السنة الثالثة والعشرون – العدد 6589
في هذا العدد:
■ عبرة صمود جنين (الحلقة 4): وحدة جبهات الثورة المضادة في الحرب والنهب والشذوذ … فماذا عن وحدة ساحات المحور! د. عادل سماره
■ إِشْكَالِيَّةُ الإِعْلامِ السِّيَاسِيِّ: اليَسَارُ بِالاِنْتِكَاسِ أَوْ الإِسَارُ بالاِنْعِكَاسِ؟ (1)، د. آصال أبسال
✺ ✺ ✺
عبرة صمود جنين:
وحدة جبهات الثورة المضادة في الحرب والنهب والشذوذ
فماذا عن وحدة ساحات المحور!
الحلقة 4
د. عادل سماره
تحليل موجز
منذ أكثر من ستة أشهر والكيان يتحدث عن إعادة اجتياح الضفة الغربية وكان رأيي ان الكيان سوف يقوم بحالات اجتياح محدودة، مدينة مدينة أو حي بعد آخر. وهكذا كان العدوان مجموعة فدائيين مكشوفة اسمائهم وموقعهم في نابلس القديمة حيث هدم عليهم البيوت. وهو ما حاوله في عدوانه على مخيم جنين.
ورغم اقوال الضابط الصهيوني الذي قاد العدوان على مخيم جنين والذي نُشر يوم 8 تموز 2023 وزعمه أن قوات العدو لم تكن لديها معلومات كافية، لكن عدم التوغل كان ايضاً حذرا من تمترس المقاومين ونظراً لأن خسائر المتقدم أعلى من خسائر المتمترس.
والسؤال الآن اين يمكن تصنيف القتال في مخيم جنين؟ هل كان بؤرياً أم كان حرب الدفاع الذاتي المسلح؟ أم لا هذا ولا ذاك؟ أترك هذا لمن كانوا في الميدان إن كانوا سوف يتكلمون في اي مستوى وخاصة إن كان كما قال البعض بأن معظم المقاتلين انسحبوا قبيل وصول العدو وهذا يعني خبرة حقيقية سواء لتجنيب المواطنين عسف العدو أو كي لا يفقدوا ضحايا في معركة جبهية مع عدو مدجج سلاحا وتقنية ففي صراع كهذا لا معنى للحماسة وخاصة من الشيوخ. أما ثرثرة العدو بأن الفدائيين فروا، فهي تافهة بلا مواربة.
لكنني اعود إلى ما قبل عام حيث كان الاستعراض المسلح في شوارع نابلس وجنين أي كان نشاطا مكشوفا للمخبرين وللتصوير من قبل العدو. وهذا قاد إلى انكشاف الكثير من هؤلاء الشباب. وبغض النظر إن كان الاستعراض مجرد حماسة شبابية أو بموافقة قياداتهم، ففي الحالتين هذا قاد إلى تصيُّد العدو للكثير من هؤلاء الشباب دون خسائر بالمقابل لديه، وهذا عكس نظرية أن يقتل الغواري عشرة قبل أن يُستشهد.
إن العمل العلني هو نتاج تراث فوضوي متحمس أرساه لنا مناحيم بيجن منذ 1977 في فتح المجال للعلنية التي تكشف المناضلين.
وهذا يفتح على الأسلوب الآخر وهو العمل السري من جهة والعمليات الفردية من جهة ثانية سواء كانت من فرد أو إثنين إثنين من فصيل ما أو من اشخاص غير منظمين. وهنا يجدر الانتباه إلى تقاطع وتطابق حماسة الشباب الذي لا يؤمن بالعمل السري مع حماسة قدامى مناضلين يعيشون في الخارج، وهو تقاطع غريب وخاصة من القدماء.
كتب أحدهم ما يلي دفاعاً عن العلنية:
“وقد وصل بالبعض إلى القول بأن العودة إلى العمل السري المطارد أفضل من الحالة الجديدة، وقد نسوا نقاط الضعف والسلبيات في مرحلة العمل السري، حيث زمام المبادرة شبه مطلقة بيد جيش العدو والأجهزة الأمنية، علماً أن العمل السري استمر متكاملا مع المرحلة الجديدة.”
غريب، فالعمل السري المطارَد لم يعد سرياً اصلاً! نحن نتكلم عن عمل سرِّي لا يعرفه العدو وبالتالي لا يُطارده. أما إذا ما طورد فلم يعد سرياً وحينها تكون المبادرة بيد العدو. حين يُكشف شخص يلجأ إلى الاختفاء وهذا ليس العمل السري من حيث المبدأ.
