نشرة “كنعان”، 28 سبتمبر 2023

السنة الثالثة والعشرون – العدد 6639

في هذا العدد:

عادل سماره:

  • انتخابات البلديات 1976=2023
  • هل لإيران عملاء فلسطينيين وعرباً!

العلاقات السعودية الأميركية: إغراءات واشنطن باتفاق دفاعي مقابل التطبيع، د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

الليلة من الخارج”: عن الذين قتلوا ألدو مورو في الوقت المناسب، سعيد محمّد

✺ ✺ ✺

عادل سماره:

(1)

انتخابات البلديات 1976=2023

ترددت أنباء عن زيارات للجنة الانتخابات من رام الله إلى قطاع غزة من أجل إجراء الانتخابات البلدية. ولعل هذا مدخلاً لدرجة معينة لتجاوز الانقسام على الأقل على الصعيد الاجتماعي كي لا نصبح باكستان الشرقية بنجلادش والغربية باكستان.

اعادني الخبر الى الانتخابات البلدية عام 1976.
قرر الاحتلال عام 1976 إجراء انتخابات للبلديات في المحتل 1967 الضفة والقطاع ودار جدل بين الفصائل حينها بين موافق على الانتخابات أو رافض لها حيث وافق الجميع، باستثناء الجبهة الشعبية، وكتبت حينها أن من حقنا إجراء الانتخابات حتى لو أن العدو سمح بذلك لأن المعيار هل نرفض ممارسة هذا الحق فقط لأن العدو سمح به أو لنقل أُرغم عليه!
كتبت حينها تحليلاً عن الأمر. وذات يوم كنت مع رفيق قديم في الجبهة الديمقراطية (ع.ش) ممن دافعت عنه وحتى أعدت عضويته للتنظيم بعد أن كان مفصولاً ولكنه طعنني. كنا في سيارته ومررنا صدفة عن بيت الراحل كريم خلف رئيس بلدية رام الله حينها، فقلنا لنزور ابا الأمجد لبعض الحديث فوجدنا عنده معظم قيادات الحركة الوطنية واشخاص يفكرون بالترشح لانتخابات البلديات وقالوا جيد أنكما أتيتما فنحن نناقش المشاركة في انتخابات البلديات أم لا.
قلت لدي تحليل مكتوب للمسألة، فذهبنا انا والرفيق المذكور وأحضرنا التحليل وناقشناه جميعاً وخرجنا بقرار المشاركة في الانتخابات بقوائم وطنية تؤيد م.ت.ف.
وأرسلت النص إلى الرفاق في الجبهة الديمقراطية في الشام، فكان الرد:
“يا رفيق تحليلك متقدم على تحليلنا، ولكن، المفروض أن ترسله لنا أولا، ثم يُعرض باسم الجبهة؟”
طبعاً رفضت الأسلوب لأنني دائماً أؤمن بأن القيادي في الميدان هو صاحب القرار وبغير هذا إشكالية بيروقراطية، وطبعاً كان هذا من اسباب مغادرتي لذلك الفصيل.
وكما ذكرت أعلاه، كنت وحدي المدافع عن حق المرأة في الانتخاب والترشح ونصف المقاعد…الخ، كما وطبعا هوجمت كثيراً، بينما لا الأردن ولا م.ت.ف  وافقوا على  كامل حق المرأة وحصلت الانتخابات بالطبع. وكما ذكرت الصديقة ريموندا الطويل، أنه حتى صحيفة جيروزالم بوست الصهيونية تساءلت عن هذا الرجل الذي كان اسيرا وعارض الجميع.

البلديات والمجالس القروية مؤسسة ربما الأهم في المجتمع إذا كانت في ايدي أمينه لا في ايدي لصوص تدعمهم فصائل أو في تجمع درويشي التفكير لا يقوم بأية مساءلة! هذه المجالس على علاقة مباشرة ويومية بكل المجتمع بينما البرلمانات تنشط علاقتها عشية الانتخابات وتصبح باردة وروتينية بعد الفوز.

والسؤال، هل القوى والفصائل ومختلف القطاعات المجتمعية آخذة في الاعتبار أننا في وطن محتل وبالتالي ليكن التنافس على الخدمة الأفضل أم على “الهبرة/قطعة اللحم” الأكبر واللهف المالي! 

(2)

هل لإيران عملاء فلسطينيين وعرباً!

