مخيم جنين: خلف الأسطورة أطفال نهشتها الكلاب، مي البزور

(توصيات ونداء لاستمرار التضامن مع أطفال وأهالي مخيم جنين)

احترت جدا في كتابة هذا المقال، فقد وجدت صعوبة كبيرة في الكتابة عن الواقع المُعاش في مخيم جنين، ليالٍ عدة وأنا أفكر كيف لي أن أكتب مقال يصوّر ما رأيته، وما سمعته، وما شعرت به لدى زيارتي لمخيم جنين، تارة كنت أتخلى عن الفكرة، وتارة في التخلي عن الفكرة أشعر بذنب يرتبط بالتواطؤ مع حالة التعتيم والمحو التي يساهم بها بعضنا والعالم أجمع نحونا، وفي تارة أخرى أحيل ما لدي من صعوبة في الكتابة، لانغماسي في الكتابة الاكاديمية لسنوات؛ والتي وإن كانت تساهم في فهم الواقع، الا أنها في ذات الوقت تغترب عنه شيئاً فشيئا، وتخلق بمناهجها فجوة قسرية -إن صح التعبير- بين ما ينتجه الاكاديمي من معرفة، وبين المجتمع الذي يتناوله في دراساته.

وقد تعود صعوبة الكتابة في هذا الشأن، الى صعوبة واستعصاء فهم واقع المخيم ذاته، بتعقيداته السياسية الجمّة، والتي لا يستطيع الإعلامي أو الأكاديمي تصويرها أو نقلها بشفافية، قلقاً من التحدث نيابة عن أصحاب الشأن في المخيم، وقلقاً من الوقوع في فخ قراءة اجتماعية سياسية خاطئة من زيارة واحدة، قد تغذي رؤى القوى القمعية أياً كانت، وأينما كانت، من أسفل الهرم الى رأسه ومن خارجه أيضاً. ولفك هذه الحيرة، ارتأيت بالنهاية أن أصوّر بالكلمات بعضاً مما جاء في الزيارة، دون تحليل وبعيدا عن النقاشات السياسية التي تضمنتها الزيارة، وذلك رغم ايماني بعجز هذه الكلمات عن نقل الصورة الحية النابضة للواقع الأليم في المخيم، وأرجو من الذين لا يقوون على الألم عدم استكمال قراءة المقال، وخاصة لدى وصف مجريات زيارة البيت الثاني. وبهدف التركيز على الفكرة الكامنة في تلك التجارب المريرة، تم استخدام الأسماء المستعارة في سرد هذه الشهادات الحية.

وللتوضيح قبل البدء: إن التركيز فيما هو قادم بالمقال على التجارب الأليمة التي مرّ بها الأهالي والأطفال في مخيم جنين، وعلى التحديات النفسية التي تواجه الأهالي والعاملين في الخدمات النفسية والاجتماعية بعد انتهاء الاجتياح، لا يتعارض مع حالة الصمود داخل المخيم، فلا التركيز على الألم ينفي حالة الصمود الجماعي، ولا العكس كذلك.

مجريات زيارة المخيم في تاريخ 18 تموز 2023:

بالقرب من بوابة المخيم، سرت مع الزملاء بخطوات مترددة، ممزوجة بالرهبة والقلق، وبرغبة شديدة مزدوجة، تفيد بالمضي قدماً نحو المخيم، أو بالتوقف والعودة من حيث أتيت، لأن عبور البوابة نحو المخيم، يعني أن تكون الشاهد على الألم، يعني أنك من الخارج، وأن هنالك فلسطيني وفلسطيني آخر، وأن هنالك درجات من القمع والعنف الاستعماري صاغت تجارب تاريخية مختلفة في المناطق الفلسطينية كونت بين الضحايا متفرجين في ذات السجن.

