نقلة روسيّة تجاه كوريا الشماليّة تقلق واشنطن، سعيد محمّد

يبدو أن رقعة لعبة الشطرنج التي افتتحها الأمريكيّ في أوكرانيا آخذة بالتوسع، فبعد الخطوة الأمريكيّة الأخيرة في اجبار حليفها في المحيط الهادىء اليابان وكوريا الجنوبية على الشروع في خطوات للتّعاون العسكريّ تحت المظلّة الأمريكيّة، جاءت النّقلة الروسيّة باتجاه جمهوريّة كوريا الشعبيّة الديمقراطيّة (الشماليّة)، حيث يتوقع أن يلتقي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنظيره الكوريّ كيم جونغ أون على هامش المنتدى الاقتصادي الشرقي في فلاديفوستوك – أقصى شرق روسيا – الذي يبدأ الأحد، لإجراء مباحثات حول سبل توسيع آفاق التعاون العسكريّ والاقتصاديّ بين البلدين، وفتح السوق الروسيّة أمام المنتجات الكوريّة من الأسلحة.

استبق رئيس جمهوريّة كوريا الشعبيّة الديمقراطيّة كيم جونغ أون لقاءه المتوقع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش المنتدى الاقتصادي الشرقي السنويّ في فلاديفوستوك – أقصى شرق روسيا – الذي يبدأ الأحد بسلسلة زيارات تفقديّة له شملت خمسة مصانع تنتج الأسلحة في بلاده وذلك خلال أسبوع واحد الشهر الماضي. واغتنم الزعيم الشاب لقاءاته بالمهندسين والعمال لحثّهم على تعظيم الجهود لزيادة طاقة مصانعهم الانتاجيّة، وتحديث منتجاتها دوريّاً. وشملت الجولة التي استعرضها وسائل الإعلام المحليّة بكثافة لافتة مصانع تنتج الصواريخ الباليستية، ومحركات الدرونات، كما القذائف الصاروخيّة، ودشن غواصة قادرة على إطلاق صواريخ محملة برؤوس نووية. ومن المعروف أن كوريا الديمقراطيّة أسست رغم الحصار الغربيّ الخانق قاعدة صناعيّة رفيعة المستوى تنتج إلى جانب المواد الاستهلاكيّة والصناعيّة مروحة عريضة من معدات القتال التي تبدأ من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، ولا تنتهي بالبنادق الهجومية، ناهيك عن تطويرها قدرات نووية من شأنها حماية البلاد من التهديد الأمريكيّ المستمر عبر الحدود مع الكيان الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة جنوب شبه القارة الكوريّة، كما ذلك التواجد العدوانيّ المكثّف للبحرية الأمريكيّة في الإقليم.

وتقول مصادر استخباراتية أمريكيّة أن السجاد الأحمر قد فرش في المحطة على الحدود بين روسيا وكوريا، وقد يصل القطار الرئاسي للزعيم كيم إلى فلاديفوستوك يوم الإثنين أو الثلاثاء على أبعد تقدير، لكن المصادر الروسيّة والكوريّة ما زالت تتكتم عن التفاصيل. وكان الرئيس الكوري قد استقل القطار ذاته في رحلته الشهيرة عام 2019 إلى فيتنام، حين التقى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ورئيس الشطر الجنوبي من كوريا حينئذ مون جاي إين. ونادراً ما يغادر الزعيم الشيوعيّ بلاده، لكنّه عندما يفعل فإنّه يلتقي قادة دول عظمى. 

وإذا تحقق هذا اللقاء مع الرئيس بوتين فسيكون بمثابة تتويج لمسار انطلق منذ بعض الوقت في أعقاب زيارة قام بها وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى العاصمة الكوريّة بيونغ يانغ في يوليو/ تموز الماضي، زار خلالها بمعية الرئيس كيم معرضاً للأسلحة شمل درونات قتالية، وطائرات استطلاع، وأحدث جيل من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات. ولاحظت وسائل الإعلام أن شويغو اصطحب معه إلى هذه الزيارة الجنرال أليكسي كريفوروتشكو، نائب وزير الدفاع الروسي المسؤول عن المشتريات العسكرية. وتعهد شويغو في ختام زيارته تلك “بتعزيز التعاون” بين البلدين، كما صرّح الأسبوع الماضي بأن موسكو تدرس ضمّ كوريا الديمقراطيّة إلى مناورات بحريّة مشتركة مع الصين، وهو أمر غير مسبوق.

وكان الرئيسان بوتين وكيم قد التقيا سابقاً – في مدينة فلاديفوستوك أيضاً – قبل أربع سنوات (2019)، ولقاءهما الحالي هو الثاني فحسب. ودعم الاتحاد السوفياتي السابق كوريا تقليدياً، وأصبحت روسيا في عهد بوتين حليفاً موضوعيّاً، لكن الصراع الروسي الأمريكي الأخير على الأرض الأوكرانية، والعقوبات الواسعة المفروضة على البلدين قربت بين القيادتين.

واستقبلت أنباء هذا اللقاء بقلق بالغ في الولايات المتحدة التي تخشى من تعمّق التحالف الثلاثي الروسي الصيني الكوري على نحو يقول الأمريكيون أنّه “يعقّد الوضع الأمني ليس في شبه الجزيرة الكوريّة والجوار، بل وأيضاً في أوكرانيا” حيث مواجهة عسكريّة مستمرة منذ أكثر من سنة ونصف بين روسيا ونظام كييف دمية حلف شمال الأطلسي (النّاتو).

