السنة الثالثة والعشرون – العدد 6672
في هذا العدد:
■ المشهد أمس، واليوم، وغداً، عادل سماره
■ صمود غزة أدخلها الانتخابات الأميركية: بايدن: “لا مكان لحماس”، د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
■ في العنف فلسطينياً، رامي سلامة
✺ ✺ ✺
المشهد أمس، واليوم، وغداً
عادل سماره
فيديو في أربع دقائق لتكثيف الرؤية العروبية سابقا، حالياً مستقبلاً:
نعم، أضعفوا المشروع العروبي بهدف مسحه. لكن مرتكزات تحليل التيار العروبي وخاصة أن الصراع عربي ضد ثلاثي الغرب والكيان والصهيونية العربية تثبت صحته كل يوم وتنفي تهريج انتزاع القضية من عمقها العربي بأن الفلسطيني وحده سينتصر على كامل ثلاثي الثورة المضادة. لقد جادلنا طويلا ودعونا لتبني ثلاثي هو:
1- التطبيع للثورة المضادة أفعل وأفضل وأقوى وأردع من النووي، لذا يجب رفضه وقطعه.
2- المقاطعة تعني إغلاق السوق العربية أمام الثورة المضادة وهذا مقتلها.
3-المقاطعة تعني التنمية وتحديداً بالحماية الشعبية وهذا الطريق لفك الارتباط بالسوق الرأسمالية ألإمبريالية الدولية.
تأخر محور ا.ل.م.ق.ا.و.مة لتبني الأمور الثلاثة سوى منذ بضع سنوات ونحن نطرحها منذ بضعة عقود لا تنبه لها قادته ولا مثقفوه ولا نقول مهرجوه.
هذا الثلاثي كما كتبنا هو الذي يشاغل العدو بين حرب وحرب. وإذا ما أُحكم تفعيل هذا الثلاثي ونقل فاعليته نوعيا إلى ثلاثي:
1- الشعب عبر الحراك طالبناه بحرب الشعب وليس محض التظاهر
2-و.ا.ل.م.ق.ا.وم.ة (دور لبنان على قدر العزم والظرف)
3- والجيش (وهذا أثبته الجيش اليمني)
كثلاثي متساند ومتماسك، فإن الأنظمة ستسقط ويسقط معها الوجود بل والحضور الإمبريالي وحينها سيهز الكيان كتفيه في استسلام.
✺ ✺ ✺
صمود غزة أدخلها الانتخابات الأميركية
بايدن: “لا مكان لحماس”
د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
يعاني الرئيس جو بايدن وكبار مستشاريه من سلسلة أزمات داخلية هم صانعوها، وترهّل مكشوف في إنجازات سياساته الخارجية، وتداخل أولويات الاستراتيجية الأميركية لتفرض اختيارات عاجلة كانت إدارته ترغب في ترحيلها إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، خصوصاً في ملفَي أوكرانيا وتايوان. بيد أن اندلاع الصراع في قطاع غزّة فرض التحرك الفوري على أعلى المستويات و”تجميد” الملفات الأخرى في الوقت الحالي.
بعد سبات شتوي أدلى الرئيس الأميركي جو بايدن برأيه “خطياً” محاولاً الإجابة على سؤال لا يزال مطروحاً بقوة، وهو “ماذا تريد الولايات المتحدة من غزة”، انطلاقاً من رفضها الثابت لفرض وقف إطلاق النار، وتصوّرها لمرحلة إعادة البناء بعد أن تضع الحرب أوزارها، كما تصفه النخب السياسية والفكرية.
