السنة الثالثة والعشرون – العدد 6585
■ قراءات في الراهن العربي من النظري إلى التطبيق (الحلقة 11 والأخيرة): هل دول الخليج إمبريالية، عادل سماره
■ دعوة للتضامن والحماية: إلى لكل من يرفض الاستيطان الصهيوني في فلسطين /فلسطيني/عربي/عالمي، د. عادل سماره
■ ملخص كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبد الرحمن الكواكبي
✺ ✺ ✺
قراءات في الراهن العربي من النظري إلى التطبيق
(حلقة 11 والأخيرة)
هل دول الخليج إمبريالية
عادل سماره
إنها مغامرة أن نطرح مثل هذا السؤال على الأقل حسب تشخيصات لينين الخمس للإمبريالية التي نوقشت سابقاً. لكن يجب أن ننظر في التغييرات التي حدثت في العالم في القرن الذي أعقب صدور عمل لينين.
عرّف لينين الإمبريالية على أنها علاقة استغلال اقتصادي تؤدي إلى توزيع غير متكافئ للثروة والسلطة على نطاق عالمي، وهذا يوسع تعريفه للإمبريالية على أنها تتحكم في كميات كبيرة من رأس المال وتصدير رأس المال.
الحالة قيد البحث، أي أن الكيانات الخليجية الريعية تتحكم في الكثير من رأس المال ورأس المال التصديري أيضًا. لا يمكننا تجاهل هذا التشابه، لكن في نفس الوقت لا يمكننا التأكيد على أنها إمبريالية تعتمد على تلك التشابهات وحدها.
كما يجادل لينين بأن الإمبريالية تتميز “بأرباح احتكار عالية” أو “سوبر أرباح ” من خلال نهب العالم بأسره. هنا لا يمكن تسمية الكيانات الخليجية بالإمبريالية بسبب نقص أربعة عوامل:
• ثروتهم لا تنبع أبدًا من عملية إنتاجية متطورة في التاريخ والحاضر، فمصدر ثروتهم ينبع من ريع النفط الذي تم اكتشافه واستخراجه وحتى تنقيته من قبل الإمبريالية.
ثروتهم في الأصل لم يكتسبوها من النهب الخارجي.
• وليس من الواضح حتى اليوم ما إذا كان استعمارهم للأراضي في البلدان الفقيرة في إفريقيا سيولد الكثير من الفائض أو الأرباح الفائقة.
• معظم ما يتم تصديره من راس المال الخليجي ليس بهدف الإنتاج ولا موجه إلى قطاعات منتجة، بل رأسمالها المُصدَّر مخصص للإرهاب لخدمة تقسيم العمل الإمبريالي إرهابياً، أي أنه يحرق رأس المال لدعم الإرهاب المكرس لحرق البشر.
من ناحية أخرى، من المثير للاهتمام أيضًا ملاحظة أنه بالنسبة للينين، يجب أن تستند الإمبريالية باعتبارها “ظاهرة تاريخية عالمية” إلى استغلال الغالبية العظمى من سكان العالم من قبل “حفنة من الدول الغنية والقوية بشكل استثنائي”.
لم ينطبق هذا على الأنظمة الخليجية من حيث الاستغلال، فالأنظمة الخليجية لم تتحكم في ريع رأس المال الخاص بها، وتفتقر إلى قرار سياسي وطني مستقل. الأنظمة الخليجية ليست دولًا قوية من حيث الهياكل الاجتماعية وحتى الديموغرافية، أي أن العرب في بعضها يشكلون أقل من 10٪ من السكان، ولأنها في حالة التبعية والضعف، فإنها تفتقر إلى التماسك الديموغرافي الداخلي / الاجتماعي. التشابه الوحيد مع وجهة نظر لينين هو قلة عدد سكان الخليج، لكنها صغيرة جدًا مقارنة مع قلة عدد سكان بلدان الإمبريالية الأوروبية أو ثلاثي الإمبريالية أي امريكا، الاتحاد الأوروبي واليابان.
ما يستخلصه المرء من حالة الأنظمة الخليجية هو أنها مشوهة للغاية في كتشكيلات اجتماعية، فهي تابعة من جهة وعدوانية ومستعمرة من جهة أخرى. إنهم أغنياء لكنهم غير منتجين.
كان العديد من الماركسيين والقوميين العرب قلقين على مستقبل دول الخليج لأن معظم سكانها ليسوا عربًا ويعاملون معاملة سيئة بالإضافة إلى حقيقة أن سياسات الأنظمة ضد أي شكل من أشكال الوحدة العربية. يكشف الربيع العربي / الخريف عن دور بالغ الأهمية والخطير لتلك الأنظمة. لن أعود إلى دورهم كأدوات للإمبريالية، لكنني سأتناول هنا فقط وضعهم ودورهم في ضوء تنظير ماركس من حيث النزعة العسكرية.
