السنة الثالثة والعشرون – العدد 6630
في هذا العدد:
■ النقد مزاوجة ا.ل.م.ق.ا.و.م.ة والنظرية أو مواصلة ا.ل.م.ق.ا.و.م.ة إلى النقد النظري
(1)، عادل سماره
- التنكُّر لمشروع عربي هو استدخال للهزيمة
■ في كتابه: 13 أيلول … أنيس صايغ: المُفكّر الذي رأى، رشاد أبوشاور
✺ ✺ ✺
النقد مزاوجة ا.ل.م.ق.ا.و.م.ة والنظرية أو مواصلة ا.ل.م.ق.ا.و.م.ة إلى النقد النظري
(1)
التنكُّر لمشروع عربي
هو استدخال للهزيمة
عادل سماره
قال أحدهم:
“أرى العنقاء تكبُرُ أن تُصادا………..فعاند من تطيق له عنادا
وما نُهنِهتُ عن طلبٍ ولكن………… هي الأيام لا تُعطي قيادا”
النقد هو رفض والرفض أعلى من تمرُّد أو غضب. الناقد الحقيقي واسع الاطلاع لأن أخلاق النقد أن تعرف ثم تنقد سواء بالإيجاب والرفض أو النسف ومن ثم التجذير. والنسف مهم هنا لأنه يستغرق دور السلاح ودور الفكر. هو نقل وضعٍ من حالة إلى نقيضها الأعلى والأرقى.
والنقد ليس التشكي، وليس ما يسمح به اي نظام لأنه سيكون حينها نقداً مخصياً يندرج في نطاق “حرية التفكير” اي ضمن حدود تفرضها السلطة وليس ضمن التفكير الحر أي الذي لا يتقيد بقرار وزير الثقافة أو التعليم وغالباً ما يكونا موظفَيْن غبيين لأن الغبي هو الذي يرضى لنفسه دوراً شُرطياً على الفكر. لذا، قتَل الفقهاءُ الحلاج. ونجد اليوم سلسلة من الفقهاء يبتلعون تاريخنا ويتقيؤونه طائفياً فلا يفقهون بأنهم مطايا لأعداء العروبة وربما هم هكذا بوعي كمثقفين عضويين للطائفيات السياسية!
إذا صحَّ قولنا بأن: “الأساس أن تبدأ وطنياً” ومن ثم يمكن أن تنحو منحىً قوميا تقدميا، اشتراكيا ، شيوعيا، سلفياً، وجودياً ما بعد حداثي…الخ، ولكن إذا كانت قاعدتك الوطنية صُلبة، حتى لو مررت بالتغربن والتخارج والدين السياسي والشوفينية والوجودية وحتى تغنيج الصهينة…الخ، فإن وطنيتك ستعيدك إلى القاعدة الأصل.
أهمية أن تبدأ وطنياً كامنة في قرار مبكر ب.ا.ل.م.ق.ا.و.م.ة وقد يكون ذلك قبل وعي عميق فكرياً وبالطبع سياسياً وهذا حال كثيرين. وأن تبدأ وطنياً فهذا يعني أن تبدأ طبقياً في غالب الأحيان بمعنى أن الوطن هو للأكثرية الشعبية صاحبة المصلحة المادية والثقافية والنفسية في التطور والكرامة لأن هذه الأمور هي الترجمة الحقيقية للوطنية. وفي طور ما تجد نفسك أممياً ايضاً. وقد تعي هذه الأمور باكراً أو لا تعيها. فقبيل الوعي تكن كما قال ماركس “موجود في ذاتك” ومع الوعي تغدو “موجودا لذاتك” والذات هنا مقصود بها الطبقة التي أنت منها وتناضل من أجلها، بوعي سياسي، اي الأكثرية الشعبية.
لكن هناك برزخ لا بد من اجتيازه كي لا يبقى المرء كأهل الأعراف اي ما بين الجنة والنار. يتمظهر البرزخ في كيفية وآلية الانتقال من الموجود في ذاته إلى الموجود لذاته؟ ما هي الآلية وهناك عموماً وجهتي نظر:
الأولى: رأى بعض المفكرين بأن الطبقة العاملة أو الطبقات الشعبية تتلمس طريقها للثورة والتغيير معتمدة على تجربتها ووعيها الذاتي دون حاجة للحزب.
