اليسار الأوروبي: غزة أسقطت الأقنعة، سعيد محمّد

في جميع أنحاء القارة الأوروبيّة، اضطرت الأحزاب والحركات السياسيّة بدفع من الشارع إلى اتخاذ مواقف معلنة بشأن الحرب على غزّة. وبينما كانت التيارات اليمينية أكثر اتساقاً مع منطقها الأيديولوجي وانحازت بلا تردد للمحتلّ، فإن أغلب الأحزاب اليساريّة التي كانت أضاعت بوصلتها والتحقت بالحلف الغربيّ ضدّ روسيا، فقدت فرصة تاريخيّة لتصويب تموضعها عبر فلسطين هذه المرّة، فأطلقت معظم قياداتها مواقف مؤيدة للدولة العبريّة، ما نكأ جروحاً قديمة داخل تحالفاتها الهشّة، وفتح بوابات لحروب أهليّة في وقت تكافح فيه هذه الأحزاب للبقاء ذات صلة في مواجهة تسونامي صعود التيار اليميني الشعوبيّ.

سعيد محمّد – لندن

لوقت قريب، كان حزب العمل البريطاني المعارض يهيمن على مجلس بلدية مدينة أكسفورد (شمالي غرب لندن) حيث الجامعة العريقة. لكن مع توالي استقالات أعضاء المجلس من الحزب احتجاجاً على موقف السير كير ستارمر زعيم الحزب من الحرب على غزّة، تراجع تمثيل “العمل” تدريجياً ليفقد أغلبيته يوم الخميس الماضي لدى تنحى عضو بارز تاسع عن منصبه، ولتخلع أكسفورد رداءها الأحمر الذي ارتده طويلاً.

وكان ستارمر، الذي يعد تلميذاً نجيباً لرئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، شريك الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في غزو العراق، قد أثار عاصفة من الغضب داخل أكبر أحزاب المعارضة البريطانيّة بعدما أجاب ب”نعم” صريحة أثناء لقاء متلفز على سؤال حول إذا ما كان يعتقد بأن الحصار على غزّة له ما يبرره، في تجاهل تام منه لأساسيات القانون الدّولي، وأيضاً مواقف التكتلات العماليّة والماركسيّة في قاعدة الحزب. وقد حاول ستارمر لاحقاً التخفيف من حدة تصريحاته التي وصفها البعض بالغباء السياسيّ، وقال إنّه يؤيد إرسال المساعدات إلى غزّة، إلا أن الضرر كان لا يمكن إصلاحه لا سيّما مع حراك الشارع البريطاني الكثيف ضد العدوان على غزة وتأييداً لحقوق الفلسطينيين، واستمرار تدفق أنباء وصور الإبادة التي ترتكتبها القوات الإسرائيلية ضد المدنيين في القطاع. وأصدر متمردو مجلس مدينة أكسفورد بياناً حاداً انتقدوا فيه ستارمر، واتهموه ب”التواطىء العلني في جرائم حرب”.

ومن المعروف أن حزب العمل البريطاني ائتلاف فضفاض من عدة قوى نقابيّة وعماليّة وسياسيّة تتموضع في مربع يسار الوسط. وقد استفاد في الآونة الأخيرة من انهيار التأييد الشعبي لحكومات حزب المحافظين الحاكم بسبب الفضائح المتلاحقة والفساد وسوء الإدارة، ليعود مرشحاً قوياً لاستعادة السلطة في الانتخابات العامة المقبلة – التي يجب أن تجري بحد أقصى في يناير/كانون ثاني 2025 -، وذلك بعد عقد ونصف في التقوقع في صفوف المعارضة. ولذلك فإن تصريحات ستارمر جاءت في أسوأ وقت ممكن، ويخشى أن تتسبب في تراجع حظوظ الحزب في الحصول على أغلبية.

