هل يمكن انتاج الترفيه عن حدث بشع للغاية؟ ذلك تحديداً ما يقوم به المخرج الأنجلوأمريكي كريستوفر نولان في “اوبنهايمر”، فيلمه الملحمي الهائل الذي يستعيد سيرة “أبو القنبلة النووية”. بالطبع لا يمكن أن يكون الخيال السينمائي مجرد نزهة بريئة في حديقة التاريخ، لكن الإشكالية التي من أجلها يلوي نولان عنق الأحداث فيتجاهل الضحايا، ويتناسى الدّوافع ويمجّد التركيبة وذلك السيكوباث العبقري في قلبها أكبر من أن تغطيها فخامة الصورة ونقاء الصوت بتقنية آي ماكس، ولذلك فإن المشاهدة تصبح ضروريّة من أجل قراءة مضادة لهذا التلوث الكارثي الذي اسمه النخبة الأمريكيّة، وطريقته في توظيف الوثيقة السينمائيّة كأداة للهيمنة على السرديّة، والتاريخ (بما فيه الحاضر).
سعيد محمّد – لندن
ربمّا من المفيد التذكير عند مقاربة فيلم أوبنهايمر (سيناريو وإخراج كريستوفر نولان) بأن السينما طالما كانت واحدة من أهم الأدوات التي توظفها الإمبراطورية الأمريكيّة للسيطرة على السرديّات التاريخيّة وتوجيهها في أذهان المستهلك الأمريكيّ والعالمي لخدمة مصالح الأمن القومي لواشنطن وديمومة هيمنتها على عقل وثقافة العالم. وتتبجح وكالة المخابرات المركزيّة (الأمريكيّة)، ووزارة الخارجيّة ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ووزارة الدّفاع (البنتاغون)، وقطاعات الجيش الأمريكي المختلفة بامتلاكها ما تطلق عليه تسمية مكاتب ارتباط مع صناعة الترفيه، والتي تتولى في الواقع الإشراف الدقيق على هندسة محتوى الأفلام السينمائيّة والوثائقيّة والمسلسلات والبرامج التلفزيونيّة لضمان ألا تجدّف خارج المسار الإمبريالي للنخبة الأمريكيّة. ولذلك فمن السذاجة بمكان افتراض أن فلماً ضخماً (تكلّف أكثر من 100 مليون دولار) يعالج نقطة مفصليّة في تاريخ الحرب العالمية الثانية مثل “أوبنهايمر” سيكون أيّ شيء سوى نسخة مرسومة بحذق للتاريخ الماضي وارتباطاته بالحاضر، تماماً وفق مرامي السرديّة اليمينيّة التي ترغب لانغلي (مقر المخابرات الأمريكيّة الرئيس بولاية فرجينيا) في تمريرها للجمهور العالمي.
يسير “أوبنهايمر” المخرج الأنجلوأمريكي كريستوفر نولان في تزوير التاريخ والاحتفاء بالقتلة على نهج مخرجين موهوبين أمثال ليني ريفنستال (المخرجة التي مجدت النازية الألمانية – أنظر مثلاً فيلمها انتصار الإرادة – 1935)، وروبيرتو روزولليني (الذي أخرج بين 1941 و1943 ثلاثية في تمجيد الفاشية الإيطالية)، وأيضاً كاثرين بيغلو (المتخصصة في انتاج أفلام تمجّد بطولات الجيش الأمريكيّ)، فيروي سيرة ذاتية ليوليوس روبرت أوبنهايمر (لعب الدّور الممثل الإيرلندي سيليان ميرفي) عالم الفيزياء النّظرية اليهوديّ الأمريكي ذي الأصول الألمانيّة والمدير العلميّ لعمليّة تطوير القنبلة النووية كجزء من مشروع مانهاتن العسكريّ السريّ الذي كلّف دافع الضرائب الأمريكي 2.2 مليار دولار – بأسعار تلك الأيّام – وجهود 130 ألفاً من المستخدمين، وبالتالي كان شريكاً أساسياً لنخبة واشنطن في التمكين لاقتراف جرائم الإبادة الشاملة التي تعرضت لها مدينتا هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في أغسطس 1945، والتأسيس لنهج استخدام الولايات المتحدة أسلحة الدّمار الشامل كأداة لفرض هيمنتها العسكرية والاقتصاديّة والثقافيّة على العالم (قبل أن يتمكن الاتحاد السوفياتي من بناء قنبلته النووية كأداة ردع بعد أربع سنوات).