منظور ماركس للإنفاق العسكري بأنه يعتبره “هدراً غير منتج لجزء من المنتج الاجتماعي” جنبًا إلى جنب مع وضعه الإمبريالي المتنامي.
وفي حين أن وجهة نظر ماركس هنا، من حيث الهدر، قابلة للتطبيق بشكل كبير على الدول العربية العميلة في الخليج مع بعض الاختلافات مثلا ان الريع ليس منتَجاً إجتماعياً محلياً. فالسيولة النقدية لهذا النظام الريعي في الأصل والأموال التي يتم إنفاقها على الجيش هي للاستيراد والعدوان ولكنها غير مستثمرة داخليا حتى لإنتاج الأسلحة. إن الإنفاق العسكري الخليجي هو في الواقع ضد الأمة العربية نفسها، وهو شكل فريد من أشكال انتحار الذات. إنه امتصاص بل ترويج فعال لصناعة الأسلحة الإمبريالية التي تخدم الإمبريالية هدفين مهمين:
• تراكم موسع،
• وهيمنة دولية.
تنطبق وجهة نظر ماركس على المدى القصير النظري / البشري على حالة الخليج، أكثر مما تنطبق على المدى العملي والطويل. هذا النوع من الإنفاق الخليجي هو في المقام الأول وفي الدرجة الأولى لأجل أصحاب الشركات الأجنبية الإمبريالية إنه حرق ثروات الخليج من جهة وشن مجزرة بحق أجزاء أخرى من الأمة العربية، لكنه يعود بالنفع على منتجي السلاح.
في الواقع، حتى على المدى الطويل، فإن الاستثمار الإمبريالي في الأسلحة مربح. إنه أداة الحروب الاستعمارية التي تدعم خسارة الرأسمالية في الحروب من خلال الاستغلال الفادح واستغلال الطبقة العاملة والتبادل غير المتكافئ، والحرب هي أكثر الحقول ربحًا للرأسمالية.
أدى الإنفاق العسكري إلى توسع الحروب مما يعني فتح أسواق جديدة والمزيد من الأرباح. إنه توسع في توظيف العمال المحليين وغيرهم من العاملين في هذا القطاع. إنه أداة لإخضاع وكسب الحلفاء في العديد من البلدان التي تفتح أسواقها أمام الصادرات العسكرية والمدنية الإمبريالية.
لنأخذ الإنفاق العسكري الإمبريالي / التبرعات إلى الكيان الصهيوني الأشكنازي على سبيل المثال والذي هو استثمارات استراتيجية، تبدو غير مربحة على المدى القصير أو النظرة المباشرة، ولكن بالنظر إلى دوره في عرقلة التنمية العربية والحفاظ على التبعية العربية، فهي مربحة للغاية.
كما ذكرنا سابقًا، ماركس محق من وجهة النظر الإنسانية وحماية الطبيعة، وهي حجة لم تستمع إليها الإمبريالية أبدًا.
وللتوضيح، فإن الإنفاق العسكري الخليجي على شكل حرق / إهدار رأس المال، والعدوان على الدول العربية الأخرى في شكل شبه إمبريالي يسير جنبًا إلى جنب مع العدوان الصهيوني وعرقلة التنمية في الدول العربية، وأخيرًا فإن النظامين الخليجيين والصهيوني عملاء لـ الإمبريالية، وإن كانت بأشكال مختلفة.
إن التطبيع بين العديد من الأنظمة العربية، خاصة الأنظمة الخليجية مع الكيان وعدوانها المشترك على سوريا وليبيا واليمن والعراق وفلسطين بالتأكيد كجزء من خطة الإمبريالية ضد الأمة العربية، قادنا إلى مناقشة الإمبريالية إمبريالية في الوطن العربي بشكل منفصل عن بقية الشرق الأوسط وخاصة عدوان الإمبريالية على الأمة العربية بأكثر واشد منه على بقية الشرق الأوسط.
الوطن العربي تحت تهديد حيوي من ثلاث دول/أمم تركيا، إيران وإثيوبيا إضافة إلى الكيان الصهيوني الأشكنازي.
• عدوان تركيا من أجل تجديد استعمارها حتى في صورة المستوطنين بالإضافة إلى حربها المائية على سوريا والعراق.
• حرب المياه الأثيوبية ضد مصر والسودان
هيمنة إيران على العراق ومحاولاتها تصدير ما يسمى ثورة وهو مشروع الدين السياسي أي الدولة الدينية التي شكلها إسلامي وجوهرها قومي مستفيدة في ترويج هذا من مساهمتها في دعم المقاومة.
كل هذه المشاكل تعزز وتبرر حجتنا القائلة بأن التعامل مع الإمبريالية في الوطن العربي بشكل منفصل هو أكثر دقة من التعامل مع جميع ما يُسمى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كمجموعة واحدة.
