الجزء الأول: روجير وينتر: بين يدي الشيطان!
25 تموز 2023
تشبه رقعة الصراع في السودان اليوم طاولة البيلياردو، حيث يمكن لكل طرف إقليمي أو دولي أن يحقق في ضربة واحدة عدة كرات لصالحه وعدة خسائر في وجه خصم أو أكثر، كما أنه من الممكن له في الضربة ذاتها أن يخسر بعض النقاط أو يضحّي بها لأجل أخرى. ما يزيد المشهد ضبابية قصر الذاكرة السياسية في تفسير الصراع، والحقيقة أن مآسي السودان قد تبدو نتيجة رجال الحكم مثل البرهان وحميدتي والبشير، إلا أن هناك سياقاً أكثر اتساعاً وعمقاً وأكثر قدماً من كل هؤلاء لزعزعة استقرار السودان صنعتهُ واشنطن. هذا السياق هو أفضل تجارب واشنطن في الفوضى الخلّاقة التي سعت لنشرها في منطقتنا؛ لم يكن انطلاق «الربيع العربي» غداة انفصال جنوب السودان مجرد مصادفة عبثية، كما لم يكن الحراك السوداني في نهايته مصادفة عبثية أخرى. سلسلة المقالات هذه هي محاولة إحاطة تاريخية بدور واشنطن وحلفائها في إيصال السودان ومحيطه إلى هذا الدرك الأسفل من الموت.
«أمي لقد قتلت رجلاً للتوّ» غنّى فريدي ميركوري (فاروق بولسارا) ومعه الجماهير العريضة على منصة مدرج ويمبلي قبل 37 عاماً في مشهد حضره المليارات على البث المباشر العابر للأطلسي، يكاد يكون هذا أكثر مقاطع الغناء الحي شهرة في تاريخ الموسيقى الغربية وأكثرها رمزية. في خلفية المشهد، كانت هناك بقعة سمراء يشوبها غيتار لا يذكرها أحد اليوم (أفريقيا)، إلا أن الحفل للمفارقة كان قد أقيم على شرفها، أو بالأحرى على شرف إنقاذها، كان المنظّمون يعدون وتيرة سقوط ضحايا المجاعات في القارة السمراء، وبطريقة ما كانت الأجساد البيضاء تتراقص على إيقاع تساقط الأجساد السمراء بسذاجة العصر، حيث لا جانيَ ولا مجنيَّ عليه ولا مسؤولية سياسية عن عذابات ومآسي الجنوب. هكذا يمكن اختزال روح العصر (Zeitgeist) القادم لانتصار الرأسمالية، وأبطاله من متطوعين ومنظمات إنسانية، وضحايا سمر البشرة، وتدخلات عسكرية بدعوة هذه المنظمات، تجارة سلاح وحركات متمردة وحروب عبثية مستدامة، ومخيمات اللجوء على مد البصر ترفد الصراعات بجنود من الأطفال، وتجارة مساعدات فاحشة الربح، وصناديق تحوط كالطيور الجارحة تترصد سقوط جثة دولة متحللة جديدة لتنهش اقتصادها حتى النخاع. المفارقة أن الصادق الوحيد بين كل المجاميع، كان فاروق الذي أعلن بصراحة أنه لم يكن هناك لإنقاذ أي أحد.
واشنطن 2007، وقفات احتجاجية صغيرة الحجم أمام مراكز صنع القرار الأميركي والسفارة السودانية، تضم مسؤولين أميركيين ومشاهير هوليوود وأعياناً للجالية اليهودية، وطبعاً هناك وجوه سودانية بين الحين والآخر، تجابه هذه الوقفات بقوات الأمن (U.S. Secret Service) ويتم اعتقال المتظاهرين، وتوثّق عدسات الكاميرا هذه الحوادث بالتفصيل والمحتجون يُكبلون ويُقتادون إلى عربات الاعتقال، وإذا دقّقت في الصور ستلمح ابتسامات كأنها تكتم ضحكات مجلجلة، ولكن ما المضحك هنا؟
للإجابة علينا البدء بثمانينيات القرن الماضي، حينها بدأ الغرب يتلمّس تراجع النفوذ السوفياتي في القارة السمراء، وبذلك تلاشت الصبغة الإيديولوجية للتدخلات الأميركية التي برّر بها الغرب لنفسه قمع حركات التحرر ونهب شعوب الجنوب تحت غطاء مكافحة الشيوعية. مع «نهاية التاريخ» بدأت حروب من نمط آخر بالظهور كانت أشد دموية وعنفاً، وكان من الضروري تغطية عورة التدخلات الاستعمارية المتصارعة في ما بينها تحت شمس «الليبرالية المنتصرة» بغطاء التدخلات الإنسانية، وهكذا صعد نجم نوع جديد من الأبطال: ناشطو «المنظّمات غير الحكومية»، وبالنسبة إلى أميركا كان روجر وينتر رجل المرحلة في أفريقيا.
كانت أوغندا وأفريقيا الوسطى نقطة انطلاق للعدوان نفسه باتجاه جنوب السودان وغربه
هذا القادم من إدارة كارتر حطّ في أفريقيا كمسؤول في اللجنة الأميركية للاجئين (USCR) جالباً معه طوفاناً من الدم. بدأ مسيرته باستقطاب عدد من الشباب الأفريقي الذي تدرّب في معسكرات داخل أميركا، من هؤلاء كان موسيفيني الذي سيصبح رئيس أوغندا بانقلاب دموي، كان لا بد له من ميليشيا تكوّنت من لاجئي التوتسي (كانوا أوغنديي الجنسية ومن العائلات المتنفّذة إجمالاً) أمّا المسؤول الاستخباري لها والذي تكبّد عناء أفظع جرائمها فهو بول كاغامي، وهذا سيصبح رئيس رواندا، الأمر الذي تطلّب مجزرة أخرى – تلك التي قالوا لنا بأن الهوتو عام 1994 انطلقوا في هرج مسعور على مدى مئة يوم لحصد رؤوس 800 ألف من التوتسي بالمناجل «الماشيتي» وللمزيد من سخرية القدر فقد كانت هذه الأخيرة مؤمّنة بقرض من البنك الدولي. تأخر العالم للتدخل وإيقاف المجزرة، وعدم التدخل هذا هو حكاية بذاتها سنعود إليها. كانت هذه المجزرة مهمة استراتيجياً إلى الحد الذي أُدين تخاذل بطرس غالي لانحيازه الفرنكوفوني فيها، ونسيت له خدماته الجليلة للاستعمار بلمح البصر.