مدخل: حينما كنت في الثالث الثانوي، كان معلم يوزع اوراق إمتحان.نادى إسم (أ) ، فنهض (ب) لاستلام الورقة، فقال المعلم: لِ (ب) لماذا أنت، فرد ثالث وهو أيضا طالب في الصف هو عصام الرمحي مازحاً وقال::يااستاذ (ب) بيشتغل عند(أ) “
منذ فترة وأنا أُشدِّد وأُركِّز على البعد العروبي وحتيمة النهوض العروبي ليكون لنا موقعنا المناسب عالمياً وخاصة حقنا في ثرواتنا. ولاحظت أنني صرت هدفاً لمتعدِّد وطبعاً انا لا اتراجع.
وخلال ذلك، كتبت بعض النقد لإيران وبعض الدفاع عن العراق وعن استغلال إيران للعراق وخاصة مع سلطة عراقية هي امريكية بلا رتوش وكتبت أن اساس الصراع هو دعوة الخميني لتصدير الثورة وبأن من بدأ الحرب ليس أساس المشكلة مع انني مقتنع ان إيران بدأت حيث قصفت طائرة إيرانية مواقع عراقية واسقطها العراق واسر الطيار، ومع ذلك فأساس الحرب هو تصدير الثورة بغطاء ديني جوهره طائفي وقلت من حق إيران ان تكون لها سياسة جيوبوليتيك أي هيمنة إقليمية ولكن من حقنا رفض ذلك. ولم أُنكر مساهمة إيران في دعم المحور ماليا وسلاحاً. وباختصار قلت دائماً لست ضد إيران إلا بمقدار كونها ضد العرب.
ما فاجئني أن لم يرد أي إيراني بل إن صديق إيراني كتب لي “يا ريت ما ترسل لي مقالاتك” وهذا شكل مؤدب. ولكن الذين ردوا فلسطينيين وعرباً وأغلبهم يسار أو ماركسيين أو قوميين دفاعاً عن إيران وهجوما على العرب بأنه لا يوجد مشروع عربي. ولنفرض لا، فهل إيران هي مشروعنا! بل ووصل بعضهم لاتهامي أنني ضد الدين! وخاصة أنني أكتب ضد إرهابيي الدين السياسي لأنني أفصل بين الدين السياسي الذي يختطف القرآن كدستور لحزب وبين الدين الإيماني، وتحديداً حين كتبت مقالاً بعنوان: “ماذا لو انتصرت عائشة على علي” والمقال واضح بمعنى كيف كان سيصبح وضع المرأة العربية لو انتصرت عائشة.
وعليه قامت القيامة وخاصة من ماركسيين: كيف تقارن عائشة بعلي!!! يا لطيييييف، وما المشكلة. لا أعتقد أن هؤلاء مدفوعين بمحبة الإمام علي، بل بالفزع بانه إذا “زعلت/غضبت إيران بيموتوا العرب” الله لا يبارك في أمة تموت لأن أخرى لم تحميها! ما هذا التهافت! منذ آلاف السنين والناس تناقش وتتجادل في وجود الله!

لاحظت من ذلك أنهم مرتعبون من أي تلميح نقدي على إيران وكتب بعضهم:
أصلا لا يوجد مشروع عربي.
لولا إيران لضاعت سوريا
لولا إيران لضاعت فلسطين
لولا إيران لضاعت العراق
طبعاً ضحكت بالمطلق على العراق. لنفرض سوريا وفلسطين نعم، ربما، ولكن اين العراق!!!!هل يوجد عراق!!!
هذه أل (لولا) برايي بوضوح خلفها ما يلي:
إما أن هؤلاء لا تاريخا نضاليا لهم كأشخاص وبالتالي ينبهرون بإيران التي تبني بلدها وهذا حقها. ويكرهون النقد من شخص له تجربة ودور عروبيين.
والمضحك أن أحد عملاء محور ا.ل.م.ق.ا.و.م.ة يتهمني بالتطبيع!!! ولهذا حديث.
وإما أنهم في تخليط بين الشيوعية والطائفية الشيعية.
وإما انهم يتعيَّشون من إيران.
وهذا أعاد لذهني عام 1958 حينما توحدت مصر وسوريا فأرسل الإمام البدر برقية لعبد الناصر تقول: “ضُمُّونا إليكم قبل أن تنفضُّوا”، وانضم اليمن بشكل كونفدرالي للوحدة. وحينما حصل الانفصال 1961 كتب الإمام البدر قصيدة هجاء لعبد الناصر وفك الوحدة!
المهم في الأمر أنه حينما قام الراحل عبد الله السلال بانقلاب وأزاح البدر وأعلن الجمهورية بدل الإمامة (إن لم أخطىْ 1961 ) أشعلت السعودية الحرب في اليمن داعمة الإمام البدر ضد مصر عبد الناصر داعمة النظام الجمهوري بقيادة الراحل عبد الله السلال.
حينها كانت القبائل تقول للإمام البدر:
“يا دِقيق/أي طيحن، يا بنجمهر/أي ننضم للجمهوريين”.
وهذا يبدو حال المتطوعين للدفاع عن إيران بكل العَمى.
لن يدرك هؤلاء أن لا دولة في العالم تدافع عن أخرى.
ومع ذلك لهم الحق في حتى الانتماء لإيران حتى طائفياً، ولكن ليس لهم الحق في التكفير بالعروبة، ومحاولاتهم التأكيد بأن لا يوجد مشروع عروبي لأن معنى هذا: محظور العمل لبلورة مشروع عروبي. وهنا نقول لهم باللهجة اللبنانية: “لايا شبيييييب هيك كثيييير”!

✺ ✺ ✺

العلاقات السعودية الأميركية:

إغراءات واشنطن باتفاق دفاعي مقابل التطبيع

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

            تعتبر الحكومات الأميركية المتعاقبة أن جوهر علاقاتها مع الكيان السياسي في السعودية هو “علاقة أمنية طويلة الأجل”، لكنها دوما ما كانت تشهد بعض التجاذب، لخشية الأخيرة من تراجع مكانتها في الاستراتيجية الكونية الأميركية، إذ سرعان ما “تتطوع” لتقديم العون المالي، والبشري عند الضرورة، كقطب مساعد لبسط الهيمنة الأميركية، كما شهدت ساحات عالمية عديدة امتدادا من أفغانستان وليس انتهاء بنيكاراغوا والبوسنة (الاقتباس من تقرير لوزارة الخارجية الأميركية بعنوان “علاقات الولايات المتحدة مع السعودية”، بتاريخ 11 أيار/مايو 2022).

