العنف المعرفي في زمن فيروس الكورونا، بقلم ديفيد نيلسون، ترجمة ريما العيسى

من تركة القيود الغربية لمقالة سبيفاك ‘هل يستطيع التابع أن يتكلم’ إلى بديل ‘للنموذج النيوليبرالي للتطور’

يعتبر بحث سبيفاك ‘هل يستطيع التابع أن يتكلم’، والذي نشر ضمن مجموعة  ‘الماركسية وتأويل الثقافة’، ذات التأثير البعيد المدى، دراسة ابداعية حول ‘العنف المعرفي’ (سبيفاك 1988)[i].  كما أنه نص مؤسس للدراسات ما بعد الكولونيالية، وعلى ارتباط وثيق بالنظرية التقاطعية. إلا أن بحث سبيفاك، بالرغم من ابتكاره الخلاق في حينه، يعكس كل من قوة وضعف نظرية ما بعد البنيوية الفرنسية، كما في قراءتها لمفهوم غرامشي ‘للتابع’، أي أن نص سبيفاك ذاته، يجسد ويفصح عن قصور حجاجه. ذلك أن عملها الابداعي يتشرب وبدون تمحيص، عناصر الخطاب الكولونيالي – على غرار الفكر الفرنسي ما بعد البنيوي، في سعيها لتأكيد جدلها بأن الخطاب الكولونيالي يمنع التابع من امتلاك صوت أصيل. يحرك هذا الإرث الملتبس نقائص الدراسات ما بعد الكولونيالية والحقول المتعلقة بها أيضا، تلك الحقول التي تناضل للتصدي للأشكال المحددة للعنف المعرفي في الوقت الراهن من زمن العولمة وفيروس كورونا.

تثمن نظرية ما بعد الكولونيالية بحماسة – كما ماركس، وكما دريدا على وجه التحديد – قوة الطيف في الحاضر، بما تتضمنه من الثقل الفكري المستجلب من الماضي والذي ما نزال ‘متعلقين’ به بالفهوم البوذي، في الحاضر.  تبعا لموضوعة وايتهيد (1932)[ii] العلوم في العالم الحديث، يمكن لهذا الثقل من الماضي أن يصبح مجموعة من الفرضيات اللاواعية التي تمنعنا من رؤية ما هو محدد ومبتكر حول الحاضر. تجادل هذه الافتتاحية القصيرة بأن أعمال سبيفاك حول العنف المعرفي والتابع مقيدة بمنظورها ما بعد البنيوي، والذي يقيد بدوره النظرية ما بعد الكولونيالية المعاصرة. تبعا لذلك، تحتاج الدراسات ما بعد الكولونيالية، وعدد من الحقول المتعلقة بها والمشار إليها تاليا، أن تعيد النظر بأدواتها المفاهيمية الموروثة وأطرها الزمنية، إذا ما كانت لتستجيب كما ينبغي لأشكال العنف المعرفي التي فرضتها العواقب العالمية الوخيمة “لنموذج التنمية النيوليبرالي” (نيلسون، 2020)[iii] على “التابع”. كما تطرح هذه الورقة، مقاربة بديلة تخاطب الأشكال النيوليبرالية المعاصرة للعنف المعرفي، وتسعى لشق طريق نحو بديل مضاد للهيمنة يحتوي “المعرفة الكوزموبوليتانية” بشكل متكامل (نيلسون 2020a)[iv].  

تسعى الأجندة التنقيحية النيوماركسية المقدمة هنا إلى تفادي أخطاء شيبير “الصبيانية” (2013)[v] في نقده الماركسي للدراسات ما بعد الكولونيالية، النظرية ما بعد الكولونيالية وشبح رأس المال(Postcolonial theory and the spectre of Capital)، من منشورات فيرسو وفانفير، الذي دفع بسبيفاك لنشر أسلحتها الفكرية الهائلة لوقفه عند حده (ٍسبيفاك 2014)[vi].  وأخاطب للدقة، الجذور الأوروبية لمنظور سبيفاك، وأساجل بأنه بات حملا ارتحل مع تبعاته إلى الحاضر. لا أدعي أن بمستطاعي مخاطبة جذور أعمال سبيفاك خارج أوروبا بجدية، أو الأدبيات التي تربط أعمالها بتواريخ وثقافات بغاية الأهمية. إنما تطرح أجندة البحث المقدمة هنا باختصار، دربا يذهب أبعد من كل من تخوم ما بعد البنيوية الفرنسية لمقاربة سبيفاك، وحدود الماركسية الأكاديمية العلمية الطبيعية لشيبير تلميذ إريك اولين رايت.