مأساة رواندا للأسف تتعاظم إذا ما عرفنا أن العالم أدان المذبوحين، بينما بكى القتلة وهلّل لتسلّمهم السلطة (عام 2008 صدر تقرير بالحقيقة من قبل الأمم المتحدة)، وأن روجر وينتر أدار المجزرة وأن كاغامي (إلى جانب أمراء حرب أفارقة آخرين) كان يدعوه بالزعيم «Boss» بينما لقّبه ضحاياه بالشيطان، وأن المأساة لم تنته هنا، بل ذهب كاغامي ليكمل مذابحه في الكونغو حيث فرّ الناجون من الهوتو، وذلك تحت ذريعة أن المسلحين كانوا قد اختبأوا بينه. وهكذا اجتاح الكونغو (زائير) وتمّ قلب نظام الحكم وتنصيب زعيم آخر يرضى عنه وينتر «مؤقّتاً». وكالجراد عاث جيش كاغامي في الأرض إبادةً ولم يميز بين كونغولي ورواندي لاجئاً كان أو مسلحاً. لليوم لا تزال الكونغو غارقة في الصراعات الميليشيوية، والتقديرات عن ضحايا هذه الحروب المستمرة في هذا البلد وحدَه حتى عام 2011 رَاوحت بين 6 و 10 ملايين.
شكّلت رواندا، وبعدها أوغندا، قاعدة انطلاق لما يسميه الصحافي والمصوّر والشاهد كيث سنو، باستراتيجية الحروب المنخفضة الوتيرة تجاه الكونغو. كانت أوغندا وأفريقيا الوسطى نقطة انطلاق للعدوان نفسه باتجاه جنوب السودان وغربه. في هذا السياق التقى روجر وينتر مع جون غارنغ، زعيم الحركة الانفصالية في جنوب السودان، وجنّده وأرسله للتدريب في أميركا، ولاحقاً سيجنح الرجل نحو السلام مع الخرطوم وبأعجوبة سيُقتل في تحطّم مروحية أعاره إياها موسيفيني. كان غارنغ قد اتفق مع الخرطوم على حل سلمي يضمن وحدة السودان واستُقبل في العاصمة استقبال الأبطال بحضور الملايين من السودانيين، وإذ به يُقتل ويُروّج بأن الخرطوم (المستفيدة الكبرى من بقائه حياً) قد اغتالته. بينما تظهر وثائق «ويكيليكس» أن الأميركيين بحثوا عن قائد جديد من بين قادة الميليشيات لخلافته والمعيار الأهم في البحث هو من يمكنه قيادة الجنوبيين للإجماع على خيار الانفصال. وانفصل الجنوب عام 2011 عشية «الربيع العربي» ولم يشهد يوماً من السلام منذ ذلك الحين، بالرغم من إغداق الأميركيين والإسرائيليين له بالمساعدات، لا يزال مئات آلاف النازحين يقيمون في الشمال هرباً من الموت.
دُمّر إقليم بأكمله وشُنّت حروب ونُفّذت انقلابات دموية في كل من الكونغو-زائير ورواندا وأوغندا والسودان، وامتدّت ألسنة النار إلى كل من التشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وبوروندي، لم تستهدف هذه الحروب الأنظمة والحكومات فقط، بل كانت حروب إبادة وتطهير عرقي قادتها الميليشيات برئاسة أمراء الحرب، ومنها الجيش الشعبي لتحرير جنوب السودان، والجبهة الوطنية الرواندية، والاتحاد الديموقراطي لتحرير الكونغو، وحركة التحرر القومي في أوغندا، وعدة حركات متمرّدة في دارفور، كل هذا أنجزه روجر وينتر وتلامذته من أمراء الحرب.
سيبحث المقال التالي… كيف استفادت واشنطن من هؤلاء لإدارة الاقتصاد الجيوسياسي للمآسي في المنطقة.
(2)
الجزء الثاني: الحروب منخفضة الوتيرة والاقتصاد الجيوسياسي للمآسي
26 تموز 2023
هل تسمعون عن العلاقة المميزة بين كل من الزوجين كلينتون وأوباما وبول كاغامي رئيس رواندا؟ هل تساءلتم ما سرّها؟ أو هل سمعتم عن قرب جون غارنغ وموسيفيني من عائلة بوش؟ وتساءلتم عن سرّ ذلك؟ السرّ واحد في كل الحالات: مجازر ونهب وعداء طائفي ديني (للكاثوليك والمسلمين وأصحاب الديانات الطبيعية) أبقى شعلة الحروب منخفضة الوتيرة في المنطقة، والفارق أن الأوّلين تجمعهم الليبرالية، بينما اللاحقون هم بروتستانت محافظون.
أينما جادت الأرض بثرواتها «سيكون هناك دم» (There will be blood)، يؤكد آخر أفلام الويسترن العظيمة، هذا ذنب كل من السودان والكونغو وما جذب إليهما نوعاً خاصاً من الحروب، التي يكون العنف فيها غاية لذاته، قد يوجه خطابياً ضد حكومة أو نظام أو «ديكتاتور»، لكنه مطلوب حتى في غيابهم، لأن الحروب منخفضة الوتيرة تؤمّن أفضل بيئة لسرقة الثروات بأبخس الأثمان. وفي حالة السلع الاستراتيجية، مثل الكوبالت أو الصمغ العربي، فيتم ضمان مستقبل النهب قبل حاضره بوأد أيّ سلطة قد تتفرغ مستقبلاً للمفاوضة على شروط هذا النهب.