✺ ✺ ✺
دعوة للتضامن والحماية
إلى لكل من يرفض الاستيطان الصهيوني في فلسطين /فلسطيني/عربي/عالمي
(حلقة 1)
د. عادل سماره
تحية للجميع: إقرأ النص التالي الذي التزم به ونشره د. يحيى غدار من لبنان ومعه آخرين تحت اسم متناقض من داخله “التجمع العالمي لدعم ال.م.ق.ا.و.م.ة” فأقام دعوى ضدي على أكاذيب ولذا رفضتها المحاكم ثلاث مرات. وبالطبع أصدرت الفصائل الفلسطينية رفضاً لوثيقة هذا التجمع يوم 10 تموز 2016 والمسماة “نداء وصرخة من الأعماق” وذكرت الغدار ومن معه بالاسم في بيانها”
النص:
“… انه مشروع مستقبلي لكفاح مشترك نبني بواسطته مستقبلا يكون كما نصنعه نحن بأيدينا وعقولنا لمصلحتنا الجماعية المشتركة، انه تغيير جذري وليس اصلاح سطحي لبنية الصراع الموروثة عن القديم المهترىء… فالحقائق الملموسة الراهنة على ارض فلسطين التاريخية تؤكد ان سكانها اليوم اصليين ومستوطنين يشكلون كلا واحد ا من حيث مصلحتهم في البقاء على قيد الحياة”
هذا جوهر القضية المقامة ضدي لأنني ضد الاستيطان الموغل في دمنا وقد برئني القضاء الفلسطيني في مختلف مستوياته ثلاث مرات آخرها محكمة الاستئناف الموقرة يوم 30 أيار 2023.
ولكن الخصم والنيابة ذهبوا إلى محكمة النقض بتاريخ 2 تموز 2023 وبالتالي دخلت القضية عامها الثامن. ويبدو أنها ستمتد عمرا او تنتهي في مجلس الأمن.
لقد أكدت عديد المرات أنه لا توجد قضية ابداً سوى كيدية سياسية وترويج للتعايش مع المستوطنين. وهم يذبحون شعبنا! فهل أغرب من هذه الجرأة على الوطن وبشكل علني!
والغريب، أن النيابة العامة لم تقرأ إفادة المدعية يوم 30 حزيران 2016 والتي قالت فيها إنها تلقت تهديدات بالهاتف وطلب منها القاضي إحضار الأرقام ولم تفعل حتى اليوم.
والأغرب ان النيابة تزعم أنني هددت الطرف الخصم! وهل يُعقل رمي الأمور على عواهنها هكذا. لا شك أن كاتب نص ورقة النيابة على الأقل قانوني أو رجل شرطة يعرف معنى دقة توجيه التهم…الخ. علماً بأن التهديد ليس من شيمي. بل لا توجد اصلاً قضية تستحق مجرد النقاش.
وعليه، يبدو ان رفضي للاستيطان هو تهديد!
إذن:
وسوى الروم من خلف ظهرك رومٌ….فعلى اي جانبيك تميلُ”/المتنبي.
تحذير: وطالما أن موقفي ضد المستوطنين وبأن هؤلاء الخصوم ينشرون ويروجون ضدي كوني ضد المستوطنين، فإنني أتوقع أن يؤدي ما يفعلونه إلى قيام المستوطنين بمهاجمتي أنا واسرتي، كما حصل عام 1987 وعام 2000 مع الأخذ بالاعتبار أن مستوطنة صهيونية مقامة على أرض قريتي بيت عور الفوقا وبيوتها ملاصقة لبيوت أهل القرية.
✺ ✺ ✺
ملخص كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
عبد الرحمن الكواكبي
ما الاستبداد؟ ومن المسْتَبِدّ؟ وكيف نتخلص منه؟
هذا بحث كتبه (عبد الرحمن الكواكبي) في موضوع الاستبداد؛ مستعرضًا طبائعه وما ينطوي عليه من سلبيات تؤدي إلى خوف المسْتَبِدّ وإلى استيلاء الجُبْن على رعيّته، إلى جانب انعكاسات الاستبداد على جميع نواحي الحياة الإنسانية، بما فيها الدين والعلم والمجد والمال والأخلاق والترقّي والتربية والعُمْران. ومن خلال التساؤلات يشرح ما الاستبداد؟ وما صفات المسْتَبِدّ؟ ومن هم أعوان المسْتَبِدّ؟ وما علاقة الاستبداد بالدين والمال والعلم والأخلاق؟ وهل يمكن أن يتحمل الإنسان ذلك الاستبداد؟ وبالتالي كيف يكون الخلاص منه؟ وما هو البديل عنه؟
1) ما الاستبداد؟ وما صفات المسْتَبِدّ؟
الاستبدادُ لغةً هو غرور المرء برأيه، والتكبر عن قبول النّصيحة، أو الاستقلال في الرّأي وفي الحقوق المشتركة. ويُراد بالاستبداد عند إطلاقِهِ استبداد الحكومات خاصّةً؛ لأنّها أعظم مظاهر أضراره التي جعلتْ الإنسان يزداد شقاءً؛ فهو تَصَرُّف فرد أو مجموعة في حقوق قومٍ بالمشيئة وبلا خوف، ويستعملون في مقام وصف الرعيّة (المسْتَبَدّ عليهم) كلمات: أسرى، ومُسْتَصغَرين، وبؤساء.