            وفي وقت لاحق، عدّلت الخارجية الأميركية مبتغاها من العلاقة مع السعودية بأنها تتشاطر والأهداف الأميركية في “رسم القضايا السياسية والأمنية، ومكافحة الإرهاب، والاقتصادية وقضايا الطاقة، بما في ذلك ابتكار الطاقة النظيفة، لتعزيز رؤيتنا المشتركة لشرق أوسط أكثر سلامًا، وأمنًا وازدهارًا واستقرارًا”. (تقرير وزارة الخارجية بعنوان “‘علاقة الولايات المتحدة والسعودية: 8 عقود من الشراكة”، 6 حويران/يونيو 2023).

            بالمقابل، يجزم الجانب الرسمي السعودي بأن العلاقة مع الولايات المتحدة تستند إلى “أسس راسخة مبنية على الاحترام والتعاون المتبادل والمصالح المشتركة”، خصوصاً بعد انخراطها وقبولها في مجموعة G-20 الصناعية، وعقب زيارة الملك سلمان لواشنطن في أيلول/سبتمبر 2015 (تقرير لوكالة الأنباء السعودية، واس، 15 تموز/يوليو 2022).

            تطورت طبيعة العلاقات اطراداً باقتراب الرياض من واشنطن بوتائر أسرع وتقديم معدلات أكبر من “الـخدمات”، وأنها لا تكلّ عن جهود تطويع الإقليم وما بعده للاصطفاف وراء “السيّد الأميركي”، بدءاّ بنقل مصر من مرحلة “الجمهورية العربية المتحدة” إلى الصلح المنفرد مع عدوّها القومي، و”تسويق” تبعيتها للاقتصاد الأميركي بالقضاء تدريجياً على مكتسبات آليات التصنيع في القطاع العام وإعلاء نهم الاستهلاك عوضاً عن التنمية الداخلية.

شددت واشنطن على اختزال العلاقة مع الرياض، منذ مطلع الألفية الثانية، إلى مستويات “ترتيبات أمنية” في الإقليم، ولاتزال السعودية تحتل المرتبة الأولى كأكبر مشترٍ للمعدات العسكرية الأميركية في العالم. ولم تعد واشنطن تولي الأهمية السابقة لمصادر الطاقة في الجزيرة العربية بعد بلوغها المرتبة الأولى عالميا في استخراج وتصدير النفط.

            دخلت العلاقات الثنائية بين الرياض وواشنطن أطواراً متعددة منذئذ، نتيجة تطورات القوة العسكرية والاقتصادية الأميركية، وشهدت بعض التجاذب إلى أن بلغت مرحلة تعرّضها إلى هزات وارتجاجات بعد صعود ولي العهد محمد بن سلمان، وانضمام الرياض إلى مجموعة “أوبك +” التي تضم روسيا لخفض انتاج النفط بمعدل مليوني برميل يومياً.

مسار صعود ولي العهد السعودي دشّنه بإبعاد الطاقم “القيادي التقليدي” في الرياض، والموالي بالكامل لواشنطن ولندن، عن مراكز القوى وصناعة القرار، وما لحقه من تداعيات نتيجة اغتيال جمال خاشقجي، في 2 تشرين الأول/أكتوبر 2018، والتي على أثرها أصدر الرئيس الأميركي جو بايدن جملته الشهيرة بأن السعودية تحت “وصاية” محمد بن سلمان أضحت “منبوذة” عالميا، متوعّدا بمعاقبته.

            بيد أن المصالح الأميركية العليا اقتضت تراجع الرئيس بايدن بعض الشيء عن معارضته لتصرفات ولي العهد الجديد، وما لبث أن قام بزيارة رسمية للقاء الأخير في جدة لتهدئة العلاقات المتوتّرة، في 16 تموز/يوليو 2022، أسفرت عن “توقيع اتفاقية بشأن شبكات اتصالات السعودية، ووافقت الرياض على فتح مجالها الجوي أمام الرحلات الجوية المدنية الإسرائيلية مقابل السيطرة السعودية على جزيرتي تيران وصنافير في البحر الأحمر، كما تم تمديد الهدنة في اليمن لمدة شهرين آخرين. ومع ذلك غادر بايدن جدّة من دون اتفاق بشأن تعزيز إنتاج النفط أو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهما هدفان رئيسيان للزيارة”، بحسب مراكز الأبحاث المقربة من الرياض.

            على الرغم مما شهدته الفترة الزمنية القريبة من انفراج نسبيّ في العلاقات بين الرياض وطهران، إلا أن الأولى ما زالت تطرق ما استطاعت من أبواب في مراكز القوى العالمية للتحذير من “امتلاك إيران سلاحاً نووياً”، غير عابئة بتأكيدات وفتاوى صدرت عن المرشد الأعلى يحرّم فيها اقتناء أسلحة نووية.

