جميع مجموعات أو قوى الدين السياسي في الدول بل المجتمعات الإسلامية والمسيحية وحتى في الكيان الصهيوني وطنية وقومية للغاية ، أي في تركيا وإيران باستثناء قوى الدين الإسلامي السياسي العربي.
هذا التيار هو الأخطر على الأمة لأن إيديولوجيته أسهل في القبول من قبل الجماهير خاصة في ظل غياب التربية الاشتراكية حيث فشل الشيوعيون في أن يكونوا شعبيين مع الأخذ بعين الاعتبار موقفهم ضد القومية العربية والوحدة والاعتراف بالكيان الصهيوني الإشكنازي منذ عام 1948.
سوف أتجنب القول بأن تيار أو قوى الدين السياسي قد بدأ منذ تخليقه أو جرى تخليقه على يد الإمبريالية أو تحت إشرافها ، لكن اتضح في السنوات العشر الأخيرة من الربيع العربي / الخريف أن هذا التيار يقف جنبًا إلى جنب مع الثورة المضادة ضد معظم الدول العربية من جهة وأن تنظيمات وقوى الدين السياسي الإرهابية “الاستشراق الإرهابي” أنشأتها أجهزة استخبارات الغرب.
ثالثًا: التيارات الانفصالية الطائفية والفاشية التي تروج لكيانات صغيرة: في حين أن التيارين المذكورين أعلاه يرتكزان على داعميهم بشكل كبير، مما يمكنهم من الاعتماد نسبيًا على جماهيرهم ، إلا أن هذا التيار الثالث ليس لديه فرصة سوى أن يكون معتمدًا وتابعا للثورة المضادة.
هنا لدينا مفارقة أخرى ، بينما الفاشية والشيوعية… إلخ ، في جميع أنحاء العالم قومية للغاية ، ومع ذلك ، فهنَّ في الوطن العربي وكيلات للإمبريالية و / أو الصهيونية!
رابعًا: التيارات المختلفة للمثقفين: ، أي المثقفون العضويون للطبقات الحاكمة ، والكومبرادور الفكري والمعتمد على القوى الاستعمارية / الإمبريالية ، والمفكرين العضويين لأجهزة رجال الدين ، والمفكرين العضويين للشيوعيين التحريفيين ، والمفكرين العضويين للإمبريالية تحت غطاء الليبرالية ، والحداثة ، وما بعد الحداثة ، والجندر ، والفوضوية ، والتروتسكية ، إلخ.
كل تلك التيارات الأيديولوجية هي ضد الدولة/الأمة العروبية وتٌضعف بدورها في النهاية نضال التيارات الثورية من أجل التحرر والوحدة والاشتراكية. إنها تقوي الأنظمة الحاكمة التي تعمل في خدمة الإمبريالية.
التيار الأكثر تطرفا للمثقفين هم مفكوا الطابور الثقافي السادس: هؤلاء هم تيارات مختلفة ، أي الليبراليين وما بعد الحداثيين والنوع والإنحراف الجنسي ، إلخ. تلك التيارات أو النخب تجادل ضد القومية والشيوعية والصراع الطبقي والوعظ من أجل “السلام بل الاستسلام” لتبرير التطبيع مع الكيان الصهيوني الإشكنازي والتبعية للإمبريالية ، إلخ.
يصر هذا التيار على الديمقراطية كعلاج لكل مشاكل الوطن العربي متجاهلاً التنمية وحرب الشعب/الغِوار/العصابات والتحرر الوطني والاشتراكية والشيوعية. في البلدان العربية ، يركز هؤلاء الناس نشاطهم في معاداة البلدان الخارجة عن السيطرة الإمبريالية ، الصين ، وروسيا ، وسوريا. وهم يتهمون أنظمة تلك الدول بأنها استبدادية وديكتاتورية وغير ديمقراطية. إنهم لا يعيدون تقييم الديمقراطية السياسية الغربية أبدًا ، ولا سيما تدهورها الحالي وكيف أصبحت أداة لتقوية الديكتاتورية البرجوازية في المركز وحروبها ضد العديد من الأمم.