بالطبع اشتغلت ماكينة الدعاية الأمريكيّة الهائلة للترويج للفيلم، لكنّه أثار جدلاً في اليابان، وانتقده البعض لفشله (المتعمد) في نقل الرعب الكارثي للقنابل الأمريكية وتجهيله للضحايا (قتل ربع مليون شخص أغلبيتهم الساحقة من المدنيين على الفور، سوى 400 ألف آخرين تعرضوا للإشعاعات المسرطنة) ، في مقابل تعظيمه شخص أوبنهايمر المنفصم، وتحويله حملة واشنطن الآثمة لتسخير القوة التدميرية للتفجير النووي إلى رواية بطولية بنفس هوليوودي في السباق ضد الزمن، وتحدي كل الصعاب، فيما تجنّب طرح الإشكاليات الفلسفية والأخلاقية الأساسيّة التي تترتب على استخدام سلاح دمار شامل إلا عندما يكتمل مسعى التمكين للقتل المروع بالنجاح وحصراً في إطار صراع شخصي الطابع داخل النخبة الأمريكيّة في أجواء المكارثيّة – نظراً لارتباطات أوبنهايمر الشكليّة بالحزب الشيوعي الأمريكي -، وصراعاً ذاتياً مع ضميره الذي ظهر فجأة لحظة احتفاء الأمريكيين الحماسيّ الجماعيّ بالمأساة المفجعة، بينما لم يكن على السمع حينما كان يعوهر علمه ويكسب رزقه من تصنيع أدوات القتل، لينتهي الفيلم في متاهة معنوية بلا قيمة تتمحور حول سؤال هل يستحق هذا اليهودي الألماني الأصل القريب من منتسبي الحزب الشيوعي والذي منح الولايات المتحدة أمضى أسلحتها للقتل الجماعيّ تلك المعاملة السيئة التي تلقاها من السلطات لاحقاً ومن ثم سحب تصريحه الأمنيّ لانعدام ثقة المؤسسة الأمنية الأمريكية به؟
على أن الأسوأ من هذا الاحتفاء المبتذل بالقتلة وألاعيب العمليّة السياسيّة فيما بينهم فقد كان نزوع نولان الظاهر إلى ارتكاب جريمة تزور التاريخ فيما يتعلّق بسياق مشروع مانهاتن، ودواعي إبادة هيروشيما وناغازاكي، ودور أوبنهايمر في هذا المسرح المظلم، لا سيّما وأن الكتاب الذي استند إليه في صياغة سيناريو الفيلم (بروميثيوس الأمريكي: انتصار ومأساة جيه روبرت أوبنهايمر، كاي بيرد ومارتن جيه شيروين – 2005) يتطرق – وإن بشكل عابر – إلى ملابسات ومفارقات تاريخيّة لا بدّ من معرفتها إذا كان لنا – كمشاهدين مستهلكين لهذا المنتج الثقافي الترفيهي – أن نتخذ موقفاً أخلاقياً من المشروع الحكوميّ لإنتاج أدوات الإبادة، والقرار بالإبادة، والشخص الذي مكّن لتلك الإبادة.
تأسس مشروع مانهاتن في العام 1942 أثناء الحرب العالميّة الثانية بهدف مواجهة سعي ألمانيا النّازية للحصول على سلاح نووي. وهو الأمر الذي لم يتحقق في النهاية وسقطت برلين نفسها في مايو 1945، فيما لم يشكّل المشروع النووي الياباني أي خطر حقيقيّ على الحلفاء بحكم أنّه كان لا يزال في مراحل جنينيّة. ومع ذلك، وتحت ضغط سياسي شديد من قبل واشنطن استمر العمل حثيثاً في مختبر لوس ألاموس بولاية نيو مكسيكو على انتاج القنبلة الذريّة بتوجيه الجنرال ليزلي غروفز (لعب الدّور مات ديمون)، لينجح أوبنهايمر وفريقه – الذين لم يجبر أحد منهم على الانخراط في المشروع – بتنفيذ أول اختبار لتفجير نووي أطلق عليه اسم “ترينيتي” وذلك في في 16 يوليو 1945، وأعلن عن توفر السلاح النووي كأمر واقع في مؤتمر الحلفاء (بوتسدام من 17 يوليو إلى 2 أغسطس 1945) بحضور قادة الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والاتحاد السوفيتي. وتساءل البعض في لوس