بداية، مقال الرئيس بايدن في صحيفة “واشنطن بوست”، نُشر يوم السبت وليس الأحد الذي يستقطب جمعاً أكبر من القرّاء الأميركيين، رمى إلى مخاطبة الجمهور الأميركي الداخلي وبعث الطمأنينة في مفاصل الكيان السياسي الأميركي، لجملة أسباب:
أبرزها، حالة التململ داخل أروقة الإدارة ومرافق الحكومة الأميركية المختلفة معارضةً سياسة البيت الأبيض في دعمه اللامحدود لـ”إسرائيل”. وذهبت صحيفة المال والأعمال “وول ستريت جورنال” إلى وصف المعارضة لسياساته بـ “التمرّد” بعد رصدها عرائض جماعية موقعّة من “ما لا يقلّ عن 500 عنصر عامل في الدوائر الحكومية – من ضمنها مجلس الأمن القومي ووزارة العدل، وأكثر من 1000 موظّف في الوكالة الدولية الأميركية للتنمية”، مُطالبة الرئيس بايدن التدخّل لوقف إطلاق النار في غزة. هذا إلى جانب حالات استقالة مسؤولين وآخرين داخل وزارة الخارجية احتجاجاً على مسار السياسة الأميركية (افتتاحية “وول ستريت جورنال”، 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2023).
في زاوية أشدّ عمقاً وقلقاً للإدارة وللحزب الديموقراطي معاً، وهي تجذّر حالة الغضب الشعبي العام واتساعها في الشارع الأميركي، واحتجاجاته المستمرة في طول وعرض البلاد دعماً لغزة ومطالباً بوقف إطلاق النار، والتوعّد أيضاً بالقصاص من الرئيس ومؤيديه في الكونغرس في جولة الانتخابات العام المقبل.
جدير بالذكر ما عاناه عضو مجلس النواب السياسي المخضرم آدم شيف، في حملته الانتخابية لمقعد في مجلس الشيوخ عن ولاية كاليفورنيا، في مدينة ساكرامنتو، بمواجهته مباشرة من قبل معارضين لتأييده سياسة “الإبادة الجماعية” في غزة، ما اضطره إلى المغادرة المبكرة وإنهاء الجلسة وسط هتافات تدينه (يومية “بوليتيكو”، 18 تشرين الثاني / نوفمبر 2023)
كما تنبغي الإشارة إلى بروز عنصر فريق احتجاجي جديد وله تأثيره البالغ في الشأن العام الأميركي، ألا وهو انضمام المئات وربما آلاف المتظاهرين من اليهود الأميركيين، معظمهم من النساء، إلى النشاطات الاحتجاجية بعنوان مشترك على قمصان سوداء موحّدة، وهتاف “وقف إطلاق النار الآن”.
وأخذت الدوائر الرسمية المعنية علماً بدخول نحو “450 متظاهر يهودي” مقر مجلس النواب الأميركي، في 18 تشرين الأول / اكتوبر 2023، باليافطات دعماً لغزة، واعتقال عدد منهم، وقد أطلق سراحهم فيما بعد. وتكرّر المشهد عينه في أكثر من مناسبة، ورفع المتظاهرون شعارات مطالبة بوقف إطلاق النار. ونقلت وسائل الإعلام عن إحداهن قولها: “نطالب الحكومة الأميركية بوقف تمويل حملة إسرائيل للإبادة الجماعية للفلسطينيين” (صحيفة شؤون الكونغرس “رول كاول Roll Call -“، 16 تشرين الثاني / نوفمبر 2023).
أمام هذه اللوحة القاتمة أمام مرشحي الحزب الديموقراطي، من صحوة جماهيرية شبه منظّمة وتصاعد المواجهات السلمية إلى داخل أروقة صنع القرار، يصبح من العسير على الحملات الانتخابية المقبلة للحزبين تفادي وجهة بوصلة السياسة الأميركية أو تجاهل مسؤوليتها المباشرة عن عدم التحرّك لفرض وقف إطلاق النار، كما هي الرسالة الموحّدة التي تلقّاها الجميع.
الرئيس جو بايدن لا يزال المرشح الأول للحزب الديموقراطي، إن لم يحصل أي تدخّل بخلاف ذلك لإنقاذ الحزب من تداعيات بقائه. بالمقابل، الرئيس السابق دونالد ترامب يتصدر أعلى نسب التأييد من مؤيدي الحزب الجمهوري، على الرغم من ملاحقاته القضائية المتعددة لتهميشه والإطاحة “السلمية” بشخصه.