التقينا بالأخصائية النفسية هديل خنفر على بوابة المخيم، والتي حَظيتُ بالتعرف عليها وعلى تجربتها في الميدان، من خلال تدريسي لمساق حول التدخل المجتمعي ضمن برنامج الماجيستير في علم النفس المجتمعي في جامعة بيرزيت، -إذ كانت هديل من بين مجموعة مميزة من الطالبات، معظمهن نساء عاملات وناشطات ميدانياً في تقديم الخدمات النفسية والاجتماعية لفئات مختلفة من المجتمع الفلسطيني من جنين الى الخليل-، وبدأنا بالمشي برفقة هديل لزيارة رَتبَتها مسبقاً لثلاث عائلات أطفال من المخيم، ومنذ أن خطونا الخطوة الأولى بعد عبور البوابة، سمعنا عبارات الترحيب من هنا وهناك، وكان هنالك رجل مسن يتحدث وهو يمشي مقتربا الينا: “أهلا فيكم، أهلا وسهلاً، شو بدكم تشوفوا، احنا ناس ما بناذي حدى، احنا بنحب الخير لكل الناس في العالم، ما عنا مشكلة مع الديانات كلها، بس مشكلتنا مع الاحتلال، بدنا يبطلوا أذى، قلوبنا موجوعة، قلوبنا منكوبة، دمروا المخيم، احنا تعبانين،…، انا ابنى استشهد باجتياح ال 2002 ، ابني طار وتمزع قطع، عندي صور لايديه وصور لاجريه كل شي لحال، …، بدكم تحكوا مع أهل المخيم؟ احكوا، رح تشوفوا انه كل الأهالي، الآباء والامهات بالمخيم، كلنا عنا أمراض ضغط وسكري، كلنا قلوبنا محروقة على ولادنا، …، تفضلوا نشربكم اشي، تعالوا نضيّفكم، اهلا وسهلا”، بعد سماع هذه الكلمات، انهمرت دموعنا قسراً منذ اللحظة الأولى، وهنا أدركت أنه لا داعٍ لترتيب مسبق لدينا لانتقاء كلمات المساندة والمواساة المناسبة أثناء الزيارة، بل إن مفتاح الدخول الى المخيم، يتمثل بترك كل الكلام على البوابة والدخول الى المخيم بالقلب فقط.

مشينا قليلا في المخيم وصولا الى بيت الطفلة لارا، والتي تبلغ من العمر 8 سنوات، لا باب لمنزلها، فقد تم تفجيره، نادت هديل من الخارج وجاءت أم الطفلة لارا تستقبلنا، تشرح لنا السيدة “أم لارا ” ما حدث للمنزل أثناء دخولنا، فتشير الى حفرة بذلك الحائط، والى رصاصات هنا وهناك، والى تحطيم ممتلكات المنزل، والى أدوات مطبخ ومقتنيات لم تعد موجودة،..، ثم جلسنا في غرفة تم توضيبها مؤخراً بعد الاجتياح، تنادي الأم على لارا ، تسعد لارا بلقاء هديل بابتسامة خجولة، تجلس الأم تتحدث والدموع تنهمر من عيونها طوال الوقت، فقد بدى لي أن عيونها تذرف الدمع بشكل تلقائي مستمر، فلا تقوم بمسحها أو الانتباه لها أثناء حديثها، وكأنها اعتادت عليها، ثم حدثتنا الأم عن لارا وعن تبعات الاجتياح: “ما خلوا اشي، العابها كسّروها، وكتبها مزعوها، ومريولها المدرسة كمان ممزع”، “بنتي ما بدها تروح على المدرسة، بتخاف”، طلبت الأم من لارا الحديث، وبدأت الفتاة بالحديث بخجل عن ما حدث، الطفلة تتحدث عن موت أرنبها ودراجتها والعابها التي أتلفها الجنود، أثناء ذلك، دخل والد لارا ، واستكمل ثلاثتهم الحديث، وأضاف الوالد: “طخوا أرنب لارا ، و(اي بادها)كسروه، وباسكليتها بالشارع زتوه، وهرسوه بالجرافة”، ويستكمل حديثه “لما فاتوا على الشارع رحت فتحت باب الدار علشان ما يفجروه ولا يفجروا مدخل البيت، وفجروه، والله من أسبوع بلطته بلاط جديد”، …، ثم عاد الزوجان لوصف المشاكل التي تواجه أطفالهم حالياً، وعبرّا عن حاجتهما لمساعدة أطفالهم لتخطي هذه المرحلة، ومن ثم دار نقاش بيننا مع هديل حول مشاكل الأطفال الأكثر تكراراً بالمخيم، والتي تجلت بمظاهر أعراض الصدمة التالية: التبول اللاإرادي، وعدم القدرة على النوم، ورفض الذهاب الى المدرسة (للتوضيح: مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين تعمل في الصيف بسبب حالة الاضراب السابقة)، ورفض الخروج من المنزل، أو الرغبة الشديدة في البقاء بمراكز الايواء خارج المخيم، إضافة الى مظاهر الصمت المستمر “السرحان”، والصراخ بشدة بلا سبب، وعدم القدرة على إتمام الحديث، ونسيان أمور أساسية كعدم معرفة العمر لدى السؤال، وهنا أورد الأب عن طفلته: ” لارا لا تستطيع النوم بتاتا الا إذا حضنتها”، ومن ثم عدنا لنقاش ما جرى بالمخيم الى أن خرجنا من البيت، وقبل خروجنا أصرّ الزوجان بشدة على بقائنا لاستكمال حسن الضيافة والعودة لزيارة اخرى، ونحن أصررنا بدورنا على شكرهما وشكر لارا لاستقبالنا ولمشاركة ما حدث معنا.