ألاموس بعد توقف القتال في أوروبا عن الداعي بالاستمرار في انتاج قنبلة نووية، لكن أوبنهايمر – المدير العلميّ للمشروع – رفض تلك المخاوف، وأصر على استمرار العمل تحضيراً لحسم الحرب مع اليابان، كما أبلغه العسكريّون، إذ صُوّر له بأن تفجيرات نووية من شأنها أن تجبر الإمبراطور هيروهيتو على الاستسلام، مما يجعل غزواً أمريكياً واسع النطاق لليابان غير ضروري، وربما ينقذ أرواح الملايين من الجانبين، على الرّغم من أن الحقيقة كانت توجه اليابان نحو الاستسلام بالفعل (وفق رسائل متعددة تبادلها القادة اليابانيون اعترضتها وفكت شيفرتها المخابرات الأمريكيّة وأظهرت قناعتهم بأنهم قد خسروا الحرب وعزمهم السعي للحصول على شروط تسليم مقبولة)، وهو ما أقلق الأمريكيين بالنظر إلى أن الجيش الأحمر السوفياتي كان قد هدد اليابان بإعلان الحرب في 15 أغسطس إذا لم يوافق الإمبراطور على الاستسلام، وبدت قواته على وشك اجتياح الجزر اليابانية بعد التّقدم السريع في منشوريا (الصين) ومنغوليا، بينما لم تكن لدى الأمريكيين قوات بريّة كافية لاقتحام اليابان قبل وصول السوفييت إليها. ولذلك قررت إدارة الرئيس ترومان استخدام القنابل النووية لفرض استسلام ياباني عاجل للقوات الأمريكية على نحو يمنع تحوّل ذلك البلد إلى منطقة نفوذ سوفياتية، وتعليم موسكو درساً في الدّمار الي يمكن أن يحدثه السلاح الأمريكيّ الجديد.
ولذلك، فإن الجريمة التي ارتكبت يومي 6و9 أغسطس 1945 لم تك حتى مبررة بالمنطق العسكريّ البحت، ولم تمس على الإطلاق بقدرات الجيش الياباني، ونفذت مع إدراك القيادات الأمريكيّة بأن أعداداً هائلة من المدنيين ستسقط ضحايا مجانيّة للتفجير والاشعاع. وهذه بالطبع لم تكن ممارسة مستجدة عند نخبة واشنطن، التي ارتكبت مذبحة قبلها عبر قصف الأحياء المدنية في طوكيو ما أسفر عن سقوط ما لا يقل عن مائة ألف شهيد، فيما مسحت مدينة توباما عن الوجود كليّة بالقنابل الحارقة، ومثلها دمرت مدينة دريسدن في ألمانيا وقتل 25 ألف من سكانها دون أيّ داع عسكريّ أو استراتيجيّ سوى استعراض قدرة الوحش الأمريكي على التدمير. ولا يكتفي الأمريكيّون – بمن فيهم المخرج نولان – بتجاهل هذه الحقائق التاريخيّة الموثقة، بل حاولوا دائما التقليل من عدد ضحايا هيروشيما وناغازاكي ويقتصرونها على 100 ألف نسمة فقط. وفوق ذلك كلّه فإن الوقائع التاريخية المثبتة تظهر أن مساهمة البريطانيين في انجاز أول تفجير نووي كانت أهم مما أظهره الفيلم، لكنّها قزّمت لمصلحة نفخ مساهمة أوبنهايمر.
كل هذا التاريخ الصاخب والملتبس لم يعن نولان إطلاقاً، بل أضاع ثلاث ساعات كاملة في التنقل تردداً بين المراحل الزمنية، وبين الألوان (الذاتي) والأسود/أبيض (الموضوعي)، وأحياناً استدعاء نساء أوبنهايمر الشيوعيات – عشيقته جان تاتلوك (فلورنس بوغ) وزوجته كاثرين “كيتي” بونينج (إميلي بلانت) – مع مشاهد عري وجنس استعراضي غير ضروريّة بالمرّة سوى لإبقاء الجمهور مسمراً في المقاعد، علماً بأن الحزب الشيوعي الأمريكي الذي تعرّض بالفعل للمطاردة في أجواء البارانويا المكارثيّة خلال الخمسينيات كان أقرب لنادي ثقافيّ للشبان البرجوازيين وطاقم حشد وتأييد يساري اللون لحكومة روزفلت، منه تنظيماً شيوعياً حقيقيّاً.
دعونا لا ننسى أبدا ونحن نتأمل محاولة نولان المخجلة لاستجلاب التعاطف مع دموع التماسيح التي ذرفها أوبنهايمر أن السلطات الأمريكيّة لم تجبر أيّاً من العلماء على العمل في مشروع مانهاتن، واستمر علماء آخرون عديدون بالعمل على تطبيقات الفيزياء النووية للأغراض المدنيّة في عدة مؤسسات خارج الجيش الأمريكيّ. ولم يعتذر أوبنهايمر أبداً عن دوره في التفجيرات، ولكن في أعقاب الحرب مباشرة ، حاول – وفشل – في الدّفع نحو تنظيم دولي للأسلحة الذرية، واكتفى بإصدار تحذيرات للجمهور حول مخاطر سباق التسلح النووي. وهو إن كان رفض المشاركة في بناء القنبلة الهيدروجينية – كما يظهر الفيلم -، إلا أن ذلك كان لاعتقاده الحاسم بأن الموارد الأمريكية يجب أن تكرّس لبناء أسلحة نووية تقليدية، وربما أسلحة نووية “تكتيكية” لاستخدامها في ساحة المعركة تماماً كما اقترح بعد أقل من عام من نشوب الحرب الكورية عام 1950. كما أن امتلاك الولايات المتحدة للأسلحة النوويّة لم يكن كافياً لإشباع هوس الإمبرياليّة الأمريكيّة الدائم إلى الدّمار، حيث لا يزال الإنفاق (الدفاعيّ) على تطوير وتكديس الأسلحة – النووية والهيدروجينية والمغناطيسية – مقاساً بأرقام فلكيّة سنوياً إلى اليوم وأكثر من ميزانيات الدفاع لدى بقيّة الدّول الكبرى مجتمعة، ولم ننس في المشرق – إن نسي اليابانيون – كيف لم يتردد العسكر الأمريكي في استخدام ذخائر وأسلحة تكتيكية نووية ضد الجيش العراقيّ خلال غزوها الإجرامي في 2003، ما أوقع عدداً هائلاً من الضحايا في معركة عدوانية غير متكافئة شنت بناء لأكاذيب وخزعبلات أيديولوجية، وتستمر آثارها الاشعاعية على المواليد الجدد حتى بعد مرور عقدين.
“أوبنهايمر” من الناحية الفنية المحض إنجاز ضخم آخر يضاف لسجل نولان، وسيحقق عوائد فلكيّة بسبب الإقبال الشديد على مشاهدته حول العالم، والثناء النّقدي السخيّ له في الصحافة الأمريكية، كما الجوائز المتوقع أن يظفر بها (جوائز الأوسكار على الأرجح لكل من مورفي وروبرت داوني جونيور) ، ولكن على الرغم من التفاصيل المعتني بها جيداً، فإن الفيلم على المستوى الفكري والجدل لا يقدّم أي طرح قد يعقد الفكرة الشديدة السذاجة والتسطيح عن أوبنهايمر كرجل عظيم في التاريخ وشخصيّة تليق بالميثولوجيا الإغريقيّة.
يقول بعض من عمل مع أوبنهايمر أنّه عندما تمت تجربة التفجير صاح “لقد نجحت” وهو حاول لاحقاً في مقابلة صحافية أن يضيف نوعاً من العمق الفلسفي إلى سلوكه النرجسيّ عند تلك اللحظة بادعائه أنّه قال “الآن أصبحت الموت ، محطم العوالم”. لا شكّ عندي أن الرّجل كان على عبقريته مضطرباً عقلياً، وأقرب إلى وصف كارل يونغ للفلاسفة بأنّهم سايكوباث في صراع تناقضي مع ذواتهم، وأن نولان – الذي لا خلاف على عبقريته كمخرج سينمائي – يشبه أوبنهايمر، وأحس بالتماهي معه، فوصفه ب”أهم شخص عاش على الإطلاق” وجعل من نفسه مؤهلاً بشكل فريد لأن يصوغ بصرياً السيرة النهائيّة لأبي القنبلة النووية في ملحمة معقدة متقنة تقنياً، تتجوّل في الأزمنة ذهاباً وإياباً عبر ثلاثة عقود، ويختلط فيها حائزو نوبل بنجوم الفيزياء النظريّة وأساتذة الجامعات والرؤساء والجنرالات والبيروقراطيون والمحامون والمحققون وأعضاء الكونغرس والسائقون والصحافيون والشيوعيون والعشيقات والزوجات المخدوعات كي نشتري في النهاية حكاية ملفقة ليست مخلصة للتاريخ، وتتوقع منا، نحن الضحايا المحتملين، أن نقف إجلالاً لمجرم الحرب العبقريّ. أف له ما أوقحه.
:::::
“الأخبار”
موقع “الثقافة المضادة”
_________
ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….https://kanaanonline.org/2022/10/27/%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7%d9%86-3/