وصِفَة الاستبداد تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولَّي الحكم بالغَلَبة أو الوراثة، وتشمل أيضًا الحاكم الفرد المقيَّد المنتخب إذا أصبح غير مسئول، وتشمل حكومة المجموعة ولو منتخبة؛ لأنَّ الاشتراك في الرّأي لا يدفع الاستبداد، وإنَّما تغير نوعه، وقد يكون عند الاتّفاق أضرّ من استبداد الفرد،
ويشمل أيضًا حكومة مقسّمة ليس لأحد فيها كل القوى كاملة وإنما يمتلك جزءُ منها التشريع ويكون له السلطة على الجزء المسؤول عن التنفيذ. ويمتلك جزءٌ آخر الرقابة ويكون له السلطة على المشرّع والمنفّذ. ويقل الاستبداد كلّما قوي الارتباط بين هذه السلطات الثلاث
وأشدّ مراتب الاستبداد التي يُتعوَّذ بها من الشّيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية، ولنا أنْ نقول أنَّه كلّما قلَّ وَصْفٌ منْ هذه الأوصاف، خفَّ الاستبداد إلى أنْ ينتهي بالحاكم المنتخب المؤقَّت المسئول فعلًا، وكذلك يخفُّ الاستبداد كلّما قلَّ عدد نفوس الرعيّة، وقلَّ الارتباط بالأملاك ورؤوس الأموال حاكمًا ورعية، وقلَّ التّفاوت في الثّروات، وكلّما ازداد الشّعب معرفةً.
المسْتَبِدّ يودُّ أنْ تكون رعيّته كالغنم في الطاعة، وكالكلاب في التذلل. ولذلك على الرعيّة أنْ تكون كالخيل إنْ خُدِمَت خَدمتْ، وإنْ ضُرِبت غضبت، وعليها أن تكون كالصقور لا تُلاعب، خلافًا للكلاب التي لا فرق عندها أُطْعِمت أو حُرِمت حتَّي من العظام. نعم، على الرعيّة أن تعرف مقامها: هل خُلِقت خادمة لحاكمها، تطيعه إنْ عدل أو جار، وخُلق هو ليحكمها كيف شاء: بعدل أو ظلم؟ أم هي جاءت به ليخدمها لا يستخدمها؟ والرعيّة العاقلة تقيَّد وحش الاستبداد وتقف حائلة بينه وبين ظلمه، لتأمن من بطشه.
2) هل هناك علاقة بين الاستبداد والدِّين؟
اجتمعت آراء أكثر العلماء الباحثين في التّاريخ الطّبيعي للأديان، على أنَّ الاستبداد السّياسي ناتج من الاستبداد الدِّيني، والبعض يقول: “إنْ لم يكنْ هناك توليد فهما أخوان، أبوهما التَّغلب، وأمّهما الرّياسة، أو هما صِنْوان قويّان، بينهما رابطة الحاجة على التّعاون لتذليل الإنسان “، وهذه الحال هي التي سهَّلت في الأمم الغابرة المنحطَّة ادِّعاء بعض المسْتَبِدّين الألوهية على مراتب مختلفة، حسب استعداد أذهان الرعيّة، حتَّي يُقال: “إنَّه ما من مسْتَبِدّ سياسيّ إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تُعطِيه مقامًا ذا علاقة مع الله “، ويتَّخذ صحبة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد: تفريق الأمم إلى مذاهب وشِيَع متناحرة تقاوم بعضها بعضًا؛ فتنهار قوَّة الأمّة ويذهب ريحها؛ فيخلو الجوّ للاستبداد ليقوى ويستفحل. وهذه سياسة الإنجليز في المستعمرات، لا يُؤيِّدها شيء مثل انقسام الأهالي على أنفسهم، وقتلهم قوتهم بسبب اختلافهم في الأديان والمذاهب.
