الثورة العالمية في تفاعل ثلاثيَتَيْ:الأنظمة والثوريين: المحيط يُطوِق المركز، د. عادل سماره

أخذت الراسمالية العالم قبل قرن في صراعهاعلى مصالحها المادية/الاقتصادية خاصة  إلى مذبحة حرب شاملة أعادت بموجبها  تقاسم العالم  فيما بين ضواريها ولكنها أتاحت بالضرورة مناخ انبلاج نقيضها فكانت الثورة البلشفية التي انتصرت رغم الغزو الغربي الراسمالي من معظم أنظمة الحكم في أوروبا حينها ضد الدولة الجديدة  بمليون ونصف المليون جندي ناهيك عن جيوش القيصربقيادة الجنرالات البيض وصولاً إلى مقاطعة الدولة الإشتراكية بإقامة ما أُسمي حولها “الستار الحديدي”.

أما الوطن العربي فكان نتيجة ذلك أن أُستُعمر من لم يُستعمر منه  من الغرب الإمبريالي بهزيمة الاستعمار العثماني وأُخضِع للتقاسم الإمبريالي الذي خدمه محلياً حكام وقبائليين ورجعيات وتجار…الخ عيَّنها الاستعمار.وجرى التأسيس لاغتصاب فلسطين لصالح الحركة الصهيونية.

نتائج الحرب الإمبريالية الأولى وأزمة 1929 الدورية دفعت باتجاه اقتتال الرأسماليات مجدداً في العقد الرابع من القرن العشرين وأعادت تقاسم العالم وهذا أفرز نقيضه سواء في توسع المعسكر الاشتراكي أو انتصار الثورة الصينية وثورات عديدة في بلدان المحيط. ولكنه خلع التاج البريطاني وجلَّس مكانه دولة الدولار.

أما الوطن العربي فانقسم إلى:

·      منحى تقدمي وحدوي تنموي بجمهوريات قادتها انقلابات  أو ثورات انقلابية.

·      ومنحى تكريس التبعية للغرب الإمبريالي من ملكيات وإمارات ومشيخات… الخ، وخلال هذه الفترة كان تطبيع سايكس-بيكو في المغرب الكبير واستكمال طبعته المشرقية بخلق كيانات النفط.

·      وجرى إنضاج اغتصاب فلسطين بخلق الكيان الصهيوني على أرض فلسطين  وتشريد معظم شعبها.

مع منتصف الستينات إنتهى الازدهار الاقتصادي في المركز/الغرب واقترن ببدء تدهور الاتحاد السوفييتي وتراجع الثورة العالمية إلى أن تفككت الكتلة الاشتراكية أو لنقل عالمياً انتصر راس المال على العمل ولكن المنتصر حمل جراحا عميقة نظراً لخلله البنيوي.

لكن الغرب/المركز عوض الكثير بفضل تحالف جديد بين:

·      راسماليات المركز

·      وكمبرادور المحيط

حيث حوَّل الكوكب بعد انهيار السوفييت إلى قطاع عام راسمالي معولم يتقاسمه طرفا التحالف على قاعدة إقتصاد التساقط.

وفي هذه الفترة المديدة جرى تكريس الوطن العربي كأداة وإمكانات لصالح الثورة المضادة وخاصة في تخديم النفط للدولار. وترافق مع هذا انحطاط منحى الثورة العربية وعودة أنظمتة إلى الكمبرادور وهيمنة انظمة وقوى الدين السياسي وصولا إلى استخدام جيوش عربية ضد أقطار عربية في خدمة الإمبريالية فكان أنهاء العراق ولاحقا ليبيا وحرب لم تنته على سوريا وتهبيط مصر وحرب على اليمن واحتلال البحرين…الخ.

لكن التناقض لا يتوقف عن خلق نقيضه أو نصف نقيضه إن شئت، فكان تجسيد الملامح أو السمات الثلاثة للتغير في العالم:

الأولى: صعود أنظمة في بلدان المحيط نقيضاً مصلحياً ميدانياً إنتاجياً للمركز وإن كانت أنظمتها بين رأسمالية أو هجينة وإيديولوجياتها بين شبه اشتراكية وراسمالية ولكن دون مضمون إمبريالي، حتى حينه على الأقل، وهي الصين، والهند وروسيا بعد يلتسين وجنوب إفريقيا والبرازيل.

لقد ساهمت رأسماليات المركز في تطور هذه الكتلة وخاصة الصين حيث غزت شركاتها قوة العمل الصيني وغيرها لنهبها عبر القانون الراسمالي الذي اسماه ماركس “راسمالية الأجر الأدنى” ، فكان أن خلق النهب بل الاستغلال نقيضه لصالح اقتصاد كتلة غدت الأولى عالمياً .