وقد ينبئ ذلك بإعادة جولة انتخابات عام 2020 السابقة، رغم تغيّر الظروف المحلية والدولية في ملفات شتّى. ومن جانب آخر، من الجائز أن يشهد الحزب الديموقراطي تراجعاً ملحوظاً في نسبة تمثيله في مجلسي الكونغرس، الشيوخ والنواب، فضلاً عن منصب الرئاسة.
كما أن حالة الرئيس بايدن العقلية أضحت عاملاً مقلقاً للناخب العادي وهو يرى رئيس أقوى بلد في العالم عاجزاً عن السير بخط مستقيم لخطوات معدودة دون السقوط أرضاً أو الارتطام بحاجز وهمي، وتصريحاته المزدوجة التي سرعان ما يتدخّل مستشاروه للتنصّل منها. إضافة إلى كل ذلك في الشأن العام فإن النخب السياسية والفكرية اعتبرت تصريحاته بعد انفضاض لقاء القمة مع نظيره الصيني انتهاكاً للكياسة الديبلوماسية، و”فجّة” في لغتها، وغير موفقة في زمانها، حين أعاد توصيف الرئيس شي جين بينغ بـ”الديكتاتور”.
وقد أفادت أحدث استطلاعات للرأي، التي أجرتها صحيفة “نيويورك تايمز”، باعتقاد نحو 62% من الناخبين الأميركيين أن الرئيس بايدن لم يعد كفؤاً ذهنياً لتبؤّ منصب الرئيس، مقابل 54% يعتبرون الرئيس ترامب مؤهّلاً للمنصب. تداعيات نتائج الاستطلاع أعلاه ستشكّل “هزّة تكتونية في عموم مفاصل الحزب” الديموقراطي، كما وصفها مستشار الرئيس أوباما السابق ديفيد آكسيلرود.
نتائج الانتخابات الأولية، التي جرت مطلع الشهر الجاري في عدد من الولايات، معطوفة على نتائج استطلاعات للرأي تشير بمجملها إلى انتقال الحزب الديموقراطي من مركز مريح نسبياً، خصوصاً في الولايات المتأرجحة، أريزونا وجورجيا ومتشيغان ونيفادا وبنسلفانيا، إلى تراجع فوري في تأييد تلك الولايات، خصوصاً في ولاية لويزيانا، التي فاز بها بايدن سابقاً، إذ فاز بها مرشّحان عن الحزب الجمهوري لمنصبي وزير الداخلية والمدعي العام للولاية، فضلاً عن معارضة متنامية من الجالية العربية والإسلامية الكبيرة في ولاية متشيغان بشكل خاص.
تميّزت أجواء الانتخابات الرئاسية الأميركية السابقة، 2020، بترسيخ حالات الانقسام والاصطفاف السياسي لكلا الفريقين، الديموقراطي والجمهوري، واتهامات متبادلة بينهما بلجوء أحدهما إلى “العصيان المدني” وربما المسلّح، الأمر الذي أيقظ المؤسسة الأمنية بفروعها المتعددة إلى تحديث خططها لمواجهة أي ترجمة عملية لأي من تلك الاحتمالات، ودقّت ناقوس الخطر مراراً بأن تقويض النظام السياسي الأميركي و”فرادة أميركا في قيادة العالم” لن يواجه بالسكوت، بل باستخدام “كل الإمكانيات والموارد المتاحة” لتلافي ذلك.
مرة أخرى، تتجدد بعض تلك التهديدات وربما تحت عناوين متعددة لكنها تؤدي إلى المنبع ذاته: أزمة بنيوية داخل النظام السياسي وتحكّم “أقلية نخبوية”، سياسية ومالية وإعلامية، بمفاصل القرار في مواجهة تزايد أعداد الشرائح الاجتماعية المهمّشة وانخفاض منسوب حصتها من الثروة العامة وبرامج التنمية المطلوبة بشدة، وابتعادها تدريجياً عن توفير “الدعم اللامحدود” إلى أوكرانيا، ومن ثم انتقال تلك الأموال إلى “إسرائيل” بينما الأوضاع الداخلية تستشري فقراً وتدهوراً.