ولم تفصح المصادر الروسيّة أو الكوريّة بعد عمّا يمكن أن يترتب عليه هذا التقارب المتعاظم تحديداً، لكن الخبراء يقولون بأن هنالك فرصاً عديدة لتبادل اقتصادي وعسكريّ واسع بين البلدين. ويمكن مثلاً لبيونغ يانغ أن تقدم الذّخيرة بأنواعها، لا سيما قذائف المدفعيّة، وقاذفات صواريخ متعددة المدى، والصواريخ الباليستية القصيرة المدى، بالإضافة إلى محركات الدرونات، وهي أسلحة تستهلك منها القوات الروسيّة كميّات هائلة خلال عملياتها ضد القوات الأوكرانيّة. وفي المقابل، يمكن أن تتوسع موسكو في تصدير الحبوب والنفط والتكنولوجيا العسكرية المتقدمة إلى بيونغ يانغ، فضلاً عن إمكانية الدّفع لها بالعملات الصعبة.

وكما يستشف من تصريحات مسؤولين وخبراء أمريكيين فإن واشنطن قلقة بالفعل من إقدام الرّوس، في إطار المنازلة المتسعة لحظياً مع حلف الناتو، إلى تزويد الكوريين بتقنيات عسكريّة متقدمة تتجاوز نطاق صفقات الأسلحة التقليديّة والغذاء والطاقة، لتشمل تكنولوجيات نوعيّة مثل أقمار الاستطلاع العسكريّة، والغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، والطائرات المقاتلة.

ولا يخفي الكوريّون رغبتهم في توحيد بلادهم بطرق سلميّة، ولا يمنع ذلك سوى الوجود العسكري الأمريكيّ المكثّف في الجزء الجنوبيّ من شبه الجزيرة منذ التوصل إلى وقف لإطلاق النار في الحرب الكوريّة عام 1953، وهيمنة المخابرات الامريكيّة على النّخبة التي تدير شؤون الكيان الجنوبي في سيئول. ولا شكّ أن مزيداً من المنعة الاقتصادية والعسكريّة التي يمكن بناؤها عبر التعاون مع موسكو ستقوي أوراق بيونغ يانغ الاستراتيجيّة في مواجهة ضغوط الولايات المتحدة والدّول التي تدور في فلكها في تلك المنطقة من العالم، وبالذات كوريا الجنوبية، واليابان.

وعلى خلاف بقية حلفاء موسكو، فإن بيونغ يانغ صريحة في تأييدها العمليّة العسكريّة الروسيّة في أوكرانيا، واعترفت بالجمهوريات الشعبيّة في لوهانسك ودونيتسك، وأيضاً بانضمامهما لاحقاً للاتحاد الروسيّ، ويعتقد أنها شحنت أسلحة تضمنت صواريخ محمولة من المشاة وصواريخ قصيرة المدى إلى قوات مجموعة فاغنر التي كانت تمشط مدينة باخموت الاستراتيجية قبل تحريرها بالكامل من القوات الأوكرانيّة.

وكانت الولايات المتحدة قد استدعت في أغسطس/ آب الماضي كلاً من رئيس وزراء اليابان فوميو كيشيدا، ورئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول إلى قمة ثلاثية في منتجع كامب ديفيد على هامش الذكرى السبعين لتوقف العمليات العسكريّة في الحرب الكوريّة، ودفعتهم إلى الموافقة على إعلان مشترك للنوايا تضمن فتح أبواب التعاون العسكريّ بين الجانبين بعد عقود طويلة من المرارة المتبادلة بسبب الجرائم التي ارتكبها الجيش الياباني إبّان احتلاله لكوريا خلال النصف الأوّل من القرن العشرين. وتتواجد قوات أمريكيّة في قواعد متعددة عبر أرخبيل الجزر اليابانية والشطر الجنوبي من شبه القارة الكوريّة، وشرعت واشنطن مؤخراً بإجراء مشاورات مع الطرفين بغرض نقل أسلحة نووية إلى أراضيهما.

وتعليقاً على اللقاء المرتقب للزعيمين بوتين وكيم، نقلت وسائل إعلام أمريكيّة عن أدريان واتسون، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكيّ، حثّه الجانب الكوري على “وقف مفاوضات الأسلحة مع روسيا”. وزعم جون كيربي، منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي بإن “(الزعيمين) بوتين وكيم تبادلا رسائل قبل هذا اللقاء تعهدا فيها بالعمل على تمتين أصر التعاون بين البلدين”. وقال المسؤول الأمريكي المطلع على تقارير الاستخبارات للصحافة إنه يعتقد بأن “الروس بحاجة ماسّة إلى إمدادات ضخمة ومتكررة من ذخائر المدفعية والصواريخ قصيرة المدى لاستخدامها في أوكرانيا، أضافة إلى مكونات صناعية ومواد خام تحتاجها بشدة الصناعات الدفاعية الروسية.”

على أن تقارب موسكو – بيونغ يانغ المتعاظم هذا لا يبدو مرحباً به بحرارة في بكين. ويقول مراقبون غربيّون إن الصين التي تحتفظ بعلاقات وثيقة مع كلا الطرفين الروسي والكوري لا ترغب في أن يكون إقليم شرق آسيا مسرحاً لمزيد من التّصعيد ضد الغرب. ويحاول الصينيون الاحتفاظ بعلاقات وديّة قدر الإمكان مع الدّول الفاعلة في الاتحاد الأوروبي لضمان استمرار التبادلات التجارية المجزية، وهم منفتحون على مبادرات أمريكيّة لتجاوز التأزم في العلاقات الثنائيّة.

::::

“الأخبار”

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….