وهنا صار على المركز لجم الصين وحتى البريكس ولو عبر حرب عسكرية إن أمكنه ذلك لا سيما وأن إنتاج هذه الكتلة 35 في المئة من الناتج العالمي  الإجمالي بينما إنتاج المركز 31 في المئة.

هذا التطور هو نقض موضوعي  للنظام العالمي القائم لأنه منافس وبقوة رغم أنه في غالبه راسمالي.

والثانية: التطورات التي حصلت في أمريكا اللاتينية. فبعد أن فشلت في ستينات وسبعينات القرن العشرين،باستثناء كوبا، تجربة الثورات الغوارية ضد حزام الزمر العسكرية الحاكمة هناك وخدمتها للإمبريالية، كانت موجة ثورات شعبية بل شعبوية في عديد تلكم البلدان ، فنزويلا، البرازيل، ارجنتين، هندوراس، نيكاراغوا  إكوادور، تشيلي بوليفيا…الخ حيث  وصل ممثلوا هذه الثورات أو الحركات إلى السلطة عبر الانتخابات، اي عبر طريق وسط أقل من ثورة وأعلى من بقاء الوضع القائم.

والذي يبدو فإن تفاعل موضوعي، تفاعل الضرورة،  يقوم بين بريكس والأنظمة  اليسارية في امريكا اللاتينية سيقود إلى درجة أعلى من تجذير الطرفين باتجاه عالم جديد لا يقوده الغرب/المركز بل يقاتله.

والثالثة: هي الحراك الذي بدأ وأخذ يتسع في إفريقيا سواء في الجزائر ومالي أو بوركينا فاسو واليوم في النيجر. إنه بداية محاولات ضبط نزيف الثروات من مخزنها الإفريقي. نحن لا نعرف بعد حدود جذرية النظام الجديد في النيجر ولكنه يصطف ومعه عدة دول أخرى في جانب التوجه شرقاً بالخروج من دائرة المركز/الغربي الذي يستجمع قواه أو/و قوى توابعه لشن حرب موسعة في إفريقيا لتثبيت موقعه ومواجهة الدور الجديد لروسيا والصين هناك.

صحيح أن معظم إفريقيا حصل على الاستقلال السياسي منذ تسينات القرن الماضي ولكنها لم تحصل على الاستقلال الحقيقي أي التحكم بالسيادة ، بالموارد بالاقتصاد وهو ما نبه له باكراً الراحل فرانز فانون الذي هو المنظِّر المبكر والحقيقي ضد أكذوبة “ما بعد الاستعمار” حيث توقع انحراف الأنظمة المحلية الجديدة باتجاه أنظمة حكم الراسمالية الكمبرادورية حيث عاشت معظم البلدان الإفريقية كتوابع خاضعة للاستعمار الجديد الذي حذر منه كوامي نكروما الرئيس الأسبق ل غانا.

وحينما ظهرت حركات الدين السياسي الإرهابية تذرعت الإمبريالية أنها تحاربها فأكثرت من قواتها في العديد من الدول افريقية بحجة محاربة الإرهاب.

هذا الإرهاب الذي نسميه ظاهرة “الاستشراق الإرهابي” وهي مخطط وتنظير إمبريالي بينما مادته البشرية وكلفته المالية من الأنظمة والحركات السياسية العربية والإسلامية حركات الدين السياسي. ولأن الإمبريالية هي خالقة هذه الظاهرة، صار من المستحيل اجتثاثها على يد الإمبريالية نفسها. وبالطبع، لم يكن الوجود العسكري الغربي في إفريقيا لقتال الإرهابيين بل لحماية مصالح الإمبريالية.

ولهذه الأسباب والمخططات بقيت إفريقيا الزاخرة بالثروات، قارة  فقيرة، تعاني المرض والجوع والأمية بينما يتحول الفائض والثروات نفسها إلى المركز.

وهنا يصح قول الشاعر:

“كالعيس في البيداء يقتلها الظما…. والماء فوق ظهورها محمولُ”

هذه التطورات تفتح على ما نريد أن نختم به هذه المقالة العُجالة.