وترى الثانية أن الحزب ضروري من أجل وعي ممنهج واختصار للطريق وتقنين الجهد والزمن.
وأعتقد أن تأصيل الوطنية والنظرية والفكر هي أنجح في حالة دور الحزب مما هي في الحالة المنفصلة عن الحزب. وهنا أنتقد الذين يقولون “لا يوجد مشروع عربي” ويتكؤون على هذا ليمحضوا الولاء لمشاريع غير عربية اي ضد عروبية. إنهم بهذا يُعفون أنفسهم من إقامة أو قيام حزب عروبي يناضل من أجل مشروع عروبي. لأن الصحيح هو العمل لإقامة الحزب وليس التوقف عند ما يزعمونه أي عدم وجود مشروع عربي بل عروبي.
ذات يوم قال لي رفيق: “… كنا في الجبهة الشعبية في معتقلات الاحتلال اثناء انتفاضة 1987 وكان معنا شباباً جاهزين للاستشهاد الفوري لكنهم يرفضون قراءة صفحة واحدة”!
وهذا ذكَّرني بتجربة لي مع أحد فصائل اليسار وكنت المسؤول التنظيمي حينها حيث كانت القيادة في الشام تكتب لي نقداً: “أنت تتعامل مع الوضع خارج السجن كأنه مدرسة كما كنت تعمل داخل السجن”!
هذه الشواهد تشير إلى الميل نحو الأداء العملي/الإرادوي فقط، وهذا مهم ولكنه لا يعيش طويلا وخاصة في شروط الهزيمة حيث يصل كثيرون إلى قرار: “أُنجُ سعد هلك سعيد”!
لن آخذك عزيزي انت أو هي إلى ما كتبته عديد المرات عن استدخال الهزيمة، وخاصة في كل من كتابَيْ: “ثورة مضادة، إرهاصات أم ثورة” (2012)، أو كتابي الحديث “في نحت المصطلح وتحرير المعنى” (2023)، ونشرت تعريف هذا المصطلح في صفحتي هذه وفي موقع كنعان الإلكتروني.
وبإيجاز، استدخال الهزيمة يعني أن يفكر المرء وينطق ويكتب ويحاجج بشكل مهزوم اي مستسلم، وطالما يكتب ويحاجج فهو لا يستدخل الهزيمة فقط في ذاته بل يتحول بها إلى ذاته أي إلى الناس فيصبح آلة ترويج للهزيمة. فاستدخال الهزيمة هي نظرية في الثورة وضد الثورة المضادة.
أعترف لكم أنني لست شديد الترتيب، لذا لا أذكر متى صغت هذا المصطلح للمرة الأولى!
لكن ما حفَّزني على الكتابة مجدداً عن هذا المصطلح أمران:
الأول: كنت قد فقدت كتابي “الديمقراطية والإسلام السياسي واليسار” مع أن دار النشر طبعت منه ألف نسخة. وأنا طبعاً في العادة آخذ بعض النسخ للإهداء، أما معظم كتبي فأطبعها على نفقتي ومع ذلك لا أُعوَّض حتى بكلفة الطباعة.
قبل شهرين كتبت في صفحتي من يتوفر لديه كتابي هذا أرجو أن يخبرني وطبعاً ساقوم بنسخه وإعادته له.
كتبت لي د. سوسن مروَّة وهي رفيقة وصديقة وشهدت بالحقيقة لصالحي في المحكمة بخصوص التطبيع وجماعة دولة مع المستوطنين رغم التهديد. فكتبت لي أن هناك نسخة في المكتبة العامة لمدينة البيرة. فاستعرت النسخة أمس وصورتها وسأنشرها بي دي اف.