)When US and UK were preparing war against Iraq in 1990-91 mass demonstrations took place in a lot of cities in the West, but the regimes launched the war, and when the regimes themselves declare later that the war was based on false reasons, none of the warmongers questioned. On the other hand, Arab intellectuals who supported that war never apologize (
خامساً: المنظمات غير الحكومية: أصبح معروفًا في جميع أنحاء العالم أن المنظمات غير الحكومية ، مثل الاستشراق الإرهابي ، مصممة في المركز الإمبريالي كأدوات للثورات الملونة لإسقاط الأنظمة التي لا تزال خارج نطاق الهيمنة الإمبريالية وإضعافها وهي تعمل حتى في الأنظمة التي تهيمن عليها الإمبريالية مستهدفة مجموعات في المجتمع دون إذن من الأنظمة الحاكمة.
تلعب المنظمات غير الحكومية دورًا مدمرًا وواضحًا ضد الجمهوريات العربية ، لا سيما في ليبيا وسوريا وحاليًا في لبنان وفلسطين المحتلة ، حيث يقترح الأكاديميون على المنظمات غير الحكومية أن تراقب وتدرس وتقيِّم ممارسات السلطة الفلسطينية ، بينما المفروض أن تكون المنظمات غير الحكومية والسلطة الفلسطينية تحت رقابة الناس.
✺ ✺ ✺
ساعة الرمل الرأسمالية: جدول الأعمال البربري بين مورزا وغرامشي
د. محمد المعوش
(1)
من المعروف أن جدول أعمال التدمير الإمبريالي محكوم بضرورة أن يتسارع بسبب حدة الأزمة والفاعلية التاريخية للقوى الصاعدة المتسارعين. وعامل الوقت هذا له دور كبير في فهم ديناميات الصراع، وتحديداً رد فعل القوى المعرّضة للتدمير على جدول الأعمال البربري المطروح، وبالتالي فهم هوامش الصراع وتوازن القوى المحتمل. وهنا نطل على بعض أفكار سيرغي قره-مورزا في هذا المجال مع وضعها في السياق الراهن.
«التلاعب بالوعي»
نشرت الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2012 كتاب «التلاعب بالوعي» للكاتب الروسي (السوفياتي) سيرغي-قره مورزا، ترجمة عياد عيد. والكتاب مخصص لفهم السلاح والتكنولوجيا الجديدة التي خصصنا لها غالبية المواد السابقة، أي تكنولوجيا الهيمنة الناعمة التي تبلورت في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وانفجرت بالتحديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. والكتاب مكثّف من حيث القضايا والبراهين وميادين العلوم المستند إليها. الكتاب مكوّن من ثلاثة أقسام موزعة على ثلاثة عشر فصلاً و520 صفحة. والأقسام الثلاثة هي، ما معنى التلاعب بالوعي، المرامي الرئيسية للتلاعب بالوعي، والتلاعب بالوعي والمؤسسات الاجتماعية. ويتناول مورزا الموضوع من جوانب مختلفة بدءاً من علوم اللغة والذاكرة والإدراك، وقضايا تكنولوجيا الدعاية «الحديثة» (كالتلفزيون)، والمواضيع المركزية كجوهر للتلاعب (مثال الشمولية-الديمقراطية)، وفضاء الثقافة بشكل عام. ويطل مورزا على مواقف وتحليلات الكثيرين من الباحثين والأدباء والشعراء والسياسيين، من دستويفسكي وصولاً إلى مدرسة فرانكفورت، وحتى الكثير من الكتاب الأمريكيين «المتمردين» وأولئك الذي نظروا وساهموا في اختراع «تكنولوجيا» اختطاف الوعي، الذي يعتبره مورزا «ذروة إبداع الحضارة الأمريكية في وقت قصير». ويحتل غرامشي موقعاً أساسياً في النص في محاولة الكاتب بناء العمود الفقري للمحاججة خصوصاً في فهم مسألة بناء القبول والرضا الجماعي كغاية أساسية للتلاعب والهيمنة الناعمة، ويفرد له أيضاً الفصل الرابع (ضمن القسم الأول) تحت عنوان: «تعاليم غرامشي عن الزعامة». وما يهمّنا في هذه المادة تحديداً هي إشارة مورزا إلى أهمية فهمنا للسياق الزماني والمكاني الذي ينفّذ فيه العدو جدول أعماله. فهذا السياق له دور أساس في تحديد شروط التنفيذ واحتمالاته، وهذا ما يهمنا اليوم بشكل خاص.
