النقد مزاوجة ا.ل.م.ق.ا.و.م.ة والنظرية أو مواصلة ا.ل.م.ق.ا.و.م.ة إلى النقد النظري 

(1)، عادل سماره

  • التنكُّر لمشروع عربي هو استدخال للهزيمة

قال أحدهم:​

“أرى العنقاء تكبُرُ أن تُصادا………..فعاند من تطيق له عنادا

وما نُهنِهتُ عن طلبٍ ولكن………… هي الأيام لا تُعطي قيادا”

النقد هو رفض والرفض أعلى من تمرُّد أو غضب. الناقد الحقيقي واسع الاطلاع لأن أخلاق النقد أن تعرف ثم تنقد سواء بالإيجاب والرفض أو النسف ومن ثم التجذير. والنسف مهم هنا لأنه يستغرق دور السلاح ودور الفكر. هو نقل وضعٍ من حالة إلى نقيضها الأعلى والأرقى.

والنقد ليس التشكي، وليس ما يسمح به اي نظام لأنه سيكون حينها نقداً مخصياً يندرج في نطاق “حرية التفكير” اي ضمن حدود تفرضها السلطة وليس ضمن التفكير الحر أي الذي لا يتقيد بقرار وزير الثقافة أو التعليم وغالباً ما يكونا موظفَيْن غبيين لأن الغبي هو الذي يرضى لنفسه دوراً شُرطياً على الفكر. لذا، قتَل الفقهاءُ الحلاج. ونجد اليوم سلسلة من الفقهاء يبتلعون تاريخنا ويتقيؤونه طائفياً فلا يفقهون بأنهم مطايا لأعداء العروبة وربما هم هكذا بوعي كمثقفين عضويين للطائفيات السياسية!

إذا صحَّ قولنا بأن : “الأساس أن تبدأ وطنياً” ومن ثم يمكن أن تنحو منحىً قوميا تقدميا، إشتراكيا ، شيوعيا، سلفياً، وجودياً ما بعد حداثي…الخ، ولكن إذا كانت قاعدتك الوطنية صُلبة، حتى لو مررت بالتغربن والتخارج والدين السياسي والشوفينية والوجودية وحتى تغنيج الصهينة…الخ، فإن وطنيتك ستعيدك إلى القاعدة الأصل.

أهمية أن تبدأ وطنياً كامنة في قرار مبكر ب.ا.ل.م.ق.ا.و.م.ة وقد يكون ذلك قبل وعي عميق فكرياً وبالطبع سياسياً وهذا حال كثيرين. وأن تبدأ وطنياً فهذا يعني أن تبدأ طبقياً في غالب الأحيان بمعنى أن الوطن هو للأكثرية الشعبية صاحبة المصلحة المادية والثقافية والنفسية في التطور والكرامة لأن هذه الأمور هي الترجمة الحقيقية للوطنية. وفي طور ما تجد نفسك أممياً ايضاً. وقد تعي هذه الأمور باكراً أو لا تعيها. فقبيل الوعي تكن كما قال ماركس “موجود في ذاتك” ومع الوعي تغدو “موجودا لذاتك” والذات هنا مقصود بها الطبقة التي أنت منها وتناضل من أجلها، بوعي سياسي، اي الأكثرية الشعبية.

لكن هناك برزخ لا بد من اجتيازه كي لا يبقى المرء كأهل الأعراف اي ما بين الجنة والنار. يتمظهر البرزخ في كيفية وآلية الانتقال من الموجود في ذاته إلى الموجود لذاته؟ ما هي الآلية وهناك عموماً وجهتي نظر:

الأولى: رأى بعض المفكرين بأن الطبقة العاملة أو الطبقات الشعبية تتلمس طريقها للثورة والتغيير معتمدة على تجربتها ووعيها الذاتي دون حاجة للحزب.

وترى الثانية أن الحزب ضروري من أجل وعي ممنهج واختصار للطريق وتقنين الجهد والزمن.

وأعتقد أن تأصيل الوطنية والنظرية والفكر هي أنجح في حالة دور الحزب مما هي في الحالة المنفصلة عن الحزب. وهنا أنتقد الذين يقولون “لا يوجد مشروع عربي” ويتكؤون على هذا ليمحضوا الولاء لمشاريع غير عربية اي ضد عروبية. إنهم بهذا يُعفون أنفسهم من إقامة أو قيام حزب عروبي يناضل من أجل مشروع عروبي. لأن الصحيح هو العمل لإقامة الحزب وليس التوقف عند ما يزعمونه أي عدم وجود مشروع عربي بل عروبي.

ذات يوم قال لي رفيق: “… كنا في الجبهة الشعبية في معتقلات الاحتلال اثناء انتفاضة 1987 وكان معنا شباباً جاهزين للاستشهاد الفوري لكنهم يرفضون قراءة صفحة واحدة”!