وعلماء الاستبداد جعلوا للفظة العدل معنىً عُرفيًّا، وهو الحكم بمقتضى ما قاله الفقهاء، حتى أصبحت لفظة العدل لا تدلُّ على غير هذا المعنى، مع أنّ العدل لغةً هو التسوية. فالعدل بين النّاس هو التّسوية بينهم، وهذا هو المراد في آية: “إن الله يأمر بالعدل”، وكذلك القصاص في آية: “ولكم في القِصاص حياةٌ ” فهي ليست المعاقبة بالمثل فقط على ما يقفز في أذهان الذين لا يعرفون للتّساوي موقعًا في الدِّين غير الوقوف بين يدي القضاة. وقد عدّد الفقهاء من لا تُقبَل شهادتهم لسقوط عدالتهم؛ فذكروا حتّي من يأكل ماشيًا في الأسواق، ولكنّ شيطان الاستبداد أنساهم أن يُفسِّقوا الأمراء الظالمين فيردّوا شهادتهم، ولعلّ الفقهاء يُعذَرون بسكوتهم هنا مع تشنيعهم على الظالمين في مواقع أخرى، ولكن ما عذرهم في تغيير معنى الآية: “ولتكن منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ” إلى أنّ هذا الفرض هو فرض كفاية لا فرض عين؟
كذلك ما عُذر الصوفية الذين جعلتهم الإنعامات على زاوياهم يقولون: “لا يكون الأمير الأعظم إلا وليًّا من أولياء الله، ولا يأتي أمرًا إلا بإلهام من الله “، ألا سبحان الله ما أحلمه! نعم، لولا حلم الله لخسف الأرض بالعرب، حيثُ أرسل لهم رسولًا من أنفسهم أسّس لهم أفضل حكومة أُسِّسَت في النّاس، جعل قاعدتها قوله: “كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيّته “، أي كلٌّ منكم سلطانٌ عام ومسئولٌ عن الأمة. وهذه الجملة هي أسمى وأبلغ ما قاله مشرِّع سياسي من الأولين والآخرين. فجاء من المنافقين من حرَّف المعنى عن ظاهره وشموله، إلى أنَّ المسلم راعٍ على عائلته ومسئولٌ عنها فقط. كما حرَّفوا معنى الآية: “والمؤمنون والمؤمنات بعضُهم أولياءُ بعض” وفسّروها على ولاية الشهادة في القضاء وغير دون الولاية العامة وهي تولّي كافة شئون المسلمين. وهكذا غيّروا مفهوم اللغة، وبدَّلوا الدِّين، وغيّبوا العقول؛ حتى جعلوا النّاس ينسون لغة الاستقلال وعزّة الحريّة، بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمّةٌ نفسها بنفسها دون سلطانٍ مستبد.
وفي النصرانية واليهودية، علماء الاستبداد حرّفوا الدين لخدمة المسْتَبِدّ. والخلاصة أنّ البِدَع التي شوّهت الإيمان وشوَّهت الأديان تكاد كُلُّها تتسلسل بعضها من بعض، وتتولّد جميعها من غرض واحد هو المراد؛ ألا وهو الاستعباد.
3) هل الاستبداد يحارب العلم؟ ولماذا؟
ما أشبه المسْتَبِدّ في تصرّفه مع رعيّته بالوصيّ الخائن القوي؛ فهو يتصرّف في أموال الأيتام وأنفسهم كما يهوى ما داموا ضعافًا قاصرين. فكما أنّه ليس من صالح الوصيّ أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المسْتَبِدّ أن تتنوّر الرعيّة بالعلم؛ فالعلم قبسةٌ من نور الله، وقد خلق الله النّور كشّافًا مبصرًا، يولّد في النفوس حرارةً، والمسْتَبِدّ يخاف من هؤلاء العاملين الراشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسهم محفوظاتٌ كثيرة كأنّها مكتبات مقفلة.
وكما يبغض المسْتَبِدّ العلمَ ونتائجه، يبغضه أيضًا لذاته؛ لأن للعلم سلطانًا أقوى من كلِّ سلطان؛ فلا بدَّ للمسْتَبِدّ من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علمًا. ولذلك لا يحبُّ المسْتَبِدّ أن يرى وجه عالمٍ عاقل يتفوق عليه فكرًا؛ فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبي المتصاغر المتملِّق، وعلى هذه القاعدة بنى (ابن خلدون) قوله: “فاز الـمُتَمَلِّقون “، وهذه طبيعة كلِّ المتكبرين، بل في غالب الناس، لذلك تجدهم يمدحون كلِّ من يكون مسكينًا خاملًا لا يُرجي لخيرٍ ولا لشرٍّ.
والعلماء الحكماء -الذين يترعرعون أحيانًا في تحت ظروف الاستبداد -يسعون جاهدين في تنوير أفكار النّاس. والغالب أنَّ رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم ويحاربونهم؛ فالسعيد منهم من يتمكّن من مهاجرة دياره، وهذا هو السبب في أنَّ كلَّ الأنبياء العظام – عليهم الصلاة والسلام -، وأكثر العلماء الأعلام والأدباء والنبلاء تركوا بلادهم وماتوا غرباء. وينتج مما سبق أنَّ بين الاستبداد والعلم حربًا دائمةً ومقاومة مستمرة: يسعى العلماء في تنوير العقول، ويجتهد المسْتَبِدّ في إطفاء نورها. والطرفان يحاولان مع عامة الناس.