مشينا ونحن ننظر الى الضرر الهائل الذي خلفه الاجتياح في بيوت وشوارع المخيم، وقبل زيارتنا للمنزل الثاني، أوضحت لنا هديل أن العائلة الثانية التي ننوي زيارتها، قد شهدت أقصى درجات العنف والترهيب، …، دخلنا الى المنزل ورحبت بنا الأم “احلام” كثيراً، ثم جلسنا، وتأكدت هديل بأسلوبها من رغبة احلام بمشاركة قصتها معنا وجاهزيتها لذلك، بدأت احلام بسرد ما جرى مطولاً، ولعل سردها المطوّل لم يكن كافيا لوصف ما مرت به وعائلتها، من تعذيب نفسي وجسدي لا يمكن تصوره، سأحاول فيما يلي نقل جزء من ما ورد في شهادة احلام التي روتها لنا بدموعها:

“كنا في المنزل انا وزوجي وابنى خالد 15 سنة، وابنتي ليان 17 سنة، وابني رامي 10 سنوات، سمعنا صوت الجنود في الحارة في صباح اليوم التالي للاجتياح، طلع زوجي ليفتح الباب حتى لا يفجروه، ولكنهم فجروا الباب واختفى زوجي وما رجع بعد التفجير (كان الجنود قد احتجزوا الزوج ولكن احلام والأطفال لم يعلموا مصيره في تلك اللحظة)”،…، أكملت احلام: “دخل عنا في البيت حوالي 45 جندي، معهم كلاب مدربة، أنا وولادي لاحظنا أن الكلاب بدت بالهجوم علينا، واحد من الولاد قدر يتخبى بسرعة بغرفة النوم هناك، وبنتي قدرت تحمي أخوها الصغير رامي وزقته بالحمام وسكرت الباب عليه بسرعة، هاجمتنا الكلاب أنا وبنتي في هديك الغرفة”، احلام تتنفس بصعوبة أثناء وصفها لما حصل، وتكمل “لمدة ساعة وانا وبنتي مع الكلاب المتوحشة والجنود موجودين بالبيت وما عملوا ولا اشي،…، بتفرجوا”، أظهرت لنا احلام آثار عضات الكلاب على يدها ورأسها، وشرحت لنا كيف اقتلع الكلب طاحونتها بعد أن رماها أرضاً، وكيف نهش الكلب فك ابنتها، وتشرح عن الدماء التي سالت منهما، وتشرح وتبكي ونحن نبكي، وأكملت احلام بأنه بعد حوالي ساعة، أمر الجنود كلابهم بالتوقف واستجابت الكلاب،…، وقام الجنود بعدها بجمع الأم مع اطفالها في غرفة الضيوف، غير مكترثين لحالها بعد هجوم الكلاب ولحال الأطفال، قالت احلام: “خفت كتير على ابني الصغير، قعد حدّي هون يحكيلي يما قلبي وقف…”، ، بعد ذلك أخذهم الجنود معهم ووضعوا احلام وأطفالها خلف شبابيك المنزل (في كلا الطابقين) لكي يقفوا أمامهم كدروع بشرية، وأضافت: “وحطوا ابني خالد في غرفة لأنه رفض يجي معنا، وربطوا ايديه بالكلابشات وخلوا الكلاب تهجم عليه…”،…، ووصفت بمرارة شعورها بالخوف على أطفالها في حينها والصدمة المستمرة من كل ما يحدث، كما ووصفت احلام لنا العتاد العسكري الذي احضره الجنود للمنزل، ووصفت أكل الجنود لطعامهم أمامهم، ووصفت تخريبهم للمنزل وللمقتنيات، وأكملت: “بعد هيك، جمعنا الجنود في غرفة واحدة أنا والأولاد، وزتوا قنبلة غاز بيننا، وسكروا باب الغرفة علينا، لحوالي ربع ساعة، كنا بنموت أنا والولاد، انا حسيت اني بموت وروحي بتطلع،…، وفتحوا الباب علينا بآخر لحظة، كأنهم عارفين ويبنا يفتحوا قبل الموت بلحظة”، …، واكملت احلام ما حدث بعدها، وصولا الى خروج الجنود من المنزل، واستجابتها وعائلتها لطلب اخلاء المخيم ليلاً، والذي سمعت به عائلة احلام بشكل متأخر جداً عن بقية العائلات، لتعرضهم للتعذيب المذكور، ولتدمير وسائل الاتصال بالمنزل، ولقطع الكهرباء عن بيوت المخيم، ووصفت لنا احلام صعوبة التفكير باللحظة المناسبة للخروج من البيت والألم النفسي المرافق لرفع الرايات البيضاء أثناء الخروج، في مشهد يكرر النكبة من جديد كما جاء على لسانها.