موقع هذه التطورات الثلاثة في مدرسة النظام العالمي

لقد اشرت سابقاً  في عُجالة بأن الانقلاب في النيجر بتوجهه شرقاً وإعلانه وقف تصدير اليورانيوم والذهب إلى فرنسا وأوروبا عامة وتأييد وحتى دعم انظمة الجزائر ومالي وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى، وربما غيرها لنظام النيجر الجديد  ، إنما يقوم بدرجة ملموسة من فك الارتباط بالمركز الإمبريالي الغربي. وهذا يتقاطع مع تحولات في بلدان إفريقية أخرى مثل بوركينا فاسو التي كان رئيس وزرائها تامبيلا حليفاً للراحل سنكارا والذي في خطابه في مؤتمر روسيا/إفريقيا لشهر تموز من هذا العام إقتطف تشي جيفارا وكان قد شارك في احتفال نيكاراغوا بعيد ثورتها الساندينية الأربعين.

يمكننا قراءة هذه المؤشرات على أنها حتى لو كانت أحداثاً إنقلابية عسكرية، فليس صحيحاً أنها لن تتحول إلى ثورات، ولا أدل على ذلك من تجربة مصر الناصرية أو تجربة سنكارا.

وهذا يدفعنا لقراءة التطورات الثلاثة وخاصة التطورات في إفريقيا على ضوء :

أين يقع مركز الثورة العالمية.

منذ سبعينات القرن العشرين طورت مدرسة “النظام العالمي” نظريتها في الثورة العالمية لانتقال العالم إلى الاشتراكية، أو كما يرى البعض إلى ما بعد الراسمالية.وهي المدرسة التي تاسست بأدبيات سمير أمين، وإيمانويل وولرشتاين، وأندريه جوندر فرانك، وجيوفاني أريغي.

لقد رأت هذه المدرسة أن مركز الثورة العالمية يكمن في بلدان المحيط حينما تقوم فيها ثورات وانتفاضات تفك الارتباط بالسوق الراسمالية العالمية الأمر الذي يعني توقف نزيف الثروة/والفائض من المحيط إلى المركز، وتوقف العمل بمنطق النظام الراسمالي العالمي وتجاوز قانون القيمة الرأسمالي والعمل على تركيز قانون قيمة محلي أو مناطقي.

وبتوقف هذا التدفق تضطر الأنظمة الراسمالية في المركز إلى:

·      دفع أثمان أعلى لما تبقى من متاجرة مع المحيط

·      تضاؤل الثروات التي ترشي بها أنظمة المركز الطبقات الشعبية والوسطى .

·      إضطرار راس المال في تلكم البدان لتعويض ما تم توقف المحيط من توفيره من ثروات ليتم التعويض على حساب الراسماليين، الشركات الكبرى،  مما يقلل معدل الربح.

·      إضطرار الأنظمة التي تبنت النيولبرالية بما في ذلك تقليص الضرائب على راس مال وزيادتها على الطبقات الشعبية وتقليص خدمات الدولة…الخ، لإعادة فرض ضرائب أعلى على الرأسمالية للتخفيف عن كاهل الطبقات الشعبية العاملة طبعاً، لامتصاص تحركها أو الاصطدام معها.

·      هنا يتزايد التفارق الطبقي ليغدو تناقضاً طبقياً ومن ثم صراع طبقي بين راس المال والعمل.

وفي هذا الحال يكون شعار يا عمال العالم اتحدوا قد وجد تطبيقه العملي موضوعياً.

بل إن تحالف موضوعي ومصلحي يتمظهر بين أنظمة الأحداث الثلاثة أي:

·      مجموعة بريكس

·      الأنظمة اليسارية في أمريكا اللاتينية

·      الأنظمة الجديدة في إفريقيا

وفي حين ستعلن بريكس عملتها الجديدة في هذا الشهر بعد أن قامت بتنفيذ تبادلات بينها بعملاتها، فقد أعلنت أرجنتين انها ستعتمد عملة البريكس في مبادلاتها وهذه خطوة جريئة من بلد خارج بريكس لكنه ينتمي جغرافيا وموضوعيا لأمريكا اللاتينية.

إن خطوة أرجنتين حساسة جداً وهامة في مضمونها وربما ليس لضخامة اقتصاد البلد وتجارته الخارجية بل لأنها تشكل بداية خروج دولٍ أخرى من دائرة الدولار الذي كان التبادل التجاري  العالمي به 90% وهبك إلى أقل من60%. تذكرنا خطوة أرجنتين بخطوة العراق قبل احتلاله عام 2003 بقرار بيع النفط بغير الدولار وقرار ليبيا قبيل احتلالها بإنشاء عملة إفريقية وصندوق نقد إفريقي الأمرين أو الحدثين اللذين لهما الدور الأساس في تحطيم البلدين.