انتبهت أن الكتاب مطبوع عام 1994 اي بعد بضعة أشهر يصبح عمره ثلاثون سنة. وخلال تصفحي لأرى كم تقدمت أو تراجعت فكريا، وجدت عنوان استدخال الهزيمة في الكتاب (أنظر الصورة” وهذا يعني أنني صغت المصطلح قبل ذلك التاريخ.
ولهذا الكتاب قصة.
ففي عام 1993 عُقد مؤتمر عن الديمقراطية في جامعة بيت لحم وطُلب مني تقديم ورقة كوني من خارج الجامعة، واعتقد أن د. مناويل حساسيان هو الذي نظَّم المؤتمر.
وبعد أن قدمت ورقتي جاءت إحدى المحاضِرات، لا أذكر اسمها وهي من إحدى عائلات بيت لحم، لكن اذكر انها أنيقة وجميلة جداً:
قالت: لماذا لا تقدم طلباً للعمل عندنا؟
قلت: بابتسامة خفيفة، وهل تَموني على ذلك؟
قالت: طبعاً، هذا لصالح الجامعة.
وعدتها أن أفعل دون أن اشرح فقد تعبت من شرح الاضطهاد وصرت حريصاً على أن لا أُتهم بأنني أمثِّل دور الشهيد. ولكن لفت نظري بجانبها امرأة جميلة ايضاً تخلل شعرها شعر ابيض لا أدري هو بداية مرحلة عمرية جديدة أم “تونيس من مُونَّس أو صبغة مِيْش” للشعر كما يسمونه في علم التجميل وطبعاً عناية خبيرة تجميل.
ومباشرة فهق في ذهني من هي:
قلت: أنت ديانا!
قالت: والله ذاكرتك قوية.
ديانا رايتها مرة واحدة عام 1973 حيث أحضرت لي البرنامج السياسي لإحدى الفصائل مكتوب على ملحفة لحاف بيضاء على الوجهين وهي كانت لففتها على جسمها عند دخول الجسر من الأردن.
أما الأمر والثاني: وهو الأهم والجاري اليوم حيث ينتشر “استدخال الهزيمة” بين كثير من المثقفين والمناضلين العرب والفلسطينيين وخاصة اليسار بأنه: لا يوجد مشروع عربي.
وكثيرون منهم يقصدون الرد على تركيزي: على وجود ووجوب إيجاد مشروع عروبي. أما دفاعي بأنه لا فخر ابداً غياب هذا المشروع.
أنا بدوري أعتبر تمترسهم وراء هذا التبرير سواء دقيقاً كان أم زائفاً أحد أنماط استدخال الهزيمة.
بل إن البعض منهم ليس حيادياً في استدخال الهزيمة بل يذهب إلى البحث عن ولاء إقليمي أو دولي!
لذا، هناك ولاء عرب ومنهم فلسطينيون لأمريكا، وللكيان ولتركيا وللصين ولإيران ولروسيا … الخ ولكن يتضاءل الولاء العروبي بهدف أن يغيب!
وهنا تكون المعضلة بمعنى أن هذه الانتماءات حتى لو شكلية ولفظية هي إيكال أمر الوطن الكبير لهذا السيد أو ذاك. وبالطبع يدفع كل سيد باتجاه أن يكون هو السائد اعتمادا على من ولَّوه عليهم.
والسؤال: ألا يعلم هؤلاء جميعاً بأننا نعيش عصر الدولة القومية، اي الدولة التي تمثل مصالح أمتها بوضوح وفي أفضل الأحوال تتفضَّل على حليفها الضعيف بما تراه مناسباً له أو ما تتعفف عنه لصالحه على أن يبقى هو الأدنى. وهذا وحده كافٍ لنقد كافة الأنظمة القطرية العربية لأنها تضع كل قطر ملحقاً بسيد أجنبي. لا توجد ترجمة للولاء السياسي والثقافي المتخارجين سوى هذه.
ولذا، أركِّزُ على وجوب التصدي لهؤلاء بدحض الفكرة بالفكر والموقف بالموقف.
وبالطبع، يكون الفضاء مفتوحاً لمن يجادل، وليس شرطاً أن نرد على من يجادل سواء بالحكمة أو بالحقد أو بالصراخ.