عن التهديد الحضاري مجدداً وتوقيت الهجوم
لا يخرج مورزا عن الفهم العام في كون مسار الهيمنة عبر التلاعب بالوعي مدمراً حضارياً، وتحديداً من خلال إنتاج الإنسان الزومبي ومسح الذاكرة، واختلاق عوامل موازية «معادية» للأهداف والحاجات الحقيقية للفرد. هذه العوامل الموازية، وتحديداً تلك التي يجري بناؤها بعناية عبر تضمين الرموز المشغولة بإتقان للعب على وتر الفردانية، تدفع بالفرد إلى أقصى مديات التفكك وانفصال الفرد عن الواقع. وهذا التهديد يشمل كل «ساكني الأرض» حسب مورزا. والأهم هو في جعل الكتلة الأكبر تسير عن «قناعة» في معاداة مصالحها. ولكن تنفيذ جدول الأعمال هذا فيه من الخصوصيات الزمانية والمكانية التي تؤدي إلى تفاوت في نتائجه. فيقول مورزا، إن تحقيق جدول الأعمال هذا في مجتمعات كثيرة أخذ وقته مما جعل تقبله يسيراً على المجتمعات التي عاشت نمطه الفرداني، ويقول مورزا: «كانت عملية إحاطة الإنسان بـ«ثقافة التلاعب» في أجزاء أخرى من العالم بطيئة وتدريجية (آسيا هي حالة خاصة، ثمة لديها وسائل وقاية قوية). لم تحدث هناك صدمة ولا آلام مثلما حدث لدينا. تولّد هناك اعتيادٌ خال من أي أمل في محاولات التحرر الحادة الخلاقّة. الضفدعة المرمية في الماء المغلي تقفز وإن كانت مجروحة. أما الضفدعة المرمية في الماء الدافئ فتطفو في القدر مستمعة. إنها لا تلحظ أن القدر موضوع على النار، وأن حرارة الماء تشتد. ستظل مستمتعة هكذا إلى أن تسلق. مهمتنا أن نقفز ونساعد أولئك المستمتعين».
بينما في المجتمعات التي جاء فرضه سريعاً لاعتبارات معينة، شكل صدمة ما، ما أنتج دفاعاً في وجهه. ومن مورزا نقتبس: «خُصَّت روسيا «يقصد مورزا روسيا ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تحديداً» في هذا الصراع المحتمل بدور مميّز ومكانة خاصة. لقد انهمرت عليها بطريقة ثورية كالسيل تكنولوجيا التلاعب بالوعي المعاصرة كلها مصحوبة بنتائج صارخة ومتنافرة. لقد ولد هذا صدمة طبعاً، لكنه شكل في الوقت نفسه ظرفاً مهماً من أجل محاولة الإدراك، ومن ثم المقاومة».
ويمكن القول، كما أشرنا سابقاً، إن التسارع اللاحق في الأزمة فرض تسارع جدول الأعمال المذكور. وما التحول في أدوات الدعاية وقصف العقول من منصات بطيئة الوتيرة، ولكنها ثابتة، إلى منصات فائقة السرعة. وهذا التسارع وتقنياته تتنوع مع تطور ديناميات الأزمة والصراع. وهذا لا يغفله مورزا فيقول: «فإذا غدت معرفة أدوات التلاعب بالوعي هذه وأساليبه متاحة لعدد كبير بما فيه الكفاية من الناس، ستصير ممكنة أعمال المقاومة المشتركة أو في البداية أعمال الوقاية من هذا التلاعب. طبعاً، سوف يبتكر المتلاعبون أدوات جديدة وأساليب جديدة. ولكن هذا سيصير صراعاً غير سهل ومكلفاً» (إنه مكلف ولا شك!! ثمنه تجفيف منابع العقلانية والوجود الإنساني).
حسناً، فليس الانتقال من التلفزيون إلى وسائل الدعاية الأسرع من الإنترنت إلى الهاتف المحمول، وليس الانتقال من منصات أبطأ وتيرة كالفيسبوك، نحو الأسرع منها، كالمنصات المخصصة للمواد المصورة التي تقاس بالثواني، وليس الانتقال بالمضمون من المكتوب إلى المصور المدموج بالمكتوب والموسيقا، كل ذلك مؤشرات على التسارع في الأدوات والمضمون. هذا التسارع محمول على التوتر الناتج عن الأزمة. وملخصه هو ملء العالم بالضجيج. هذا الضجيج والصراخ قد لا يقاس في مضمون المادة التي يقدمها، بقدر ما يقاس بتقنيته المتسارعة. والتوظيف الهائل للوسائط يحتاج اليوم إلى أكثر من دعوى مورزا للمقاومة الفردية. بل هو يحتاج إلى وسائط مقابلة عالمية الطابع كذلك. ولكن يجب أن تتجاوز الموقف الوعظي، التوعووي الذي يحاول مورزا في كثير من الأحيان حمله (وهذا الموقف الثقافي-الأخلاقي الدفاعي الذي يرفضه غرامشي).