            ويأتي ذلك في سياق دعم “مخاوف إسرائيل” من فقدانها المركز الأوحد نووياً في عموم المنطقة، لتبدأ الرياض باتخاذ خطوات موازية وإعرابها عن “حتمية تطبيع العلاقات مع تل أبيب”، طمعاً فيما تعتقده أنه إمكانية تسخير نفوذ اللوبي الصهيوني في أميركا لخدمة سياسة ولي العهد.

            ومن أبرز التطورات في هذا الشأن كانت مقابلة متلفزة مع الأمير الشاب، سُجّلت مسبقاً، أجراها باللغة الإنكليزية التي يتقنها “بطلاقة”، مع شبكة “فوكس نيوز” وهي المنبر الرئيسي لتيار اليمين الأميركي المتشدّد، وللمحافظين الجدد على السواء.

            موعد البث جاء بعد وقت قصير من لقاء الرئيس الأميركي جو بايدن مع بنيامين نتنياهو، اثناء وجودهما في نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، الأمر الذي طغى على مقابلة الأمير السعودي في وسائل الإعلام.

            اللافت في تلك المقابلة كان خفّة اهتمام وسائل الإعلام الأميركية المختلفة، واكتفت معظمها بنقل تسريب شبكة “فوكس نيوز” لمقتطفات منها قبل موعد البث، باستثناء إطراء الشبكة عينها والترويج للمقابلة بأنها “المقابلة الأولى التي يجريها مع شبكة إخبارية أميركية رئيسية منذ عام 2019” (موقع “فوكس نيوز” الإلكتروني، 18 أيلول/سبتمبر 2023).

            ربما أهم وأخطر ما جاء من تصريحات في المقابلة المذكورة ، طمأنة ابن سلمان للمتلقي الأميركي، وامتداداَ الغربي، بعزمه تطبيع العلاقات مع “تل أبيب” والتي “يقترب منها يوماً بعد يوم”، بحسب المادة الإعلامية المنشورة، وذلك في سياق نهج ولي العهد في “العلاج بالصدمة” (معهد “كارنيغي”، 27 تشرين الأول/أكتوبر 2020).

            أيضاً، وجّه ابن سلمان سهام انتقاداته لإيران من زاوية رجائه لواشنطن بمعاملته أفضل عما ذي قبل، خصوصاً بطرحه سابقاً على الرئيس بايدن خلال زيارته المذكورة لجدّة طالباً المساعدة الأميركية لإنشاء بنية تحتية للأبحاث النووية، “أسوة بإيران” التي “إن امتلكت القنبلة النووية فبنبغي على الرياض حيازتها أيضاً”.

            معظم مراكز الأبحاث والنخب السياسية الأميركية تحذر دوماً من “انتشار الأسلحة النووية” في الشرق الأوسط، مع إقرارها بأن “إسرائيل تمتلك أكثر من 200 رأس نووي”، لكنها لا تخضع للمساءلة أو المراقبة.

            بيد أن المقابلة المذكورة لا تشكل المرة الأولى التي يتم فيها “طلب مسؤول سعودي” الحصول على قنبلة نووية. إذ قال ابن سلمان في تصريحات أجراها مع شبكة “سي بي أس” الأميركية عام 2018، إنه إذا طوّرت إيران قنبلة نووية فستفعل المملكة العربية السعودية الشيء نفسه في أسرع وقت.

            وتبعه رئيس جهاز الاستخبارات السعودية الأسبق الأمير تركي الفيصل بتصريح مماثل لشبكة “أم أس أن بي سي” الأميركية قائلاً: ” يتحتم علينا القيام بكل ما هو ضروري للدفاع عن أنفسنا، بما في ذلك تطوير قنبلة نووية، لمواجهة احتمال وجود إيران مسلحة نوويًا” (موقع “سي أن أن” الإلكتروني العربي، 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2021).

            أميركياً، لم يُرصد أي تحوّل لافت في الموقف الرسمي من “عدم انتشار الأسلحة النووية”، باستثناء “إسرائيل”. وأبعد ما تذهب إليه دوائر صنع القرار في واشنطن هو التماهي مع “النموذج الإماراتي”، إذ يجري تطوير قدرات نووية دون تخصيب اليورانيوم، بل الحصول عليه من الخارج بكميات تتناسب مع التطبيقات المدنية. يشار أيضاً إلى أن “النموذج الإماراتي” يحظى بتأييد الثنائي واشنطن وتل أبيب، وديمومة التنسيق بينهما.

            في الشق القانوني الصرف، يقيّد القانون الفيدرالي 22 ساري المفعول السلطة التنفيذية الأميركية من نشر التقنية النووية ويعتبره “تهديداً مميتاً للأمن والمصالح الأميركية، وكذلك لاستمرار التوجّه العالمي نحو إرساء السلام والتنمية الدوليين”.

            لكن في ظل الصراع الكوني بين الولايات المتحدة من جهة، وكلّ من روسيا والصين اللتين تتقدّمان بثبات في شبه الجزيرة العربية، قد تنحو باتجاه تحوّل الرياض شرقاً لتبرم صفقة مماثلة مع الصين التي ستعطي شروطاً أفضل للسعودية.

            ربما أفضل الخيارات المتداولة بشدة في العاصمة الأميركية يتمحور حول عقد معاهدة دفاع مشترك مع الرياض لكن بشروط أميركية تبقي على “تفوّق الأسلحة الإسرائيلية”.