سير الانتخابات المقبلة، للرئاسة الأميركية وأعضاء مجلسي الكونغرس، سترسل إشارات غاية في الوضوح عن تخلّي الدولة عن واجباتها في حماية السلم والأمن الداخليّين، ودخول ملف تأييد “الإبادة الجماعية” وعدم الدفع بمبادرة لـ”وقف إطلاق النار” ستشكّل عوامل ضغط إضافية على مرشّحي المؤسسة الرسمية.
:::::
مركز الدراسات الأميركية والعربية، واشنطن
الموقع الإلكتروني:
✺ ✺ ✺
في العنف فلسطينياً
رامي سلامة
مع كل ممارسة عنفٍ يمارسها الفلسطينيون، يظهر لنا العديد من المنتقدين والمُدينين، سواء كانوا في الداخل أو الخارج، متّكئين في إدانتهم على ما تبقّى من قيم ومفاهيم حداثية، وعلى مبادئ الإنسان والإنسانية. اليوم، ومع هذا العدوان الاستعماري الجديد، يُدفن ما بقي من هذه القيم مع جثث الضحايا في فلسطين. لذا، فإن لحظة فلسطين اليوم ليست مجرّد حدث عابر سينتهي مع انتهاء الألم والموت، بل ستكون لحظة يُعلَن فيها موت الحداثة وقيمها. إلا أن موت الحداثة الآن، هو حدث عابر، ولا يسعى هذا المقال إلى تأصيله معرفياً.
وقعت الكتابات التي تتعامل مع العنف الفلسطيني في ثلاث فئات؛ الفئة الأولى مُستمدّة من إطار أورومركزي، حيث يُصوَّر الفلسطيني كإرهابي أو كـ«حيوانٍ بشري» متعطّش للدماء، ويُظهر «إسرائيل» كضحيّة تدافع عن نفسها أمام المعتدي-الفلسطيني. في حين تقدّم الفئة الثانية طرحاً أكثر «توازناً»؛ إذ تدين العنف من كلا الجانبين، مفترضةً التماثل بين عنف الدولة (كعنفٍ بنيوي) وعنف المقاومة (كعنفٍ عشوائي ولو بدا منظّماً). أمّا الفئة الثالثة، وهي الأكثر «نقديّةً»، فتنتقد العنف البنيوي الذي يمارسه المستعمِر الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وهو سرد يروي قوّة الاستعمار وظلمه، ولكنّه يفشل في سرد رواية الفلسطيني أو رؤيته. وفي ضوء الحجة التي سأطرحها هنا، فإن المنظور الأخير يستوعب فكرة فلسطين، ولكن ليس الفلسطينيين، ويرى الفلسطينيين مكتملين كضحايا وليس كمقاومين ساعين للتحقّق.
يستند هذا المقال على تجربة مستمرّة للعيش في الألم، وتحاول فهم طبيعة أن يكون الإنسان مستعمَراً من جهة وأن يسعى للحرّية من جهة أخرى. وتقدّم تأملاتٍ أوّلية حول الأسئلة الرئيسية المتعلّقة بهذا الجدل: أن تكون مستعمَراً وأن تسعى للتحرّر. يركّز المقال على رؤية راهنيّة لما يحدث في فلسطين الآن. فيسلّط الضوء على بعض الخبرات الرئيسية للعيش في الألم من جهة، ويناقش العنف الفلسطيني كجزءٍ من «رغبة عمليّة» أكبر لتحقيق الحرية من جهةٍ أخرى. إذ لا يمكن فهم ممارسة العنف الفلسطيني إلا من خلال العلاقة الجدلية بين أن تكون مستعمَراً وأن تصبح حراً. إنّما هدفه التأمّل في ممارسات العنف الفلسطينية في سياق الاستعمار الاستيطاني كممارسات يصعب على التاريخ فهمها، لكن يمكن تناولها من خلال مَفْهمة اقتصاد الرغبة، الرغبة في التحقّق/التشكّل/الاكتمال.