لنعد قليلاً إلى مسألة التسارع. إن التسارع الذي حصل في الوسائط والتقنيات والمضامين محمول على ضغط الأزمة صار في الفترة الأخيرة شديداً. فقوى العالم القديم، ونتيجة لضيق هوامش المناورة العسكرية والاقتصادية، تحاول الدفع بجدول أعمال التلاعب بالوعي، الذي هو بالنهاية تحويل للواقع ونمط الحياة، عبر تحويل «الكتلة التاريخية» نفسها، وتحويل للعالم الثقافي كله كما يشدد مورزا. هذا التحويل يوازي من حيث التدمير الحرب النووية. فهو تأسيس لقاعدة ونمط حياة بربريَّين، عبر توسيع «الوجود الرث» كما أشرنا سابقاً. وهذا الوجود الرث اليوم شامل مجتمعات بحد ذاتها، وإن كانت بعض المجتمعات أقل، فهي ولا شك تتضمن قوى اجتماعية لها وجودها الرث. وما تحطيم صورة المستقبل وتفريغ الوجود من الجدوى والمعنى إلا المؤشر المباشر على الوجود الرث الذي هو توسيع تاريخي في مفهوم «البروليتاريا الرثة». ولهذا فإن هذا التسارع وعلى الرغم من خطورته في تدمير العقلانية التي تطورت خلال قرون من التاريخ البشري، ولكنه يشكل صدمة على «بدهيات» المجتمع التي تتخذ موقفاً دفاعياً تجاه هذا المسار التدميري. وإن لم تتحول بعد إلى جدول أعمال إيجابي يتجاوز الموقف الدفاعي. فليس التكتل القومي والهوياتي والعائلي والثقافي التراثي، وحتى الفردي، إلا أشكالاً دفاعية عن هذا الاجتياح العدمي ليس في نمط الحياة فقط، فهذا النمط الذي تم تعميمه مرّ بهدوء وتسلل، بل صار قسرياً ويهدد جوهر تقنية التلاعب بالوعي التي يبني عليها مورزا في الكتاب سرديته، إنها قضية القبول. هذا التسارع ينتقل من تقنية القبول التي هي ضرورية لإمرار مسألة الهيمنة والتلاعب، إلى تقنية الفرض القسري لجدول الأعمال البربري. هذا هو مكمن الضعف ومصدر المقاومة المتاحة والممكنة وتشكل ميزان قوى الجبهة الحضارية.
فالتسارع يفرض تخلياً عن تقنيات التلاعب المخادعة التي تنتج «القناعة» بالنمط «المقترح». وهذا التخلي خلق اليوم ما سماه مورزا «لحظة الصدمة». ولكن لحظة الصدمة لن تنتج وحدها الواقع النقيض، فبناء الجبهة الحضارية يحتاج إلى أكثر من موقف توعوي وعظي، كما يظهر في مسار مورزا، وإن لم يقصد ذلك. بل يحتاج، حسب غرامشي، إلى خلق «السبيكة التاريخية» أو «الكتلة التاريخية» عبر تحويل البناء الفوقي والتحتي، حينها «السياسة تصبح نشاطاً دائماً، وتتمخض عن تنظيمات دائمة، بقدر ما تتوحد مع الاقتصاد، وان اختلفت عنه. ولهذا يمكن الكلام … عن «الحماس السياسي» باعتباره حافزاً مباشراً لنشاط يولد على الأرضية «الدائمة والعضوية» للحياة الاقتصادية، بل ويتجاوزها، محركاً المشاعر والطموحات، التي تخضع في جوها المتوهج الحسابات التي تشمل حياة الإنسان الفرد ذاتها، لقوانين أخرى تختلف عن قوانين الربح الفردي (غرامشي، الأمير الحديث). المطلوب من الجبهة الحضارية إذاً ليس الموقف الدفاعي، كما ينقده غرامشي، بل تحويل للاقتصاد، ومعه تحويل للسياسية لكي «تصير هي الحياة» كما يؤكد غرامشي، فيكون تحويلاً لنمط الحياة ككل وللحضارة التي تموت. مدى وحجم القوى التدميرية الكامنة أكبر من كبحه عسكرياً ودفاعياً اقتصادياً، والنمط الحضاري البديل يقف كمهمة مركزية على جدول الأعمال، ليس بالضرورة تنفيذه اليوم أو غداً، ولكن في كونه «مشروعاً حماسياً» جاذباً للقوى «المُختَطفة»، ومحولاً لطاقتها التدميرية، نحو انخراطها الناشط في المواجهة، ومن ثم بناء ذلك النمط البديل. فعامل الوقت ليس في صالح أحد، حتى وإن كان لدى قوى العالم الجديد فضاء مفتوح على عكس قوى العالم القديم، ولكن في تكتيكات الصراع، الوقت له دور