تسارع ادارة بايدن لتحقيق اختراق بالتوصّل الى تطبيع سعودي – إسرائيلي وتلوح بتقديم مغريات لولي العهد للإقدام عليها، لكن شروط السعودية لا تزال تواجه عقبات في الداخل الأميركي، ولطبيعة تكوين حكومة نتنياهو العاجزة عن تقديم الحد الأدنى الذي يمنح السعودية الغطاء الذي تحتاجه لتسويق التطبيع، لا يبدو أن فرص بايدن متاحة بشكل وافٍ لتحقيق هكذا إنجاز لتوظيفه في الانتخابات الرئاسية  المقبلة .

:::::

مركز الدراسات الأميركية والعربية، واشنطن

الموقع الإلكتروني:

http://thinktankmonitor.org/

✺ ✺ ✺

الليلة من الخارج”: عن الذين قتلوا ألدو مورو في الوقت المناسب

سعيد محمّد

بوستر المسلسل

يدين المخرج الإيطالي المخضرم ماركو بيلوكيو في المسلسل التلفزيوني “الليلة من الخارج” الجلادين الحقيقيين، لا أولئك الذين ضغطوا على الزناد، لقتل السياسي الإيطالي البارز ألدو مورو عام 1978: رفاقه وأصدقاؤه وحلفاؤه في النخبة السياسة الحاكمة -يميناً ويساراً وفي الفاتيكان أيضاً – الذين أداروا ظهورهم له، والأمريكيّين الأوغاد الذين أرادوا التضحية بالرجل في (الوقت المناسب) للمحافظة على استقرار إيطاليا في ​عهدتهم، ومسخ الدولة الإيطالية الكسول والمخترق والفاشل أبداً، وماركسيي الألوية الحمراء الكئيبين الذين عجزوا عن إدراك أبعاد اللعبة الاستراتيجيّة التي تورطوا بها. يفضحهم بيلوكيو جميعاً في سرد بصريّ عبقريّ، يجمع قطع الأحجية كمن يرسم بالفسيفساء لوحة جدارية هائلة يتقاطع فيها السياسي بالإنساني على خلفيّة من مزاج إيطالي طاغ، فتكشف، وتقنع، وتصدم، وتبهر، وتبكي في آن واحد، تماماً كما يليق بأوبرا كلاسيكيّة خالدة.

سعيد محمّد – لندن

إن أقسى ما يمكن قوله عن شخص ما هو أنّه مات في الوقت المناسب

إلياس كانيتي   

في حدود التاسعة من صباح السادس عشر من مارس/ آذار 1978 وقعت سيارتان حكوميتان – فيات 130 زرقاء، وألفا روميو بيضاء – كانتا تعبران شارعاً جانبيّاً هادئاً في العاصمة الإيطاليّة روما بكمين بين سيارتين أجبرتاهما على التوقف، لينفجر تجاههما وابل من رصاص مهاجمين يرتدون الزي الرسمي ل أليطاليا – شركة الطيران الوطنية -.

تلك السيارتان كانتا موكب ألدو مورو – رئيس وزراء الجمهوريّة لخمس مرات، ورئيس الحزب الديمقراطي المسيحي، التنظيم السياسيّ النخبوي المهيمن على السياسية في إيطاليا -.

مورو كان في طريقه رفقة حرسه إلى مقر الحزب، ومن ثم إلى البرلمان الإيطالي حيث سيعلن رفيقه في الحزب، جوليو أندريوتي، أسماء حكومته (الرابعة) المؤيدة هذه المرّة بثقة موعودة من نواب الحزب الشيوعي الإيطالي وفق تفاهم لم يكن عرّابه سوى مورو شخصياً.

وبينما صدى ضجيج المدافع الرشاشة لا يزال يتردد عبر شارع فيا فاني، تم نقل مورو خلال ثوان إلى سيارة كانت تنتظر جانباً، فيما قضى أربعة من حراسه على الفور، وتوفي الخامس متأثراً بجراحه البليغة لدى نقله إلى المستشفى.  

كانت تلك اللّحظات – ثلاثة دقائق – بداية دراميّة تليق بحادثة، بخلفياتها وتفاصيلها وأسرارها ونهايتها المفجعة – بمقتل مورو -، أصبحت للإيطاليين علامة على حقبة تاريخية كاملة، كما كانت مثلاً حادثة الحادي عشر من سبتمبر بالنسبة للأمريكيين لاحقاً.  يتذكّر الإيطاليون أبناء الجيل الذي عاش حادثة الاختطاف أين كان كل منهم ذلك الصباح عندما تواردت الأنباء عن اختطاف رئيس الحزب الحاكم ونسّاج علاقات القوّة الأهم في تاريخ بلادهم الحديث، حيث تدافع الأهالي لجلب أولادهم من المدارس وانزوى الناس إلى بيوتهم خوفاً من الأسوأ.

لكن رغم مرور خمسة وأربعين عاماً، والعديد من لجان التحقيق البرلمانية، وعشرات الاستجوابات التحقيقات القضائية، بل والإدانات، كما مئات الكتب والمقالات والأفلام، فإن الجدل لم يحسم تماماً حول كيف انتهى هذا السياسي المعتدل وأنظف رجال الطبقة القذرة التي حكمت إيطاليا وفق الهوى الأمريكي منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية وحيداً ومعزولاً – في التاسع من مايو / أيّار 1978 وبعد أربعة وخمسين يوماً من الاحتجاز – ثم مقتولاً وملقى في الصندوق الخلفي لسيارة رينو حمراء حقيرة تركت في منتصف المسافة بين مقري الحزبين الديمقراطي المسيحي والشيوعي -،  وبقيت ألغاز “قضيّة مورو” تلقي بظلالها الطويلة على إيطاليا إلى اليوم.