الموضوع لا يتوقف هنا، فالاقتصاد الجيوسياسي للمآسي الإنسانية (والاصطلاح يعود لكيث سنو)، الناتجة من هذا النوع من الحروب، يعمل كشبكة تكاملية من المصالح، من جهة فأنت تؤمّن سوقاً لبيع السلاح الكاسد، وخزاناً بشرياً سيّالاً ومتحركاً للمسلحين (هكذا انتهى الأمر بالسودانيين يقاتلون اليمن)، ومن جهة فإن مخيمات اللجوء هي الفردوس لكبرى الشركات الزراعية الأميركية التي تستفيد من تجارة المساعدات فاحشة الربح، وخصوصاً لتسويق الغذاء الفاسد والكاسد وتجريب الأغذية المعدّلة جينياً من دون مساءلة؛ قد تكون Operation Lifeline Sudan 1989-2005 الأكبر في التاريخ قبل المأساة السورية – ونجحت في إمداد المسلحين بكل شيء، بينما فشلت في تحقيق هدفها المعلن تجنّب المجاعة، كما أنها تستخدم كسلاح استراتيجي من قبل الميليشيات لترويع السكان وإخضاعهم.
الشيء نفسه ينطبق على كبرى شركات الأدوية (عندما قصف مصنع الشفاء في الخرطوم عام 1998 بعد عام واحد من تشغيله كان قد أمّن 60 – 90% من حاجة السودان للقضاء على أكثر الأمراض فتكاً بالبشر والماشية، فضلاً عن الزراعة). كما يؤمّن اللجوء طريقاً سهلاً للاستيلاء على الأراضي (استطاعت الـ USAID، من خلال مساعدة شركات الأغذية الأميركية الكبرى، من السيطرة على مناطق زراعة الصمغ العربي المحوري لصناعاتها والذي تسيطر السودان على 80% من صادراته عالمياً). ومن ناحية أخرى، تؤمّن مخيمات اللجوء تجنيد الأطفال المقاتلين، كما حصل في جنوب السودان (بشهادة جون براندرغاست نفسه قبل أن يحسن روجر وينتر تربيته ويرث دوره في الإقليم)، علاوة على تأمين سوق عمل برواتب مغرية وتدريب مهني لديبلوماسيي المستقبل الغربيين.
هناك تسريب لحديث مسؤول في شركة «بلاك روك» (التي حصلت على عقود لإعادة إعمار أوكرانيا) يشرح فيه لأحدهم أهمية الصراعات لتحقيق هوامش ربح فادحة، هنا المستوى الأعظم للنهب حيث يلعب البنك الدولي وصندوق النقد لإنهاك الدول المهترئة بفعل الحروب لآخر رمق، فتدخل صناديق التحوط لإنزال الضربة القاضية. هذا السياق الذي استثمر فيه كل من بول سنغر، مدير صندوق «إيليوت» السيئ الذكر في الإقليم، وكذلك المحسن وراء المجتمع المفتوح جورج سوروس وصناديق تحوطه، حتى إن له استثمارات مشتركة في دول المنطقة مع مادلين أولبرايت (للأسف، رحلت ولم تُسأل إن كان قتل عشرات الملايين من الأفارقة وتهجير عشرات أخرى مقابل هامش أرباح فاحشة أمراً مستحقاً كما أكدت حين سئلت عن قتل نصف مليون طفل عراقي).
أمّا في الجانب الجيوسياسي، فقد عملت المنظمات على إمداد المسلحين خلف خطوط العدو بكل احتياجاتهم، وهي مهمة عادة ما تتكفل بها قوات المظليين في الجيوش، حتى إن الضلع النرويجي في الترويكا المعادية للسودان كان قد أرسل أحد أفراد الحرس الملكي إلى الحدود الجنوبية للسودان، وهو أيضاً ضابط مظلي سابق، ووصل إلى هناك ممثّلاً عن منظمة NPA التي تدّعي أنها تمثّل الشعب النرويجي ونقاباته. وقد قام الرجل بإمداد الجيش الشعبي لتحرير السودان بشكل مباشر، الأمر الذي أحرج الحكومة النرويجية وضيقت تمويل المنظمة، فتكفل روجر وينتر بتأمين تمويل لهم من الـ USAID. هذا عدا عن الدور الاستخباري الذي تلعبه هذه المنظمات في عمق مناطق الصراع.
أمّا في ما يخصّ إمداد المسلحين من أمام خطوط العدو وأعينه، فإن مفاوضات إمداد المساعدات وبرامج المنظمات دعمت المسلحين أينما احتاجت إليهم واشنطن، بشهادة روجر وينتر نفسه. بل إنه شهد بأن أميركا استخدمت الطيران الخاص ببرنامج الغذاء العالمي (وهي أكبر داعميه، وشركاتها تستفيد من عقوده وخصوصاً في مجال النقل الجوي) للإشراف على الأوضاع المتدهورة في دارفور من الجو، في الوقت الذي كانت فيه الحكومة السودانية تستهدف أي طيران تعتبره معادياً. ولا تتوقف المسائل هنا، ومرة أخرى بشهادة وينتر، فقد شكلت البرامج الزراعية التي قدّمتها وكالة التنمية الأميركية للسودان والتي اضطرّت السودان إليها بعدما دمّر معمل أدويتها الوحيد، توريطاً تدريجياً للبشير في اتفاق السلام الشامل مع الجنوب، وفتحت موطئ قدم للوكالة (وبالتالي للأميركيين وحلفائهم من المسلحين) في مناطق استراتيجية كان من الصعب الوصول إليها. والأهم من كل ذلك قول وينتر بأننا لم نورطهم باتفاق سلام فحسب، بل كان في الحقيقة دستوراً جديداً يغيّر نظام الحكم في السودان.