4) من هم العوامّ؟ وما أهمية تخويفهم؟
العوامّ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنَّهم هم الذين متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا. العوام هم قوّة المسْتَبِدّ وغذاؤه اللذان يحيا بهما. يأسرهم فيفرحون لقوّته، ويغتصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيمدحون رِفْعته، ويجعل بعضهم أعداء بعض فيفتخرون بسياسته. وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريمًا، وإذا قتل منهم ولم يمثِّل بالجثث يعتبرونه رحيمًا. ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه خائفين من التوبيخ، وإن نقم عليه منهم بعض الشرفاء قاتلهم كأنهم ظلموا وفجروا.
إنَّ العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناتج عن الجهل والغباوة؛ فإذا ذهب الجهل وتنوَّر العقل زال الخوف. والمسْتَبِدّ أشقى الناس؛ لأنه على الدوام مكروه، محاط بالأخطار، غير مطمئن على رياسته، بل وعلى حياته ساعة من نهار؛ ولأنه لا يرى قطّ أمامه من يطلب منه العلم فيما يجهل؛ لأنَّ الواقف بين يديه مهما كان عاقلًا متينًا، لا بدَّ أن يخشى استبداده وظلمه؛ فيضطرب باله ويتشوش فكره ويختلّ رأيه؛ فلا يهتدي إلى الصواب، وإن اهتدى لا تأتيه الشجاعة على التصريح به قبل استطلاع رأي المسْتَبِدّ؛ فإن رآه لا يرى إلا ما يراه؛ فلا يعارضه ولا يناقشه. وكلُّ مستشارٍ يدَّعي أنَّه لا يخاف فهو كذَّاب. والقول الحقُّ: إنَّ الصدق لا يدخل قصور الملوك؛ فلا يستفيد المسْتَبِدّ قطُّ من رأي غيره، بل يعيش في ضلال وتردّدٍ وعذابٍ وخوف، وهذا هو انتقام الله منه على استعباده النّاس وقد خلقهم ربهم أحرارًا.
إنَّ خوف المسْتَبِدّ من غضب رعيّته أكثر من خوفهم من بطشه؛ لأنَّ خوفه ناتج عن علمه بما يستحقُّه، وخوفهم نتيجة الجهل، وخوفه عن عجزٍ حقيقي فيه، وخوفهم عن وهمهم أنهم مقصرون، وخوفه على فقد حياته وسلطانه، وخوفهم على لُقَيْمات من النّبات وعلى وطنٍ زائل، وخوفه على كلِّ شيء تحت سماء ملكه، وخوفهم على حياةٍ تعيسة فقط. فكلما زاد المسْتَبِدّ ظلمًا زاد خوفه من رعيّته وحتّي من حاشيته، وحتى من هواجسه وخيالاته. وأكثر ما تنتهي حياة المسْتَبِدّ بالجنون التّام، ويقول أهل النظر: “إنَّ خير ما يُستَدَلُّ به على درجة استبداد الحكومات، هو تغاليها في شنآن الملوك وفخامة القصور “، ونحو ذلك من التمويهات التي يرهب بها الملوك رعاياهم عوضًا عن العقل، وهذه التمويهات يلجأ إليها المسْتَبِدّ كما يلجأ قليل الشرف للتكبُّر، وقليل العلم للتصوُّف، وقليل الصِّدق للحلف، وقليل المال لزينة اللباس.
5) المسْتَبِدّ الأصغر
الحكومة المسْتَبِدّة تكون طبعًا مسْتَبِدّة في كل فروعها من المسْتَبِدّ الأعظم، إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كلُّ صنفٍ إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقًا؛ لأن الأسافل لا يهمّهم طبعًا الكرامة وحسن السمعة، إنما غايتهم أن يبرهنوا لمن يخدمونه بأنهم مثله وأنصار لدولته، وبهذا يأمنهم المسْتَبِدّ ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقلُّ حسب شدة الاستبداد وخفّته.
وكلما كان المسْتَبِدّ حريصًا على الشدة، احتاج إلى زيادة جيش المستبدّبن العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد من الدقة في اتِّخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدينٍ أو ذمّة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة؛ وهي أن يكون أسفلهم طباعًا وخصالًا أعلاهم وظيفةً وقربًا. ولهذا، لا بدَّ أن يكون الوزير الأعظم للمسْتَبِدّ هو اللئيم الأعظم في الأمة، ثم من دونه لؤمًا، وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان في لؤمهم حسب مراتبهم في التشريفات والقربى منه.
بناءً عليه؛ فالمسْتَبِدّ لا يأمن على بابه إلا من يثق أنَّه أظلم منه للناس، والنتيجة أنَّ وزير المسْتَبِدّ هو وزير المسْتَبِدّ، لا وزير الأمّة كما في الحكومات الدستورية. كذلك القائد يحمل سيف المسْتَبِدّ ليضعه في الرقاب بأمر المسْتَبِدّ، لا بأمر الأمة، بل هو لا يقبل تكون الأمة صاحبة أمر؛ لما يعلم من نفسه أنَّ الأمّة لا تعطي القيادة لشخص مثله. إنَّ المرموقين في عهد الاستبداد لا أخلاق لهم ولا ذمّة؛ فكلُّ ما يتظاهرون به أحيانًا من التذمّر والتألّم يقصدون به غشَّ الأمة المسكينة التي يعلمون أن الاستبداد قد أعماها عن الحق، وغيّر تفكيرها، وانحرف به.