في نهاية عقد السبعينيات من القرن العشرين كانت إيطاليا تعيش في ذروة ما يشبه حرباً أهليّة بين اليمين واليسار عرفت ب”سنوات الرصاص” التي استمرت بين أواخر الستينيات وأوائل الثمانينيات، وشهدت أعمال عنف سياسي وإرهاب واعتقالات وانقسامات. ألدو مورو، أراد وقتها كسر دوامة الاستقطاب بين الإيطاليين عبر نسج تحالف حد أدنى بين ورثة الفاشيست في الحزب الديمقراطي المسيحي المدعومين من واشنطن، وورثة المقاومة الإيطاليّة في الحزب الشيوعي المدعومين بدورهم من موسكو فيما سمي لاحقاً ب”التسوية التاريخيّة”، وذلك تجنباً للأسوأ المتوقع – وهو انقلاب عسكري فاشيستيّ على نسق انقلاب بينوشيه الدموي في تشيلي 1973. سافر مورو في العام 1974 إلى الولايات المتحدة – وكان وقتها وزيراً للخارجية – ليستمزج واشنطن بشأن فكرة التحالف تلك. ووفقاً لما قالته السيدة إلينور شيافاريلي، أرملة السيد مورو، وكذلك معاونوه، فإن اجتماعه حينئذ مع هنري كيسنجر، وزير الخارجيّة الأمريكيّ أزعجه كثيرا لدرجة أنه شعر بالامتعاض وكاد يتقيأ، وعزم بعدها على ترك السياسة برمتها. لم يقتنع الأمريكيون وقتها بتسوية مورو، وحذّروه من العبث بما أسموه الاستقرار السياسي في إيطاليا الذي تم تأسيسه في مؤتمر يالطا – أي الهيمنة الأمريكيّة على إيطاليا عبر انفراد اليمين الموالي لها بالسلطة -. وكرر كيسنجر تحذيره لمورو من المضي في خططه لإشراك الشيوعيين بالسلطة عام 1976 ايضاً، وقال له بصلف: ” عليك أن تضع حداً لخطتك السياسية بحشد جميع القوى السياسيّة في بلدك للعمل معاً. الآن يجب تتوقف عن محاولة تحقيق هذا الأمر، أو إنّك ستعاقب بشدة”.

على أن قيادات الحزب الدّيمقراطي المسيحي، وبابا الفاتيكان – وكان حينها صديقاً قريباً لمورو – أصرت على تولى مورو منصب رئاسة الحزب، ومنحه الصلاحيّة لبناء تفاهم مع الشيوعيين بشأن منح الثقة لحكومة يشكلها اليمين دون أن يكون اليسار ممثلاً فيها مباشرة في المناصب الرئيسيّة.

أُختطف مورو صبيحة يوم أداء تلك الحكومة للقسم، وأعلن تنظيم الألوية الحمراء – الماركسي اللينيني – المسؤوليّة عن ذلك، وقال إن مورو سيخضع للاستجواب من قبل محكمة شعبيّة تنظر في أمره.

بالطبع، كان الأمر مثيراً للريبة في كل تفاصيله. فكيف يمكن لمجموعة من العمال والطلبة تنفيذ عمليّة اختطاف لأهم أحد السياسيين في البلاد بكل هذه الدّقة المحترفة في بلاد شهرتها الفوضى وسوء الأداء؟ ولماذا ترك الرجل الذي يشبّك الخطوط لتفاهم تاريخي دون حماية كافية وفي سيارة عادية غير مصفحة؟ وكيف تفشل كل الأجهزة الأمنية والعسكريّة التي تراقب كل كبيرة وصغيرة في البلاد من تحديد موقع احتجاز رئيس الحزب الحاكم بعد 54 يوماً؟ وكيف جاءت الشجاعة لمسخ الدّولة الإيطالية التي تتعايش فيها جنباً إلى جنب المافيات وعملاء المخابرات وقساوسة الفاتيكان لتتخذ موقفاً صارماً ونهائياً برفض التفاوض مع المختطفين؟ وكيف طاب لرفاق مورو في الحزب الذين كانوا تلاميذه وأتباعه وأصدقاءه وحلفاؤه أن يسمحوا بتركه، بل ويشاركوا في إيقاع حكم الموت به؟

تبدو كل هذه الأسئلة والتفاصيل – وجميعها مهمة ورمزية – وكأنّها قطع متفرقة ومرتبكة من تراجيديا شاركت فيها أطراف كثيرة، داخليّة وخارجيّة، في اليمين واليسار، من السلطة ومن الخاطفين، وبدا لو أنّها تفاهمت بشكل أو بآخر على أن تغييب مورو في تلك اللحظة من التاريخ أمر (مناسب) للجميع. لقد كان كما مسيح فاد، ينبغي التضحية به لمسح خطايا كل البشر الآثمين.