تكيف سبيفاك في نصها الخلاق، كما تعيد إنتاج محددات نصوص غرامشي (1971)[vii] الأصلية حول “التابع”. والسبب الرئيس لكون تأويلات هذه الكتابات قد تحمل طبيعة مزدوجة، هو توصيفها المفاهيمي غير المكتمل.  ذلك أن تحليلات غرامشي المعمقة هي بالرغم من كل شيء، ملاحظات مشفرة كتبت في السجن. و”أفضل حس” لتكيف “التابع” الذي تعرضه سبيفاك إنما يتعلق بنظرية غرامشي حول “الوعي المتناقض” للعمال والذي ينبع في سياق الأشكال المهيمنة للصراع الطبقي في الديقراطيات الرأسمالية. إن الهيمنة المتوسطة المدى والسائدة بالنسبة لغرامشي، هي التي تُستدرج فيها قلوب وعقول أغلبية أفراد “الطبقات التابعة” نحو مشروع تراكم رأسمالي محدد له أبعاد أيديولوجية، وأدوات متشابكة. يحيل غرامشي إلى طبقة المثقفين التي تبني وتنقل أيديولوجيا مشروع الهيمنة الذي يتأسس حالما يترسخ في “الفطرة السليمة” للطبقات التابعة. كما أنه يشير إلى “حرب الموقع الإيديولوجي” بين وكلاء مشاريع الهيمنة والمشاريع المضادة للهيمنة، وبهذا يضع تحليل غرامشي المثقفين في مركز الصدارة. 

يُرَجِّع مفهوم سبيفاك “للعنف المعرفي” صدى ملاحظات غرامشي، خصوصا تلك المتعلقة بالطرق التي تعيق الأيديولوجية المهيمنة تطور ونمو المعرفة التجريبية الأصيلة المتولدة عن الحياة اليومية للطبقات التابعة. يجادل (غرامشي (1971[viii] بأن التجربة المباشرة للعمال و”حسهم الفطري” المتوارث أيديولوجيا يشتمل على “وعي متناقض”. أي أن تجربة الاستغلال المعاشة لديهم أعيقت عن التطور بفعل الأيديولوجية المهيمنة التي تنكر وجود الاستغلال. إن هذا الوضع المتناقض “يؤثر على السلوك الأخلاقي وتوجيه الإرادة” بطريقة “لا تسمح بأي فعل، أو قرار أو خيار، وتنتج حالة من الخنوع السياسي والأخلاقي” (غرامشي، 1971، ص 333)[ix]. وبالتالي، فإن مهمة المثقفين العضويين والتنظيريين من الطبقات التابعة هي استنباط “أفضل حس” لـ “فلسفتهم العفوية” في حرب المواقع، وجعلها “متماسكة أيديولوجيا” (غرامشي،1971  ص421)[x].

إن اقتباس سبيفاك المحدد لجدل غرامشي حول “الوعي المتناقض” كصيغة للعنف المعرفي، يشير إلى الطرق التي يقوض فيها الفكر الكولونيالي إمكانيات خطاب أصيل للنساء الهنديات. حيث يعني خضوعهم الثقافي المزدوج لتحالف الخطابات والمؤسسات المحلية والكولونيالية المسيطرة، بأن التابع لا يستطيع الكلام ولا يمكن سماعه.  ذلك أن معرفتهم التجريبية الأصيلة قد حصرت وحرفت في خطابات المثقفين والباحثين الذين لا يعتبروا ملاحظين ثانويين فحسب، وإنما هم أنفسهم مشبعون بطرق التفكير النيوكولونيالية.

تستمد سبيفاك صراحة مصادر آرائها (2014، ص 188)[xi] حول التابع من ملاحظات غرامشي حول “تاريخ الطبقات التابعة” (أنظر غرامشي، 1971، ص 52-124)[xii]. بيد أن هذا القسم من دفاتر السجن يبين كيف أن افتقار غرامشي للمواصفات المفاهيمية والمنهجية الصارمة يمكن أن يشكل معضلة.  فهي تقدم على وجه التحديد مخططا تاريخيا يوضح العمليات السياسية المرتبطة بتشكيل “الكتلة الاجتماعية”. غير أن ملاحظات غرامشي تحدد ولكن لا تتابع، ما يعتبره الخطوة المنهجية الأولى للتحليل الطبقي، أي تحري “التشكيل الذاتي للجماعات الاجتماعية التابعة من خلال التطورات والتحولات الجارية في مجال إعادة الانتاج الاقتصادي” (غرامشي، 1971، ص52)[xiii].