أساس، ونختم مع مورزا «التمكن من الواقع ممكن فقط بدراسة مذهب العدو وتكتيكه وسلاحه» ولهذا «فالإفلات من التلاعب من خلال الدوغمائية «نسميها في النص الموقف الدفاعي المعاند» والإصرار على الموقف و«بالعناد» مستحيلة ببساطة. يتيح الصمود مدة فقط إلى أن يختاروا المفتاح المناسب لك، أو يتجاوزوك بصفتك عائقاً لا يمثل خطراً كبيراً… التمكن من الواقع ممكن فقط بدراسة مذهب العدو وتكتيكه وسلاحه». وهذا السلاح هو هو نمط الحياة الاستهلاكي المغترب والرث نفسه كقاعدة لاستخدام باقي التكتيكات والتقنيات التدميرية.
(2)
في المادة السابقة أشرنا إلى بعض الأفكار التي تضمنها كتاب «التلاعب بالوعي» لسيرغي قره-مورزا، وفي جوهرها قضية احتضار الحضارة الغربية الفردية وتحليل «الهيمنة الناعمة» ومواجهتها وأهمية عامل الوقت (والتوقيت) في تكتيك المعركة، مع المرور على أفكار غرامشي حول ضرورة تحويل الواقع نحو نمط حياة يتجاوز قوانين الربحية الفردية (الاستهلاكية) من أجل تأسيس «نمط الحياة السياسي» أو ما يمكن أن نسميه نمط «صناعة التاريخ». في المادة الحالية سنقوم بالتوسع في بعض أفكار مورزا وغرامشي، كعلامات لبديل عن الإنسان المتشيّئ وكقاعدة للحضارة المنهارة وبربريتها المدفوع بها.
مورزا عن التشيؤ
يجمل مورزا مواقف العديد من المفكرين والباحثين، ومن ضمنهم العديد من الغربيين، تجاه توقعهم عن «الانحطاط المستقبلي» للحضارة الاستهلاكية التي تشيّء الإنسان. ومن هم على سبيل المثال لا الحصر، دستويوفسكي، غوغول، بوشكين، ثيودور أدورنو، ماكس هوركهايمر، هربرت ماركوزه، ومنهم كان من معادياً للبلشفية أساساً، كغيوركي فلوروفسكي الذي قال: «لا يخطر في بالهم أنه يمكن، بل وينبغي التفكير ملياً، بمصائر الثقافة الأوروبية النهائية… إن إعجابهم المتوهَّم بأوروبا يستر وحسب قلة انتباههم العميقة وعدم احترامهم لمصيرها المأساوي». ومن أرنولد توينبي (المؤرخ وعالم الاجتماع الإنكليزي) يقتبس مورزا :تلا ذلك «الهيمنة الروحية و«دين الديمقراطية» الشمولي» في نهاية الأمر ظهور نمط دولة شمولي في العالم الغربي، يضم في جنباته العبقرية الغربية في التنظيم والمكننة مع مقدرة شيطانية على استعباد النفوس يمكن أن تثير حسد مستبدي الأزمنة كلها والشعوب كلها مجتمعة… أعراض التخلف الروحي في العالم الغربي المعلمن في القرن العشرين جلية…نعلم جميعاً، ونتذكر دائماً ما يسمى «الضلال الحماسي»، الذي يبث الروح في الأشياء غير الحية ويهبها الحياة. بيد أننا نصير الآن على الأرجح ضحايا العكس من ذلك- ضحايا «الضلال الحماسي» الذي يتعاملون به مع المخلوقات الحية وكأنها أشياء لا روح فيها». وحتى نيتشه الذي لخص رؤيته لطريق الحضارة الغربي بالقول: «يا أيها الهيكل العظمي، هل ترتجف؟ كنت سترتجف ارتجافاً أشد لو عرفت إلى أين أقودك». ويعلّق موزرا على المصير الحضاري الغربي بالقول «لننظر إلى كون وضع الإنسان يرتفع أم ينخفض لدى الانتقال من القسر المباشر إلى التلاعب بوعيه. فحتى في «حرب الجميع ضد الجميع» التي تخاض وفقاً لقواعد المجتمع المدني (المنافسة) تقسم الأهداف الخاضعة للتأثير إلى ثلاث فئات، الصديق، الشريك، المنافس. يتفق الأخصائيون على أن الإنسان المتحول إلى هدف التلاعب يسقط تماماً من هذا التصنيف. إنه ليس صديقاً ولا شريكاً ولا منافساً. أنه يصير شيئاً… ما نراه في تكنولوجيا التلاعب بالوعي هو تعبير عن نزعة تشييء الإنسان… هذا يؤثر في البداية في الإنسان غير المنتمي إلى النخبة (إنها تتلاعب بالدهماء). لكن بعد ذلك يتحول هذا النظام إلى «آلة ويشيئ الإنسان عموماً».