فالأمريكيّون الذين يحكمون إيطاليا فعلياً لم يريدوا لذلك التفاهم بأن يتحقق وأرسلت حكومة جيمي كارتر خبيراً لإدارة الأزمة في روما يدعى ستيف بيتشنيك اعترف بعد ثلاثين عاماً بأن “الأيادي الأمريكيّة ملوثة بدماء مورو” وأن مهمته كانت التلاعب بتفكير الخاطفين للتخلص من مورو لا إنقاذه –  كما وجهت إدانة رسميّة من القضاء الإيطالي لأندريوتي بتدبير حادثة قتل الصحافي الإيطالي كارمين بيكوريلي لكشفه دور شبكة غلاديو اليمينية السريّة التي أدارتها المخابرات الأمريكية بهدف ضمان بقاء السلطة بيد اليمين الإيطالي في اختطاف وتصفية مورو- ، والسوفيات بدورهم لم يحبذوا فكرة منح الشيوعيين الغطاء لحكومات اليمين المتأمرك، فيما أعضاء الحزب الحاكم بمن فيهم أندريوتي، رئيس الوزراء، وفرانشيسكو غوسيغا، وزير الداخليّة، وكبار رجالات الجيش والأمن الفاشيو الهوى – ومعظمهم تبين أنهم كانوا أعضاء في محفل ماسوني يدعى (بي2) -حريصون على عدم اغضاب واشنطن بأي شكل أو احتمال كشف أمر خيانتهم لو اعترف مورو بأسرار الدولة، وهم طلبوا إلى المافيا الإيطالية التي تطوعت للعثور على مورو بأن تكف يدها عن الأمر وتترك الأمر لأجهزة الدّولة، واكتفى الفاتيكان بالدّعوات للصلاة، وجمع التبرعات من المؤمنين، وتوجيه الرجاء للخاطفين بإطلاق أسيرهم دون شروط، وتجنبت عائلة مورو المشهد العام بعد تأكيدات لها من الزعماء الإيطاليين بمن فيهم الرئيس الإيطالي حينها بأن الدّولة ستبذل كل جهد ممكن لإنقاذ حياة الزعيم المحبوب، وتنطع الشيوعيون إلى الإعلان عن موقف رافض لكل تفاهم مع الخاطفين خشية أن يحسبوا على ماركسيي الألوية الحمراء عند دفع الحساب، فيما تغلّب رأي الفئة قصيرة النظر استراتيجياً على العقلاء في الألوية الحمراء، فلم يحسنوا قراءة نوايا الحكومة الإيطالية وراعيها الأمريكي، ووقعوا في الفخ الذي ظنوا أنهم أعدوه لها.  

صانع الأفلام الإيطالي الأسطورة ماركو بيلوكيو (83 عاماً) يسرد هذه التراجيديا الإيطاليّة في مسلسل تحفة من ست ساعات تلفزيونية – في بريطانيا على القناة الرابعة، وفي إيطاليا كفيلم سينمائيّ من جزئين وأيضاً كمسلسل على القناة الأولى بالتلفزيون الإيطالي، وعلى منصة نيتفليكس -. و”الليلة” في العنوان أي ليلة مقتل مورو و”من الخارج” إشارة إلى أن السرديّة تغطي الديناميات الخارجية للحادثة التي سبق وغطى منطقها الدّاخلي في فيلمين سابقين أحدهما وثائقي (1995) وآخر روائي شهير (صباح الخير بالليل – 2003).

استدعى بيلوكيو لمسلسله طاقم عمل متألق: فابريزيو غيفوني الذي يلمع في أداء شخصيّة مورو، وتوني سيرفيلو الذي يلعب دور البابا بولس السادس – صديق مورو -، ومارغريتا باي (إلينورا أرملة مورو)، وفاوستو روسو أليسي (وزير الداخلية فرانشيسكو كوسيغا)، وفابريزيو كونتري (رئيس الوزراء جوليو أندريوتي)، ودانييلا مارا (أدريانا فاراندا من الألوية الحمراء) وغيرهم من النجوم. والحقيقة أن كل الممثلين بمن فيهم الكومبارس قدموا، بتوجيه بيلوكيو، عملاً لا ينسى.

تحكى كل حلقة “الليلة من الخارج” من وجهة نظر أحد الشخصيات الرئيسيّة في أجواء الحادثة:  

مورو نفسه، الذي يبدو فابريزيو غيفوني وكأنّه قد تقمّص روحه بالفعل – وهو هنا يؤدي ذات الشخصية للمرة الثالثة بعد فيلم ومسرحيّة سابقين – : ذلك الرقيّ، والهدوء، والتروي، والتواضع، والمشاعر العائلية الدّفاقة التي تليق بيوليوس قيصر معاصر سيخونه أقرب رفاقه، وأيضاً تلك النظرة الحزينة التي تجمع بين ثقة العارف بخلفيات العالم، والسخرية المريرة من ضعف البشر المدعين.

كوسيغا الذي يجعله بيلوكيو كما شخصية مستلة من مأساة شكسبيرية، فكأنّه الخائن ماكبث الذي قتل ملكه، فتسيطر عليه الرؤى الكابوسية لدماء على يديه لا يستطيع التخلص منها، وتلاحقه على الجدران حيث تغطي الدماء لحظة موت مورو أجزاء خارطة كبيرة لروما في مكتبه بالداخلية.