لكن سبيفاك على علم تام بالطبع، أن ملاحظات غرامشي غير مكتملة، بيد أن نصها المبتكر حول التابع يعيد إنتاج هذا النقص في تطور المعيار المنهجي الأول لدى غرامشي، والمركزي في النظرية الماركسية للطبقة بحد ذاتها. إلا أن المعضلة لا تكمن في سبيفاك، ذلك أن أفضل نظرية طبقية ماركسية توفرت حينذاك، (أنظر بولانتزاس (1975)[xiv] أي النظرية الطبقية النيوماركسية الألتوسيرية، ورايت أستاذ شيبير، (نسخة (1976)[xv] لم تطرح إطارا مفاهيميا ملائما لمهمتها. كما وتدرك سبيفاك بفطنة أيضا، لا جدوى النظرية الطبقية النيوماركسية التي باتت الآن علما عاديا، في معالجة انزياح غرامشي الضمني عن أطروحة الطبقة الكبرى المتجانسة في البيان الشيوعي (نيلسون، 2015[xvi] 2018[xvii]،a 2020)[xviii]. كما وأنه، لا غرامشي، ولا الجيل الأول من الماركسيين الجدد، قد خاطبوا ما ندعوه الآن بالنظرية التقاطعية.

لكن المصدر الأفضل منهجيا وسياسيا، لتحليل سبيفاك للعنف المعرفي المفروض على النساء الهنديات التابعات، هو البيان الأصيل لوحدة نهر كومباهيCombahee River Collective (2017، ص 15)[xix] للنظرية التقاطعية.

“نحن ناشطات ملتزمات بالنضال ضد القمع العرقي والجنسي والجنسي الغيري والطبقي، ونرى أن مهمتنا المحددة هي تطوير تحليل متكامل، وممارسة مبنية على واقع تشابك أنظمة القمع الرئيسة”.

ولكن، تندرج معضلة أخرى في هذا الشأن، حيث بات الاصطفاف اللاواعي للنظرية التقاطعية مع نظرية التقسيم الطبقي الوبييري أكثر وضوحا في الترحال من جذورها في تمثيل موقع الخضوع المتقاطع للنساء الإفريقيات الأمريكيات التابعات لنسوية الطبقة الوسطى البيضاء في الأكاديمية الليبرالية الجديدة، (سالم، 2018)[xx]. وفي حين أن هذا الاصطفاف ليس عقيما، إلا أنه يخاطب مجموعة أخرى من المعوقات. حيث تتلخص المشكلة في النظرية التقاطعية – ونجد تعبيرها الأصلي في نظرية التقسيم الطبقي الويبيري – في معاملة الطبقة والعرق والجنس كأبعاد نظيرة لبنية سلطة أحادية، وافتقارها بالتالي، لتحليل “تأثيرات الطبقة بحد ذاتها” النابعة من أرضية الرأسمالية العضوية لإعادة الإنتاج الاقتصادي (نيلسون، 2018)[xxi].

إن تحليل سبيفاك ليس ويبيريا، إذ نجد في التحليل الأصيل الابداعي للتابع، وكذلك في النصوص اللاحقة، صرامة ماركسية في نقاشها حول التابع. ولكن تبعا لخيبة الأمل الممكن تفهمها من النظرية الطبقية الماركسية التي تفشل في مخاطبة العرق والجنس بشكل ملائم، يمكن دمج منظورها افتراضيا في النظرية التقاطعية التي تصطف مع نظرية التقسيم الطبقي الويبيرية. إن القوة الويبيرية المنحازة للأشكال التقاطعية من التحليل، والتي تميز أيضا نظرية ما بعد الكولونيالية، تعنى بالطرق التي تفضي بشكل ممنهج بالخطابات والمؤسسات المعرقنة والمجنسنة المسيطرة إلى العنف المعرفي من حيث توزيع المجموعات التابعة – وباستخدام المصطلح الويبيري – لخفض المراكز في الهرمية المسيطرة. بيد أن مثل هذا التحليل، كما نظرية التقسيم الطبقي الويبيري عموما، بما في ذلك تحليل بوردو النيو-ويبيري المبدع والخلاق، ضعيف على “تأثيرات الطبقة بحد ذاتها” للعلاقات الرأسمالية الاجتماعية للإنتاج. (نيلسون، 2018)[xxii].