أمثلة
1- كتبت مؤخراً تغريدة صغيرة عن الشاعر المذيع زاهي وهبه، بمعنى جيد أنك عُدت لبرنامجك، لأن برنامجه كما افهمه تأكيد الثقافة العروبية من باب الفن والغناء والموسيقى…الخ فانبرى البعض يهاجمه من باب انه هاجم الرئيس اللبناني الوطني إميل لحُّود. وبالطبع وطنياً هذا خطئ، ولكن لا ندري في اي سياق. فربما كان ذلك كي يحافظ على وظيفته. وما أكثر من هاجموا الرئيس اللبناني الأخير ميشيل عون لأنه كان قريباً أو حليفاً من عراق الشهيد صدام حسين، ثم أيدوه جداً بعد أن تحالف مع حزب ذي العمامة! ولم يُسائلوا أنفسهم!
وهنا أتحدى كل محترف المزايدات: هل تفعلها وتخسر وظيفتك؟ الواجب أن نفعلها، ولكن ليس شرطاً أن يفعلها الجميع. أنا فعلتها طوال عمري لكنني لا أُزايد على أحد.
2- كتبت مقالة قصيرة عن المناضل/المفكر الأسمر من مارتينيك فرانز فانون، فانبرى كثيرون يشككون فيه من باب أنه تعاطف مع اليهود. وهو لم يفعل بل تعاطف مع ضحايا المحرقة واستنتج البعض: بما أنه تعاطف مع المحرقة، فهو إذن ضد الفلسطينيين! عجيب، أتعرف يا هذا عدد الفلسطينيين الذين انحازوا علانية بالموقف والصوت والصورة والكتابة لصالح الكيان!
3- كتبت قبل عامين مقالاً عنوانه: “كيف لو انتصرت عائشة على عليْ”. ومضمونه واضح من باب لو حصل هذا كيف سيكون تأثيره على وضع المرأة العربية. وهنا اشتعلت الهجمة وذهبت حد الإسفاف من باب: كيف يمكن مقارنة عائشة بعلي؟ يا لطيف! ولِمَ لا! بل من حقنا مقارنة اي شخص عادي بعلي أو بماركس أو بناصر أو تشافيز…الخ. ومعظم هؤلاء ماركسيين، اي يفترض أن يكونوا مع حق المرأة في التمكين والمساواة وحتى التحرر.
ذلك كي أكتشف بأن شيوعية هؤلاء هي شيعية طائفية سياسية متذيِّلة لأنها لا تناضل كما أنها ليست علوية فعلي والحسين لم يكونا شيعيين قط ولا عائشة سُنية.
وأترك للقراء هم/هنَّ استنتاج ما يرون.
ومن حيث النقد، تربيت على النقد وإن سبق ذلك أنني وُلدت وعشت مناخ ا.ل.م.ق.ا.و.م. ة، ولا تكبُّرا بل شرفا وتشرُّفاً.
✺ ✺ ✺
في كتابه: 13 أيلول
أنيس صايغ: المُفكّر الذي رأى
رشاد أبوشاور
كان الكلام بالنسبة إلّي(وربما لقليلين غيري) قبل ذلك اليوم إضاعة للجهد والوقت والطاقة، وكان الصمت جرأة . أمّا بعد الثالث عشر فقد أصبح الكلام واجبا وأصبح الصمت هروبا، وأكاد أقول جبنا. (من مقدمة كتاب 13 أيلول) للدكتور المفكر الباحث أنيس صايغ.
والدكتور أنيس صايغ هو مدير مركز الأبحاث الفلسطيني الذي تعرّض لأربع محاولات اغتيال، وقد أدت المرّة الرابعة لفقدانه السمع إلى حد بعيد، وبعض النظر، وتشوّه أصابعه ووجهه، عقابا على السير بمركز الأبحاث الفلسطيني إلى امتلاك قدرات بحثية علميّة كبيرة في دراسة الفكر الصهيوني، وطبيعة علاقة وارتكاز المشروع الصهيوني غربيّا بريطانيا بداية ثم احتضانه أمريكيا، وتحويله إلى دولة زُرّعت في قلب الوطن العربي الكبير، وبذا تكرّس المشروع الصهيوني الغربي قاعدة متقدمة وظيفتها تثبيت تخلّف الأمة العربيّة، وحرمانها من النهوض والوحدة العربية، والتحكّم بثرواتها وموقعها الجغرافي الاستراتيجي في قلب العالم.