وليس صحيحاً زعم الكاتب أن العمل السري استمر متكاملاً مع ما يسميه المرحلة الجديدة دون أن يحددها، بل كان وسيبقى العمل السري نقيضاً للعلنية.
ثم يضيف:
“…طبعا الذي يحسم الجدال هنا، كما هو الحال في كل جدال حول أشكال النضال، إنما هي النتائج العملية. فقد أثبتت التجربة أن الخروج بالسلاح علنا في مخيم جنين، وفي نابلس، كان مبادرة من قبل الشباب المقاوم، وذلك للانتقال إلى مرحلة أعلى في قواعد الاشتباك، وهو ما أكدت صحته حالة المقاومة في القدس والضفة الغربية، كما أكدت صحته معركة مخيم جنين الأخيرة.
يجب أن يسجل هنا بأن المقاومة في مخيم جنين، ورثت تقليدها السابق في الحرب التي خيضت في عام 2002، وقد تضافرت في المواجهة حركة الجهاد وحماس وكتائب الأقصى. فالوحدة القتالية في ميدان المعركة، كما تجلت في معركة مخيم جنين، شكلت عاملا مهما في الانتصار، كما شكلت نموذجا بأن أعظم الوحدات القتالية، أو الجماهيرية، في الساحة الفلسطينية، كانت تحدث في أتون المعركة ضد العدو.”
وهل كان مستحيلا على المناطق الثانية أن تشارك في النضال لولا الاستعراضات العلنية! وهل لم يكن هناك نضالا فلسطينيا منذ 1917!
وهذا للأسف يتطابق مع مزاعم أحد أنظمة الدين السياسي الذي يعتبر النضال الفلسطيني الحقيقي بدأ بعد توجهات إسلامية! هذا وكأن النضال الفلسطيني من 1917 وحتى 2022 كان من الكفرة!
لا أدري كيف يرى الرجل أن الاستعراض العلني بالسلاح هو مرحلة وليس هفوة! وكان من نتيجته تصيد قرابة السبعين من الشباب مجاناً! وهل الاستعراض العلني هو الذي قاد إلى قواعد اشتباك أعلى؟ وحتى لو حصل، فالسؤال ألم يكن ذلك مكلفاً دون نتائج تذكر ضد العدو وخاصة في نابلس القديمة؟ أم أن الكاتب من مدرسة المزيد من الشهداء والمعتقلين ليُقال: هذا أكبر تنظيم!
(انظر كيف يهاجم زعيم حزب العمال البريطاني السابق كوربن عسف الكيان ضد المدنيين بينما كثيرون منا يعتبرون دم المدنيين ذا أهمية متواضعة
وفيما يخص الاشتباك كما أكد السيد جمال حويل فإن “المقاتلين من الجهاد وحماس وفتح والشعبية وفصائل أخرى” خاضوا معركة حقيقية، وهذا طبيعي طالما حصلت المواجهة.
ولعل المضحك أن الكاتب القديم ووسائل الإعلام:
· ذكرت فدائيي الجهاد وحماس تزلفاً لإيران التي تقدم مشكورة المال مع انها تربحه من العراق والسلاح من سوريا، وانسجاما مع الطائفية والدين السياسي.
· وذكرت فدائيي فتح تزلفاً للسلطة أو لفكهم عن السلطة
ولكن لم يذكروا فدائيي الشعبية! لولا جمال حويل الذي كان في الميدان بل حتى إن شهداء الشعبية لا يُذكرون ولا شهداء غيرها مما أسموها الفصائل الأخرى! يذكرني هذا بمتحمسي الطائفية الشيعية من الفلسطينيين والعرب الذين يعتبرون حزب العمامة وإيران هم الذين حموا سوريا وليس الجيش العربي السوري ولا دور روسيا! أو متحمسي السنَّة وتركيا الذين يتمترسون حتى اليوم وراء إرهاب الدين السياسي والاستشراق الإرهابي. ليس سهلاً البناء على هكذا تعدد وتخارج الولاءات! أو كما سخر أحد قياديي حركة الجهاد على الميادين من الجيوش العربية مراراً يوم 19 حزيران 2023! وقد اشرت إليه ثانيةً.
إن السؤال في حرب الغوار هو ما الصح:
· اختيار الحرب الجبهية العلنية.
· أم اضرب واهرب؟
إن اختيار الحرب الجبهية سواء من الفدائيين أو منهم ومعهم المواطنين هو من ضمن أسلوب “حرب الدفاع الذاتي المسلح” التي تُلحق ضحايا بين المدنيين بل أكثر الضحايا مدنيين، وهذا يجب تلافيه. وقد أوضحه مثال بوليفيا في صفحات سابقة.