وهذا ذكَّرني بتجربة لي مع أحد فصائل اليسار وكنت المسؤول التنظيمي حينها حيث كانت القيادة في الشام تكتب لي نقداً: “أنت تتعامل مع الوضع خارج السجن كأنه مدرسة كما كنت تعمل داخل السجن”!

هذه الشواهد تشير إلى الميل نحو الأداء العملي/الإرادوي فقط، وهذا مهم ولكنه لا يعيش طويلا وخاصة في شروط الهزيمة حيث يصل كثيرون إلى قرار: “أُنجُ سعد هلك سعيد”!

لن آخذك عزيزي انت أو هي إلى ما كتبته عديد المرات عن استدخال الهزيمة، وخاصة في كل من كتابَيْ: “ثورة مضادة، إرهاصات أم ثورة” (2012)، أو كتابي الحديث “في نحت المصطلح وتحرير المعنى” (2023)، ونشرت تعريف هذا المصطلح في صفحتي هذه وفي موقع كنعان الإلكتروني.

وبإيجاز، استدخال الهزيمة يعني أن يفكر المرء وينطق ويكتب ويحاجج بشكل مهزوم اي مستسلم، وطالما يكتب ويحاجج فهو لا يستدخل الهزيمة فقط في ذاته بل يتحول بها إلى ذاته أي إلى الناس فيصبح آلة ترويج للهزيمة. فاستدخال الهزيمة هي نظرية في الثورة وضد الثورة المضادة.

أعترف لكم أنني لست شديد الترتيب، لذا لا أذكر متى صغت هذا المصطلح للمرة الأولى!

لكن ما حفَّزني على الكتابة مجدداً عن هذا المصطلح أمران:

الأول: كنت قد فقدت كتابي “الديمقراطية والإسلام السياسي واليسار” مع أن دار النشر طبعت منه ألف نسخة. وأنا طبعاً في العادة آخذ بعض النسخ للإهداء، أما معظم كتبي فأطبعها على نفقتي ومع ذلك لا أُعوَّض حتى بكلفة الطباعة.

قبل شهرين كتبت في صفحتي من يتوفر لديه كتابي هذا أرجو أن يخبرني وطبعاً ساقوم بنسخه وإعادته له.

كتبت لي د. سوسن مروَّة وهي رفيقة وصديقة وشهدت بالحقيقة لصالحي في المحكمة بخصوص التطبيع وجماعة دولة مع المستوطنين رغم التهديد. فكتبت لي أن هناك نسخة في المكتبة العامة لمدينة البيرة. فاستعرت النسخة أمس وصورتها وسأنشرها بي دي اف.

انتبهت أن الكتاب مطبوع عام 1994 اي بعد بضعة أشهر يصبح عمره ثلاثون سنة. وخلال تصفحي لأرى كم تقدمت أو تراجعت فكريا، وجدت عنوان استدخال الهزيمة في الكتاب (أنظر الصورة” وهذا يعني أنني صغت المصطلح قبل ذلك التاريخ.

ولهذا الكتاب قصة.

ففي عام 1993 عُقد مؤتمر عن الديمقراطية في جامعة بيت لحم وطُلب مني تقديم ورقة كوني من خارج الجامعة، واعتقد أن د. مناويل حساسيان هو الذي نظَّم المؤتمر.

وبعد أن قدمت ورقتي جاءت إحدى المحاضِرات، لا أذكر اسمها وهي من إحدى عائلات بيت لحم، لكن اذكر انها أنيقة وجميلة جداً:

قالت: لماذا لا تقدم طلباً للعمل عندنا؟

قلت: بابتسامة خفيفة، وهل تَموني على ذلك؟

قالت: طبعاً، هذا لصالح الجامعة.

وعدتها أن أفعل دون أن اشرح فقد تعبت من شرح الاضطهاد وصرت حريصاً على أن لا أُتهم بأنني أمثِّل دور الشهيد. ولكن لفت نظري بجانبها امرأة جميلة ايضاً تخلل شعرها شعر ابيض لا أدري هو بداية مرحلة عمرية جديدة أم “تونيس من مُونَّس أو صبغة مِيْش” للشعر كما يسمونه في علم التجميل وطبعاً عناية خبيرة تجميل.

ومباشرة فهق في ذهني من هي:

قلت: أنت ديانا!

قالت: والله ذاكرتك قوية.

ديانا رايتها مرة واحدة عام 1973 حيث أحضرت لي البرنامج السياسي لإحدى الفصائل مكتوب على ملحفة لحاف بيضاء على الوجهين وهي كانت لففتها على جسمها عند دخول الجسر من الأردن.

أما الأمر والثاني: وهو الأهم والجاري اليوم حيث ينتشر “استدخال الهزيمة” بين كثير من المثقفين والمناضلين العرب والفلسطينيين وخاصة اليسار بأنه: لا يوجد مشروع عربي.