يعكس قصور الدراسات ما بعد الكولونيالية اليوم بشكل أكثر عمومية، ندرة الاقتصاديين السياسيين الماركسيين الذين يتفاعلون مع غرامشي بشكل بناء، أو مع الفكر الفرنسي ما بعد البنيوي.  فالمنظور الما بعد كولونيالي قوي جدا حول موضوعة الطيف ما بعد البنيوية عند ديريدا، أي تركة الماضي التي تحيا ما بعد زمانها من خلال المؤسسات المسيطرة والمرجعيات المعرفية المتصلبة، والتي تستمر بدورها بإلحاق العنف الحقيقي في حاضر الحياة الاجتماعية للمجموعات الاجتماعية التابعة. سوى أن المنظور الما بعد كولونيالي يفتقر إلى تحليل اقتصادي سياسي وطبقي متطور للاقتصاد السياسي المعاصر للرأسمالية المعولمة بقيادة الليبرالية الجديدة. حيث تكمن المعضلة بوجهات النظر الرئيسة التي تصطف مع الدراسات ما بعد الكولونيالية والأكاديمية الفرنسية المقيدة برؤية العالم الحالي عبر عدسات النماذج التي، وبالرغم من أهمية مماهاتها لعناصر استمرارية الحاضر مع الماضي، تبقى مقيدة بخطاب وممارسات حقبة سابقة.

ترتبط نظرية ما بعد الكولونيالية بنظريات التطور المتفاوت التي تمفصل تجربة التابع الما بعد كولونيالية الواقعة على هامش أطراف الرأسمالية مع الماركسية الغربية في حاضرتها (أنظر أمين، 1976)[xxiii] تماما كما عبر عنها فالرشتاين أيضا في قراءة ‘الرأسمالية العالمية’. إلا أنها مقيدة بأسلوب التحليل الإمبراطوري لما قبل الليبرالية الجديدة والذي لا ينسجم ببساطة مع العالم النيوليبرالي الحالي. وبالمثل، فإن مفسري الاقتصاد السياسي متوسط المدى لمدرسة التنظيم الفرنسية، الذين أنتجوا عملا مبتكرا حول “النموذج الفوردي للتطور” لما بعد الحرب العالمية الثانية، مقيدون في الحاضر من خلال “ارتباطهم” بفرضيات وتحليلات الجيل الأول. أي أنهم ينظرون إلى الحاضر كـ “ما بعد فوردي” وبلا “قيود” أو “نموذجا للتطور”، عاكسين بذلك “ارتباطهم” بالماضي، وبالمقابل، مقاومتهم لتنقيح أكثر مفاهيمهم قوة لنشرها في العالم المعاصر المتباين والمدفوع بالمشروع النيوليبرالي، وما بعده (أنظر نيلسون، 2012[xxiv]، 2020)[xxv]. فضلا عن أنه بالرغم من “إجلال” مدرسة التنظيم الفرنسية لأعمال غرامشي الطليعية حول “الفوردية”، إلا أنها تبدو غير مدركة للافتكاك ما بين الفكر الفرنسي ما بعد البنيوي، وخاصة كما هو مدفوع بنسخة ألتوسير الماركسية المؤثرة، ورأي غرامشي (1971)[xxvi] حول الماركسية “كفلسفة التطبيق العملي”. بيد أن المعضلة تكمن في أن “الأبناء المتمردين” لألتوسير في مدرسة التنظيم الفرنسية ليسوا بمتمردين إلى هذا الحد طالما هم في حالة عجز نظرا لارتباطهم بماركسية التوسير التي تخلو من التطبيق العملي.

تنزع نظرية ألتوسير حول “القطيعة المعرفية” عمليا  الذاتية والفاعلية عن الماركسية. أي أنه يقصي أعمال ماركس المبكرة التي تستدخل التذويت مركزيا بما في ذلك التطبيق العملي، وفي المقابل، يحتفى بأعمال ماركس الناضجة “كعلم” لأنها تحدد “عملية بلا ذات” (نيلسون، 2017)[xxvii]. ومن الملفت كيف يعفي ألتوسير وأتباعه، المثقفون من تحمل أعباء دورهم في صنع التاريخ.  وما زال طيف إنكار الذات في نظرية ألتوسير حول القطيعة المعرفية في كتابات ماركس – في غياب مشروع واع يمكنه التغلب على العنف المعرفي – يتردد صداه إلى يومنا هذا.

