الإرث الثوريّ ل فرانتز فانون | قراءة في كتاب: “الاغتراب والحريّة”: اكتمال نصوص القمر الأسود، لمؤلفه فرانتز فانون، مراجعة سعيد محمّد

كتب المفكر الثوريّ الماركسيّ فرانتز فانون (1925 – 1961) نصوصه المنشورة كتباً ومقالات باللغة الفرنسيّة، وكانت تجربته الفكريّة والشخصيّة والنضاليّة في أجواء العالم الفرنكوفوني حصراً، ولذا لم يحظ المتحدثون باللغة الإنجليزيّة بداية بالفرصة للاطلاع على مقالاته، وصدرت بعض ترجمات رديئة لكتبه المنشورة، ولذا فإن كثيرين من تلاميذ فانون وقرائه في بريطانيا والولايات المتحدّة كانوا سعداء بصدور مجلّد “الاغتراب والحريّة – تحرير جان خلفا وروبرت جي سي يونغلندن: بلومزبري، 2018″ المعدّ بكثير من الحبّ والعناية والدقّة جامعاً كافة النصوص التي خطّها فانون ولم تنشر في كتب بعد – لا سيّما مقالاته الكثيرة في جريدة المجاهد التي كانت تصدرها الحكومة الجزائريّة المؤقتة – جبهة التحرير الوطني الجزائري خلال حرب 1954 -1962 التي أنهت الاحتلال الفرنسي للبلاد بعدما طال لأكثر من 132 عاماً.

ويقدّم مجموع نصوص الكتاب صورة بانوراميّة عن فكر فانون وتطور كتاباته عبر سنواته الثوريّة الفائرة، ويضعها من خلال مقدّمة محترفة في سياقها التاريخيّ والاجتماعيّ. ورغم أصالة ظاهرة في نصوص فانون فإن الرّجل كان أثناء دراسته الجامعية في الطبّ النفسيّ قد تشرّب أعمال هيغل، نيتشه، ماركس، فرويد ولاكان وسارتر، وتظهر آثارها جليّة في طريقة تحليلة ونظرته إلى طبيعة الصراعات البشريّة بل وحتى طريقة التعبير. وقد تفاعل فانون بنشاط فائر مع الجماعات اليسارية والمناهضة للعنصرية وتأثر بأفكار الحركة الوجودية. وقد كتب أيضاً ثلاث مسرحيات، اثنتان منها بقيتا على قيد الحياة واسترجعا في هذا الكتاب باسم “العين الغارقة” و”الأيدي المتوازية” وفيهما روح وجوديّة ظاهرة.

وإذا كان مجلّد “الاغتراب والحريّة” لا يكشف جوانب جديدة بشأن فانون يمكن أن تعيد تصنيف الرّجل أو تدفعنا لقراءته في سياق جديد، فإنّه مع ذلك يوفر نوعاً من اكتمال لتجربة هذا الثوري الشجاع – قمر الحريّة الأسود الجميل الذي رحل باكراً، ويقدّم وحدة فكره وتماسك نظريته الثوريّة.

ويضمّ المجلد ثبتاً بقائمة الكتب التي وجدت في حوزته، وفيها إشارات تظهر اهتمام المتعطش بالماركسية والتحليل النفسي والفلسفة الوجودية والأدب الغربي إلى حد كبير. وفي المجلّد أيضاً تسجيل للأجزاء التي أبرزها فانون في هذه الكتب وتعليقاته الخاصة عليها، الأمر الذي يطرح ربطاً مثيراً بين أفكاره ومصادر تكوينه الفكري والأيديولوجيّ.

يرفض فانون البهلوانيّات الليبرالية الفرنسية لتجميل وتلطيف الحكم الاستعماري باعتبارها محاولة عبثيّة محكوم عليها بالفشل، ويدين اليسار الغربيّ – وبخاصة الفرنسي – لتقاعسه عن دعم استقلال الجزائر دون قيد أو شرط، ويتهمه بالترويج لـ “الحلول الوهمية” الخادعة بينما بالنسبة للشعب الجزائري فإن “النظام مدان في كتلة واحدة”. ومع ذلك، فقد وقف فانون ضد أي “كراهية مستقبلية للرجل الأبيض”، والقوميّات الضيقة وسياسات الهوية القائمة على الاستياء والكراهية، وحث رفاقه الجزائريين دائماً على “إبعاد كل العنصرية عن أرضنا، وكل أشكال القمع ودعاهم للعمل من أجل الإنسان وإثراء الإنسانية”.