بين النبؤات واليوم
ما كان نبوءات في القرنين الماضيين، وحتى في العقود القليلة الماضية، صار واقعاً محققا اليوم. والمواقف التي تتوقع بدمار العالم الروحي ليس للنخبة فقط، بل للعامة أيضاً، وصلت اليوم إلى مرحلة تحققها. فالحضارة الغربية الفردانية الاستهلاكية خلال العقود الثلاثة الماضية توسّعت لتطال الغالبية العظمى من البشرية (نقطة العلام هي انهيار الاتحاد السوفياتي بالتحديد). فالدفعة الأخيرة، على قاعدة التكنولوجيا الحديثة ونمط الاستهلاك المعمم والفرادنية المتوحشة، عمّمت التشيؤ الذي وصفته بعض العقول «المبكّرة». ومن الواضح أن الحديث مهما اختلفت زاوية النظر إليه، أي مع اختلاف النظرة «الأيديولوجية» نحوه (استعرض مورزا مواقف مختلف الباحثين والمفكرين بما يتعدى انتماءهم «الثوري» النظري)، فإن محور النقض والنقد يطال علاقة الإنسان بالعالم. إنها مسألة جوهر الوجود اليومي ونمط الحياة. وإن تحويل هذه المواقف إلى برنامج سياسي يصب في إطار المسألة الحضارية موضع الحديث اليوم، فلا يمكن إلا أن يكون إعادة تشكيل علاقة الإنسان بالعالم ليس كمسألة «ثقافية» بالمعنى القيمي للمفهوم، بل كمسألة وجود ممارسي ملموس، ودور بما يتعارض مع «اللاعقلانية». إذاً، ليس مبالغة القول، وليس جديداً البتة، بأن الحضارة المهيمنة تقتل الإنسان/ العقل/ العقلانية.