في حُقبة رئاسته للمركز، والتي ابتدأت مع بناء منظمة التحرير الفلسطينيّة برئاسة الأستاذ أحمد الشقيري، عمل الدكتور أنيس على احتضان عدد من الشباب الذين رآهم نابهين، فرعاهم وعني بتوجيههم ليكونوا باحثين يضيفون للمسيرة البحثية الفلسطينية على أسس علمية معرفيّة منتميّة، وقد نجح إلى حد بعيد رغم التدخلات السلبية في شؤون المركز بعد استقالة الأستاذ الشقيري الذي كان يثق بالدكتور أنيس صايغ، ويدعم ويرعى المركز ويحيطه باهتمامه.
يكتب الدكتور أنيس في مقدمة كتابه موضحا أسباب عودته للكتابة بعد سنوات الصمت والعزلة، عندما أُبرم اتفاق أوسلو في حدائق البيت الأبيض بتاريخ 13/أيلول/1993: فجأة عاد القلم إلى أصابعي بحركة عفوية وبدون سابق تعمد وتصميم، بعد سنوات الهجر والاعتكاف والاستمتاع بالجهل والأميّة، وأصبحت الكتابة هي الأمر الطبيعي، والسكوت هو الأمر الشاذ. (ص9)
يسأل المفكّر الدكتور أنيس صايغ: فلماذا نكتب لمن لا يقرأ ، وإذا قرأ لايفهم، وإذا فهم لا يتجاوب؟
يجيب على هذا السؤال، لنفسه ولغيره:..فعندما تتحوّل قيادات سياسية إلى سماسرة على الأرض والشعب والتراث والقضيّة، يتحمل الكاتب صاحب الضمير مسؤولية رسولية لا يكون نفسه إذا تخلّى عنها. (ص10)
يمّر الدكتور صايغ على نكبتي ال48 و 67 واللتين رغم هولهما لم تدمرا الشعب الفلسطيني، ويرى هول خطورة 13 أيلول: ..أمّا 1993 فقد اصطادت الثقة بالذات، وهزمت الآمال، وخططت لتدمير أي مسعى مستقبلي لاستئناف المسيرة لمواصلة النضال. وأطفأت الهزيمة الجديدة أنوارا ظلّت مشعة بالرغم من الهزائم السابقة.
في عتمة هذا الجو أعود للكتابة.
كتاب 13 أيلول الصادر في عام 1994 بطبعته الأولى عن مكتبة بيسان بيروت، يضّم مقالات، ومقابلات، ومداخلات كتبها الدكتور صايغ، ونشرتها سبع من الصحف اللبنانية والسوريّة حول موضوع (الاتفاق الفلسطيني- الإسرائيلي)، وما تفرّع عنه من موضوعات: خلفياته، أخطاره، مجابهته، مع تركيز على دور المثقفين العرب، سابقا ومستقبلاً، وذلك على مدى شهور من أواخر العام 1993 وأوائل العام 1994.