6) ما علاقة الاستبداد بالمال؟
الاستبداد لو كان رجلًا وأراد أن ينتسب لقال: “أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال “، إنَّ الاستبداد يجعل المال في أيدي الناس عرضةً لسلب المسْتَبِدّ وأعوانه وعمّاله غصبًا، أو بحجةٍ باطلة، وعرضةً أيضًا لسلب المعتدين من اللصوص والمحتالين المنتشرين في ظلِّ أمان الإدارة الاستبدادية، وحيث المال لا يُجمع إلا بالمشقّة؛ فلا تختار النفوس أن تتعب وهي تعلم أنها عرضة للسلب في أي لحظة.
والحفاظ على المال في عهد الإدارة المسْتَبِدّة أصعب من ربحه في البداية؛ لأنَّ ظهور أثره على صاحبه يجلب أنواع البلاء عليه؛ ولذلك يُضطر الناس في زمن الاستبداد إلى إخفاء نعمة الله والتّظاهر بالفقر؛ ولهذا ورد في الأمثال أنَّ حفظ درهم من الذهب يحتاج إلى قنطار من العقل، وأنَّ أسعد الناس هو الصعلوك الذي لا يعرف الحكّام ولا يعرفونه.
ومن طبائع الاستبداد أنَّ الأغنياء أعداؤه في الفكر ومعاونوه في الأفعال؛ فالمستبد يذلُّهم فيتوجّعون؛ ويسترضيهم فيحنّون؛ ولهذا يتثبت الذلُّ في الأمم التي يكثر أغنياؤها، أما الفقراء فيخافهم المسْتَبِدّ خوف النعجة من الذئاب، ويتحبب إليهم ببعض الأعمال التي ظاهرها الرأفة. يقصد بذلك أن يغتصب أيضًا قلوبهم التي لا يملكون غيرها، والفقراء كذلك يخافونه خوف ضعف ونذالة، خوفًا من العقاب؛ فهم لا يجسرون على التفكير في التمرّد أصلًا؛ كأنهم يتوهَّمون أنَّ داخل رءوسهم جواسيسًا عليهم.
7) الاستبداد والأخلاق
الأخلاق أثمار بذروها الوراثة، وتربتها التربية، وسُقياها العلم، والقائمون عليها هم رجال الحكومة؛ فتفعل السياسة في أخلاق البشر ما تفعله العناية في رعاية الشجر، وأسير الاستبداد لا نظام في حياته؛ فلا نظام في أخلاقه. قد يصبح غنيًّا فيكون شجاعًا كريمًا، وقد يمسي فقيرًا فيكون جبانًا خسيسًا. وهكذا كلُّ شئونه لا ترتيب فيها؛ فهو يتبعها بلا هدف، وهكذا يعيش كما تجبره الصُّدف أن يعيش، ومن كانت هذه حاله فكيف يكون له أخلاق؟ وإن وجدتْ أخلاقه في البداية فيصعب أن تظل فيه؛ ولهذا لا تقول الحكمة الحُكمَ على الأسرى بخيرٍ أو شرّ.
أسير الاستبداد يرث شرَّ الصفات، ويتربّي على أسوأها. ولا بدَّ أن يصحبه بعضها طول العمر، ويكفيه مفسدةً لكلِّ الخصال الطبيعية والشرعيّة والاعتيادية اتّصافه بالرّياء اضطرارًا حتى يتعوّد عليه ويصير خصلة ثابتة فيه. فيفقد بسببه ثقته بنفسه؛ لأنَّه لا يجد خُلُقًا ثابتًا فيه؛ فلا يمكنه أن يضمن ثباته على أمرٍ من الأمور؛ فيعيش سيء الظنّ في حقِّ ذاته، مترددًا في أعماله، لوّامًا نفسه على إهماله شئونه، شاعرًا بضعف همَّته ونقص شهامته. ويبقى طول عمره جاهلًا سبب هذا الخلل في شخصيته؛ فيتَّهم الخالق، ويتَّهم تارةً دينه، وتارةً تربيته، وتارةً زمانه، وتارةً قومه، والحقيقة بعيدة عن كلِّ ذلك، وما الحقيقة غير أنّه خُلق حرًّا فاختار الأسر.
8) صفات الأحرار
الحرّ أمينٌ على السلامة في جسمه وحياته بحراسة الحكومة التي لا تغفل عنه بكلِّ قوتها في سكنه وسفره، بدون أن يشعر بثقل قيامها عليه؛ فهي تحيط به إحاطة الهواء، لا إحاطة السور يتخبّط فيه كيفما التفت أو مشى. وهو أمينٌ على الملذَّات الجسمية والفكرية المتعلِّقة بالترويضات الجسمية والنظرية والعقلية؛ حتى يرى أنَّ الطرقات المسهلة والتزيينات والمتنزهات والمنتديات والمدارس والمجامع ونحو ذلك، قد وُجِدت كلُّها لأجل ملذّاته، ويعتبر مشاركة الناس له فيها لأجل إحسانه؛ فهو بهذا النظر والاعتبار لا ينقص عن أغنى الناس سعادةً.