هكذا أدار الأميركيون الحدود والصراعات في الإقليم ورفدوا المنظمات التابعة لكبرى الشركات الناهبة (تلقب مجموعة المنظمات/ الشركات الأكثر تعاقداً مع الـ USAID بـ Beltway Bandits قطاع طرق الحزام الدائري، وذلك إشارة الى مواقع إداراتها المتمركزة في الحزام الدائري الذي يلفّ مراكز صنع القرار في واشنطن وإشارة إلى لصوصيتها). وإذا نظرت إلى قائمة الداعمين للمنظمات الكبرى المعنية في قضايا اللجوء، فلن تجد كبرى الشركات الزراعية والكيماوية فحسب، بل ستجد نجوم المجمع الصناعي العسكري وكبرى شركات التنقيب عن النفط والتعدين، لتكتمل بذلك دورة الاقتصاد الجيوسياسي للمآسي الإنسانية.
ما حصل في هذه المنطقة، وفي السودان تحديداً، كان نموذجاً أرادت الإدارة الأميركية استنساخه، لا بل كان انفصال السودان نقطة الانطلاق الحقيقية لما سمّي بالربيع العربي، وهو ما نجح ضد ليبيا وشعبها إلى حد كبير، لكن لا يمكننا أن نتخيّل مصيرنا هنا لو نجح هذا المشروع في المشرق العربي، فلولا مقاومون وشهداء ومحور أفشلوا المشاريع الأميركية وعلى رأسها «الشرق الأوسط الجديد»، لكنا جميعنا ضحايا في مرمى النيران المستدامة للإنسانية الأميركية، ومهما قلنا أو فعلنا فلن نفِيَ كل هؤلاء الشهداء وعائلاتهم حقّهم من الشكر والعرفان يوماً.
[في الجزء التالي من السلسلة، سنلقي ضوءاً على مصيدة المفاوضات تحت نيران الحروب منخفضة الوتيرة، التي وقع فيها السودان وكيف أحسنت واشنطن ابتزاز بلد اللاءات الثلاث وإخضاعه بالتدريج]
(3)
الجزء الثالث: في مصيدة الأفعى والسلم
27 تموز 2023
«إذاً فالسؤال الحقيقي، السؤال الأخلاقي هو التالي: هل سنستخدم القوة لإنقاذ الأفارقة في دارفور كما فعلنا لإنقاذ الأوروبيين في كوسوفو؟» – سوزان رايس
«الإبادة الجماعية هي ورقة الطرنيب. في اللحظة التي تنخرط فيها أمة بإبادة جماعية هناك فهم ضمني بأنها تخلّت عن سيادتها… هذا يغير كل الدينامية… السبب وراء دفع أشخاص مثلي منذ أربع سنوات بالقول إن هذه إبادة جماعية هو لخلق هذا المناخ بالضبط حتى يكون مستحيلاً للناس أن يجادلوا ومن الصعب لهم أن يجادلوا بأن لدى الخرطوم بشكل ما شرعية» – جو بايدن.
جلسة الاستماع هذه، المقامة في الحادي عشر من نيسان 2011 من قبل الكونغرس حول الأوضاع في دارفور، كبسولة لفهم الابتزاز الذي تعرّض له السودان؛ لدينا هنا مجلس شيوخ ديموقراطي عدواني يدفع باتجاه شنّ حرب أممية أو أطلسية أو منفردة ضد السودان، وأمامه مجموعة من الشهود أولهم اندرو ناتسيوس، وكان وقتها المبعوث الخاص من قبل الرئيس بوش إلى السودان، وأوضح الرجل حقيقة الوضع حسبما رآه في السودان. وبحسب كلمته الافتتاحية، أوضح أن وتيرة العنف منخفضة في الإقليم، وأن الحكومة السودانية متعاونة وملتزمة بالخطوط الحمر الأميركية، كما أوضح أن الإبادة الجماعية الحقيقية تحصل الآن في التشاد، وأن جماعات الثوار تقوم بمختلف أنواع الارتكابات، من القتل إلى الإغارات والاغتصاب وسرقة المساعدات الإنسانية وحتى مهاجمة المنظمات الدولية. كما أوضح أن تصوير الصراع على أنه بين قبائل العرب والأفارقة هو تصوير خاطئ وأنه من المضلّل أن تُصنف أطراف النزاع على أنها طرف عربي متجنٍّ وطرف أفريقي مجنيّ عليه، بل إن الضحايا في دارفور هم القبائل «العربية».
خلال الجلسة الممتدة لساعات، تعرّض الرجل لأنواع الضغوط كافة لتغيير أقواله، بدا ناتسيوس كأنه متهم لا شاهد. لا يمكن لأي نص مقتطف أن ينقل نبرة التهديد الضمني التي تعرّض لها الرجل، وكان السيناتوران بوب مينينديز وجو بايدن هما الأكثر إلحاحاً؛ الأول حاصر الرجل حتى أقر بأن الوضع الجاري في دارفور هو إبادة جماعية (الشاهدة التالية كانت سوزان رايس، وهي قالت في انتقادٍ لتلكؤ ناتسيوس، لقد تطلب الأمر ساعتين من الضغط لكي يعترف بأن ما يحدث الآن هو إبادة جماعية). بينما انصبّ اهتمام جو بايدن على ضرورة التوقف عن الحديث حول جرائم الثوار الذين تدعمهم واشنطن، فذلك لا يفيد.