غرامشي بين «الدفاع والهجوم»
في «الأمير الحديث» يظهر غرامشي السياسة، كعمل حيّ، كالتحام للعاطفة\الحماس مع النظرية والممارسة المباشرة. أي التحام «اليوتوبيا» و«الموقف العملي» في «الشكل الدرامي للأسطورة». وهذا الالتحام، وإن كان يتمثل بشخص الفرد المفرد (قد يكون القائد السياسي)، فهو التعبير عن «الإرادة الجماعية» التاريخية. هكذا إذاً فإن السياسة «لا تتخذ صورة اليوتوبيا البادرة، أو التنظير العلمي، بل صورة الخيال الجامح المتجسد، الذي يؤثر في شعب مشتت ومحطم ليستثير إرادته الجماعية وينظمها». ومن أكثر من «شعب» المرحلة (شعوب العالم) تشتتاً ويحتاج إلى هذه الإستثارة والتنظيم؟! ويضيف غرامشي «ولكنه ليس الشعب «بالمعنى المجرد» للكلمة، بل ذلك الشعب الذي سبق أن أقنعه برأيه (الكلام هنا عن العقل السياسي الذي يحاول إقامة الانتقالة الثورية في مرحلة من المراحل)، وأصبح يشعر بتوحده معه، وبأنه صار تجسيداً له وتعبيراً عن وعيه». وهذه «الأسطورة»، كاقتحام للتاريخ، تجد التعبير عنها حسب غرامشي «في نشاطها العملي، رمز الإرادة الفاعلة». وهذا التشكّل للإرادة الجماعية الفاعلة يجب أن يتجاوز الأشكال الدفاعية من «التكوين البدائي» (يشير غرامشي هنا إلى التنظيم النقابي كشكل من أشكال التكوين البدائي غير الكافي) «إذ تتفرق الإرادة الجماعية» إلى عدد لا حصر له من الإرادات الفردية التي تتخذ مسارات مختلفة ومتصارعة؟». وهذه «الأسطورة» التي فيها تلتحم مختلف مستويات الوجود المعنوي والمادي، «لا يمكن إلا أن يكون كائناً حياً، أي عنصراً مركباً من عناصر المجتمع الذي أخذت تتشكل داخله إرادة جماعية معترف بها، إرادة أثبتت إلى حد ما وجودها، وتتخذ شكلاً محدداً». ويكمل غرامشي «لقد خلق التاريخ هذا الكائن فعلاً، إنه الحزب السياسي، الخلية الأولى التي تتجمع فيها بذور إرادة جماعية تنزع إلى العالمية والشمول». ولكن هذا العمل، حسب غرامشي، يجب أن يتجه إلى تأسيس دولة جديدة، وهياكل قومية واجتماعية جديدة، لا عمل دفاعي غير قادر على الإبداع الأصيل. فالعمل الدفاعي يفترض «أن الوهن قد دب بالإرادة الجماعية وأصابها التشتت، وأنها تعاني من انهيار خطير ينذر بأوخم العواقب، وأنه لا بد من استجماعها من جديد، بل من خلق إرادة جماعية جديدة من العدم، وتوجيهها لتحقيق أهداف محددة ومعقولة. هو تحدد ومعقولية لم توضع بعد موضع الاختبار الحاسم في تجربة تاريخية معروفة.»
يا لهذا التوصيف الدقيق، الذي يأخذ موقعه في سياق بحثنا الراهن عن الأزمة الحضارية. فالموقف «الإبداعي الأصيل» لا يمكن أن يكتفي بالتجميع لما هو قائم من «إرادات مشتتة» على قاعدة «المعقولية القائمة» نفسها، بل تجاوزاً لها. أي إنه لا يكفي الموقف الدفاعي عبر استخدام عناصر البنى القائمة (القومية، العائلية، الوطنية…)، مهما كان دورها اليوم إيجابياً. فهذا الموقف الدفاعي «سيكون في أغلب الأحوال ملائماً لإعادة الوضع السابق، ولإعادة التنظيم» كما يعبّر غرامشي، أي الحفاظ على اللحمة التي «كانت قائمة». بينما المطلوب هو بناء لحمة جديدة، تنتمي إلى بنية تاريخية- اقتصادية- اجتماعية جديدة.
غرامشي وولادة العقلانية
وإذا ما تجاوزنا المفهوم المعروف للـ «الحزب الثوري»، وعممناه لكي يصير تعبيراً عن الحركة التاريخية والممارسة الجماعية، فإن ولادة العقلانية، ضد «اللاعقلانية» المعممة اليوم (كتعبير عن الانهيار الحضاري الراهن)، تكمن في هذا الفعل التاريخي «الأسطوري» وهذا الاجتذاب والتعبير عن «الإرادة الجماعية» «حماسياً وممارسياً»، والتصدي «لقضية الإصلاح الثقافي والأخلاقي، أي لقضية رؤية للعالم… فالأمير الحديث «الحزب الثوري» لا يمكن إلا أن يكون داعية ومنظماً لإصلاح ثقافي أخلاقي. وهذا يعني أيضاً، خلق أرضية لتطور إرادة جماعية قومية- شعبية.. لصياغة شكل أرقى وأشمل للحضارة الحديثة… ينبغي أن يبنى العمل برمته على هاتين النقطتين الأساسيتين، تكوين الإرادة الجماعية… والإصلاح الفكري والأخلاقي».
:::::
موقع “قاسيون”، 9 حزيران/يونيو 2023
________
تابعونا على:
- على موقعنا:
- توتير:
- فيس بوك:
https://www.facebook.com/kanaanonline/
- ملاحظة من “كنعان”:
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.
- عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
- يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org