لسنا بصدد الحديث عن تفاعل روسيا والصين مع ما يحدث في إفريقيا سواء تقديم مساعات أفضل وإقامة مشاريع بنية تحتية وتنموية وبشروط أفضل من المركز ودون تدخل في النظام السياسي لهذه الدول.

وربما نكتفي بما ورد في حديث الرئيس الروسي بوتين في مؤتمر روسيا/إفريقيا في نهاية تموز لعام 2023 الجاري حيث أكد استعداد روسيا لتقديم القمح كمنحة لكثير من الدول التي تعاني عدم وصول شحنات القمح أو عجزها عن دفع ثمنه

لأن هذا يدعم توقعاتنا بتقاطع إيجابي بين بريكس وبين الثورات في إفريقيا وامريكااللاتينية.

وهذا يفتح على السؤال:كيف سيرد الغرب/المركز على تفاعل الأحداث الثلاثة العالمية هذه!

يمكننا اعتبار هذه الأحداث الثلاثة أحداث تقودها الأنظمة السياسية الاجتماعية الحاكمة في تلكم البلدان بمواقعها الجغرافية الممتدة في عدة قارات.

وهذا يعيدنا إلى ثلاثي آخر هو الثلاثي الشعبي الثورى، ما علاقته وموقفه من ثلاثي الأنظمة؟ وما حدود تقاطع أو/و تناقض الثلاثيين؟

ونقصد هنا بالثلاثي الشعبي الثوري القوى الثورية الإشتراكية بالحد الأدنى في :

·      بلدان بريكس وخاصة الصين

·      وفي بلدان المحيط عامة

·      وفي بلدان المركز ايضاً.

بمعنى أن تحالف الضرورة هو أمر ممكن بين الثلاثيتين في مرحلة معينة كتحالف تاريخي ربما مؤقت لمواجهة أنظمة المركز الرأسمالي الإمبريالي الغربي وصولاً إلى تركيز النظام العالمي الجديد والذي يحمل بذور تناقضاته ايضاً بين:

·      أنظمة راسمالية محلياً يُحتمل أن تذهب باتجاه إمبريالي

·      وبين قوى ثورية داخل هذه البلدان نفسها وبقية بلدان العالم تدفع باتجاه طريق إشتراكي أممي.

ليس بوسعنا الجزم كيف ستتطور الأمور، ولكن المؤكد أنها تتطور إيجابياً وهذا منوط اساساً بفعل القوى الثورية في هذا الكوكب.

ويبقى السؤال: أين يتموضع الوطن الكبير في خضم تطورات العالم هذه؟

ليس هذا موضع التحليل، ولكن توصيفاً، فإن هذا الوطن مُغيَّب تماماً عن المساهمة التقدمية في تطورات العالم لأنه:

·      محكوم بأنظمة هي عدوة الشعب وبالتالي تخدم الإمبريالية وحتى تخدم أنظمة البلدان الإقليمية التي تهيمن أو تطمح للهيمنة على هذا الوطن

·      ومحكوم بطغيان أو اختطاف أنظمة وقوى الدين السياسي للوعي الجمعي الشعبي ·      ومحكوم بعجز حركة التحرر العروبية عن أن تصدع بمشروعها الثوري والإشتراكي ولذا هي بين من يحاول “بقرش الصَوان” وبين من يتبع هنا وهناك مبرراً ذلك ب: “ليس لدينا مشروعاً” وتحت هذا الشعار التفريغي يكرر هؤلاء: لولا ولولا ولولا  هذه الدولة أو تلك لانتهت ا.,ل.م.ق.ا.و.م.ة . تباً لتيار أو تنظيم لوْلا! لأنه من التراخي والتحلل عاجز عن تجميع نفسه لنهوض فكري كبداية. وهذا يذكرنا بالإنسان الوجودي الذاتي الذي يشعر انه مفكك المفاصل لا يقوى على تجميع نفسه للنهوض!

·      ويضج الوطن بهلوسات مشايخ الدين السياسي السنة والشيعة وحروبهم التي تبدأ من عذاب القبر إلى أن تُعيدنا إلى علي ومعاوية لا ولاء لأي منهما ولكن لتوظيف تشويه التاريخ بزعم تحريره، من أجل ضرب اية بدايات للمشروع العروبي لأن تدمير واجتثاث العروبة هو هدف كل هؤلاء سواء كانوا مثقفين، أحزاباً أو أنظمة حكم عربية أو إقليمية أو أجنبية.

________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….https://kanaanonline.org/2022/10/27/%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7%d9%86-3/