ولأنه مفكّر مؤمن بعروبة فلسطين، وبعروبة الصراع مع الكيان الصهيوني، ورغم جو الإحباط والسواد فإنه لا ييأس، وهو يكتب حّاضا على التشبث بالمقاومة، والثبات على ما تركه لنا المخلصون الذين قاوموا رغم قسوة ظروفهم: لا يجوز أن تلتقط ذاكرة أبنائنا وأحفادنا هذه الموجة الكاسحة من أدبيات الانهزام ومقولات الانهزام ومقولات الاستسلام ولا تأخذ في الاعتبار وقوف جماعة من المثقفين، مهما كانوا أقليّة، في وجه الموجة يحاولون إفشال عمليات غسل الدماغ وفضحها ودحضها.(ص11)
يضع الدكتور صايغ المثقف العربي، والفلسطيني في المقدمة، أمام واجبه ودوره، وكانت مواقف نفر من المثقفين الفلسطينيين ، والباحثين الذين درّبهم وخرّجهم باحثين مرموقين قد باعوا خبراتهم ومعرفتهم وتخلّوا عن (دورهم) وواجبهم، فتألم لما آلت إليه مسيرتهم…
يضّم كتاب (13 أيلول) 11 مقالة ومقابلة وحديث، وإذ نعود لتأمّل ما طرحه الدكتور صايغ، وما حذّر منه، الآن في العام 2023 فإننا نقف أمام الخسائر التي لحقت بالقضية الفلسطينيّة والشعب العربي الفلسطيني، و..الأمة العربيّة بأسرها!
لم يكتب الدكتور أنيس صايغ كلاما إنشائيا حماسيا، ولكنه قدّم برنامج مواجهة لما جاء به أوسلو، ليس للحّد من مخاطره، ولكن لتجاوزه والعودة بالقضية إلى ملايين العرب بعيدا عن تخريب الأنظمة الإقليمية، ونشر الوعي بخطورة الدور الأمريكي البريطاني الغربي، وعدم الثقة بمن أيدوا اتفاقات أوسلو ورعاته في البيت الأبيض والذي تجلّى يوم 13 أيلول 1993 في حدائق البيت الأبيض.
ولأن المقالات والمقابلات والمشاركات التي قدمها الدكتور أنيس الصايغ لا يمكن تلخيصها بكّل ما حوته، فإنني سأضع بعض المقتطفات منها أمام القارئ الفلسطيني والعربي ليرى حجم التضليل لأوسلو ورعاته ومن روّجوا له، وليهتدي بالفكر الثاقب النيّر الذي ثبتت رؤيته، وكان التحذير المُبكّر من خطره ينّم عن عمق وبعد نظر المُفكّر الوطني الفلسطيني والقومي العربي الكبير أنيس صايغ.
جاء في مقابلة أجرتها جريدة السفير بتاريخ 16أيلول 93 أي بعد ثلاثة أيّام على التوقيع في واشنطن: سألتني المرأة التي تعمل عندنا في المنزل، وقد هالها ما سمعت عن تفسير مشروع (غزّة- أريحا)، وهي بالمناسبة شبه أميّة ولا تعرف أين تقع فلسطين: أمن أجل ذلك الهدف ضحيّت يا دكتور بسمعك وبصرك وقلبك وصحتك منذ عشرين سنة؟ قلت لها، ولا أحسب أنها فهمت كلامي: لا، إذا كان ما قدمته، أو فعلته تضحية بالفعل فهو من أجل أن تتوقف اليوم المؤامرة الراهنة. إذا كُنّا ضحينا وناضلنا حقيقة فلكي ينتبه الشعب عندما تدعو الحاجة (وقد دعت الحاجة الآن) إلى جوهر المسالة، فلا ينخدع بما يحاولون خداعه به ولا يركض وراء سراب فيقع في الهاوية. (ص 19)
تسأله جريدة السفير: الثالث عشر من أيلول، يوم توقيع الاتفاقية بين منظمة التحرير الفلسطينية و(دولة إسرائيل) الأُولى من نوعها منذ احتلال فلسطين، ماذا يعني هذا اليوم لك؟