أما الطفل رامي الذي تطمئن عليه هديل باستمرار، وتشجعه على الخروج من المنزل والاشتراك في الأنشطة مع بقية الاطفال، فقد كان متواجد معنا طوال مدة الزيارة، ولكنه لم يرغب في الاستجابة لوالدته والحديث عن تجربته معنا، وبالطبع احترمنا رغبته، وتحدثنا بأمر آخر معه لا علاقة له بالاجتياح وتبعاته، …، بالطبع لم تكن مشاركة احلام لنا بما حدث معها أمر يسير، فتجربتها قاسية لا يتصورها العقل، ولكن احلام رغبت بشدة أن يعلم الناس ما حدث لها ولأطفالها، احلام تحتاج الى استرداد الشعور بالأمان، ولدى لحظة خروجنا من المنزل، لم يكن سهلا على احلام أن نذهب، ولم يكن سهلا علينا ذلك أيضاً، لان ترك احلام وحيدة مع الأطفال بالمنزل يعني عدم الأمان بالنسبة لها، ويعني التفكير بمواجهة كل ما ذكر أعلاه مراراً وتكراراً، خرجنا من المنزل، واحلام تصرّ على استكمال عادات حسن الضيافة طالبة منا أن نعود مرة أخرى.

خرجنا من منزل احلام مثقلين بالهموم وبالعجز، وانتقلنا لزيارة قصيرة لجمعية كي لا ننسى، التي تعمل فيها هديل، وهي جمعية تقدم خدمات دعم اجتماعي ونفسي لحوالي 300 طفل\ة بالمخيم، كانت زيارتنا في اليوم الأول الذي استأنفت به الجمعية أحد انشطتها مع الأطفال “دروس تقوية”، وكان هنالك مجموعة صغيرة من الأطفال تدرس برفقة احدى العاملات بالجمعية، و سرعان ما جاء الاطفال الينا يتحدثوا عن ما حدث لهم ولعائلاتهم، الأطفال يحملون معهم صور أقاربهم الشهداء، والتي شاركوها معنا: “مس أنا استشهد خالي، هيو”، “مس أنا اجوا عنا اعتقلوا أخوتي التنين”، “مس احنا خربوا بيتنا”، وعبرت زميلات هديل في المؤسسة (السيدات لمياء ومجد وهيفاء) أن مشاركة الأطفال حالياً ضعيفة جداً بأنشطة الجمعية، بسبب خوفهم من ترك المنازل، كما وعبرن أيضاً عن التحديات الجمة التي تواجههن في العمل على الحد من تبعات حالة الصدمة الجماعية لدى الأطفال، ومن خلال زيارة العائلات والنقاش مع هديل وزميلاتها تبين أن: حجم الألم لا يوصف بالمخيم، وأن شدة الصدمة حاضرة في عيون سكان المخيم، فالمخيم جريح، ولا يحتاج فقط الى المساعدات المادية، بل هنالك حاجة ماسة للتضامن والتكاتف المجتمعي والمواساة، وبشكل عام ورد في النقاشات ذكر الفارق في درجة وحشية هذا الاجتياح عن سابقيه، بأنه اجتياح عسكري مترافق مع اجتياح نفسي ممنهج وموجه تجاه هدم بنية العائلة، عبر تنفيذ عمليات تعذيب جماعي استهدفت النساء والأطفال الصغار واليافعين تحديداً.