كانت اللجنة تدفع باتجاه 3 مشاريع: العقوبات (بالنسبة إلى مينينديز تحديداً من الضروري فرض المزيد من العقوبات -بغضّ النظر عن الوقائع على الأرض- لأنه يرى أنه يتعامل مع أطفال -يقصد الحكومة السودانية- وانبرى الرجل يوصف الوضع بكل ما للغة استعمار القرن التاسع عشر من فوقية واستعلاء). المشروع الثاني، تحريك محكمة الجنايات الدولية ضد السودان (لكسب نقاط قوة في التفاوض مع الخرطوم كما عبّر مينينديز وتراجع بعد أن نبّهه ناتسيوس أن المحاسبة لارتكاب جرائم ضد الإنسانية لا يجب أن تكون ورقة ضغط ومفاوضات). والمشروع الثالث، كان إدخال أعداد أكبر من قوات الأمم المتحدة وتوطينها للسيطرة على الوضع في المنطقة. مشروع إضافي كان بعيد المنال ولكن ذلك لم يمنع بايدن ورايس من الترويج له، وهو التدخل العسكري عن طريق حلف الأطلسي أو حتى بشكل منفرد.
عند تتبّع الأحداث يظهر تحمّس الجمهوريين لشن الحرب على السودان في حكم الديموقراطيين، وحالما يتسلّمون الحكم، حتى تنقلب الآية، وقد يبدو مفهوماً تماماً لماذا أرادت أميركا شن الحرب على السودان، ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً هو: لماذا لم تشن أميركا الحرب على السودان؟
للإجابة علينا البدء من حركات التمرد في دارفور التي بدأت من جنوب السودان، هناك التقت قياداتها بروجر وينتر، وهناك بدأت علاقاتها الصهيونية، وكان الأميركيون يلاعبون الحكومة السودانية لعبة السلم والأفعى، عند كل مفترق طرق من المفاوضات والتنازلات. ومقابل كل سلم من الإغراءات وضع الأميركيون أوكاراً من الأفاعي. وكلما تنازل السودان لحصد المكاسب، مثل رفع اسم البلد من قائمة الدول الراعية للإرهاب، أو ضمان عوائد ترانزيت النفط المتركّز في جنوب السودان، كان أمراء الحرب يشعلون الحرائق في مناطق أخرى مثل كوردفان ومناطق مختلفة من دارفور على هوى ضابط الإيقاع الأميركي. هكذا اشتعلت جبهة دارفور بشكل كامل في الوقت الذي كان اتفاق السلام الشامل في الجنوب ينضج ويغري الشمال بحصد المكاسب، وبالطريقة ذاتها عندما أرسل الاتحاد الأفريقي بعثة لتهدئة الأوضاع في دارفور ونجح في التوصل إلى حل سياسي بين الحكومة والمتمردين قُطع التمويل الغربي عن البعثة العسكرية وأصبح آلاف الجنود في إقليم غريب قاحل، ولإكمال الكارثة بلا هدف سياسي، إذ تشظّت الحركات المتمردة بشكل مفاجئ وغيّرت مطالبها إلى مطالب تعجيزية يستحيل لحكومة السودان القبول بها، الأمر الذي يجعل من التوصل إلى السلام ضرباً من المحال كما يعترف مسؤولون أميركيون، ما برّر ضغط أميركا لإدخال قوات الأمم المتحدة وفرض البند السابع على السودان.
كان روجر وينتر في قلب خلية إدارة الصراع في السودان بالتنسيق مع اللوبي الصهيوني، ومعه عصابة كبرى ممتدة في مختلف المؤسسات الأميركية تشمل سوزان رايس في الأمن القومي، وأعضاء من مجلس الشيوخ، وشبكة من المنظمات غير الحكومية العاملة في السودان تعود خيوطها جميعاً لجون براندرغاست، تلميذ وينتر، والذي وظّفته رايس في مجلس الأمن القومي بعد أن أكّد لها سوء نواياه تجاه السودان. وهكذا قادت هذه الخلية مجموعة الحروب المنخفضة الوتيرة على مدى عقود ضد السودان، أشعلت جبهة كلما أطفأت السودان إحداها بتنازلات مذلّة طمعاً بمكاسب من سراب.
مجدّداً، لم يهتم أحد بأن القتلة هم من تريد أميركا إنقاذهم أو أن أميركا نفسها كانت مسؤولة عن قتل ملايين العراقيين بينما تريد إنقاذ السودانيين، وذلك لأن عدّاد ضحايا الصراع في دارفور كان يعمل على شكل بورصة تصعد وتنزل بحسب المصالح الأميركية في الضغط على الحكومة السودانية. بطل هذه البورصة كان البروفيسور اريك ريفز، وهو جزء من حملة «أنقذوا دارفور» التي نشأت من رحم اللوبي الصهيوني في أميركا، وكرّست ميزانيات بعشرات الملايين لبث بروباغاندا البورصة هذه دون أن ترسل قرشاً واحداً لدافور. فتحالف «أنقذوا دارفور» لم يكن تحالفاً من أجل السلام بل كان تحالفاً من أجل الحرب. وما بدأه نجوم الغناء في الثمانينيات سيكمله نجوم هوليوود خلال حقبة الحرب على الإرهاب، بتكريس سردية الرجل الأبيض الآتي لإنقاذ السمر من شر أنفسهم، بالاعتماد على عنصرية مزدوجة؛ عنصرية الراوي وعنصرية المتلقّي، لإغفال مسؤولية الرجل الأبيض عن إدارة شلالات الدم.
[سيناقش الجزء التالي من السلسلة علاقة تحالف «أنقذوا دارفور» بالسياسة العامة للصهيونية في أفريقيا والسودان تحديداً للناحية الخطابية ولناحية المصالح الجيوستراتيجية الصهيونية في السودان]
(4)
الجزء الرابع: دخول الصهيونية
28/7/2023
لا تكتمل حكاية السودان من دون التوقّف عند الأيدي الصهيونية. كان دخول إسرائيل إلى القارة السمراء متلعثماً وصعباً، فقد تزامن فرض وجود هذا الكيان كمستعمرة أوروبية بيضاء مع صعود حركات التحرر الأفريقية من الاستعمار الأوروبي ذاته، والتي وجدت في عدو الصهيونية اللدود موئلاً لها، فكانت القاهرة الناصرية حاضنةً ثورية جامعة للهموم الأفريقية ودافعة باتجاه قوى التحرر.