يجيب المفكّر الكبير المقاوم الثابت الرؤية في الصراع مع المشروع الصهيوني: إنه التاريخ الأنسب لاتفاق مثل هذا. لا أعتقد أن هناك تاريخا (رقما) أصح وأدق من هذا التاريخ (الرقم). اتفاق الشؤم يوقّع في تاريخ الشؤم. إنك لا تجد في الفندق طبقة بالرقم 13، ولا تجد في الطائرة كرسيا بالرقم 13، ولعلنا ننزع من روزنامة تاريخ النضال الفلسطيني – العربي يوما ما هذه الوريقة فتزول هي وأصحابها وموقعوها، ولا يبقى في الذاكرة الوطنية إلا نقطة سوداء صغيرة توحي بالعبر الكبيرة. (ص19)
يوضّح المفكّر الكبير رؤيته: وبكلام آخر مارسنا التطبيع، وشجعناه، وفلسفناه، وعقّلناه، حتى قبل أن تنتهي الحرب. والتطبيع كما نعرف كارثة يفوق خطرها كارثة إنهاء الحرب والاعتراف المتبادل ومقايضة الأرض بالسلام، فالتطبيع إعصار يدوم ويتسع، ووباء لا ينحصر في مكان ولا في وزمان، يلّف الثقافة والحضارة والمنافع الاقتصادية، والخيرات الطبيعية، ومعنويات الناس وأخلاقهم ومُثلهم وطموحاتهم.وهو سلاح بيّد( إسرائيل) أقوى من سلاح الحرب الساخنة، إنه يحقق لها مكاسب أوسع بنفقات وخسائر ومخاطر اقّل.(21)
يُحذّر المُفكّر الرائي من نتائج التوقيع في حدائق البيت الأبيض بتاريخ 13أيلول: وإذا كانت حرب 1948 أكلت نصف فلسطين، وحرب 1967 وما تلاها أكلت باقي فلسطين وبعض سورية ولبنان، فإن التطبيع سيأكل الأخضر واليابس في مراعي الوطن العربي وصحاريه، فوق ترابه وتحته، من أقصى محيطه إلى أقصى خليجه، والأيام بيننا .( ص 22)
ألا تتحقق نبوءة المفكّر أنيس صايغ الرهيبة؟ انظروا إلى تسابق التطبيع والمطبعين، وعلى تنازلات الأنظمة والحكّام، وما يفعله المتسلطون ضد المقاومين! وانظروا لتهافت المثقفين الفلسطينيين والعرب، وأستاذنا أنيس صايغ أُصيب بخيبة أمل من المثقفين الذين رعا بعضهم وعلّمهم علمية البحث وصون المبادىء، فإذا بهم يهرولون وراء أوهام أُوسلو ومن وقعوا عليه في غفلة من الشعب الفلسطيني وجماهير الأمة الأمة العربيّة.
وعلينا أن نسأل: هل استفاد الكتاب والمثقفون والمفكرون والقادة من رؤية المفكّر الرائي الدكتور انيس صايغ، فرفعوا أصواتهم؟!
والمفكّر الكبير رأى مبكرا وأجاب مبكّرا، وهو ليس بصّارا ولكنه مفكر وباحث علمي وقومي عربي مؤمن بوحدة ونهوض أمته رُغم سوء الأحوال العربيّة.ا
أنا لا أتساءل إذا ما كان القادة الفلسطينيون في حركات المقاومة قد تنبهوا مبكّرا، أو متأخرين نسبيا، أو بعد فوات الأوان، فهناك من يراهنون على إنصاف ونزاهة أمريكا، وأحسب أنهم ما زالوا يراوحون، ويراقبون، ويتمنون وهم عاجزون!
ولأنه مؤمن بالتربية الوطنية والقومية، فهو يكتب عن السلطات العربيّة الرسميّة وعدم قدرتها على تشويه وتخريب ثقافة الأمة في البيت وفي الأسرة:.. لكنها، أي السلطات العربيّة، لا تستطيع أن تمنعك أن تعظ ابنك ليل نهار أن (إسرائيل) عدو لا حقّ له في الوجود على أرضك. (ص23)
الثقافة الشعبية التي تُزرع في نفوس وعقول الأطفال منذ مطالع أعمارهم، والتي تحدد من هو العدو ومن هو الصديق، وأن فلسطين قلب الوطن العربي الكبير، تستطيع أن تنتصر على (ثقافة) الاستسلام والتبعية والعمالة ومسخ الوعي.
ولكن ما تنشره السلطة الفلسطينية من ثقافة سياسية تصفها ب(سلام الشجعان)، ورغم 30سنة من الركض وراء الأوهام، والخسارات اليومية فإنها تطارد المقاومين المؤمنين بأنه لا مجال لاستعادة حقنا في فلسطين بدون المقاومة!.