تلحق ماركسية ألتوسير أولا العنف بالحاضر لأنها تنكر النهج التطبيقي لماركس. فبالرغم من أن “الماضي يلقي بظله ككابوس على عقول الأحياء في ظروف خارجة عن إرادتهم”، إلا أن ماركس واضح في قوله أن “الناس يصنعون التاريخ” (ماركس، 1973)[xxviii]. فقد أدلى ماركس بمثل هذا التصريح في عدد من الأماكن، وليس في كتاباته المبكرة فحسب، كما أنه يستحضر دور المثقفين ومعرفتهم في صنع التاريخ. حيث ينطوي بيان التطبيق العملي الحادي عشر في الأطروحة الأصلية على أن “جوهر المعرفة هو تغيير العالم”. كما يحث ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي “الشيوعيون” على الإشارة إلى، وتسليط الضوء على، المصالح المشتركة للبروليتاريا جمعاء” (ماركس وإنجلز، 1969، ص61)[xxix]. كذلك يقدم ماركس في راس المال المجلد 1 في “قصة النحل والمعماريين” (1976، ص 283-284)[xxx] رسما متبحرا لأنطولوجيا عابرة للتاريخ تموضع النموذج المراد للمثقف البشري مركزيا بالنسبة لمسار الحضارة البشرية برمتها.

يتماشى أنكار ألتوسير للذات في العلم الماركسي أيضا مع العنف المعرفي المضمر في الإنكار العام للعلوم الاجتماعية الغربية لذاتيتها، على نقيض ادعائها بالذاتية غير الموضوعية لأشكال المعرفة غير الغربية. (هيلد، 2020[xxxi]، نيلسون، b2020[xxxii]). أضف إلى ذلك أنه من خلال إنكار الدور السببي للمثقفين وللمعرفة في صنع التاريخ، منع ألتوسير تطور المعرفة اللازمة لإنشاء “كتلة اجتماعية”، بما في ذلك تصميم مشروع مضاد للهيمنة. وللمزيد من التحديد، فإن الإرث الذي تحمله المدرسة التظيمية الفرنسية حول إنكار ألتوسير للذات قد استبعد من اعتباراته المشروعة إمكانية تصميم مخطط عمل متعمد “لنموذج تطور مضاد للهيمنة”. 

تنعكس كافة هذه المحددات في قراءة غير ملائمة لأحدث وأكثر نسخة مدمرة من العنف المعرفي التي فرضها الفكر الرأسمالي الغربي على العالم على شكل “النموذج النيوليبرالي للتطور” (نيلسون، 2012[xxxiii]، 2020)[xxxiv].  فمن خلال إقحام قالبها التنظيمي القومي المصمم عمدا على بلدان الكوكب قاطبة، قام وكلاء المشروع النيوليبرالي بخلق هيكل تنظيمي لسوق عالمي واحد لأسلوب الإنتاج الرأسمالي. وقد سهل هذا النموذج النيوليبرالي للتطور مأسسة السيطرة الكوكبية على شبكة الانتاج الرأسمالي العالمي التي تدمج فيها كافة التوابع المحلية كي تصبح تابعة وخاضعة. إضافة إلى أنه في هذا العالم الخالي من المنافسة تحولت الدول القومية إلى “دول متنافسة” تبعا للندرة المتنامية لرأس المال المتبطن في نمو “فائض نسبي من السكان” (ماركس، 1976[xxxv]، نيلسون وستابز، 2011[xxxvi]، نيلسون، 2012[xxxvii]). لم يُوَلِّد “سوط التنافس القسري” للشكل العدائي العالمي للرأسمالية (ماركس، 1976[xxxviii]) ما بين “الأشقاء المتحاربين” (ماركس 1969)[xxxix] الاعتماد على السوق العالمي فحسب، بل وأيضا الأزمات الاقتصادية المتكررة، ومنطق منافسة بمحصلة صفر للتطور المكثف والمتفاوت، والكارثة الطبيعية الوشيكة، و”القومية المنكفئة” (نيلسون، 2020[xl]، c2020 [xli]). ويندرج ضمن منطقها أيضا الفيروس الذي يجتاح زوايا الكوكب الأربعة فيما أنا أكتب.

إن كافة الناس والأماكن في هذا العالم مرتبطة ومعتمدة على مكانها داخل منظومة معولمة من الإنتاج والتبادل الرأسمالي.  ويشبه هذا النظام المعولم كثيرا النظام الفوردي المتصلب القديم للإنتاج المكثف، حيث الهدف المفرد الوحيد من المواقع الآلية لكل عامل هي العناصر المعتمدة تبادليا لآلية حركة منفردة، وعندما تتحطم وصلة واحدة في هذه السلسلة ينهار النظام برمته. ويتضمن في ظل قيادة الرأسمالية المعولمة بقيادتها النيوليبرالية، “تقسيما عالميا ثالثا للعمالة” للإنتاج المتخصص، وذلك في تجزئة عمليات الشغل عبر العالم لإنتاج سلعة واحدة فقط.