كانت الرهانات الصهيونية المبكرة على الأقليات البيضاء المستعمرة نتيجة للمصالح الاقتصادية للاستعمار فضلاً عن التماهي الثقافي، إذ يتحدّث الصحافي كيث سنو مراراً عن أهمية الألماس الأفريقي في تأسيس كيان العدو اقتصادياً، كما في جنوب أفريقيا أو روديسيا (الآن زيمبابوي) أو الاستعمار الفرنسي في القارة. يذكر الكاتب بيار بيان، في كتابه «المذابح»، حول جرائم الترويكا في شرق أفريقيا، أن بن غوريون حاول ثني ديغول عن التخلي عن الجزائر وطرح عليه فكرة أن يبقي على أقلية أوروبية محصورة قبالة المتوسط بينما يضمن لها قدرة على الوصول إلى عمق الصحراء وثرواتها، وكان رد ديغول هنا لافتاً: أتريد مني خلق إسرائيل أخرى على المتوسط؟
مع خروج الاستعمار تدريجياً من القارة، كان على الصهيونية بناء سردية جديدة تؤاخي بينها وبين الشعوب الأفريقية وتخفي به وجهها الاستعماري الأبيض، وبدأت باستهداف ما يسمى بالأقليات القابلة للتلاعب كتلك الموجودة في جنوب السودان والتي كان الاستعمار البريطاني قد جهّزها لتكون عدوّة محيطها.
بُنيت السردية الصهيونية على أذرع ثلاث؛ أولاها أخوّة الأمم الحديثة العهد التي تجعل من «إسرائيل» مثالاً براقاً للنجاح في بناء دولة متقدّمة بالرغم من صغر السن واستعداد العدو لنقل خبراته في هذا المجال إلى الدول الوليدة. ثانيتها، نقل الخبرات التقنية والعلمية التي تحتاج إليها القارة بشدة. أمّا أهمّها، فهو أخوّة الشعوب المستعبدة. اتّكأت الصهيونية على الروايات التوراتية عن استعباد اليهود في مصر الفرعونية وأضافت إليها اضطهادهم في أوروبا لتستدرّ عطف الأفارقة وتقول لهم نحن مثلكم مضطهدون تاريخياً مستعبدون وعدونا واحد، إنهم العرب، هم تجار الرقيق وهم من دمّروا القارة وحضاراتها وها نحن أتينا لنتحرر معاً منهم.
هذه السردية تحديداً كانت أساسية في السودان حيث استكملت الترويكا (أميركا وبريطانيا والنرويج وفي الخلفية الكيان الصهيوني) عملاً كان قد بدأ به البريطانيون برسم خطوط هوياتية فاصلة بين مكوّنات المجتمع السوداني (في هذا الشأن يمكن الرجوع لكتاب محمود مامداني «لا مستوطن ولا أصلاني» Neither native nor settler)، لتأصيل الفرق بين العربي والأفريقي كأصل عرقي، لا لغوي ثقافي، فالعربية في السودان انتشرت كلغة بلاط Lingua Franca وكثير من القبائل التي تقول بعروبتها هي أفريقية من الناحية العرقية، كما أن العربية لليوم هي لغة التواصل بين مكوّنات جنوب السودان الذي يقول الغرب إنه انفصل بسبب اضطهاد الشمال العربي لهم.
هذا التفصيل مهم جداً لفهم تاريخ الصراعات في السودان ومآلاتها اليوم، خصوصاً أن غالبية وسائل الإعلام – وحتى تلك المناوئة للاستعمار- لا تزال تنسخ التشوّهات التي يروّج لها الغرب في تعريف أطراف الصراع، وبالتالي هو ينجح في قبولنا الصورة النمطية العنصرية الأوروبية تجاه المآسي الأفريقية بأنها شعوب لا تعرف الاستقرار ولا تعرف الدولة ومحكومة بالصراعات القبلية والإثنية، والأهم من ذلك أن هناك مكوّناً أصلانياً أفريقياً يباد من قبل مكوّن عربي مستعمر في حالة السودان. وقبولنا هذه الصورة يلهينا عن البحث عن الأيدي المحرّكة عن هذه الصراعات والمستفيدة منها، لا بل يبرر لها المزيد من التدخل تحت راية «الإنقاذ». ربما سبق لي الاستشهاد بالاقتباس التالي ولكنه يستحق التكرار: «إن الفصل الأخير لأي إبادة ناجحة، هو حين يرفع القاتل يديه ويقول انظروا إلى هؤلاء الوحوش كيف يقتلون بعضهم».
ومرة أخرى نعود إلى حملة «أنقذوا دارفور» ومتفرعاتها والشعارات التي رفعتها مثل «كفاية»، و«ليس تحت رقابتي»، و«ليس مجدداً» وغيرها، وفي كل منها كوميديا سوداء هي السر وراء ابتسامة المعتصمين المذكورة في بداية السلسلة.
«ليس مجدداً»، مثلاً، هو شعار يردد صدى الناجين من الهولوكوست، ولكنه أساساً كان يردد لإدانة التلكؤ الدولي والأميركي في التدخل في مجازر رواندا حيث بُرّر ذلك بأن أميركا أرادت إفساح المجال للأفريقيين ليحلوا مشاكلهم ذاتياً، مع أن أميركا كانت تستعرض عضلاتها في البلقان، وحقيقة الأمر أنها أرادت لرجلها روجر وينتر وصبيانه أن يتموا جريمتهم بأقل ضوضاء ممكنة، هناك صحافيون ونشطاء غربيون كثر حاولوا نشر الحقيقة حينها، بعضهم قُتل من قبل قوات كاغامي وآخرون هُمّشوا أو أُسكتوا.