وهو كذلك أمينٌ على الحرّية، كأنَّه خُلِق وحده على سطح هذه الأرض؛ فلا يعارضه معارض فيما يخصُّ شخصه من دينٍ وفكرٍ وعملٍ وأمل، أمينٌ على النفوذ كأنَّه سلطانٌ عزيز؛ فلا معارض له في تنفيذ مقاصده النافعة في الأمة التي هو منها، أمينٌ على العدل كأنَّه الممسك على ميزان الحقوق؛ فلا يخاف تطفيفًا، وهو الذي يحدد الأسعار فلا يحذر بخسًا، وهو المطمئن على أنَّه إذا استحقَّ أن يكون ملكًا صار ملكًا، وإذا أجرم جٌرمًا نال جزاءه لا محالة.
9) قواعد مقاومة الاستبداد
القاعدة الأولى: الأمَّة التي لا يشعر كلُّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقُّ الحريّة. إنَّ الأمَّة إذا اعتادت الذل، تصير كالبهائم أو أقل من البهائم، لا تسأل عن الحرية ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف للاستقلال قيمة، ولا ترى لها في الحياة وظيفة غير طاعة المستبد، وقد تغضب على المسْتَبِدّ نادرًا، ولكن طلبًا للانتقام من شخصه لا طلبًا للخلاص من الاستبداد؛ فلا تستفيد شيئًا، إنما تستبدل مرضًا بمرض؛ كمَغَصٍ بصُداع.
وقد تقاوم المسْتَبِدّ بسَوْق مسْتَبِدّ آخر ترى فيه أنَّه أقوى شوكةً من المسْتَبِدّ الأول؛ فلا تستفيد أيضًا شيئًا، إنما تستبدل مرضًا مُزمنًا بمرض حديث، وربما تُنال الحرية مصادفة فلا تستفيد منها شيئًا لأنَّها لا تعرف طعمها؛ فلا تهتمُّ بحفظها ولا تلبث الحرية أن تنقلب إلى فوضى، وهي استبدادٍ مشوَّش أشدُّ وطأةً كالمريض إذا انتكس؛ ولهذا قرَّر الحكماء أنَّ الحرية التي تنفع الأمَّة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأمَّا التي تحصل عليها نتيجة ثورةٍ حمقاء فقلّما تفيد شيئًا؛ لأنَّ الثورة – غالبًا – تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها؛ فلا تلبث أن تَنْبُت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولًا.
القاعدة الثانية: الاستبداد لا يقاوَم بالشِّدة، إنما يُقاوم باللين، فالوسيلة الوحيدة الفعّالة للقضاء على الاستبداد هي ترقّي الأمَّة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يأتي إلا بالتعليم. ثمَّ إنَّ اقتناع الفكر العام ورضاه بغير ما اعتاد عليه، لا يتأتَّي إلا في زمنٍ طويل.
والاستبداد لا ينبغي أن يُقاوَم بالعنف، كي لا تنتج فتنة تحصد الناس حصدًا. نعم، الاستبداد قد يبلغ من الشدَّة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجارًا طبيعيًا؛ فإذا كان في الأمَّة عقلاء يبتعدون عنها من البداية، حتى إذا سكنتْ ثورتها وقَضَتْ وظيفتها في حصد المنافقين، حينئذٍ يستعملون الحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة.
القاعدة الثالثة: يجب تهيئة ما يُستَبدَل به الاستبداد قبل مقاومة الاستبداد؛ فمعرفة الغاية شرطٌ طبيعي للإقدام على كلِّ عمل، كما أنَّ معرفة الغاية لا تفيد شيئًا إذا لم يُعرف الطريق الموصل إليها. والمعرفة الإجمالية في هذا الباب لا تكفي مطلقًا، بل لا بدَّ من تعيين المطلب والخطة تعيينًا واضحًا موافقًا لرأيِّ الكلِّ أو الأكثرية؛ فإذا كانت الغاية مُبْهمة شيئًا ما يكون الإقدام ناقصًا شيئًا ما، وإذا كانت مجهولة بالكليّة عند قسم من الناس أو مخالفة لرأيهم؛ فهؤلاء ينضمّون إلى المسْتَبِدّ فتكون فتنةً صاحنة ويكون حينئذٍ الانتصار في جانب المسْتَبِدّ.
________
تابعونا على:
- على موقعنا:
- توتير:
- فيس بوك:
https://www.facebook.com/kanaanonline/
- ملاحظة من “كنعان”:
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.
- عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
- يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org