وتزيل رسالة فانون الموثّقة الكتاب إلى المفكر الإيراني علي شريعتي شبهة طالما ألقيت عليه باعتباره من أنصار الأسلامويّة، لكنّه يقول بشكل قاطع بأن إحياء العقليات الطائفيّة والدينيّة يعوّق آفاق التحرر الإنساني ووحدة الشعب المضطهد، ذلك رغم تفهمه للدّور الإيجابي الذي لعبه الإسلام تحديداً في حماية الهويّة الوطنيّة للجزائريين في مواجهات سياسات الفرنسة القاسية.  

يتم ترتيب كتابات فانون في هذا المجلّد (حوالي 800 صفحة) في ثلاثة أجزاء، بدءا من أعماله المسرحية في وقت مبكر — وبعضها كان يعتقد حتى الآن أن تضيع إلى الأبد. ويلي هذه كتاباته النفسية ثم كتاباته السياسية، التي تركز بالطبع بشكل رئيسي على الحرب في الجزائر. والأخيرة كانت لا تزال تتمتع بسطوتها وعلّو صوتها في وجه المحتلين.  

لقد تغير العالم كثيرا منذ عام 1962، فسقط جدار برلين وانهار الاتحاد السوفياتي، وتنافس الصين اليوم على مرتبة أكبر اقتصاد في العالم، وظهرت بوادر قويّة لتفكك الاتحاد الأوروبي أو تحوّله تدريجيّاً إلى ناد ألمانيّ بعدما ألقيت باليونان إلى سجن القروض المؤجلّة وقررت بريطانيا التوجه غرباً عبر الأطلسي، فيما أثارت تحركات الأقليّة السوداء في الولايات المتحدة قلق الجميع. ومع ذلك لا تزال نظريات فانون الثورية وتطبيقاتها في (ما بعد الكولونياليّة) تتردد صداها اليوم، ليس فقط في المستعمرات السابقة حيث تشكل النّدوب العميقة لفترة الاحتلال والعنف المستمر للاستعمار و الكولونيالية الجديدة والديكتاتورية والاغتراب والفقر، والبطالة والأمية وانحلال البنية التحتية والعداوة بين الأعراق والتعصب الديني صراعا يومياً، ولكن أيضا في قلب الإمبراطوريّة الأمريكية، حيث هذه القوى والديناميات نفسها تدفع الأجندة الإمبريالية العالمية لإثراء النخب المهيمنة على حساب الأكثريّة.

كانت الماركسية جزءًا كبيرًا من الهواء الذي تنفسه فانون خلال سنوات تكوينه في مسقط رأسه في المارتينيك في صحبة أشخاص مثل الشاعر الثوريّ إيمي سيزير، وكذلك خلال السنوات التي قضاها في فرنسا وارتباطه بأشخاص مثل هنري جانسون، وجان بول سارتر، وكذلك بعض تيارات اليسار داخل جبهة التحرير الوطني الجزائرية. ويقتبس فانون ويعيد صياغة ماركس بحرية في كتاباته، وحتى عنوان كتابه الأسطوري الأخير “الملعونون في الأرض” الذي أملاه عندما عرف أنه على موعد مبكّر مع الموت قد أخذ من مقطع في النشيد البروليتاري للأممية الشيوعية العالمية. ومع ذلك، فإن الماركسية لم تكن لتمنعه عن التفاوض بفاعليّة مع مفكرين آخرين ويربط ممارسته الثوريّة بهم لا سيّما هيغل. وقد مال فانون كذلك إلى الاعتقاد بأولويّة فئة الأمة في السياق السياسي للاستعمار على فئة الطبقة، وأن الفلاحين قد يكونون الأكثر ثورية من البروليتاريا في حد ذاتها في إطار الهيكل الاجتماعي الاقتصادي للمجتمعات الأفريقية/الكاريبية. ولذا يمكن الزّعم بأن فانون كان لا يزال يبحث عن صياغة متماسكة لماركسيّة ترتبط بظروف الاستعمار الكولونيالي قبل أن يقطع الموت سعيه النبيل، وأن مشروعه ما زال مفتوحاً وينظر العقول الثوريّة والإرادات الحاسمة لتأخذه إلى منتهاه.

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….