وأندريوتي الشرير، المكيافيلي المحض، الذي مسألة استمراره بالسلطة – بما تتطلبه من خضوع للأمريكي وللقوى الفاشيستية – مقدّمة حتى فوق مشاعره الشخصيّة نحو مورو.

والبابا بولص السادس، الذي كان صديقاً شخصياً لمورو، لكنّه يتوانى عن الخروج على الحدود التي رسمها الأمريكيّون لإنقاذ صديقه، ويكتفى بالصلوات وتوجيه النداءات للخاطفين دون رجال الحكم الممسكين بالسلطة باسم الإيمان المسيحيّ.

ومارغريتا باي التي تمنح شخصية إليونورا مورو تلك الرفعة الارستقراطيّة الملمح والحزن الفضيّ بينما تحاول انقاذ حياة زوجها والحفاظ على عائلتها معا خلال تلك الأيام المؤلمة.

وأيضاً عضوا الألوية الحمراء أدريانا فاراندا ورفيقها فاليريو موروتشي (يؤدي الشخصيّة غابرييل مونتيسي) اللذان يشاركا بأدوار مختلفة بالتحضير لعملية الاختطاف ودعمها تالياً، وتتنازعهما التناقضات بين التزامهما الثوري ومشاعرهما الإنسانية، كما اختلاف وجهات نظرهما حول المعنى الاستراتيجي لقتل مورو مقابل إطلاق سراحه. ومن المعروف أن فاراندا كانت ترى في قتل مورو “انتحاراً للألوية الحمراء” لكن دوغمائية الرّفاق الآخرين كانت أقوى منها.   

يرسم بيلوكيو من هذه القطع المتفرقة للحكاية ما يشبه لوحة جداريّة هائلة، تسجّل بدقّة معظم الاحداث التي شهدتها فترة الاختطاف المأساوي لمورو ملوناً إياها بطبقة فنيّة تعطي للشخصيات عمقاً مسرحيّاً تستحقه، وامتزاجاً مبهراً بين السياسي والإنسانيّ، تسندها مقاطع من موسيقات كلاسيكيّة تنطق بروح الألم والتلوث الذي أصاب الأمة الإيطاليّة، بين التّخلي والخيانة على هذا الجانب، والدوغمائية وقصر النظر على الجانب الآخر، ليدفع الثمن في النهاية “الشخص الذي كان الأقل التباساً بين الجميع”، على ما يذهب الكاتب الإيطالي بيير باسوليني.

لقد أدان بيلوكيو في ليلته من الخارج كل الذين تفرقت دماء ألدو مورو بين أيديهم. جلادوه الحقيقيون، وليس أولئك الذين ضغطوا على الزناد: رفاقه وأصدقاؤه وحلفاؤه في النخبة السياسة الحاكمة -يميناً ويساراً، وفي الفاتيكان أيضاً – الذين أداورا ظهورهم له وتآمروا لدفع الخاطفين لقتله، والأمريكيّون الأوغاد الذين أرادوا التضحية بالرجل في الوقت المناسب على مذبح استقرار إيطاليا في عهدتهم، ومسخ الدولة الإيطالية الكسول والمخترق والفاشل الذي أمكن لثلة من الطلبة والهواة هزيمته، وماركسيو الألوية الحمراء الكئيبون الذين عجزوا عن إدراك أبعاد اللعبة الاستراتيجيّة التي تورطوا بها، فكان قتل أسيرهم انتحاراً سياسياً.

بعث مورو من سجنه عدة رسائل نقلها مقاتلو الألوية الحمراء إلى عائلته ورفاقه في الحزب والحكومة يدعوهم فيها إلى العمل لإنقاذ حياته والتفاوض مع الخاطفين، لكنه بعد أن أدرك طبيعة المؤامرة – التي شارك فيها صياغتها الصحافيون عبر مقالاتهم الموجهة – وخيانة الجميع له، طلب إلى زوجته في إحدى رسائله الأخيرة ألا يشارك أحد من جلاديه في جنازته. وهو ما كان، فحمله إلى لحده الأقرباء في القرية الصغيرة توريتا تيبيرينا، حيث موقع منزل العائلة الريفي على بعد 25 ميلا من روما، دون حضور أيّ من رجال الدّولة أو الحزب أو الفاتيكان. وقال بيان تلي على الصحافيين باسم العائلة، أرملة مورو وأبنائه وأحفاده: “العائلة ستنسحب إلى الصمت وتطلب الصمت، أما بالنسبة لحياة ألدو مورو وموته، فليكن الحكم للتاريخ”. لقد قال التاريخ كلمته على لسان ستيف بيتشنيك مبعوث الحكومة الأمريكيّة: “لقد قتلنا ألدو مورو”.

تريلرات المسلسل: كما على تلفزيون القناة الرابعة البريطاني، وأيضاً في مهرجان كان السينمائي العام الماضي

نشر هذا المقال في صفحة الثقافة بجريدة الأخبار اللبنانية عدد الأربعاء 27 سبتمبر 2023

:::::

موقع “الثقافة المضادة”، http://counterculture1968.com

الثّقافة المضادّة – لن يمرّوا: مقالات في السياسة والثقافة

September 26, 2023

________

تابعونا على:

  • على موقعنا:
  • توتير:
  • فيس بوك:

https://www.facebook.com/kanaanonline/

  • ملاحظة من “كنعان”:

“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.

ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.

  • عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
  • يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org