أقوى الانتقادات أتت من بقايا التيار اليساري في الحزب الذي همشه ستارمر لمصلحة يمين الحزب من أتباع بلير وما يسمى “اليسار الجديد”، وتحدث كثيرون في قواعد الحزب عن الخطأ التاريخي في التخلي عن (الزعيم اليساري السابق للحزب) جيريمي كوربن، ومنعه حتى من الترشح على قوائم “العمل” عن منطقته السكنية. وليس سراً أن اللوبي الصهيوني في المملكة المتحدة حارب كوربن بهوادة لمواقفه المعروفة مؤيداً لنضال الشعب الفلسطيني.

على أن الانتقادات لموقف ستارمر جاءت أيضاً من قيادات بارزة في “العمل” وبعضها من حلفائه بمن فيهم صادق خان عمدة بلدية لندن، وأنس سروار زعيم فرع حزب العمال في اسكتلندا، ومايكل لينش زعيم أكبر نقابات عمال القطارات، وكذلك عدد من السياسيين المسلمين. وأيّد هؤلاء، كما المئات من أعضاء مجلس الحزب، وحوالي ثلث نوابه في مجلس العموم البريطاني، الدعوة إلى “وقف لإطلاق النار في غزة” في تحد جليّ لموقف القيادة. وعلى المستوى الأوروبي فإن مثل هذه الدّعوة – التي لا يستجيب لها أحد بالطبع – تعد في أجواء النخب السياسية السقف الأعلى المسموح به سياسياً لمناهضة العدوان المستمر على القطاع منذ أكثر من ثلاثة أسابيع.

 ونقلت الصحف عن ياسمين قريشي، وزيرة الظل لشؤون المرأة والمساواة والنائبة عن حزب “العمل”، قولها في جلسة لمجلس العموم إن ما يجري في غزة عقاب جماعي للشعب الفلسطيني على جرائم لم يرتكبها. وسألت رئيس الوزراء ريشي سوناك الذي كان يحضر الجلسة:”كم عدد الفلسطينيين الأبرياء الذين يجب أن يموتوا قبل أن يتفضل رئيس الوزراء ويدعو إلى وقف إطلاق نار لأسباب انسانيّة؟”، ما اعتبره عديدون إذلالاً لستارمر، الذي رفض تأييد الدعوات إلى وقف إطلاق النار. وتحدث نواب “العمل” في مجلس العموم البريطاني عن ضغوط يتعرضون لها من قبل ناخبيهم، لا سيما اليساريين والمسلمين، للنأي بأنفسهم عن مواقف ستارمر، وتبني الدّعوة لوقف إطلاق النار.

ومن غير المتوقع أن تتسبب هذه الأزمة في اسقاط ستارمر، لكنّ تأثيرها في حال طالت الحرب على غزة قد ينعكس سلباً على قدرة حزب “العمل” باستعادة ثقة قطاعات عريضة من الناخبين المترددين، ما قد يدفع ريشي سوناك، رئيس وزراء حكومة المحافظين إلى المغامرة بتقريب موعد الانتخابات العامة إلى الصيف المقبل لاستغلال هذا الارتباك في صفوف أهم منافسيه.

التوترات بشأن فلسطين في “العمل” البريطاني، وازتها خلافات مماثلة على البر الأوروبيّ. ففي فرنسا يقف جان لوك ميلانشون، الزعيم المخضرم لحزب “فرنسا الأبيّة” وحيداً من بين زعماء الأحزاب اليساريّة في التضامن مع الفلسطينيين، في حين يتلعثم رؤساء جميع الأحزاب الأخرى في ائتلاف “نوبيس” اليساري الذي تشكل لخوض الانتخابات البرلمانية العام الماضي: الاشتراكيون، والخضر ، والشيوعيون. وبدا الإئتلاف برمته على وشك الانهيار بعدما رفض ميلانشون وصف هجوم السابع من أكتوبر بالعمل الإرهابي في بيان “نوبيس” بشأن الأحداث في غزة، وكتب معلقاً: “أعتقد أننا قد وصلنا نقطة اللاعودة”. وبالفعل فقد علّق الاشتراكيون مشاركتهم في الائتلاف ، بينما دعا الحزب الشيوعي الفرنسي إلى “ائتلاف من نوع جديد”.

على أن مصاعب ميلانشون لا تقتصر على حلفائه، إذ إن تيارات داخل “فرنسا الأبيّة” لديها تباينات – انتقل بعضها للعلن – حول الموقف من حركة حماس وتصنيفها ك”حركة مقاومة”.