فليس مفخرة مسيل الدم ابداً إلا إن كان لا بد من ذلك.
إن سلوك تحويل المخيم إلى قاعدة ثابتة ومكشوفة وهو ما يبرره الكاتب هو تقديم عناوين واضحة للعدو عبر قواعد لا تتوافق مع تكتيك حرب الغوار وكلفتها عالية لا سيما وأن الحرب مع هذا العدو مديدة.
إن الافتخار بجاهزية الشعب لتحمل الخسائر وموقف نظيف من الشعب وموقف استخفاف بالأرواح من قياديين قدامى كالكاتب وغيره لأن هدف الغواري في النهاية حماية الناس والوطن طبعاً.
والسؤال: ترى هل سيقوم العدو بعدوان آخر، بغض النظر عن الأسلوب:
· الاغتيال الفردي
· ضرب مجموعات في بيت او حي محدد
· غزو حي أو مخيم
· أو حتى اللجوء لضخ غازات لتدويخ الفدائيين والمواطنين في حي او حارة صغيرة ؟
وعليه، إذا كان الكاتب وغيره لم يأخذوا عبرة سوى الافتخار بالعمل العلني فهذا أمر خطير. لأنها حرب ضروس ممتدة. وهذا يحتِّم علينا أخذ الجغرافيا دائماً بالاعتبار وخاصة ما يتعلق بقاعدة للغواريين وشروط إقامتها، وهي شروط لا تنطبق على الأرض المحتلة إلا جزئياً كما اشرنا أعلاه في مسألة قواعد الغواريين. فضيق مساحة الأرض المحتلة 1967 هي لعنة جغرافية للعمل الفدائي وبنفس المعيار فإن ضيق مساحة فلسطين هي لعنة جغرافيا ضد الكيان في حالة حرب التحرير الشاملة بوحدة الساحات والجبهات.
أشرت سابقاً وأكرر هنا أن كل نضال له خصوصياته الزمنية والجغرافية والفكرية والعقائدية، ولكن هذا لا يعني:
· أن لا يستفيد اي نموذج من الأخريات
· أو أن لا يستفيد ويتعاون ثوريون مع بعضهم بغض النظر عن اختلاف العقيدة.
في هذا السياق، أوردت بعضاً من تجارب كوبا وأمريكا اللاتينية والصين دون القول بان يتم أخذ هذا حرفيا، وهنا أورد رابط قراءة لي عن حرب 2006 واستفادة حزب صاحب العمامة السوداء من التجربة الفيتنامية والتجربة الكورية الشمالية في حفر الأنفاق.
(أنظر ماثيو ص 29) عن.
North Koreans Assis…H.i.z.b.u.l.l.a.h with Tunnel Construction” Terrorism Focus, vol, 3, issue 30 (1 August 2006) p1.
واضاف: “إن هذا النموذج الجديد ل.ح.ز.ب. .ا.ل.ل.ه … من نواح عدة نسخة عن المنهجية التي اتبعها الفيتناميون الشماليون والفيتكونغ”(ماثيو ص 31 ) عن
Captin Daniel Helmer, “Not Quite Counterinsurgency: A Cautionary Tale for the USForces Based on Israel’s Operatio Change of Direction” Armor Ianuary-February 2007 , p, 8
✺ ✺ ✺
إِشْكَالِيَّةُ الإِعْلامِ السِّيَاسِيِّ: اليَسَارُ بِالاِنْتِكَاسِ أَوْ الإِسَارُ بالاِنْعِكَاسِ؟ (1)
د. آصال أبسال
(1)