وكثيرون منهم يقصدون الرد على تركيزي: على وجود ووجوب إيجاد مشروع عروبي. أما دفاعي بأنه لا فخر ابداً غياب هذا المشروع.

أنا بدوري أعتبر تمترسهم وراء هذا التبرير سواء دقيقاً كان أم زائفاً أحد أنماط استدخال الهزيمة.

بل إن البعض منهم ليس حيادياً في استدخال الهزيمة بل يذهب إلى البحث عن ولاء إقليمي أو دولي!

لذا، هناك ولاء عرب ومنهم فلسطينيون لأمريكا، وللكيان ولتركيا وللصين ولإيران ولروسيا … الخ ولكن يتضاءل الولاء العروبي بهدف أن يغيب!

وهنا تكون المعضلة بمعنى أن هذه الانتماءات حتى لو شكلية ولفظية هي إيكال أمر الوطن الكبير لهذا السيد أو ذاك. وبالطبع يدفع كل سيد باتجاه أن يكون هو السائد اعتمادا على من ولَّوه عليهم.

والسؤال: ألا يعلم هؤلاء جميعاً بأننا نعيش عصر الدولة القومية، اي الدولة التي تمثل مصالح أمتها بوضوح وفي أفضل الأحوال تتفضَّل على حليفها الضعيف بما تراه مناسباً له أو ما تتعفف عنه لصالحه على أن يبقى هو الأدنى. وهذا وحده كافٍ لنقد كافة الأنظمة القطرية العربية لأنها تضع كل قطر ملحقاً بسيد أجنبي. لا توجد ترجمة للولاء السياسي والثقافي المتخارجين سوى هذه.

ولذا، أركِّزُ على وجوب التصدي لهؤلاء بدحض الفكرة بالفكر والموقف بالموقف.

وبالطبع، يكون الفضاء مفتوحاً لمن يجادل، وليس شرطاً أن نرد على من يجادل سواء بالحكمة أو بالحقد أو بالصراخ.

أمثلة:

 1- كتبت مؤخراً تغريدة صغيرة عن الشاعر المذيع زاهي وهبه، بمعنى جيد أنك عُدت لبرنامجك، لأن برنامجه كما افهمه تأكيد الثقافة العروبية من باب الفن والغناء والموسيقى…الخ فانبرى البعض يهاجمه من باب انه هاجم الرئيس اللبناني الوطني إميل لحُّود. وبالطبع وطنياً هذا خطئ، ولكن لا ندري في اي سياق. فربما كان ذلك كي يحافظ على وظيفته. وما أكثر من هاجموا الرئيس اللبناني الأخير ميشيل عون لأنه كان قريباً أو حليفاً من عراق الشهيد صدام حسين، ثم أيدوه جداً بعد أن تحالف مع حزب ذي العمامة! ولم يُسائلوا انفسهم!

وهنا أتحدى كل محترف المزايدات: هل تفعلها وتخسر وظيفتك؟ الواجب أن نفعلها، ولكن ليس شرطاً أن يفعلها الجميع. أنا فعلتها طوال عمري لكنني لا أُزايد على أحد.

2- كتبت مقالة قصيرة عن المناضل/المفكر الأسمر من مارتينيك فرانز فانون، فانبرى كثيرون يشككون فيه من باب أنه تعاطف مع اليهود. وهو لم يفعل بل تعاطف مع ضحايا المحرقة واستنتج البعض: بما أنه تعاطف مع المحرقة، فهو إذن ضد الفلسطينيين! عجيب، أتعرف يا هذا عدد الفلسطينيين الذين انحازوا علانية بالموقف والصوت والصورة والكتابة لصالح الكيان!

3- كتبت قبل عامين مقالاً عنوانه: “كيف لو انتصرت عائشة على عليْ”. ومضمونه واضح من باب لو حصل هذا كيف سيكون تأثيره على وضع المرأة العربية. وهنا اشتعلت الهجمة وذهبت حد الإسفاف من باب: كيف يمكن مقارنة عائشة بعلي؟ يا لطيف! ولِمَ لا! بل من حقنا مقارنة اي شخص عادي بعلي أو بماركس أو بناصر أو تشافيز…الخ. ومعظم هؤلاء ماركسيين، اي يفترض أن يكونوا مع حق المرأة في التمكين والمساواة وحتى التحرر.

ذلك كي أكتشف بأن شيوعية هؤلاء هي شيعية طائفية سياسية متذيِّلة لأنها لا تناضل كما أنها ليست علوية فعلي والحسين لم يكونا شيعيين قط ولا عائشة سُنية.

وأترك للقراء هم/هنَّ استنتاج ما يرون.

ومن حيث النقد، تربيت على النقد وإن سبق ذلك أنني وُلدت وعشت مناخ ا.ل.م.ق.ا.و.م. ة، ولا تكبُّرا بل شرفا وتشرُّفاً.

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….