في أن تكون مستعمَراً
هناك الكثير ممّا يمكن قوله حول تجربة العيش كمستعمَر، لكن سأركّز فهمي على معنى أن تكون جسداً مستعمَراً كعتبة للتحليل، عن تجسد الاستعمار في الجسد بلا وعي تحت نظام استعماري. في بلاد الحواجز والتقسيمات المكانية الاستعمارية، لا يمكن تخيّل أجسادنا إلا من خلال نقاط التفتيش والحواجز، والبطاقات الشخصية، والتصاريح (ثالوث السيطرة الاستعمارية)، بالإضافة إلى الموت. إن عدم قدرتنا على تخيّل المكان إلا من خلال هذا الثالوث يعكس المدى الذي يتجسّد به في أجسادنا وتصوّراتنا عن الحياة. هذا الثالوث ليس مجرّد أداة للسيطرة على الجسد الفلسطيني، إنّما يُنقش في المكان أيضاً. يُحدّد الأطباء الجنس عند الولادة، إذا كان الجنين ذكراً أم أنثى، وتُنقش هويّتنا الجنسية على أجسادنا. وبنفس الطريقة يقوم الاستعمار الإسرائيلي بذلك، حيث يسجّل إمكانيّاتنا المكانية على أجسادنا فور ولادتنا. ومن خلال «ثالوث السيطرة»، تعمل الآلية على خلق وإنتاج أفراد وحقائق استعمارية مكانية، فمثلاً تعكس مصطلحات مثل: الضفة الغربية (ضفّاوي) وغزة (غزاوي) ومقدسي وفلسطينيّو الداخل وفلسطينيّو اللجوء، العلاقة المعقّدة بين الأجساد المستعمَرة والأماكن الاستعمارية.
يرى «هنري لوفيفر» أن الفضاء ليس إلا نقشًا للزمن في العالم، وبالفعل يمكن القول إنّ الفضاء ليس إلا نقشاً للاحتمالات الزمانية المكانية في الأجساد المستعمَرة، كما توضح شيرين رزاق، فإنّ المكان هو عملية غير متساوية من نقش السلطة، الذي يُعيد إنتاج نفسه دون انقطاع في خلق فئات مكانية قمعية تُنقش على الأجساد المستعمَرة. إن الاستعمار الاستيطاني منذ الحقبة الاستعمارية الأولى، منطقه هو المحو والتهجير، أو سلسلة من عمليات النقل، لكن ما يميّز النسخة الصهيونية للاستعمار الاستيطاني هو إنتاج المستعمَر كذوات\مواضيع جسدية ميتة في المكان.
كما لا ينبغي النظر إلى الفلسطينيين على أنهم محض أجساد مكانية، أو أنهم فقط يعيشون في مساحات استعمارية ثابتة، بل إنهم يجسّدون تلك المساحات. إن وعي هذا التجسيد، أو مكانيّة الجسد، يتواجد من خلال التفاعل مع موقف معيّن، وليس من خلال موقعه في مكان ثابت. تلك المواقف هي الهندسة الاستعمارية للمخطّط الجسدي المستعمَر، حيث تسعى إلى نزع الوكالة عن تملك الأجساد المستعمَرة. وتشير هذه الأجساد إلى النفي، بل إلى أنواعٍ مختلفة منه، والتي تمّ تحديدها بأشكال مختلفة من السيطرة تنفّذها القوة الاستعمارية «الإسرائيلية» على شتّى الفضاءات الاستعمارية.
ومع ذلك، النقطة المركزية هنا، ليست في الخوض في مناقشة مفصّلة حول الفضاءات الاستعمارية المختلفة وأشكال السيطرة الاستعمارية المتنوّعة، بل في إدراك أن إحساس الذات المستعمَرة بالمكان والإيقاعات الجسدية، سواءً كان داخل المساحات الاستعمارية أو خارجها، يعكس في الواقع كيفية اختراق القوّة الاستعمارية وتعريفها وهيكلتها.