قبل زمن ليس بالمديد، في هذا الزمان «الكوروني» السريع والمريع، لجأت مؤسسة الفكر الحر المسمَّاة بـ«الحوار المتمدن» إلى إجراءِ حوارٍ مُطَوَّلٍ خاصٍّ مع باحث أكاديمي يدَّعي مرارًا بأنه ناشط يساري «ماركسي» أو حتى «أممي»، اسمه جلبير الأشقر.. وقد أجرت هذا الحوارَ المُطَوَّلَ الخاصَّ ممثلةٌ جادَّةٌ عن هيئة التحرير المعنية، اسمها بيان بدل، أجرته ظاهرا ظهورا صوتيا ومرئيا تحت العنوان اللافت للعيان والانتباه، «حول الحرب الروسية-الأوكرانية وتداعياتها والموقف الدولي».. وسواءً كانَ كلُّ شيءٍ يخصُّ طبيعةَ كلٍّ من التسآلِ والتجوابِ مرتَّبًا ومدبَّرًا مسبقًا أمْ لمْ يكنْ، تستهلُّ الممثلةُ الجادَّةُ هذهِ تسيارَ هكذا تسآلٍ مرتقَبٍ بالسؤالِ المديدِ نسبيًّا باديًا كاِثنينِ في واحدٍ وقد اختصر المسافةَ كلَّها، منذُ البدءِ، من حيثُ الفحواءُ الرئيسُ الذي تُفَحِّي بِهِ عبارةُ العنوانِ ذاتِهِ على أدنى تخمينٍ، سائرةً هكذا (بعد تعديلها اللغوي المؤاتي، بالطبعِ، بعضَ الشيءِ): «ما هي أسباب الحرب الروسية-الأوكرانية الغربية وما هي خلفيات هذه الحرب محليا وإقليميا ودوليا؟ وهل تُلقى مسؤولية هذه الحرب على عاتقِ روسيا وحدها بوصفها البادئة بالاجتياح العسكري للأراضي الأوكرانية أم تُلقى كذلك على عواتق أمريكا و«حلف شمال الأطلسي» NATO والاتحاد الأوروبي وأوكرانيا ذاتها (إذ هيأت للحرب تهييئا لامباشرا)؟».. وما إنِ انتهتِ المضيفةُ الممثلةُ الجادَّةُ من طرحِ سؤالِها المديدِ نسبيًّا بهكذا مثابةٍ حتى شرعَ ضيفُها اليساريُّ «الماركسي» أو حتى «الأممي» محمومًا في النَّضْحِ الراشدِ بالاعتقادِ الظنِّيِّ (اعتقادَ المُعْتَدِّ بنفسِهِ كلَّ الاعتدادِ) بأن الجوابَ الألمعيَّ المأمولَ حصافةً وحكمةً واتِّزانًا بعينهِ، والحالُ هُنا، لَجوابٌ «بسيطٌ» بكلِّ بساطةٍ رغمَ كلِّ ذلك، فيما يتبدَّى للسَّامعِ الرَّائي أو حتى للسَّامعِ اللارائي بالذاتِ.. بيدَ أن الضيفَ اليساريَّ المعنيَّ ذاتَهُ كانَ قد شرعَ، فضلا عن ذلك للأسفِ الشديدِ، مهمومًا في الشَّطْحِ الحاشدِ بالاتِّقادِ الأكثرِ ظَنِّيَّةً من آنفِهِ (الراشدِ) بكثيرٍ حتى، هذا الشطحِ الحاشدِ الذي يتَّسمُ اتِّسَامًا بـ«اليَسَارِيِّ انْتِكَاسًا» تارةً ويرتسمُ ارْتِسَامًا بـ«الإِسَارِيِّ انْعِكَاسًا» تارةً أخرى، والذي يمكنُ للمتابعِ المُمْعِنِ مع ذلك أن يعبِّرَ عنهُ إتباعًا بتعبيرِ «الاِحتمالِ للاحتمالِ» في الميدانِ المنطقيِّ، أو حتى كذاك بعبارةِ «الاِمتناعِ للامتناعِ» في الميدانِ اللغويِّ أو النحويِّ، من مثلِ التحريفِ لا بلِ التهريفِ بهذا البيانِ الشرطيِّ الغنيِّ عن التعريفِ، «لو كانَ كذا وكذا، لكانَ كذا وكذا».. ومن ثَمَّةَ، والحالُ هَا هُنا أيضًا، بإمكانِ هذا المتابعِ المُمْعِنِ بالطبعِ أن يدركَ ذاتَ الشَّطْحِ الحاشدِ بالاتِّقادِ الأكثرِ ظَنِّيَّةً كذاك، على الأقلِّ هُنا من منظورين شَطْحِيَّيْنِ اِفتراضِيَّيْنِ متمايِزَيْن، على النحو الآتي بعدَ هُنَيْهَةٍ..