أمّا إذا أردنا الحديث عن مصلحة العدو الصهيوني في استدامة الصراعات في السودان تحديداً، فلذلك طبقات متعددة أهمها ما يلي: أولاً، الأجندة البديهية بإضعاف وتقسيم أي دولة عربية تمتلك مقوّمات النهوض وتشكيل قوة إقليمية وازنة. ثانياً، موقعه الاستراتيجي على خط التجارة العالمي على البحر الأحمر، من جهة، وقابلية الوصول العالية إلى عمق أفريقيا الشرقي من هذا الممر (هو أهم من جيبوتي التي تحتضن عدداً من القواعد العسكرية الدولية المتناحرة نظراً إلى أن الطوبوغرافيا هناك تشكّل عائقاً)، كما أن سواحل السودان على البحر الأحمر استراتيجية للسيطرة على الملاحة ولتهديد أمن دول الجوار. ثالثاً، الوجود الأمني وزعزعة محيط مصر على عدة مستويات منها الفوضى والنزاعات واللجوء والمياه أيضاً (تحدّث جون براندرغاست برفقة جورج كلوني كيف أنه، وبودّية، ألمح إلى سوزان مبارك أن على مصر القبول بانفصال جنوب السودان إن كانت مهتمة بأمنها المائي). رابعاً، الدافع الاقتصادي في ما يتعلق بالمعادن والزراعة، وأيضاً تصدير الأسلحة. خامساً، قطع خط الإمداد للمقاومة الفلسطينية في غزة. سادساً، التعاون الأمني والاستخباري الذي بدأه البشير مع الأميركيين في زمن إدارة بوش وانتهى مطافه بانضمام السودان إلى الاتفاقات الإبراهيمية.
كان التطبيع هو الممحاة السحرية التي رفعت اسم السودان عن قائمة الإرهاب، ومسحت دموع الغرب على الضحايا السودانيين، وأضفت مسحة ملائكية على من كانت تعدّهم واشنطن مجرمي حرب، إلا أن رضى الأميركيين عنهم كان قلقاً، ليس بسبب قمعهم للشعب السوداني أو القوى السياسية المدنية التي تدعمها أميركا، بل لأن طاولة البلياردو كانت قد بدأت بالازدحام مجدّداً، وهو ما سيتناوله الجزء الأخير من السلسلة حول الأوضاع الراهنة المتدهورة.
(5)
الجزء الخامس والأخير: فوضى الوسطاء
1/8/2023
«أنت الآتي لإنقاذي، لو تدري كم أنا خائف منك»
بينما تدور عجلة الأحداث في السودان وتدور حولها النقاشات وطاولات البحث، وفوضى أحداث تقابلها فوضى في مراكز القرار لدى القوى الدولية والإقليمية، تدور أيضاً جهود الوسطاء لحل الصراع في السودان بدون فائدة. ومن بين كل الأطراف الإقليمية والدولية التي تمتدّ أيديها إلى الداخل السوداني، هناك أربعة فقط يمكننا أن نجزم بمصلحتها المطلقة في الاستقرار الكامل في السودان، هي الصين ومصر والجزائر وروسيا.
بالنسبة إلى الصين التي لطالما بنت علاقاتها مع الدول الأفريقية على قاعدة الاستفادة المتبادلة، فإن مصالحها مع السودان أبعد بكثير من استخراج الموارد والثروات (علماً أن النفط السوداني كان من أهم عوامل النهضة الصناعية الصينية)، فالسودان بالنسبة إلى الصين استراتيجي كمدخل لعمق القارة من الساحل الشرقي كما ذكرنا، ولأنه يحتضن أهم تقاطع لخطوط النقل والاتصال التي تعمل عليها الصين في القارة من جنوب أفريقيا إلى مصر من جهة، ومن جهة أخرى من سواحل البحر الأحمر إلى الأطلسي، أي ما يسمى بمنطقة الساحل وهي المنطقة التي يُتوقع أن تكون أكثر جبهات الصراع العالمي احتداماً في المستقبل القريب.
أمّا في ما يخص مصالح مصر في الاستقرار، فهي بديهية لناحية الأمن بمعناه العسكري والديموغرافي والاقتصادي والمائي. والجزائر، بدورها، تبني استراتيجية تنموية قائمة على تهدئة الصراعات والتنمية في المحيط الأفريقي. وفي ما يخص روسيا فصحيح أن الذهب القادم من غرب السودان، والخاضع لسيطرة حميدتي، مهم لها استراتيجياً ضمن مخطط تقويض الدولار كعملة التبادل التجاري العالمي، إلا أن مصلحة روسيا العليا هي القاعدة البحرية العسكرية في بورتسودان، إذ إن روسيا هي القوة الدولية الكبرى الوحيدة التي لا تمتلك قاعدة على البحر الأحمر. وهنا لا بد من الإشارة إلى الصدفة العجيبة، بأن السودان المحاصر والجائع (بالرغم من أن غالبية الدول العربية تؤمّن غذاءَها من الأراضي السودانية) نجا من نيران الربيع العربي، إلى أن استدار البشير مجدداً وتصالح مع سوريا وطالب بإقامة القاعدة البحرية الروسية على سواحل بلاده، فإذا بالثورة تنفجر في وجهه، وبعد إسقاط البشير بدأ الأميركيون بترقّب مصير هذه القاعدة مع التغيرات في الداخل السوداني، وبدأ المحللون الأميركيون بالمراهنة على تعقيد العلاقة بين حميدتي والبرهان لإعاقة إنشائها، بل تحدّث بعضهم عن أن روسيا دفعت قوات «فاغنر» للتنسيق مع حميدتي لكي تضمن روسيا دور الوسيط بين الرجلين وتسهّل بذلك إنشاء قاعدتها. وبهذا لا يمكن إغفال احتمال أن تكون زيارة لافروف للسودان في شباط الماضي وبحثه في مسألة هذه القاعدة مع المسؤولين السودانيين صاعق التفجير الحقيقي للصراع. ويبدو أن روسيا اليوم، وبعد الحرب الأوكرانية، أكثر إصراراً من أي وقت مضى على تعزيز نفوذها في أفريقيا، وبشكله العسكري تحديداً، في دول متعدّدة، على رأسها السودان، إذ إن لافروف وحده قد أتمّ أربع جولات أفريقية خلال عام واحد.