ويبدو أن فلسطين لن تقضي على”نويبس” التحالف الانتخابي المصلحي المؤقت فحسب، بل إنها أعادت احياء تناقضات تاريخية بين تقاليد يسارية مختلفة لا يسهل التوفيق بينها. ويدعم اليسار الفرنسي المتطرّف عادة النضال الفلسطيني ضد الصهيونيّة، ويحاول الاشتراكيون دائماً أخذ مسافات متساوية من طرفي الصراع، فيما يرتبط التروتسكيون تقليدياً باليسار الإسرائيلي.

وفي اسبانيا، سارع القائم بأعمال رئيس الوزراء في البلاد، وزعيم الحزب الاشتراكي بيدرو سانشيز، إلى إدانة هجوم السابع من أكتوبر، فور حدوثه، معتبراً إياه عملاً إرهابياً، وقال إن حكومته تدعو إلى “وضع حد فوري للعنف العشوائي ضد السكان المدنيين”. لكن إنريكي سانتياغو، الأمين العام للحزب الشيوعي الإسباني وعضو البرلمان عن تحالف سومار اليساري والمتحالف مع سانشيز ، رفض بشدة وصف مقاتلي حماس بالإرهابيين، وأصر على “حق الشعب الفلسطيني بالدفاع عن النفس في مواجهة الاحتلال”.

وأثار ثلاثة وزراء من أحزاب يسارية شريكة لسانشيز في حكومة تصريف الأعمال غضب السفارة الإسرائيلية في مدريد بعدما أدلوا بتصريحات اعتبروا فيها بأن إسرائيل تنتهك القانون الدولي وترتكب إبادة جماعية وجرائم حرب في غزة. ودافعت الحكومة عن أيون بيلارا وزيرة الحقوق الاجتماعية، وزعيمة حزب بوديموس، و إيرين مونتيرو زميلتها في الحزب، ووزيرة المساواة بالوكالة، والقائم بأعمال وزير شؤون المستهلك، ألبرتو غارزون من منصة اليسار المتحد، واتهم بيان للخارجية الاسبانية سفارة الكيان “بنشر الأكاذيب”، وطالبت باحترام حق السياسيين الاسبان بالتعبير عن آرائهم.

وقد اضطر سانشير تالياً إلى مراعاة مواقف شركائه الذين يحتاجهم بشدة في هذا الوقت بينما يحاول بناء ائتلاف حاكم، فحمل إلى قمة بروكسيل الأسبوع الماضي دعوة وأن خجولة لوقف إطلاق النار في غزة.

وحده اليسار الألماني اصطف بكليته وراء الدولة العبرية. وكان المستشار أولاف شولتس، من الحزب الاشتراكي الديمقراطي (يسار الوسط)، قد سارع إلى تل أبيب بعد هجوم السابع من أكتوبر ليؤكد للقادة الإسرائيليين مجدداً بأن أمن ووجود الدولة الإسرائيلية هو “سبب وجود الدولة الحديثة” في ألمانيا. وتسابق أعضاء حزب الخضر، الشريك مع الاشتراكي في السلطة، إلى اعلان التضامن التام مع الدّولة العبرية. وأرسل روبرت هابيك الذي يتولى منصب نائب المستشار الألماني رسالة فيديو عاطفية مؤثرة إلى يهود إسرائيل، فيما تلعب زميلته أنالينا بيربوك التي تدير وزارة الخارجية الألمانية دور صقر عنيد مؤيد لإسرائيل في الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. ولم يخرج عن عزف يساريي السلطة أي من الأحزاب اليسارية الصغيرة، سواء منها الممثلة في البرلمان أو خارجه.

لقد أسقطت غزة كل الأقنعة.

نشر هذا المقال في صفحة الدّوليات بجريدة الأخبار اللبنانية عدد الأربعاء 1 نوفمبر 2023

:::::

موقع “الثقافة المضادة”، October 31, 2023

http://counterculture1968.com

الثّقافة المضادّة – لن يمرّوا: مقالات في السياسة والثقافة

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….