قبلَ كلِّ شيءٍ إذن، لا بدَّ من التنويهِ الملحِّ إلى أن مَا تمَّ الإدلاءُ بهِ في قرينةِ (أو في قرائنِ) مرحلةِ التجوابِ ذاك في المقابلِ لم يصدرْ بصَوْغِهِ الناجِزِ، مثلما كانَ مُتَشَوَّفًا إليهِ في ذلك المستوى المنشودِ شكلا ومضمونًا سَوَاءً بسَوَاءٍ، كلَّ التشوُّفِ من باحثٍ أكاديميٍّ يدَّعي مرارًا بأنه ناشط يساري «ماركسي» أو حتى «أممي» – لكي يُعَادَ، بل صدرَ إذَّاكَ فاعلا، وإذْ كانَ يمكنُ لهُ أن يصدرَ بالجلِّ أو حتى بالكلِّ فعليًّا، بذاتِ الصَّوْغِ الناجزِ من أيِّمَا «لاهثٍ» لاأكاديميٍّ وراءَ أيِّمَا حشدٍ مسرودٍ من تيك البَدَهِيَّاتِ أو البَدِيهِيَّاتِ أو حتى السَّطْحِيَّاتِ مِمَّا يُدلى بِهِ كالمعتادِ، «لاهثٍ» لاأكاديميٍّ أديميٍّ عاديٍّ ليسَ من كلِّ ذلك الادِّعاءِ الواقعيِّ أو حتى الخياليِّ أو المتخيَّلِ في شيءٍ.. فأما من حيثُ المنظورُ الشَّطْحِيُّ الاِفتراضِيُّ الأولُ، فإن محاولةَ الباحثِ الأكاديميِّ المعنيِّ في الجوابِ المأمولِ ذاك على الشقِّ الأولِ من ذلك السؤالِ المديدِ بنصِّهِ المذكورِ بالحرفِ آنفًا، أي «ما هي أسباب الحرب الروسية-الأوكرانية الغربية وما هي خلفيات هذه الحرب محليا وإقليميا ودوليا؟»، لَمُحَاوَلَةٌ لم تتطرَّقْ قطُّ، في حقيقةِ الأمرِ، إلى أيَّةٍ من جوهرياتِ تلك «الأسباب» أو «الخلفيات» التاريخية والسياسية التي أدَّت، بهيئةٍ أو بأخرى، إلى نشوبِ هذه الحربِ بالذاتِ، على الأقلِّ في المستوى المنشودِ شكلا ومضمونًا، كما ذُكِرَ قبلَ قليلٍ.. على خلافِ ذلك كلِّهِ، لافظا وملفوظا بالجَرِّ والعَرِّ لكنْ بلهجٍ جزميٍّ دوغمائيٍّ متعنِّتٍ ليسَ لهُ إلا أن يذكِّرَ بما كان جوزيف ستالين بالعينِ يُنْعَتُ بهِ من نُعُوتٍ استهجانيةٍ صَادرةٍ عن حتى أقربِ المقرَّبينَ منهُ، كمثلِ نَعْتِ «التجريبَوِيِّ الحَرُون» Stubborn Empiricist، فإن محاولةَ الباحثِ الأكاديميِّ المعنيِّ تلك لم تكنْ في الوهلةِ الأولى، أو حتى في الوهلةِ الأخرى، منها سوى إعادةٍ قهريةٍ مُبْتَسَرَةٍ ابتسَارًا فاقعًا لمَا هو سَارٍ وسَائدٌ في سَائرِ السَّرْدِيَّاتِ الغربيةِ في أمريكا ذاتِهَا وفي كلٍّ من حليفاتِهَا الوفِيَّاتِ جليًّا أو حتى خفيًّا، وليسَ غيرَ ذلك.. قولٌ كذاك في رَيْفِ «الاِحتمالِ للاحتمالِ»، أو نظيرُهُ في طَيْفِ «الاِمتناعِ للامتناعِ»، بأنه لو كانتْ أوكرانيا بادرتْ بالاعتداءِ المسلَّحِ شكلا عكسيًّا على الأراضي الروسيةِ بشكلٍ أو بآخَرَ، لكانتْ أيةُ فعلةٍ، أو ردَّةِ فعلةٍ، عسكريةٍ من لدن روسيا فعلةً جدَّ مقبولةٍ على اعتبارِها بذاك «حقًّا مشروعًا» من حقوق ما يُدعى تسليميًّا بـ«الدفاع عن النفس».. عَدَا هكذا «احتمالٍ لاحتمالٍ» لمْ يُؤْخَذْ أساسًا بعينِ الاِعتبارِ خَلا لملءِ فراغِ حوارٍ دامَ أكثرَ من سَاعةٍ زمنيةٍ وحسب، ما من حربٍ يمكنُ لهَا أن تكونَ شرعيةً بحكمِ القانونِ الدوليِّ، إذن، ما دامتْ هي حربًا لا يقرِّرُهَا ولا يُقِرُّ بِهَا اللسَانُ التشريعيُّ لمجلسِ الأمنِ في منظمةِ «الأممِ المتَّحدة» UN، وأيًّا كانتِ الأسبابُ، أو حتى المبرِّراتُ، القريبةُ والبعيدةُ التي سبقتْ نُشُوبَ هكذا حربٍ سَبْقًا – هذا مع العلمِ المُفَارِقِيِّ والتهكُّمِيِّ بوصْفٍ وَصِيفٍ لا يخفى الآنَ بَتَّةً على كلِّ ذي لُبٍّ حَصِيفٍ بأن هكذا مجلسًا أمنيًّا في هكذا منظمةٍ أمميَّةٍ لا يسِيرُ بالقرَارِ ولا بالإقرَارِ، في الأغلبِ والأعمِّ، إلا بمَا يرُوقُ رَوْقًا لمَآرِبِ أمريكا بالذاتِ، فضلا عن مآربِ حليفاتِهَا بالذواتِ، في الحَيِّز الأول..