باتت الدول القومية عبر الكرة الأرضية محصورة داخل العمل السلس لهذا النظام الأحادي المتكامل للتراكم الرأسمالي ومعتمدة عليه، إلى جانب العثور على موقع تنافس داخله. وهكذا، يتسع اعتماد الدول القومية على الرأسمالية المعولمة إلى كلٍ من الانتاج والتجارة. بيد أنه، وكما في حالة النظام الفوردي للإنتاج المكثف، فإن الخلل المحلي قد يعني انهيار النظام بكامله. وكذلك، مثل عملية الشغل الفوردية، يوحي الانهيار الممنهج بإنهيار محلي في كل مكان، نظرا لكون كل موقع يعتمد على النظام وغير قادر على الحفاظ على ذاته باستقلالية.

إن الانهيار الذي يقوده الفيروس حاليا، والذي تطور في موقع واحد قد انتشر عبر الكوكب كاملا. وتناضل الدول القومية بدورها، وتبعا لاعتمادها على رأسمالية السوق المعولمة، ونقص الاكتفاء الذاتي المحلي في المقابل، للإفلات من هذا النظام، إذا ما أرادت حقا تفادي أسوأ العدوى. علاوة على ذلك، ولكونه نظام يحرك تطورا معمقا لا متساويا داخل وعبر الدول، فإن المصاب سيكون وبالا على الدول الأقل منافسة، وهذا يعني الأنظمة الصحية الوطنية الأقل تطورا في نهاية المطاف. تجتاح جائحة فيروس الكورونا العالم بأكمله في عملية متفاوتة وبانتشار (دريدي) شبه “مرآوي” انعكاسي. فبعد أن باتت كارثة إنسانية على نطاق واسع، تكشف بشكل متكامل، عمق الطبيعة غير المستقرة وغير المرنة لهذا الشكل من من أشكال الانتاج الرأسمالي، وتؤشر في الوقت نفسه لبداية أعمق وأشمل أزمة اقتصادية في تاريخ الانسانية. حيث يقرع حقا هذه المرة، ناقوس موت الرأسمالية المعولمة بالقيادة النيوليبرالية، ولكن بدون مشروع مضاد للهيمنة، فإنها تؤذن باستمرارية مسيرة ثابتة نحو الهاوية. كما أن الإنكار المستمر لما تعنيه هذه الأزمة فعليا من جانب وكلاء العولمة النيوليبرالية وأولياء نعمتها، وارتباطهم المستمر الدؤوب بهذا “النمط من العيش” بغض النظر عن تبعاته المدمرة للبشر العاديين، إنما يزيد من حدة الحاجة لإنتاج بديل.

بيد أنه ليس هنالك مستقبل لأي تخيل لمشروع مضاد للهيمنة على شكل عالم متساو في التطور للنظام الصناعي الغربي المستحوذ عليه من قبل البروليتاريا العالمية.  يصور هذا التخييل نصرا نهائيا للصناعة الغربية الحديثة التي تتضمن بشكل متكامل انتصار النماذج الغربية للمعرفة، والعلوم والحقيقة على فكر وطرق المعيشة غير الغربية. فما بعد العنف المعرفي للمعرفة الغربية التي تستحوذ على وتقمع أشكال المعرفة غير الغربية، فإن المشروع الاشتراكي الديمقراطي للقرن الحادي والعشرون يحتاج إلى تخيل صياغة تكميلية لمختلف أشكال المعرفة ليقود المسيرة نحو معرفة كوزموبوليتانية ديمقراطية واشتراكية (نيلسون، [xlii]2013، a[xliii]2020، b2020[xliv]).  يحتاج مثل هذا النموذج التطوري المضاد للهيمنة بصورة عملية مباشرة، إلى مشروع عالمي لخلق شروط قومية تعاونية مؤسسة في التيسير العالمي لصيغ محلية مرنة ومكتفية ذاتيا، ومستدامة لإعادة الانتاج الاقتصادي.  حيث ان مثل هذا النموذج للتطور يرجّع صدى رؤية القائد الأدنى ماركوس “لعالم يمكن أن يضم داخله العديد من العوالم”. كما أنه يعبر عن مشروع “العولمحلية” حيث يعني “التفكير عالميا” اشتراكية ديمقراطية للمعرفة الكوزموبوليتانية، و”العمل محليا” يعني تأسيس أنظمة محلية مكتفية ذاتيا للأنتاج والتوزيع (نيلسون، 2020[xlv]، a2020[xlvi]، b2020[xlvii]، c2020[xlviii]).   