تبذل القوّة الاستعمارية جهدها لإنتاج أجسادٍ مستعمَرة هشّة وواهنة ومُزعزعة، إلى الحدّ الذي يمكن فيه أن تدرك جسدك على أنه المكان المثالي لممارسة السلطة والتفتيش والرصاص، أو ببساطة المكان المثالي للموت. يضع النظام الاستعماري الأجساد الفلسطينية في خانة «غير الموجودة»، ويجسّد هذا «اللاوجود» نفسه ويتكثّف في الجسد، ممّا يعني أن الأجساد الفلسطينية غير موجودة في وجودها ذاته. لقد تحرّرت الأجساد الفلسطينية من الوجود وجسّدت إمكانية الموت. تميّز كل من التقسيمات المكانية والأجساد الهشّة تجربة الأجساد المستعمَرة، سواء كان ذلك واضحاً في موقفٍ ما، أو ضمنياً في الحياة اليومية. بهذه الطريقة، يقوم الواقع الاستعماري بتحييد الوجود المستقرّ لأجساد المستعمَرين.
في السعي للتحرّر
يشير «جان بول سارتر» ويؤكّد عليه فيصل درّاج إلى أن الإنسان ليس أبداً كما يظهر؛ إنه يتجاوز كل تحديد باستمرار، وعاجز عن الاستقرار في هوية ثابتة. ينطلق الوجود من حالة الإنكار للواقع، إذ لا يمكن فهم الوجود إلا كمشروع مفتوح على إمكانيّات للمستقبل. يُعدّ الرجال والنساء أنماطاً حقيقية للوجود، مشكّكون في ذواتهم حيث يكونون جزءاً من تكامل الوجود في العالم الذي يتواجدون فيه. إن «الوجود في ذاته» يدلّ على سلبية مطلقة، خارج نطاق المعنى، بينما يشير مفهوم «العالم» إلى نظام من المعاني والتفسيرات المحدّدة. إن الآخرية المطلقة للوعي ليست العالم، بل الوجود في ذاته فقط. بعبارةٍ أخرى، يمثّل العالم نتاج النفي الجدلي التركيبي للوجود في ذاته والوجود لذاته. ومع ذلك، فإنّ هذا النفي للوجود في ذاته من أجل «لذاته» (الحرية الوجودية) لا يُفهم فقط من خلال الوعي، ولكن أيضاً من حيث التطبيق العملي. بالتالي، فإنّ القول بأنّ حالات النفي هي عملية في المقام الأول، حيث يكتسب كل منها محتواه المحدّد فيما يتعلّق بالسياق التاريخي المتغيّر، والذي بدوره يساعد في إعادة تشكيل العالم من خلال هذا النفي المستمرّ.
بناءً على ما يعنيه استعمار الجسد، تحديداً عندما يُوسم الجسد المستعمَر بالعدم والموت، تُظهر وقائع الحالة الاستعمارية التي تنفي بشكلٍ منهجي المستعمَر، كما أشار «فرانز فانون» أنها «تُجبر المستعمَرين على مساءلة أنفسهم باستمرار: من أنا في الواقع؟». يسلّط هذا السؤال الضوء على التعقيد الجدلي الاستعماري للوجود في حدّ ذاته، والوجود من أجل ذاته، وواقع الحالة الاستعمارية التي يوضع المستعمَر فيها على أنه «غير موجود» من جهة، وذاتية الأجساد المستعمرة التي تتحدّى الواقع الاستعماري المزيّف من خلال طرح الجزء الآخر من السؤال «من أنا؟»، وهو ما يمثّل جدلية بين العدم والحضور الجسدي والنفسي الموجود.
من المهم أن نلاحظ هنا أن هذه العلاقة الجدلية تتجسّد على المستوى الجسدي. وفي هذا السياق، استنتج «فانون» أن المستعمَر لا يمكنه إلّا أن يكون عصابياً، فهو مقيّد ومحاصر جسدياً، «أول ما تتعلمّه الذات المستعمَرة هو البقاء في مكانها وعدم تجاوز حدودها. ومن هنا تأتي أحلام المستعمَر، أحلاماً عضلية، أحلام الفعل، أحلام الحيوية العدوانية. أحلم أنني أقفز وأسبح وأجري وأتسلّق. أحلم أنني أنفجر ضاحكًا، أو أقفز فوق نهرٍ وتطاردني مجموعة من السيارات التي لا تلحق بي أبدًا». حلمٌ بجسدٍ حرّ ومن أجله، أو عملية للتحرّر تبدأ -استناداً إلى معرفة الضرورة- بتحرير الجسد المستعمَر من وضمن الواقع الاستعماري المصطنع، إلى شيء جديد.