تلك إذن، ويا للمفارقةِ الكبرى ويا للتهكُّمِ الأكبرِ مثلمَا يُشْتَفَّانِ اشتفافًا بالإدلاءِ وبالجلاءِ، تلك إذن إعادةٌ قهريةٌ مُبْتَسَرَةٌ أيَّمَا ابتسَارٍ لكنَّهَا متَّسمةٌ شأنًا بسمتَيْنِ تجسيدِيَّتَيْنِ في ظاهرِ الشأنِ: فهي إعادةٌ قهريةٌ مُغَزَّزَةٌ بِـ«حِرَانِ» ذلك اللهجِ الجزميِّ الدوغمائيِّ المتعنِّتِ بالأمرِ الحِجَاجِيِّ من طرفِ ذاتِ الضيفِ اليساريِّ «الماركسي» أو حتى «الأممي» – لكي يُعَادَ كذاك، من جانبٍ أول؛ وهي إعادةٌ قهريةٌ مُعَزَّزَةٌ، فوقَ ذاك كلِّهِ، بِـ«مِرَانِ» ذلك النهجِ العزميِّ الدهمائيِّ المتصمِّتِ بالغَمْرِ السَّذَاجِيِّ من طرفِ عينِ المضيفةِ الممثلةِ الجادَّةِ لكنِ الغَفْلَى إذَّاك، من جانبٍ آخَرَ.. تلك إذن، علاوةً على ذاك، قرينةٌ من قرائنِ الاِزدواجِ اللامبدئيِّ الذميمِ بينَ مَا يرقبُهُ «الراقبُ» مذَّاك من تمثيلاتِ ذاك الحَمَاسِ «الإيديولوجيِّ» في استبشاعِ مطايا الإمبرياليةِ الأمريكيةِ والغربيةِ زاخرًا أصلا وبينَ مَا يحسبُهُ «الحاسبُ» إذَّاك من تأثيلاتِ ذلك الاِلتماسِ «الفيلولوجيِّ» في استشناعِ عطايا الإمبرياليةِ الروسيةِ والشرقيةِ ذاخرًا فصلا (في أحسنِ الأحوالِ، أو بالكادٍ، من كلٍّ منهما).. وأما من حيثُ المنظورُ الشَّطْحِيُّ الاِفتراضيُّ الثاني متمايِزًا كحَالِ نظيرِهِ الأولِ، فإن الشقَّ الثاني من ذلك السؤالِ المديدِ بنصِّهِ المذكورِ حرفيًّا آنفًا أيضًا يسيرُ هكذا (بعدَ اختزالِهِ اللغويِّ، طبعًا): «هل تُلقى مسؤولية الحرب على عاتقِ روسيا وحدها بوصفها البادئة بالاجتياح العسكري لأوكرانيا أم كذاك على عواتق أمريكا وحليفاتها الأطلسيات والاتحاد الأوروبي وأوكرانيا ذاتها (إذ هيأت للحرب تهييئا لامباشرا)؟».. بادئَ ذي بدءٍ، فيمَا يتبدَّى، لمْ يكن لدى الباحثِ الأكاديميِّ المعنيِّ في محاولةِ الجوابِ المأمولِ كذاك على هذا الشقِّ الثاني من ذاتِ السؤالِ، آنئذٍ، سوى التفذلكِ بالقولِ التعميمِيِّ الجارفِ، مرتكزًا ارتكازًا مفردًا و/أو مجموعًا، على حالِ أمريكا دونَ غيرِهَا، وعلى الأخصِّ قولَهُ المَصُوغَ صَوغًا تفضيليًّا، وحتى تبجُّحِيًّا بالظنينِ، عنها بصفتِهَا «الدولةَ الاقتصاديةَ العظمى» وبصفتهَا أيضًا «القوةَ العسكريةَ الكبرى»، متفوِّقَةً بذاك، والأهمُّ من ذلك كلِّهِ، تفوُّقًا «ملحوظًا» على حالِ روسيا النظيرةِ بالذاتِ.. وهذا التفوُّقُ «المُتَبَجَّحُ بِهِ» ظنينًّا من لدنِ الباحثِ الأكاديميِّ المعنيِّ ليسَ صَحيحًا بَتًّا وبَتَّةً على الأرجحِ من أشكالِهِ، على الأقلِّ هنا فيمَا يخصُّ الكمَّ والكيفَ من خاصيَّةِ السلاحِ النوويِّ الذي تمتلكُهُ النظيرةُ الأخيرةُ (أي روسيا)، حسبما جاءَ مؤخَّرًا في العديدِ من التقاريرِ المختصَّةِ عسكريًّا