واخيراً، كانت طريقنا الى المنزل الثالث هي الأطول مسافة، والأثقل على الصدر، خاصة بعدما علمنا أننا سنذهب لزيارة عائلة الطفل زين (5 سنوات) والطفلة أمل (10 سنوات)، بعد أن استشهد أخوهما زيد (16 سنة) في الاجتياح الأخير، حيث التقينا بشقيقة زيد الأخرى الطفلة حنين (14 سنة) في طريق عودتها من المدرسة الى المنزل، كانت حنين تضع قلادة عليها صورة زيد، وذهبنا الى المنزل معها لرؤية الطفلين زين وأمل،…، وصلنا الى مدخل المنزل، وفي هذه اللحظة بالتحديد لا اعتقد أن هنالك شيء في الدنيا يمكن أن يخفف من وطأة لقاء أب وأم قد فقدا طفلهما للتو، …، وبسذاجة مفرطة، اعتقدت أن هذا هو أثقل حمل ممكن أن يتعرض له الوالدان، ولكن والد ووالدة زيد، في منزلهما تاريخ من الوجع، والفقد، والعذاب، يرافق هذا التاريخ نبع لا يتوقف من الحب والعطاء، فزيد استشهد في اجتياح تموز 2023، و من قبله شقيقه زيد استشهد أيضاً في اجتياح نيسان 2002 عن عمر يناهز 14 سنة، هل لي القول أن القلب لم يعد يقوى في تلك اللحظة على الاستمرار، نحن في حضرة وجع شديد، فالأب والأم والاخوة والاخوات مُتعبين، عيونهم تروي المعاناة والألم دون الحاجة للكلام، الأب يتحدث عن عذاب أبنائه وعن حبه لأبنائه، وعن استعداده لحمايتهم لآخر رمق، …، وحدثنا بعمق عن تاريخ طويل من محاولاته المستمرة لحمايتهم، وعن كدحه بالعمل لسنوات لتوفير مقومات منزل دُمرت أمامه في لحظات، حدثنا الزوجان عن زيد، وعن ابتسامة زيد الجميلة، وعن مجريات استشهاد زيد، و…، و…، و…، وكيف دخل الجنود الى المنزل، وكيف طلبوا من طفلهما زين ذي الخمس سنوات بأن يضع يديه في اذنيه ليقوموا بتفجير باب المنزل أمامه، زين مُتعب، وأكمل الأب في حرقة -لم أر مثيل لها بحياتي- : “ونور، ابني نور كمان، ابني نور بحب الحياة وبحب السفر، سافر على العقبة وشرم الشيخ وزار الشط والبحر، وعنده أحلام كبيرة، نور تعرض للتعذيب في هاي الغرفة لثماني ساعات متواصلة، تناوب الجنود في تعذيبه وضربه بالحديد”، الأب: “حاولت مساعدته، أنا بحكي عبري منيح، اشتغلت بإسرائيل زمان، حكيت معهم، ناقشتهم، حكيت عن كذا، وعن كذا، وعن كذا، ما في فايدة ضلوا يعذبوه”، نور معتقل الآن، لم يحاكم لأنه بحاجة للعلاج وهو بالمستشفى حاليا، الأب: زيد استشهد، ونور معتقل، و…، و…، ولكن ماذا أفعل مع زين؟ ما هو مستقبل زين؟

صمت وصمت ونقاش وعودة للألم…، نقاش، وصمت، وألم، وهكذا استمرت الزيارة، الى أن خرجنا، ووعدنا العائلة بزيارة أخرى، وأثناء خروجنا أخذنا الطفل زين والطفلة أمل في جولة حول البيت وداخلة، وهما يشرحان لنا حول التخريب الذي حصل، ثم ودعنّا زين وأمل وخرجنا.