ليس الهدف هو مناقشة تأريخ الإنسانية الجديدة التي صوّرها «فانون»، بل التأكيد على فعل العنف في لحظته الفعلية، باعتباره فعلًا يُدرك الجدلية بين أن تكون مستعمَراً وأن تصبح حرّاً جسدياً، أي فكرة الصيرورة والتشكّل من خلال العنف الثوري. إنّ عنف المستعمر، بهذا المعنى، هو فعل صيرورة لحظية، لحظات تشكّل، لحظات تحرّر كصيرورة.
«التشكّل/التحقّق»، كما يقول «جيل دولوز»، هو الأمل الثوري الوحيد للإنسان و«الطريقة الوحيدة للتخلّص من العار أو الرد على ما لا يُطاق» حيث نتعامل مع أحداث العنف ليس كما تحقّقت في ظروف محدّدة، أو كما حدثت تاريخياً، ولكن الطريقة التي تحدث بها الأمور، الأحداث نفسها أو ما تصبح عليه، من أجل خلق شيءٍ جديد.
يمثّل العنف الذي يحدث في لحظته الفعلية انقلاباً على السلطة الاستعمارية، إذ يقوّض الأجساد الثابتة التي منحتها السلطة الاستعمارية للمستعمَرين باعتبارها الحيّز المكاني المحتمل الذي يجب التصرّف بناءً عليه. بإيجاز، يقوّض عنف المستعمَر كلاً من القوّة الاستعمارية والأجساد المستعمَرة، وهكذا يكون عنفه «نقياً» وفورياً، ولا تتداخل وسائله وغاياته. العنف يتجاوز الغاية، ومظهر من مظاهر الغضب والرغبة في التحرّر، وفكرة الانتقام التي تسعى إلى تحقيق العدالة خارج نطاق القانون الاستعماري، أو حتى خارج نطاق الهدف السياسي. الغضب والانتقام ينبعان من الحزن والألم العميق الناتج عن فقدان الوجود في ذاته، وفقدان وكالة الجسد قبل كل شيء. إن فعل العنف من ناحية، يحرّر ويستعيد، ومن ناحية أخرى، يدلّ على إمكانيّة تحقيق العدالة.
إن الرغبة، كما يجادل «دولوز»، هي منتِجة، ومنتَجها هو حقيقي في حدّ ذاته وملموس. والحرّية في ضوء ذلك، ليست رغبةً مفاهيمية أو مثالية في التشكّل/التحقّق، بل هي صيرورة عملية وفورية، تكون فيها لحظات العنف تعبيراً خالصاً عنها. بعبارةٍ أخرى، إنّ الرغبة في أن تصبح حراً ليست مجرّد هدف، بل هي المصدر الجوهري لفعل العنف.
في الختام، على عكس العنف الاستعماري البنيوي، يكون عنف المستعمَر عشوائياً، حتى لو بدا أحيانًا غير ذلك. ليس هدفه سنّ القوانين، بل تدميرها، إذ يمثّل عنفاً فورياً ومؤقتاً، حتى لو كان عنفاً استراتيجياً أو منظماً في أطرٍ شبه عسكرية، إلا أنه عنف تدميري لنظام المستعمرة. إن عنف المستعمَر هو قطيعة جذرية مع التجربة المعاشة للاستعمار، وهو عنف يزعج ويدحض ويرفض نسيج القوّة الاستعمارية وأشكال السيطرة التي تفرضها على الجسد. وبهذه الحالة، تصبح ممارسة العنف «إلزامية» من أجل نفي النفى الاستعماري لتحقيق العدالة، حين يستحيل تحقيقها بوسائل أخرى.
:::::
موقع “باب الواد”، 2023/10/30
________
تابعونا على:
- على موقعنا:
- توتير:
- فيس بوك:
https://www.facebook.com/kanaanonline/
- ملاحظة من “كنعان”:
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.
- عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
- يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org