في المقابل، هناك قوى دولية لا تملك خياراً سوى الاستثمار في الصراع ولو مرحلياً، مثل فرنسا التي تصارع للحفاظ على آخر معاقلها في القارة في التشاد على الحدود مع دارفور (قبل عقود خرجت فرنسا من شرق القارة بفعل ترويكا أنغلوسكسونية واليوم تخرج من غربها بفعل ترويكا روسية جزائرية غرب أفريقية). ونظراً إلى العلاقات بين قوات فاغنر وحميدتي، تبدو مصلحة فرنسا واضحة في إشعال الجبهات ودعم القوى الانفصالية في دارفور تحديداً، وسيكون من السذاجة إغفال هذا الدافع في تفسير أخبار إلقاء القبض على جنود فرنسيين على الحدود السودانية التشادية قبل أسابيع. أمّا دول مثل السعودية والإمارات، فتبدوان وكأنهما تسحبان تجربتهما من اليمن إلى السودان. وإن كان لهما مصالح في تقسيم السودان، ولو كمناطق نفوذ، فإنّ النوايا الأميركية (ومعها الترويكا) تذهب إلى أبعد من ذلك بالاستثمار أكثر في استراتيجية الحروب المنخفضة الوتيرة في السودان، وذلك لسدّ الطريق وقلب الطاولة في وجوه كل اللاعبين الدوليين المتزاحمين على أرض السودان، بالإضافة إلى كل الأسباب التاريخية لتبنّيها هذه الاستراتيجية في المنطقة.
تكتمل أركان هذه الاستراتيجية اليوم من خلال اللغة المتداولة لتوصيف الصراع والتي هي في الحقيقة تكاد تكون إعلاناً صريحاً للنوايا؛ أولاً مع تكرار الدعوات لضرورة إدخال تنويعات مختلفة لقوات إقليمية أو دولية. ثانياً، مع تكرار سردية أن السودان في طريقه إلى الانهيار، والأخطر من ذلك الترويج لفكرة أن الصراع ليس بين رجلين فحسب أو بين مؤسستين عسكريتين بل إنه يأخذ طابعاً عرقياً (هناك مغالطة كبرى تتكرر هنا كما حصل في رواندا وجنوب السودان ودارفور في تعريف أطراف الصراع، حيث يتم تصوير الجنجويد كمكوّن عرقي وقبلي، بينما الظاهرة هي حديثة نسبياً وهي تعبّر عن طيف واسع من السكان الرحّل الذين تشردوا نتيجة الصراعات والجفاف في الإقليم منذ نهاية الاستعمار البريطاني). وثالثاً، مع تخصيص مليار ونصف مليار من المساعدات الأممية للسودان من قبل الدول الغربية وبعض الدول العربية، لا يوجد أي مبرّر للاعتقاد بأنها لن تكون استثماراً في الاقتصاد الجيوسياسي لصراع مستدام كما تكرّس في الماضي.
قبل النهاية، من الجدير بالذكر أن إجلاء المواطنين الأميركيين من السودان أثار شبهات كبرى لم يتم نفيها، حيث استطاعت دول متعددة، ومنها بريطانيا، إجلاء كلّ مواطنيها عبر الجو إلى جيبوتي، بينما تميّز الإجلاء الأميركي بإحضار 3 مدمرات إلى بورتسودان وتسيير غطاء جوي من الخرطوم إلى الساحل في عملية إجلاء تطلّبت، بحسب الأميركيين، دقة استثنائية لحساسية مقدّرات السفارة الأميركية وملفاتها – إلى الحد الذي قاد الأميركيين إلى تكريم 12 عنصراً من مشاة البحرية شاركوا في هذه العملية. والمهم هنا أنه لا توجد أخبار متداولة لانسحاب المدمرات التي يرى كثيرون أن الإجلاء كان مجرد ذريعة غير مقنعة لتسييرها إلى بؤرة الصراع.
إن كان على السودان استخلاص درس واحد من تاريخه المعاصر فهو الريبة من المنقذ الغربي، وصحيح أن البرهان جدير بأطول معلّقات الهجاء وهو للناحية الوطنية والإنسانية ليس بأفضل من حميدتي، إلا أن مصلحة السودان وشعبه وشعوب الإقليم هي في الاستقرار المقرون بسيطرة الجيش حصراً، سواء أكان ذلك بالتوصل إلى اتفاق أم بالقوة. وعلى الأغلب فإن أمراً كهذا سيحتاج إلى ضغط وعمل مشترك استثنائي بين القوى المستثمرة في الاستقرار. قد تكون هناك نهاية أكثر إشراقاً للسودان فيما لو بُذرت فيها قوة محلية تستمد من تجربة محور المقاومة وتعمل معه، لكن حتى اليوم فلا بشائر تدلّ على ذلك، بالرغم من أن للسودان تجربة مقاومة مهمة ضد البريطانيين على أيدي الحركات الصوفية، لكن لا أحد يعلم إن كان إحياؤها أمراً ممكناً أو فعّالاً في الحاضر.
* كاتبة عربية
:::::
“الأخبار”، al-akhbar.com
________
ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….