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….https://kanaanonline.org/2022/10/27/%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7%d9%86-3/


[i]   Spivak, G. C. (1988). Can the subaltern speak? In C. Nelson & L. Grossberg (Eds.), Marxism and the interpretation of culture (pp. 21–78). University of Illinois Press.

[ii]   Whitehead, A. N. (1932). Science and the modern world. Cambridge University Press.

[iii]   Neilson, D. (2020). Bringing in the ‘neoliberal model of development. Capital & Class, 44(1), 85–108. doi:10.1177/ 0309816819852746

[iv]   Neilson, D. (2020a). The democratic socialisation of knowledge: integral to an alternative to the neoliberal model of development. In M. Peters, T. Beasley, P. Jandric, & X. Zhu (Eds.), Knowledge socialism. The rise of peer production: collegiality, collaboration and collective intelligence. Springer, in press.

[v]   Chibber, V. (2013). Postcolonial theory and the specter of capital. Verso.

[vi]  Spivak, G. C. (2014). Postcolonial theory and the specter of capital. Cambridge Review of International Affairs, 27(1),184–198. doi:10.1080/09557571.2014.877262

[vii]   Gramsci, A. (1971). Selections from the Prison Notebooks. Edited and translated by Q. Hoare & G. N. Smith.International Publishers. Forthcoming.

[viii]   Gramsci, A. (1971). Selections from the Prison Notebooks. Edited and translated by Q. Hoare & G. N. Smith.International Publishers. Forthcoming.

[ix]   Gramsci, A. (1971). Selections from the Prison Notebooks. Edited and translated by Q. Hoare & G. N. Smith.International Publishers. Forthcoming.

[x]     Gramsci, A. (1971). Selections from the Prison Notebooks. Edited and translated by Q. Hoare & G. N. Smith.International Publishers. Forthcoming.

[xi] Spivak, G. C. (2014). Postcolonial theory and the specter of capital. Cambridge Review of International Affairs, 27(1),184–198. doi:10.1080/09557571.2014.877262 

[xii]  Gramsci, A. (1971). Selections from the Prison Notebooks. Edited and translated by Q. Hoare & G. N. Smith.International Publishers. Forthcoming.

[xiii]  Gramsci, A. (1971). Selections from the Prison Notebooks. Edited and translated by Q. Hoare & G. N. Smith.International Publishers. Forthcoming.

[xiv]   Poulantzas, N. (1975). Classes in contemporary capitalism (D. Fernbach, Trans.). New Left Books.

[xv]  Wright, E. O. (1976). Class boundaries in advanced capitalist societies. New Left Review, 98, 3–41.

[xvi] Neilson, D. (2015). Class, precarity, and anxiety: from denial to resistance. Theory & Psychology, 25(2), 184–201. doi: 10.1177/0959354315580607

[xvii]   Neilson, D. (2018). In-itself for-itself: towards second-generation neo-Marxist class theory. Capital & Class, 42(2), 273–295. doi:10.1177/0309816817723299

[xviii]  Neilson, D. (2020a). The democratic socialisation of knowledge: integral to an alternative to the neoliberal model of development. In M. Peters, T. Beasley, P. Jandric, & X. Zhu (Eds.), Knowledge socialism. The rise of peer production: collegiality, collaboration and collective intelligence. Springer, in press.

[xix]   Taylor, K.-Y. (Ed.). (2017). How we get free: Black feminism and the Combahee river collective, Haymarket Books.

[xx]  Salem, S. (2018). Intersectionality and its discontents: Intersectionality as traveling theory. European Journal of Women’s Studies, 25(4), 403–418. doi:10.1177/1350506816643999

[xxi]    Neilson, D. (2018). In-itself for-itself: towards second-generation neo-Marxist class theory. Capital & Class, 42(2), 273–295. doi:10.1177/0309816817723299

[xxii]   Neilson, D. (2018). In-itself for-itself: towards second-generation neo-Marxist class theory. Capital & Class, 42(2), 273–295. doi:10.1177/0309816817723299

[xxiii]   Amin, S. (1976). Unequal development: An essay on the social formations of peripheral capitalism. Harvester Press.

[xxiv]   Neilson, D. (2012). Remaking the connections: Marxism and the French Regulation School. Review of Radical Political Economics, 44(2), 160–177. doi:10.1177/0486613411423893

EDUCATIONAL PHILOSOPHY AND THEORY 5

[xxv]   Neilson, D. (2020). Bringing in the ‘neoliberal model of development. Capital & Class, 44(1), 85–108. doi:10.1177/ 0309816819852746

[xxvi]   Gramsci, A. (1971). Selections from the Prison Notebooks. Edited and translated by Q. Hoare & G. N. Smith.International Publishers. Forthcoming.