وتكنولوجيًّا، على حدٍّ سِوًى – وهذا كذاك، على فكرةٍ، ليسَ دفاعًا تصريحيًّا عنْ، ولا حتى وقوفًا تضمينيًّا إلى جانبِ، هذهِ النظيرةِ الأخيرةِ بأيِّ نحوٍ من الأنحَاءِ، بقدرِ مَا هو سَعْيٌ جَادٌّ إلى عينِ النقلِ الأمينِ والقمينِ، ظاهرًا كانَ أمْ باطنًا، لمَا تقتضيهِ اقتضَاءً حقائقُ الأشياءِ.. أمريكا، بذاتِ التفذلكِ بالقولِ التعميمِيِّ الجارفِ ذاك إذن، لَجِدُّ مسؤولةٍ عن المآلِ (السلبيِّ) العامِّ الذي آلَ إليهِ هذا العَالَمُ المُتَوَعَّدُ والمُخَوَّفُ والمُنْذَرُ منذُ الإرهاصَاتِ الأولى لانهيارِ مَا كَانَ يُسَمَّى بـ«الاتحادِ السوڤييتي» سَابقًا، نظرًا لأن هذهِ الـ«أمريكا»، بعينِ «التبسُّطِ» بالنطقِ الاِستهلاليِّ الطارفِ ذاك أيضًا، صَارتْ «سيِّدةَ الموقفِ العالميِّ» رَدَحًا بالغًا من الزمانِ بعدَ تيكَ الإرهاصَاتِ الأولى – وإلى حدٍّ أعلنَ فيهِ جورج بوش (الأب) ولادةَ مَا سَمَّاهُ نقلاً عَمَّا سَبَقَهُ من تَسْمِيَةٍ بـ«النظامِ العالميِّ الجديدِ» NWO، في مستهلِّ التسعينياتِ من القرنِ الماضي، وذلك تمهيدًا شهيدًا لشنِّ تلك الحربِ الشعواءِ على أرضِ العراقِ، أو «حربِ الخليجِ الثانيةِ» عامَ 1991 من حيثُ الترتيبُ الزمانيُّ، وكذاك نتيجةً خديجةً لقدحِ شرارِ ذلك الاجتياحِ الجنونيِّ لأرضِ الكويتِ من طرفِ الجيشِ العراقيِّ الصدَّاميِّ الإجراميِّ بامتيازٍ وبكافَّةٍ المعاييرِ القانونيَّةِ، ولا ريبَ في ذلك قطعًا..
فعلى الرغم من عينِ الصَّوَابِ والصَّحَاحِ في التنويهِ إلى واقعِ هكذا اِجتياحٍ جنونيٍّ أو واقعِ هكذا حربٍ شعواءَ (أو حتى غيرِهِمَا من اجتياحاتٍ أكثرَ جنونيةً، كاجتياحِ صربيا عامَ 1999، أو من حروبٍ أشدَّ إشْعَاءً، كالحربِ المُعَادَةِ على العراقِ، أو «حربِ الخليجِ الثالثةِ» عامَ 2003)، إلا أن هذا الخلطَ العشوائيَّ في استذكارٍ حشدٍ من الأحداثِ التاريخيةِ لا يفيدُ، والحَالُ هذهِ، إفادةً مباشرةً ولا حتى لامباشرةً في إلقاءِ الضوءِ على أيَّةٍ من جوهرياتِ «الأسبابِ» أو «الخلفياتِ» الحقيقيةِ التي أدَّت إلى نشوبِ هكذا اقتتالٍ روسيٍّ-أوكرانيٍّ دَامٍ دَمَوِيٍّ في حدِّ ذاتِهِ، خَلا لملءِ فراغِ حوارٍ دامَ أكثرَ من سَاعةٍ زمنيةٍ، كما ذُكِرَ.. فالمسألةُ الأخلاقيةُ البالغةُ الحَسَاسِيَّةِ، هنا إذن، لا تكمنُ في مدى الإعلانِ الحَرِيِّ بإدانةِ هكذا اقتتالٍ قائمٍ حينمَا يعلمُ كلُّ ذي ضَميرٍ ووجدانِ إنسانِيَّيْنِ حَيَّيْنِ علمَ اليقينِ بأن هكذا إدانةً حتى دونمَا «الإعلانِ الحَرِيِّ» بها لَإِدانةٌ بَيِّنَةٌ بذاتِهَا، وفي حدِّ ذاتِهَا هي الأخرى.. فإذا كانَ الضيفُ اليساريُّ «الماركسي» أو حتى «الأممي» يعلنُ «إعلانًا حَرِيًّا» وبكلِّ حَمِيَّةٍ بأن الاقتتالَ المقصودَ حربٌ لاشرعيةٌ مهما كانتْ طبائعُ «الأسبابِ» أو حتى «الخلفياتِ»، فإن وزيرَ الخارجيةِ الإسرائيليَّ يائير لابيد (قبل أن يُكَلَّفَ بمنصبِ رئيس الوزراءِ إلى أجَلٍ مُسَمًّى)، على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ، كانَ قدِ اعتبرَ الاقتتالَ المقصودَ ذاتَه كلَّ الاِعتبارِ «جريمةَ حربٍ» بكلِّ المقاييسِ حقًّا وقانونًا تتحمَّلُ مسؤوليَّتَهَا روسيا ڤلاديمير پوتين أولا وآخرا – في حينِ أن رئيسَ الوزراءِ الإسرائيليَّ نافتالي بينيت بالعينِ آنَئِذٍ، وقد زارَ شخصَ هذا الـ«ڤلاديمير پوتين» عينِهِ في عقرِ دارِهِ في آونةٍ مقاربةٍ وَقْتَهَا، يستمرُّ «مُمْتَنًّا»، لا مُمْتعِضًا، في اللعبِ «الأريبِ» على حَبْلِ مَا يدَّعي بأنهُ توسُّطٌ سلميٌّ حميميٌّ بين موسكو وكييف.. ومع ذلك، فإن الباحثَ الأكاديميَّ المعنيَّ كانَ قد أشارَ إشارةً عامَّةً وعابرةً، لكنْ دونمَا أيِّمَا اعترافٍ واجبيٍّ أبيٍّ، إلى شيءٍ من تيك «الأسبابِ» و«الخلفياتِ» التي تناولَهَا العالِمُ اللسانيُّ والمفكِّرُ الكبيرُ، نعوم تشومسكي، بالتفصيلِ اللافتِ للأنظارِ والأسماعِ فيمَا سبقَ لهُ من حوارٍ أخيرٍ (أقصرَ زمنيًّا بكثيرٍ) كانَ قد بُثَّ كذاك على قناةِ Sky News، في الأخيرِ – غيرَ أن الطامَّةَ الأخلاقيةَ الكبرى، في كلِّ هكذا حَيْصٍ وبَيْصٍ، حقيقةً، إنَّمَا تكمنُ في حقيقةِ ذلك «الاِنتقادِ» الهزليِّ مُوَجَّهًا توجيهًا اِفترائيًّا تَعَجْرُفيًّا دنيئًا من لِسَانِ الباحثِ الأكاديميِّ المعنيِّ ذاتِهِ إلى مَا جَاءَ على لِسَانِ العالِمِ اللسانيِّ والمفكِّرِ الكبيرِ عينِهِ من عباراتٍ قدْ أُسِيءَ فهمُهَا أيَّمَا إسَاءَةٍ بسببٍ من غَشَامَةٍ «مُشْتَرَكَةٍ» بينَ غشيمةٍ وغشيمٍ زَرِيَّةٍ دَنِيًّةٍ!!..
[ولهذا الكلامِ، فيما بعدُ، بقيةٌ]
***
كوبنهاغن (الدنمارك)
————-
تعريف بالكاتبة
ولدتُ في مدينة باجة بتونس من أب تونسي وأم دنماركية.. وحصلتُ على الليسانس والماجستير في علوم وآداب اللغة الفرنسية من جامعة قرطاج بتونس.. وحصلتُ بعدها على الدكتوراه في الدراسات الإعلامية من جامعة كوبنهاغن بالدنمارك.. وتتمحور أطروحة الدكتوراه التي قدمتُها حول موضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة الغربية» بشكل عام.. ومنذ ذلك الحين وأنا مهتمة أيضا بموضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة العربية» بشكل خاص..
________
تابعونا على:
- على موقعنا:
- توتير:
- فيس بوك:
https://www.facebook.com/kanaanonline/
- ملاحظة من “كنعان”:
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.
- عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
- يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org