نزلنا من البيت، مشينا في طريق العودة بخطى متثاقلة، وكأن الألم استوطن في الروح والجسد، أثناء عودتنا الى مدخل المخيم، لم يتوقف الأهالي عن الترحيب بنا وعن دعوتنا للزيارة، “اتفضلوا”، وخرج لنا شاب من محله التجاري، مقدماً لنا زجاجات مياه باردة من شدة الحرّ في ذلك اليوم، لا بل من شدة الألم، وصلنا الى مدخل المخيم، ومن جديد ترتبك المشاعر على بوابة المخيم، في هذه اللحظة لم أرغب بالخروج من المخيم وتخطي البوابة، أحاديث كثيرة تتداخل في نفسي، تتضارب، تتساءل عن ال “نحن” الفلسطيني، وكيف تشرذمت ال “نحن”، أسئلة متسارعة تستعيد تاريخ علاقة المخيم بمدينة جنين، علاقة مدينة جنين بمدينة رام الله، فهل احتجت وانا ابنة مدينة جنين الى أن أتعرف على هديل في رام الله لأجد وسيطا لزيارة ال “نحن”؟ أسئلة تطرح بقوة مدى حاجتنا الماسة الى العمل على تكاتفنا وتضامننا عبر تقوية أواصر ال “نحن” نفسياً واجتماعياً، لعلها تشق طريقها يوماً ما لردم فجوات الانقسامات السياسية، أما لمن يريد أن يفهم ما جرى وما يجري في مخيم جنين سياسياً، فلن تسعفه الكلمات أعلاه، ولا أي كلمات أخرى نُقلت عن المخيم، فالواقع تراه هناك فقط، تسمع عنه على لسان الأهالي والأطفال في المخيم أنفسهم، بمواقفهم المتباينة جداً والمتشابهة جداً في ذات الوقت، تجاه فكرة البطولة التي يُروجُ لها مجتمعياً وسياسياً واعلامياً والمتمثلة بحالة وجود مخيم أعزل يضع على عاتقه قضية إنسانية وأممية وكونية إن صح التعبير.

توصية:

بعد نقل جزء من واقع الأطفال المعاش في مخيم جنين في هذه الزيارة، ومن خلال مجريات النقاش مع الأهالي والأطفال، تبين وجود بعض الاشكاليات في شكل ومحتوى التضامن المُقدَّم من قبل بعض المؤسسات والأفراد الناشطين في قضايا الطفولة في المجتمع الفلسطيني، تمثل ذلك بتنظيم بعض النشاطات الفنية، والرياضية، والموسيقية مباشرة في الفترة الأولى بعد انتهاء الاجتياح، دون مراعاة للحالة النفسية للأطفال، هذه الأنشطة لم تلائم الكثير من أطفال المخيم، ولم تشعرهم بالارتياح، مما أدى إلى عزوف الأطفال عن المشاركة بشكل عام، برأيي هذا يدل على عدم وجود استعداد نفسي لدى الاطفال لهذا النوع من الأنشطة التفاعلية الحماسية، لعدم تخطيهم للمراحل الأولى من حالة الصدمة، فهنالك عملية نفسية يجب أن تأخذ مجراها لدى الاطفال، وتختلف من طفل الى آخر، بحيث أن اشتراك الاطفال بأنشطة فنية وثقافية (غير مدروسة) مباشرة بعد الاجتياح قد يأتِ بنتائج عكسية، ناتجة عن عدم مقدرة الأطفال على التفاعل، وبالتالي شعورهم بالعجز عن العودة للوضع السابق للاجتياح، مما يعمق لديهم اعراض الصدمة والشعور بالاختلاف، بدلا من أن يخفف من تلك المشاعر، لذلك الرجاء الحار من المؤسسات الثقافية والاجتماعية والأفراد الناشطين في قضايا الطفولة، عدم تصميم نشاط أو تدخل مجتمعي دون تقييم الحالة النفسية لأطفال المخيم واستعداداتهم النفسية أيضاً، لذا يُنصح بزيارة المخيم أولا، والحديث مع الفئة المستهدفة من الأطفال واهاليهم حول احتياجاتهم واستعداداتهم للمشاركة، ومن ثم تصميم تدخل مجتمعي، أو نشاط ثقافي ملائم، يُضاف الى ما سبق، الاحتياج الماس لدى الأهالي في المخيم للمساندة الاجتماعية في تخطيهم لما حدث، فالتفريغ النفسي والتكاتف الاجتماعي احتياج مُلِح، وبأبسط حد بالإمكان زيارة الأهالي ومساندتهم بالاستماع إليهم فقط، النساء تحديداً بحاجة للمساندة والتضامن من قبل النساء والأمهات الاخريات، ليس بالضرورة أن تكون المساعدات مالية ومادية فقط، بل إن التضامن، والاحتواء، والتواجد من أهم آليات المناصرة والمساندة لتخطي الألم، وإن كان من الصعب تجاوزه.

:::::

“الأخبار”

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….https://kanaanonline.org/2022/10/27/%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7%d9%86-3/