[xxvii]   Neilson, D. (2017). Re-situating Capital Vol. 1 beyond Althusser’s epistemological break: Towards second-generation neo-Marxism. Continental Thought and Theory, 1(4), 231–253.

[xxviii]   Karl, M. (1973). The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte. In K. Marx & D. Fernbach (Eds.), Surveys from Exile (pp.143–249). Penguin Books.

[xxix] Marx, K., & Engels, F. (1969). The Communist Manifesto. In L. S. Feuer (Ed.), Marx and Engels: Basic writings on politics and philosophy. Fontana Library.

[xxx]   Marx, K. (1976). Capital: Vol. 1. Introduced by Ernest Mandel (B. Fowkes, Trans.). Penguin.

[xxxi]   Held, B. (2020). Epistemic Violence in psychological science: Can knowledge of, from, and for the (othered) people solve the problem? Theory and Psychology. doi:10.1177/0959345319888943

[xxxii]   Neilson, D. (2020b). Beyond the subject-object binary: Towards cosmopolitan knowledge. Commentary on Barbara Held, Epistemic Violence in psychological science: Can knowledge of, from, and for the (othered) people solve the problem? Theory and Psychology, in press.

[xxxiii]   Neilson, D. (2012). Remaking the connections: Marxism and the French Regulation School. Review of Radical Political Economics, 44(2), 160–177. doi:10.1177/0486613411423893

EDUCATIONAL PHILOSOPHY AND THEORY 5

[xxxiv]   Neilson, D. (2020). Bringing in the ‘neoliberal model of development. Capital & Class, 44(1), 85–108. doi:10.1177/ 0309816819852746

[xxxv]  Marx, K. (1976). Capital: Vol. 1. Introduced by Ernest Mandel (B. Fowkes, Trans.). Penguin.

[xxxvi]  Neilson, D., & Stubbs, T. (2011). Relative surplus population and uneven development in the neoliberal era: Theory and Empirical Application. Capital and Class, 35(3), 22–44.

[xxxvii]   Neilson, D. (2012). Remaking the connections: Marxism and the French Regulation School. Review of Radical Political Economics, 44(2), 160–177. doi:10.1177/0486613411423893

EDUCATIONAL PHILOSOPHY AND THEORY 5

[xxxviii]   Marx, K. (1976). Capital: Vol. 1. Introduced by Ernest Mandel (B. Fowkes, Trans.). Penguin

[xxxix]   Marx, K., & Engels, F. (1969). The Communist Manifesto. In L. S. Feuer (Ed.), Marx and Engels: Basic writings on politics and philosophy. Fontana Library.

[xl]   Neilson, D. (2020). Bringing in the ‘neoliberal model of development. Capital & Class, 44(1), 85–108. doi:10.1177/ 0309816819852746

[xli]   Neilson, D. (2020c). Beyond regressive nationalism and the neoliberal model of development. Review of Radical Political Economics, forthcoming.

[xlii]   Neilson, D. (2013). Reworking the scientific socialist prognosis in the 21st century. Knowledge Cultures, 1(2), 73–93

[xliii]   Neilson, D. (2020a). The democratic socialisation of knowledge: integral to an alternative to the neoliberal model of development. In M. Peters, T. Beasley, P. Jandric, & X. Zhu (Eds.), Knowledge socialism. The rise of peer production: collegiality, collaboration and collective intelligence. Springer, in press.

[xliv]   Neilson, D. (2020b). Beyond the subject-object binary: Towards cosmopolitan knowledge. Commentary on Barbara Held, Epistemic Violence in psychological science: Can knowledge of, from, and for the (othered) people solve the problem? Theory and Psychology, in press.

[xlv]   Neilson, D. (2020). Bringing in the ‘neoliberal model of development. Capital & Class, 44(1), 85–108. doi:10.1177/ 0309816819852746

[xlvi]   Neilson, D. (2020a). The democratic socialisation of knowledge: integral to an alternative to the neoliberal model of development. In M. Peters, T. Beasley, P. Jandric, & X. Zhu (Eds.), Knowledge socialism. The rise of peer production: collegiality, collaboration and collective intelligence. Springer, in press.

[xlvii]     Neilson, D. (2020b). Beyond the subject-object binary: Towards cosmopolitan knowledge. Commentary on Barbara Held, Epistemic Violence in psychological science: Can knowledge of, from, and for the (othered) people solve the problem? Theory and Psychology, in press.

[xlviii]  Neilson, D. (2020c). Beyond regressive nationalism and the neoliberal model of development. Review of Radical Political Economics, forthcoming.