ولأن المفكّر الدكتور أنيس صايغ حضّ على دور المثقف الفلسطيني بخاصة، والعربي بعامة، وصدم بالتقاعس والسير على خطى السياسي الذي لا يأبه برأي المثقفين الذين راهن عليهم، وتبناهم في فترة، وأعدهم ليكونوا أصحاب كفاءات ومواقف جذرية..فوجيء بهرولتهم وراء أوهام وارتجالات السياسي، فكتب: أي قوّة أو ظرف حوّل الرائد الموجه المُرشد إلى تابع ذليل أو عميل ماجر. هل هو التعب من النضال وقد طال؟ أو هي الحاجة المادية وصعوبة العيش اليومي، أو ضيق النفس وقصر النظر؟ أو هو صدق المثقفين وخداعهم لنا في الماضي حين أوهمونا أنهم مثقفون ملتزمون ولم يكونوا كذلك؟ (ص 55)
يكتب المفكّر الدكتور أنيس صايغ في مقالته (أسباب الهزيمة تكمن في نوعية الذين انهزموا وفي عقليتهم: ولقد عرفت الثقافة الفلسطينيّة المثقف المسؤول، وأعطت نماذجها العالية، إلى أن دخل العمل الوطني في نفق بيروقراطية تحتقر العقل لأنها تحتقر الإنسان، فترى في الشهيد ملصقا، وفي المثقف حاجبا يبرر ولا يسأل، ويُغدق عليه ارتزاقه طري العيش، بعد أن يفقد كرامته ومعنى الثقافة. (ص61)
يكتب المفكر الدكتور أنيس برؤيته القومية مختتما مقالته (المشروع الصهيوني الجديد اكثر من إسرائيل الكبرى وأوسع من أحلام هيرتزل): ولا يقتل المشروع الصهيوني إلاّ مشروع قومي في جديّة المشروع الصهيوني، وفي قوته، وفي علميته، وفي مهارته وقدراته. عقل بعقل، وساعد بساعد، ومال بمال، وجرأة بجرأة، وإيمان بإيمان، وعلم بعلم، وجامعة بتربية بجامعة وتربية، ووحدة بوحدة، وحريّة بحريّة، وواجب بواجب، ونظام بنظام، وجيش بجيش، نعم: لن يقهر المشروع (الإسرائيلي) إلاّ مشروع قومي (ص99)
ترك المفكّر والباحث الكبير الدكتور أنيس صايغ كتابه الأخير بما ضمّه من مقالات، ومقابلات، ومشاركات، ليكون دليل عمل، ونهج عمل، وبرنامج حياة لكل مثقف عربي، وفلسطيني بخاصة، ولكل مقاوم عربي وفلسطيني.
وها نحن نقف أمام التاريخ الشؤم 13 أيلول عام 1993 و13 أيلول 2013 والمسيرة خسارة فادحة وفاضحة لأنها سير وراء السراب والخداع الأمريكي – الصهيوني المتغطي بالتخاذل (العربي الرسمي).
يضع المفكر الكبير التقدمي القومي المقاوم فكرا وثقافة أنيس صايغ ورؤية ودورا لا يمكن اختصاره أو اختزاله للمثقف الفلسطيني بخاصة والعربي بعامة، وهذا الدور مُكلف ومخسّر على الصعيد الشخصي ولكنه مربح وطنيا وأخلاقيا وفكريّا.
قراءة ما يضمه الكتاب يُعمّق وعي من ساروا على طريق ثقافة المقاومة، ووعيها، وخيارها الذي لا خيار غيره، لأنه وحده خيار تحرير فلسطين، والنهوض بوحدة الأمة وإزالة الكيان الصهيوني من طريقها.
________
تابعونا على:
- على موقعنا:
- توتير:
- فيس بوك:
https://www.facebook.com/kanaanonline/
- ملاحظة من “كنعان”:
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.
- عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
- يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org